الثلاثاء 28 ذو القعدة 1445هـ الموافق 6 يونيو 2024م

حياكم الله جميعا 

هذه قناتي في التليجرام ينشر فيها النتاج العلمي والفكري . 


قناة عبد السلام بن إبراهيم الحصين

غزوة تبوك فوائد ومواعظ 5/5

المقالة

Separator
غزوة تبوك فوائد ومواعظ 5/5
3504 زائر
03-05-2012 02:11
د.عبد السلام بن إبراهيم الحصين

غزوة تبوك فوائد ومواعظ5

ذكرنا بعض الأحداث التي جرت في غزوة تبوك، وما فيها من الفوائد والمواعظ، وسألقي الضوء هنا على بعض الفوائد مما له علاقة قوية بواقعنا:

أولا: هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله مع أصحابه، ورأفته بهم، وشفقته عليهم، وحبه لهم، وخوفه عليهم، حتى قال الله تبارك وتعالى عنه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}، وكان من شفقته عليهم أنه يترك العمل مع محبته له مخافة أن يفرض عليهم، ومن شفقته عليهم أنه كان يرخص لهم فيما يشق عليهم فعله، ويدلهم على الأرفق بهم، ويرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، يقول معاذ بن جبل: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا، حتى إذا كان يومًا أخر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعًا، فهذا الجمع بين الصلاتين كان رحمة بأمته، وشفقة عليهم؛ لعلمه ما يحصل لهم بتفريق هذه الصلوات على أوقاتها من المشقة والحرج.

ومن دلائل حرصه عليهم ورغبته حصول الخير لهم أنه كان يتفقدهم بأسمائهم، ويسأل عنهم، فعن أبي رُهْم كلثومِ بن الحصين الغفاري، وكان ممن بايع تحت الشجرة في الحديبية، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة تبوك، فلما سرى ليلة سرت قريبًا منه، وألقى الله علي النعاس، فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيُفزعني دنوها منه، خشية أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أؤخر راحلتي عنه حتى غلبتني عيني في بعض الطريق، فزاحمت راحلتي راحلته ورجله في الغرز، فأصابت رجله، فلم أستيقظ إلا بقوله: ((حس)) -وهي كملة تقال عند وجود الألم- فقلت: استغفر لي يا رسول الله! قال: ((سر)) فطفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستخبرني عمن تخلف من بني غفار، فأُخبره، فقال وهو يسألني: ((ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط الذين لا شعر في وجوههم؟!))، فحدثته بتخلفهم، قال: ((فما فعل النفر السود أو قال القصار الجعاد؟)) قلت: والله ما أعرف هؤلاء!، قال: ((بلى، الذين لهم نَعَم بشبكة أو شظية شَرْخ أو شَدَخ؟)) -رأس جبل في الحجاز يسكنه قوم من غفار-، فتذكرتهم في بني غفار فلم أذكرهم، حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا، فقلت: يا رسول الله أولئك رهط من أسلم، حلفاء فينا، وقد تخلفوا، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: ((فما يمنع أحد أولئك حين يتخلف أن يحمل على بعير من إبله امرأً نشيطا في سبيل الله؟!!؛ فإن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم)) رواه أحمد وعبد الرزاق وغيرهم.

فتأمل أخي الكريم في هذه الواقعة العظيمة وانظر إلى حلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصفحه عن الرجل، ثم محادثته وتسليته، ثم سؤاله عن أصحابه، حتى كان أعرف به منهم، مع أنهم قومه.

ومن هديه في التعامل معهم ملاطفتهم، والمزاح معهم، ومسابقتهم، ومشاركتهم في الأحاديث المسلية، فعن أبي حميد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة تبوك، فأتينا وادي القُرى على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اخرصوها))، فخرصناها، وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال: ((أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله))، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، وجاء رسولُ صاحبِ أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب -يعني يصالحه فيه، ويعطيه الجزية-، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهدى له بردًا، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ فقالت: عشرة أوسق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث))، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة فقال: ((هذه طابة، وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟))، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير))، فلحقنا سعد بن عبادة، فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير دور الأنصار، فجعلنا آخرًا، فأدرك سعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرًا؟! فقال: ((أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار))، رواه البخاري ومسلم.

فاللهم صل على محمد ما تعاقب الليل والنهار، ما ألطف مداعبته، وأحسن عشرته، وأطيب سيرته، وأكمل خلقه وخلقه، وصدق الله إذ يقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

ولأجل هذا أحب الصحابة محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم حبًا صادقًا، ففدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، وحاربوا بين يديه، وجادوا بأرواحهم فداء له؛ لما علموا فيه من الخير والهدى، ولأنهم عرفوا أن ما معه هو الحق، ولما رأوا من الآيات والمعجزات التي كانت تظهر على يديه، ولما رأوا من حرصه عليهم ومحبته لهم، وشوقه إليهم، وهكذا يكون حال القائد الصالح مع رعيته، وأما حين يستبد القائد بأمره، ويسعى لنفسه، ويهين قومه، ويصادر حرياتهم، فإنهم يكرهونه ويسعون جهدهم للخلاص منه، ولا يأسفون على ذهابه، بل يتمنون اللحظة التي يغادرهم فيها، ولو كان ما ينتظرهم أشد عليهم مما هم فيه، وما حال حكام زماننا هذا عنا ببعيد، فلو أجري استفتاء صادق على وجودهم وصلاحهم، فكيف ستكون النتيجة؟!

ثانيًا: هديه في التعامل مع المنافقين، وكان يميل إلى المداراة، والمدافعة، والصبر على الأذى؛ لأنهم في الظاهر معه، يشهدون الشهادتين، ويصلون، ويخرجون للجهاد، ولكن في قلوبهم مرض، فيحرصون على إيصال الأذى إليه، وإيقاع العداوة بين أصحابه، وبث الفرقة في مجتمع المدينة المتآلف، ولكن هذه المداراة لا تعني الغفلة عن أفعالهم، ولا التمكين لهم، أو عدم التحرز من فعلهم، وبذل الجهد في مواجهة مكرهم، فكان يكتفي في بعض الأحيان بفضحهم على الملأ، وفي أحيان أخرى بالوعيد لهم بما ينتظرهم في الآخرة، وفي أحيان بعقوبتهم إذا ثبت عليهم ما حصل منهم، وكان يعرفهم بأسمائهم، ويخبر بذلك حذيفة بن اليمان، ومع ذلك كان يصفح ويعفو أخذًا بالظاهر، وقبولا لما أعلنوا، ويكل سرائرهم إلى الله، فنحن في هذه الزمان يجب أن نتعامل مع المنافقين بذلك، وأن نفرق بين الكافر الظاهر، وبين المنافق المستتر بكفره، وأن يكون هدينا في التعامل معهم كهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر ما يقع الإشكال عند بعض الناس هو في عدم تفريقه بين الكافر الظاهر، وبين المنافق المستتر بكفره، ومع أنه قد تظهر منه بوادر تدل على ذلك، ولكنه يعامل بالفضح والكشف، والوعيد والتهديد، وبالتخويف، دون أن نطلق عليه كلمة الكفر بإطلاق، أو أن نحاربه كما نحارب الكافر الظاهر.

ثالثًا: إن الله يبتلي عباده ليظهر حبهم له، وصدقهم في دعواهم الإيمان به، وقوتهم في الدفاع عن دينه، وجهدهم في تبليغه، والذود عن حماه، فهذه المعركة جاءت في وقت عصيب، من شدة الحر، وطيب الثمار، وبعد المسافة، وقوة العدو، وقلة الزاد، فأظهر الله بها للناس صدق الصحابة وصبرهم، وحبهم لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومبادرتهم لتنفيذ كل أمر، ورغبتهم في صحبته ونصرة دينه، وبذل الغالي والنفيس لأجله، وهذا فيه تهيئة ظاهرة لمرحلة مقبلة، لا يكون فيها حبيبهم وإمامهم بينهم، فيعملون لأجل دينه بعد فقده مثل ما يكون يعملون عند وجوده، وأظهر الله أيضًا بهذه الغزوة كذب المنافقين، وعداوتهم، وحرصهم على الحياة، وتخاذلهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتخلفهم عنه، وكم ترى في زماننا هذا من كثرة الدعاوى، فإذا جاء الجد، ونزل البلاء تملص كثير منهم من دعواه، وخاف الناسَ كخشية الله أو أشد خشية، وليس البلاء بالضراء والبأساء فقط، ولكن قد يكون البلاء والفتنة بالسراء وسعة الرزق، وكثرة المال، ورغد العيش.

ومهما ذهبت تستخرج من فوائد هذه القصة ومواعظها فستجد الكثير الكثير، فاقرأها مراراً، وضعها في واقعك، وتأمل بها زمانك، وسترى كيف أنها تعالج كثيرًا من واقعك، وتكشف الأسرار عن كثير من الحوادث التي تقع.

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا للبر والتقوى، وانصر الإسلام وأهله، وهيأ لهم من أمرهم رشدًا.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

   طباعة 
0 صوت

روابط ذات صلة

Separator

جديد المقالات

Separator
رأس مكارم الأخلاق - ركن المقالات