مقبرة الأسرار

إن بين أضلاعي همًا يتقد، فتفور منه جوارحي، ويضطرب عقلي، وتتبعثر بسببه أهدافي...
كأنما أنا في قدر مطبق، تحته نار حامية، فلا أنا أستطيع الخروج والتبخر، ولا تنطفئ هذه النار؛ ليهدأ ما اضطرب مني... فأنا في تقلب دائم..
ألا يحسن أحدكم إلي، فيدلني على مقبرة أدفن فيها أسراري..
أحفر في هذه المقبرة بيدي قبرًا يناسب ما أكتمه من الأسرار، ثم أفيض فيه جميع أسراري، ثم أهيل التراب عليه، فلا يكشف إلا يوم يبعثر ما في القبور..
قد قيل: صدور الأحرار مقبرة الأسرار...
فأين هؤلاء الأحرار، أين هم، لأدفن في صدورهم سري..
أين هم؛ لأدفن في صدورهم أسراري عن الحب...
كيف كان عنيفًا، عصف بمشاعري، وأفسد إحساسي به، فبقيت بعد تجربتي أتحاشى أن أقع في شباكه، مع حرصي الشديد عليه...
كأني وقعت صريعًا بين قوتين، قوة تجذبني، وقوة تدفعني...
وكيف يعيش القلب بلا حب؟! لا يمكن أن يعيش إلا إذا نمت الأزهار في أرض قفار..
وكأنما أعطيت منه بقدر ما أعطيت من الأخلاق..
أين هم؛ لأدفن في صدورهم أحاديث طفولتي..
كيف نمت العواطف في قلبي، وكيف ارتضعتُ من مواقف وأحداث ما نشز به عظمي، ونبت لحمي..
أذكر لهم تجاربي ومواقفي، وسذاجتي وبساطتي...
كيف كنت في أيام الطفولة، وكيف أنا الآن، ولست أحن إليها، ولا أحب ما أنا فيه..
أين هم؛ لأدفن في صدورهم همومي، التي أشعلت الشيب في رأسي قبل أوانه..
أخبرهم بأهدافي، ومشاريعي، ونظرتي للمستقبل..
لست أريد منهم إلا أن يسمعوا فقط، أن يستمعوا بقلوبهم، أن يبكوا لبكائي، ويفرحوا لفرحي، ثم يأذنوا لي لأهيل التراب على قبري الذي حفرته في صدورهم، فلا يبعثونه حتى ينفخ في الصور...
بحثت.. وجربت.. فآلمني ما وجدت، وشممت رائحة أسراري من أفواه آخرين..
فعدت لنفسي وقلت: قد عجزت عن حمل أسرارك، فكيف يطيق حملها من لم يعرف قدرها، ولم يشعر بآلامها؟؟!!
وصدق القائل:
وما كُلُّ ذي لُبٍّ بمؤْتيكَ نُصْحَه ولا كُلُّ مؤتٍ نُصحه بلبيب
وإذا كان الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك يشكو من فقد الأنيس المأمون على سره، حتى إنه قال: "ما بقيت لي لذة إلا وجود أخ أضع بيني وبينه مؤونة التحفظ"، فكيف بي أنا في مثل هذا الزمان؟؟!!
أما والله لو لا أن يقال بك جنون، لخرجت إلى الأطيار أحدثها حديثي، ولقمت إلى الأشجار أناجيها، وأنا واثق أنهما سيكتمان علي أمري، ويحفظان سري، فلا يعلم به أحد.
يا قلبي: أنت مقبرة سري، قد حفرت فيك حفرة عميقة قذفت فيها كل آلامي وآمالي..
اللهم.. أنت تعلم السر وأخفى، إني أخاف يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور..
اللهم فاجعل علانيتي وسري لك وحدك..
اللهم اجعل قلبي خالصًا لك، لا أحب غيرك، ولا آنس إلا بك..