تواترت الأخبارُ عَن النَبي (صلى الله عليه وسلم) بِنُزُولِ القُرآنِ الكَريم على سَبْعَة أحْرُف(1)، وجُمِعَتْ هذه الأخبارُ في الجوامع والسُنَن والمسانيد وموطأ الإمام (مالك) –رحمه الله- والمُصنفات والأجزاء الحديثية، وقد جاءت تلك الأخبار على أنواع ثلاثة:
الأول: ما يُفيدُ أنَّ اللهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أمرَ نبيَه (صلى الله عليه وسلم) على لِسان (جبريل) –عليه السلام- أن يُقرئ أمتَه القرآن على حَرْف، فسأل النبيَ (صلى الله عليه وسلم) المعافاة والمغفرة؛ لأنَّ أُمتَه لا تُطيق ذلك، فأمَرَه أن يقرَأه على حرفين، ثم على ثلاثة أحْرُف، ثم أمرَه -في الأخير- أن يُقرئَ أمتَه القرآن على سَبْعَة أحْرف، وأخبرَه أنَّ مَن قرأ بأي حَرْف مِن هذه الأحرف السَبعَة فقد أصاب.
وهذه الأخبارُ مِن رواية (أُبَيِّ بْنِ كَعْب) –رضي الله عنه، و(عَبْدِ الله بْنِ عَباس) –رضي الله عنه- [مُخْتَصَرًَا] والتي أخذها عن (أُبَيِّ بْنِ كَعْب) –كما جاء ذلك صريحًا في إحدى الروايات.
الثاني: ما يُفيد أنَّ النبيَ (صلى الله عليه وسلم) لَقِيَ (جبريل) –عليه السلام- فأخبرَه أنَّه أُرسِلَ إلى أمَة أُميين: مِنْهُمْ العَجُوزُ وَالشَيْخ ُالكَبِيرُ والغُلامُ والجَاريةُ والرَّجُلُ الذي لم يَقْرأ كِتابًَا قَطُّ، فأخبره (جبريل) –عليه السلام- أن القرآن أنزِل على سَبْعَة أحرف.
وهذا الخَبَر مِن رواية (أُبَيِّ بْنِ كَعْب) –رضي الله عنه.
الثالث: ما يُفيد أنَّ النبيَ (صلى الله عليه وسلم) لم يوافِق الصحابَة –رَضيَ اللهُ عنهم- الذين عارضوا بعضَ القراءات –التي سَمِعوا بعض الصحابة يقرأون بها- والتي تُخالِف ما لُقِّنُوه مِن النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسِه، وفي هذه الروايات أنَّ النبيَ (صلى الله عليه وسلم) أقرّ كلا مِنهم على قِراءتِه، مُخبِرًا إياهم أنَّ القرآنَ أُنزِل على سَبْعَة أحْرُف، وناهيًا إياهم عَن المِراء في القرآن؛ لأنَّ المِراءَ فيه كُفْرٌ –عِياذًا بالله.
وهذه الأخبار مِن رواية: عُمَر بْنِ الخَطَاب، أُبّيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وعَمرو بْنِ العَاصِ –رَضيَ اللهُ عنهم.
وإليكَ سياق حَديث مِن كل نوع مِن الأنواع الثلاثة السابِقَة:
النَّوع الأول: عَن (أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) –رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّ النبيَ (صلى الله عليه وسلم) كانَ عِندَ أضَاةِ(2) بَنِي غِفَارٍ، قال فأتاه (جبريل) -عليه السلام- فقال: إنَّ اللهَ يأمُرُك أن تَقْرأ أمَّتُك القرآنَ على حَرْفٍ، فقال: أسألُ اللهَ مُعَافاتَه ومَغْفِرَتَه وإنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذلك. ثُم أتاه الثانيةَ فقال: إنَّ اللهَ يأمُرُك أن تَقْرأ أمَّتُك القرآنَ على حَرْفين، فقال: أسألُ اللهَ مُعَافاتَه ومَغْفِرَتَه وإنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إنَّ اللهَ يأمُرُك أن تَقْرأ أمَّتُك القرآنَ على ثلاثَةِ أحْرُفٍ، فقال: أسألُ اللهَ مُعَافاتَه ومَغْفِرَتَه وإنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذلك. ثم جاءه الرابعةََ فقال: "إنَّ اللهَ يأمُرُك أن تَقْرأ أمَّتُك القرآنَ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، فأيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عليه فقَدْ أصَابُوا" (3).
النَّوع الثاني: عَن (أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) قال: لَقِيَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) (جِبْريلَ)، فقال: يا (جِبْريلُ) إنِّي بُعِثْتُ إلى أُمَةٍ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمْ العَجُوزُ وَالشَيْخ ُالكَبِيرُ والغُلامُ والجَاريةُ والرَّجُلُ الذي لم يَقْرأ كِتابًا قَطُّ". قال: "يا (مُحَمَّدُ) إنَّ القُرآنَ أُنزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ" (4).
وفي الباب عن: عُمَرَ وحُذَيفةَ بْنِ الْيَمَانِ وأَبِي هُرَيْرَةَ وأُمِّ أيُّوبَ -وهي امرأة (أَبِي أيُّوبِ الأنصاري)- وسَمُرَةَ وابْنُ عَبَاسٍ وأَبِي جُهَيْم بْنِ الحَارِثِ بْنِ الِّصَّمةِ وعَمْرِو بْنِ العَاصِ وأَبِي بَكْرَةَ –رَضي الله عنهم أجْمعين.
قال (أبو عيسى): هذا
صحيح، وقد رُويَ عن (أبي بن كعب) من غير وجه.
النَّوع الثالث: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يقولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ (الفُرْقَانِ) عَلَى غَيْرِ ما أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) أقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أنْ أعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أمْهَلْتُه حَتَى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُه بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، فَقُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ هذا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أقْرَأْتَنِيهَا، فقال لي: أَرْسِلْه، ثُمَّ قَاَلَ له: اقْرَأ، فَقَرَأ. قَاَلَ: هَكَذَا أُنزِلَتْ، ثُم قَاَلَ لي: اقْرَأ، فَقَرَأتُ، قَاَلَ: هَكَذَا أُنزِلَتْ؛ إنَّ القُرآنَ أُنزِلَ عَلَىَ سَبْعَةِِ أحْرُفٍ؛ فاقْرَءُوا مِنْه مَاَ تَيَسَّرَ (5).
وحَدَثت مِثلُ هذه القِصة مع (أُبّيِّ بْنِ كَعْبٍ) و(عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) –رَضي الله عَنهما- [كما عِند "مُسلِم" (820) و"أحمد" (20646)]، وحَدَثَ مِثلَها مع (عَمرو بْنِ العَاصِ) –رضي الله عنه- [كما عِند "أحمد"].
والذي يَعنينَا أولا: ما المَقصودُ بهذه الأحرف السَّبعَة؟!
اعْلَم –رَحِمَني اللهُ وإياك- أنَّ العُلماء اختلفوا في المراد بهذه الأحرف السَبْعة على خمسة وثلاثين قولا (!!) كما نَقَلَ الإمامُ (القُرطُبيُ) –رحمه الله- في تفسيرِه (1/89 مقدمة، طـ دار الغَد العربي بمصر) عَن الإمامِ الحافظِ (أبي حاتِم ابْنِ حِبَّان البُستِّي) –رحمه الله، ولكنه لم يذكُرْ مِنها إلا خمسة أقوال (!!)؛ ولعل السبب في ذلك هو أنَّ "أكثَرَها غيرُ مُختارٍ" –كما صَرَّح بذلك (المُنذِري) –رحمه الله- (كما في «فتح الباري»: (19/ 27، 31) )، وكذا الإمام (الزركشي)، كما في كِتابِه الماتِع «البُرهان في عُلوم القُرآن».
وأنا أذكرُ أشهرَ هذه الأقوال وأقواها وأولاها بالاعتبار بادئًا بأرجَحِها:
القول الأول: المراد سَبْعَة أوجُه مِن المعاني المُتفِقَة (6) بألفاظ مُختَلِفَة، يجوزُ أن يقرأ بأي حَرْفٍ مِنها على البَدَلِ مِن صاحبِه، نحو أقبِل، تعالَ، وهَلُم (7). وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عُيَينَة، عَبْد الله بن وَهب، الطَبَري والطَّحَاوي، ومال إليه الحافِظُ (ابنُ حَجَر) –رحمهم الله أجْمَعين- [مع بَعض الضوابِط الأخرى].
تنبيه: (وليس المُراد أنَّ كُلَ كَلِمَةٍ ولا جُملَةٍ مِنه تُقرأ عَلَى سَبْعَةِ أوجُه، [وهذا مُجمَعٌ عَلَيه]؛ بل المُراد أنَّ غاية ما انتهى إليه عدد القرءات في الكلمة الواحدة إلى سَبْعَة؛ [فلو كَانَ المُراد أنَّ كلَ كلَِمَةٍ مِنه تُقْرأ على سَبْعَة أوجُه، لَقَالَ النَبيُّ (صلى الله عليه وسلم) -مثلا-: "أُنزِلَ سَبْعَة أحْرُف"]. فإن قيل: فإنَّا نجِدُ بعضَ الكلمات يُقرأ على أكثَرِ مِن سَبْعَةِ أوجُه، فالجواب: أنَّ غالِبَ ذلك إما لا يُثبِتُ الزيادة، وإمَّا أن يكونَ مِن قَبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المَد والإمالة ونحوهما) (8).
قلتُ: وهذا القولُ مِن القوةِ بمكان؛ لو أضفْنا إليه ضابِطًا آخَرًا؛ وهو: تأدية المعنى باللفظ المُرادِف ولو كان مِن لُغَة واحِدة؛ لأنَّ لُغة (هِشام بن حَكيِم) –رَضيَ اللهُ عنه- بلِسَان قُرَيش، وكذلك (عُمَر بن الخَطاب) –رَضيَ اللهُ عنه-، ومع ذلك فقد اختلفت قراءتُهما (9). وهذا يُضَعِف القولَ بأنَّ المُرادَ بالأحْرُف اللغات، ويُمكِن الجَمْعُ بينَهما بأنَّ "تغايُّرَ الألفاظ مع اتفاقِ المَعاني مَحْصُورٌ في سَبْعِ لُغات" (10)، وهذا أقْوى؛ لأنَّ الحِكمَة مِن نزول القُرآن على سَبْعَة أحْرُف هي: التخفيف على الأمة ودَفْع المَشقة وإزالة الحَرَج؛ كما يتضِحُ ذلك جَلياُ في قولِه (صلى الله عليه وسلم) لأُبّيِّ بن كَعْب –رَضيِ اللهُ عنه- : "أُرْسِلَ إلَىَّ أنْ أقْرأ القُرآنَ عَلَى حُرْفٍ، فَرَدَدْتُ إلَيهِ أنْ هَوِّن على أُمَّتي"، إلى أن قال (صلى الله عليه وسلم): "فَرَدَّ إلَيَّ الثالثةَ أقْرأهُ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ" (11)، وقولِه (صلى الله عليه وسلم) لجِبْريلَ –عليه السلام-: "وإنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذلك" (12)، وقولِه (صلى الله عليه وسلم): "فاقْرَءُوا مِنْه مَاَ تَيَسَّرَ"(13). وهذا القولُ يُوَفِقُ بينَ جميع الأحاديث الصحيحة الوارِدَة في هذا الباب، دون رَدٍ أو إهمَالٍ لأحَدِها، والحمدُ للهِ وحدَه على التوفيق.
تنبيهان هامان جدًّا:
(1) "الإباحة المذكورة في الأحاديث السابقة لم تَقَع بالتَّشَهي: أي أنَّ كلَ واحِدٍ يُغَيِّرُ الكلمة بمُرادِفِها في لُغَتِه؛ بل المُراعَى في ذلك السَّمَاع مِن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويُشير إلى ذلك قول كل مِن (عمر) و(هشام) –رَضي اللهُ عَنهما- "أقرأني النبي (صلى الله عليه وسلم)" (14). وهذا التنبيه يَردُ على قَوْل مَن قال: "إذَنْ يجوز روايته بالمَعنَى؛ فيذهَب التَّعبُد بلفظة ويتسِع الخَرْق، وتفوتُنا كثيرٌ مِن الأسرار الأحكام" (15)؛ فالرواية بالمَعنَى تَوقيفيةٌ مِن (رسول اللهِ) (صلى الله عليه وسلم) عَن (جِبْريلَ) –عليه السلام- عَن (اللهِ) –عَزَّ وَجَلَّ.
(2) "هذا الاختلاف في الألفاظ ليس من الاختلاف الذي قد نَفَاه اللهُ –تبارك وتعالى- عَن كِتابِه العزيز في قولِه (ولو كانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيه اختِلافًا كثيرًا) [النساء: 82]؛ لاتفاق المعاني"، كما قال الإمام (الطبري) –رَحِمَه الله- في «تَفسيرِه»، ص 50، طـ دار الغَد العربي بمصر.
ويقولُ شيخُ الإسلام (ابن تيميًّة) –رَحِمَه الله-: "ولا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا لا تَتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ; بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا أَوْ مُتَقَارِبًا كَمَا قَالَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) –رَضي الله عَنه-: "إنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ". وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الآخَر; لَكِنْ كلا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ وَهَذَا اختلاف تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٍ، وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم): "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، إنْ قُلْتَ: غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ قُلْت: عَزِيزًا حَكِيمًا؛ فَاَللَّهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ أَوْ آيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ" اهـ مِن كلامُه مِن «مَجموع الفتاوى»: (13/ 389). وقد بَيَّنًّا في تَنبيه (1) أنَّ هذا الاختلاف ليس بالتَّشَهي، والحمدُ لله.
الأدِلَّة:
1- حديث (أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) –رَضيَ اللهُ عنه- قَاَلَ: قَالَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): يَا (أُبَيُّ) إِنِّي أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقِيلَ لِي: عَلَى حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ، فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي قُلْ عَلَى حَرْفَيْنِ، قُلْتُ: عَلَى حَرْفَيْنِ. فَقِيلَ لِي: عَلَى حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلاثَة، فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي قُلْ عَلَى ثَلاثَة، قُلْتُ: عَلَى ثَلاثَة حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ. ثُمَّ قَالَ: "لَيْسَ مِنْهَا إلا شَافٍ كَافٍ، إِنْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ" (16). ومثلُه حديث (أبي بَكرَة) و(عبادة بن الصامت) –رضي الله عنهما.
وجه الدلالة: فَسَر النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) الأحرف السبعة بأنَّها تَغيير اللفظة مع الاحتفاظ بالمَعنى؛ فآية العذاب إنْ خُتِمَتْ بِرَحمَة أو آية الرَحْمة خُتِمَتْ بِعذاب، اختَلّ المَعنى، وضَرَبَ لنا (صلى الله عليه وسلم) في ذلك مثلا: كَلِمَتَي "سَميع عَلِيم" تُقرأ "عزيز حكيم"؛ لتقارُّب معناهما، ولكن بتوقيف مِن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) لا بالأهواء والآراء –كما بينّا في تَنبيه (1)، واللهُ أعْلَم.
2- حديث (عمر بن الخطاب) مع (هشام بن حزام) –رَضيَ اللهُ عنهما- [انظر: النوع الثالث مِن الأحاديث]، ومِثله: حديث (أُبَي بن كَعْبٍ) مع (عَبْدِ الله بن مَسعود)، و(عَمرو بن العاص) مع صحابي آخر –رَضِيَ الله عنهم أجْمَعين-:
وجه الدلالة: اتحادُ لُغَةِ (عمر) و(هشام) –رضي الله عنهما-؛ فكلاهما قُرَشي، ورغم ذلك فقد أنكَر الأول على الثاني قراءةً لم يُقرئِها له رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم)، فتحاكَما إلى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) فأقرّ كليهما على قِراءَتِه التي أخذاها عنَه (صلى الله عليه وسلم)، وفَسَر رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) تلك القِراءات بأنَّها "أحْرُف" وأنَّ القُرآن أُنزِل على سَبْعَة أحْرُف" فتَعَيّن –لاتحاد اللغة- صَرْفُ ذلك إلى الألفاظ بشرط اتفاق المعاني؛ كما يُبيّنُه حديث (أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) –رَضيَ اللهُ عَنه. وإن قال قائِلٌ: ولِمَ لا نَصْرِف ذلك إلى صاِرف آخر. قُلتُ: كُلُ الصوارِف الأخرى ما هي إلا الأقوال الآتية في تفسير مَعنى "الأحرف السَبْعة"، والتي سَنُبَين ضَعفَها أو بُطلانَها، والله المُستعان.
القول الثاني: سَبْع لغات في القرآن على لغات العَرَب كلِها: يمنها ونزارها (17)، وإليه ذَهَبَ: ثعلب، أبو عبيد القاسِم بن سلام، الأزهري، الطَبَري، ابن عطية، البَيهقي، ابن حِبَّان (كما في «البرهان»/ للزركشي)، والسندي، ومَالَ إليه (الألُوسِي) –رَحِمَهم الله جَميعًا.
وحجتهم في ذلك: (أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) لم يَجْهَلْ شيئًا مِنها، وكان قَد أوتي جَوامِع الكَلِم) (18)، وأنَّ الحِكمَة مِن نزول القُرآن على سَبْعَة أحْرُف هي: التخفيف على الأمة ودَفْع المَشقة وإزالة الحَرَج [كما في النوع الأول مِن الأحاديث]، فوَّجَب بِذَلِك نُزُولُه بِلُغات العَرَب ولَهَجَاتِهم، وإلا لا مَعنىً للتيسير ودَفْع الحَرَج.
ويقولون: (وليس مَعناه أن يكونَ في الحَرْفِ الواحِد سَبْعَة أوجُه؛ ولكن هذه اللغات السَبْعَ مُتفَرِقَة في القُرآن؛ فبعضُه بِلُغَة قُرَيش، وبعضُه بِلُغَة هُذَيل، وبعضُه بِلُغَة هُوازِن، وبَعضُه بِلُغَة اليَمَن. وبعضُ الأحياء (أي: اللغات) أسْعَدُ بها وأكثَرُ حظاُ فيها مِن بَعض؛ فيُعَبَر عَن المَعنى فيه مَرة بِعِبَارَةِ قُرَيش، ومَرة بِعِبَارَةِ هُذَيل، ومرة بِغَيرِ ذلك بِحَسَبِ الأفْصَح والأوْجَزِ في اللفظ، وإنْ كَانَ أغلَبُه نَزَل بِلُغَة قُرَيش [كما قال (ابْنُ عَبْدِ البَر) –رحمه الله-]؛ لقولِ (عُثمانَ بْنِ عَفَان) –رضي الله عنه- أثناء جَمْع المُصحَف: "ما اختلفتُم أنتم وَ(زَيْد) فاكتُبُوه بِلُغَة قُرَيش؛ فإنَّه نَزَل بِلُغَتِهم") (19).
ويقولون في كيفية نُزُولِ القُرآن على هذه السَبْع: "أنَّ (جِبْريلَ) –عليه السلام- كان يأتي رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) في كُلِ عَرْضَة بِحَرفٍ إلى أن تَمَّتْ" (20).
واعتُرِض على هذا القول بأنَّ لغات العرب أكثر مِن سَبْع ! وأُجيب بأنَّ المرادَ أفصَحُها، واختلَفوا في تعيينِّها على أقوالٍ عِدَة:
1- فقيل هي: لغة قُرَيش، هذيل، تميم، الأزد، ربيعة، هوازِن، سعد بن بكر.
2- قال بعضُهم: هذيل، كنانة، قيس، ضبة، تيم الرباب، أسيد بن خزيمة، قريش.
3- قيل: السَبْع في مُضَر خاصة لقول (عمر بن الخطاب) –رضي الله عنه-: "نزل القرآن بلغة مضر".
4- وقيل: بل السَبْع في بطون قُرَيش فحسب؛ لقولِه تعالى (وما أنزلنا من رسولٍ إلا بلسان قومِه) [إبراهيم: 4]، وبه جَزَم أبو الأعلى الأهوازي واختاره ابن قُتَيبة –رحمهما اللهُ تعالى.
5- وقيل: أنزِل أولا بلسان قُرَيش ومَن جاورَهم مِن الفُصحاء، ثم أُبيح للعَرَب أن تقرأهُ بِلُغاتِها؛ دفعًا للمشقة ولِمَا كان فيهم مِن الحَمّيَة، ولم يَقَع ذلك بالتَّشَهي؛ بل المَرعي فيه السماع مِن النبي (صلى الله عليه وسلم).
وهذا القَولُ ضَعيفٌ مِن وَجْه، قَويٌ مِن وَجْهٍ آخَر؛ وبذلك يُمكِن اعتمادُه ببَعضِ الضوابِط الأخرى:
فهو ضَعيفٌ؛ لأنَّ [(عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب) و(هِشامَ بْنَ حَكِيم) –رَضيَ اللهُ عَنهما- كِلاهما قُرَشي مِن لُغَةٍ واحِدَةٍ وقَبيلَةٍ واحِدَةٍ، وقَد اخْتَلَفَتْ قِرَاءتُهما، ومُحال أن ينُكِرَ عليه (عُمَرُ) –رَضيَ اللهُ عَنه- لُغَتَه، فدَلّ على أنَّ المُراد بالأحْرُفِ السَبْعَة غيرُ اللُغات] (21)؛ فوَجَبَ بَذَلِك صَرْفُ مَعنى "الأحْرُف السَبْعَة" إلى مَعنىً آخر غير "اللغات".
تَنبيه هام: لقد أجاب الإمام (الألوسي) -رحمه الله- عَن هذا الاعتِراض (22)، ولكن المُتأمِلَ لجوابِه –رحمه الله- يجِدْه إنَّما أجَابَ –فَحَسبُ- عَن قول الإمام (السيوطي) –رحمه الله-: "ومُحال أن ينُكِرَ عليه (عُمَرُ) –رَضيَ اللهُ عَنه- لُغَتَه" اهـ؛ بما حاصِلُه أنَّ: [مَرجِعَ "الأحُرُف السَبْعة" هو الرِواية عَن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) لا الدِراية والرأي والتَشَّهي] (23)، وبذلك فجوابُه خارِج مَحَل النِزاع؛ لأنَّ ما قَالَه قد نَبَهنا عليه سابِقًا؛ راجِع تَنبيه (1).
أما وَجْه القُوَة في هذا القَول؛ أنَّ الحِكمَة مِن نزول القُرآن على سَبْعَة أحْرُف هي: التخفيف على الأمة ودَفْع المَشقة وإزالة الحَرَج؛ كما يتضِحُ ذلك جَلياُ في قولِه (صلى الله عليه وسلم) لأُبّيِّ بن كَعْب –رَضيِ اللهُ عنه- : "أُرْسِلَ إلَىَّ أنْ أقْرأ القُرآنَ عَلَى حُرْفٍ، فَرَدَدْتُ إلَيهِ أنْ هَوِّن على أُمَّتي"، إلى أن قال (صلى الله عليه وسلم): "فَرَدَّ إلَيَّ الثالثةَ أقْرأهُ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ" (24)؛ فوَّجَبَ صَرْفُ معنى "الأحْرُفِ السَبْعَة" إلى "لغات العَرَب ولهَجَاتِهم".
ويُجابُ عَن هذا الوَجْه بوَجْه "الضَعفِ" السابِق؛ باختلافِ (عُمرَ) و(هِشامَ) –رَضي اللهُ عنهما- في القِراءة رَغمَ اتحاد لُغَتِهما، ولكن لا يَليقُ بِنَا أن نَرُدَ هذا الحديثِ الصحيح الثابِت في "صحيح مُسلِم" (25)؛ فوَجَب التوفيقُ ولابُد، ومِن ثَمّ وَجَبَ المَصير إلى "القَولِ الأول" الذي جَمَع بين الأحاديث والأقوال ووَفَقَ بينها، ولا مُوَفِق إلا مَن وَفَقَه الله، والحمدُ لله عَلَى التَّوفيق.
ويتضِحُ في هذا القَول أنَّ أكثرَه آراء واجتهادات لا أدِلَة عليها –غالبًِا-؛ كنزول (جِبْريلَ) –عليه السلام- سَبْع مرات لإتمام الأحْرُف السَبْعَة، وتعيين اللغات التي أُنزِل عليها القُرآن الكَريم.
وبعضُه مَردودٌ؛ كقولِِهم: "هذه اللغات السَبْعَ مُتفَرِقَة في القُرآن" (26)؛ فهذا القَول باطِلٌ جِدًا لا شَكَ في ذلك؛ إذ (لو كانَت "الأحْرُفُ السَبْعَة" لُغاتٍ مُتفَرِقَةً في جَميع القُرآن، فغَير مُوجِب حَرْفٌ مِن ذلك اختلافًا بين تاليه؛ لأنَّ كُلَ تالٍ فإنَّما يَتلو ذَلِك "الحَرْفَ" تِلاوةً واحِدَة على ما هو به المُصحَف، وعلى ما أُنزِل) (27)، ولو كان كذلك لَمَا حَدَثَ اختِلافًا بين الصحابة –رَضيَ اللهُ عَنهم- في القِراءة؛ إذ لا مَعنىً لِذلك إطلاقًا؛ لأنَّ المُصحَفَ واحِدٌ، والسُوَرَ واحِدَة والآياتِ واحِدَةٌ لا تتغيّرُ؛ بل غايةُ الأمْرِ أنَّ هذه الآية بِلُغَة (قُرَيش)، وتلك بِلُغَة (هُذَيل)، وهكذا، فالقُرَشي مأمورٌ بِقراءة القُرآنِ كلُِه الذي يَحوي لُغاتٍ سِتًا غيرَ لُغَتِه، والهُذَيلي مأمورٌ بِقراءة القُرآنِ كلُِه الذي يَحوي لُغاتٍ سِتًا غيرَ لُغَتِه، فأينَ التيسيرُ الوارِدُ في الأحاديث، والذي مِن أجلِه أُنزِل القُرآنُ على سَبْعَة أحُرُف ؟! بل وكيفَ يحدُثُ الاختِلافَ بين الصحابَة في السُورَة الواحِدة، بل في الآية الواحِدَة، بلْه الكلمة الواحِدَة ؟!! وفي هذا الحَدِ كِفاية، واللهُ أعْلَم.
القول الثالث: المُراد بذلك سَبْعَة أصناف، وهو قول البَيضاوي والقاضي (ابن الطيب). واختلفوا في تعيينِها على عِدة أقوال:
1- معاني كتاب الله تعالى، وهي: أمر، نهي، وعد، وعيد، قصص، مجادلة، أمثال.
2- مُحكَم، مُتشابِه، ناسِخ، مَنسوخ، خصوص، عموم، وقصص.
3- إظهار الربوبية، إثبات الوَحْدانية، تَعظيم الألوهية، التَّعَبُّد لله، مُجانَبَةُ الشِرك، التَّرغيب في الثواب، والتَّرهيب مِن العِقاب.
وهذا القول ضَعيف جدًا؛ (إذ لا مُستَنَدَ له مِن كِتاب أو سُنَة ولا يوجَد وَجْهٌ للتَّخصيص) (28)، ولأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) (أشَارَ إلَى جوازِ القراءة بِكُلِ واحدٍ مِن الحُرُوف وإبدال حَرْفٍ بحَرْف، وقد تقَرَرَ إجماعُ المُسلمين أنَّه يَحرُّم إبدالُ آيةِ أمثالٍ بآية أحكام) (29)، و(لأنَّ هذا لا يُسمَى أحْرُفًا؛ وأيضًا فالإجماع على أنَّ التوسِعَة لم تَقَع في تَحْليل حلال ولا في تَغيير شَئٍ مِن المَعانِي) (30).
وانظر ردًا بليغًا للإمام (الطَبَري) –رحمه الله- في «تَفسيرِه»: (1/ 49: 52).
القول الرابِع: في أداء التلاوة وكيفية النطق بكلماتها كالإدغام والإظهار والتَفخيم والترقيق والمَد والقَصْر والتليين، وهلم جرا. رَجَحَه الإمامن: (النووي) و(الطيبي) –رحمهما الله.
وهو ضَعيفٌ؛ (لأنَّ ذلك ليس مِن الاختلاف الذي يتنَوَع فيه اللفظ والمَعنَى، واللفظ الواحد بهذه الصِفات باقٍ على وِحدَتِه، فليس فيه حينئذٍ جليل فائِدَة) (31).
قلتُ: والأحاديث الصحيحة السابِقة تَرُدُه، كقولِه (صلى الله عليه وسلم): "إِنْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ" (32)؛ فدل ذلك على أنَّ اللفظ يتغير مع اتفاق المَعنَى، واختلاف كيفية النطق بالتلاوة لا يُغَيّر للفظة مِن قَريبٍ أو بَعيد. ثم لو كان ذلك هو المَقْصود لَمَا أنكَرَ (عُمرُ بن الخطاب) –رَضيِ اللهُ عنه- على (هِشام بْنِ حَكيم) –رَضيَ اللهُ عنه- وذَهَبَ به ليتحاكَمَا إلى رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)؛ بل غاية ما كان يفعَلُه أن يُعلِمَه بنفسه، فيقول له: لا تُفَخِّم هذا الحَرف ورقِقْه أو أظهِرْ ولا تَدْغِمْ وهكذا، ثم كونُ (هِشام) –رضي اللهُ عنه- غَيّر كيفية النُطق بالتلاوة، فهذا لا يَدْفَع (عُمَرَ) –رَضيَ اللهُ عنه- أن يظُنَ أنَّ هذه القراءة خطأٌ مِن أصلِها؛ بل غايته أنَّ هذا لَحْنٌ خَفي، مِن الصَعب أن يَقَع فيه رَجُلٌ فَصيحٌ يَنتمي لأفصَحِ القبائِل العربية "قُرَيش" !! فأصل القِراءة التي يقرأ بِها (عمر) –رَضيَ اللهُ عنه- هي نفسَها قراءة (هِشام) –رَضيَ اللهُ عنه- [بُناءً على هذا القول الضَعيف]، فلماذا يقول (عُمَرُ) –رَضيَ اللهُ عنه- إذَن : "سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ (الفُرْقَانِ) عَلَى غَيْرِ ما أَقْرَؤُهَا" إن لم يكُن يقصِد تغيير اللفظة، وتأمَل قولُه: "وَكِدْتُ أنْ أعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أمْهَلْتُه حَتَى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُه بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)" الحديث، تَعرِفْ أنَّ الأمرَ أكبرَ مِن مُجرَد تغيير كيفية النُطق التي لُقِنَها (عُمَرُ) –رَضِي اللهُ عنه- من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، واللهُ أعْلَم.
القول الخامِس: ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد؛ إنما المراد التيسير والتسهيل والتوسِعَة؛ فقد جَرُوا على تكثير الآحاد بالسَبْعَة، والعشرات بالسَبعين، والمئات بالسُبْعمائة، وسِر التَّسبيع لا يَخفَى. وهو قول القاضي (عِياض) –رحمه الله- ومَن تبعه.
وهو خطأٌ؛ (لعدم ظهور مَعناه، ولأنَّه مَردودٌ بالأحاديث الصحيحة السابقة، كحَديث (أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) –رَضيَ اللهُ عنه-، وفيه: "[استزِدْه] حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ"، وحديث (أبي بَكرَة) –رَضيَ اللهُ عنه- وفي آخره: "فنظَرْتُ إلى ميكائيل فَسَكَتْ، فعَلِمتُ أنه قد انتَهَت العِدَة"، وهذا أقوى دليل على إرادة الانحصار، أضِف إلى ذلك أنَّ في جَمْع القِلَة "أحْرُف وليس حُروف" نوع إشارة إلى عَدَم الكَثرة كما لا يَخفَى) (33).
القول السادِس: خواتيم الآيات؛ فيجْعَل مكان (غَفور رَحيم) (سَميع بَصير). "وهذا فاسِدٌ للإجماع على مَنْع تغيير القُرآن للناس" –كما قال (المازري) –رحمه الله، كما في «شرح النووي –رحمه الله- على صحيح مسلم».
عمومًا نحن نؤمِن –إجمالا- بأنَّ القرآن أنزِل على سبعة أوجه، اختلف العلماء في المراد بها على أقوال عِدة، الراجِح منها ما ذكرناه، "ولم يثبت مِن وَجهٍ صَحيح تَعيين كل حرف من هذه الأحرف، ولم يكلفنا الله ذلك، غير أن هذه القراءة الآن غير خارجة عن الأحرف السبعة" –كما يقول الإمام (الزركشي) –رَحِمَه الله- في كِتابِه «البُرهان».
-----------------------------------
ثانيًا: هل الأحرف السَّبعة هي القِراءات السَّبع ؟!
(1) اتفق العُلماء جَميعًا أنَّ الأحرُفَ السبعة التي ذَكَر النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) أنَّ القُرآن أنزِل عَليها ليسَت هي القراءات السبع المَشهورة.
أمَّا ما انتشرَ لدى العامَّة وأيضًا بعض الخاصَّة مِن أنَّ الأحرف السَّبعَة هي نفسها القِراءات السَّبع فهو خَطأ فادِحٌ، حتى قال الإمامُ (أبو شامة) –رَحِمَه الله-: "وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل" !!! كما في «فَتح الباري»: (19/ 37).
قال الإمام (مَكي بن أبي طالب) –رَحِمَه الله-: "وأمَّا مَن ظَنَّ أنَّ قِراءة هؤلاء القُراء كنافِع وعاصِم هي الأحرُف السَّبعة التي في الحَديث؛ فقد غلط غلطًا عظيمًا. ورَدَّ ذَلِك بتعليلٍ ما ألطفَه؛ بأنَّ هذا مفهومَه أنَّ ما عداها ليس قرآنًا !! فقال ما نَصُّه: "ويَلزَم مِن هذا أنَّ ما خَرج عَن قِراءة هؤلاء السَّبعة مِمَّا ثَبَت عَن الأئمة غَيرِهم ووافق خَطَّ المُصحَف، أن لا يكون قُرآنًا، وهذا غَلَطٌ عَظيم؛ فإنَّ الذين صَنَّفوا القِراءات مِن الأئمة المُتقدمين: كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وأبي جعفر الطبري، وإسماعيل بن إسحاق، والقاضي، قد ذكروا أضعاف هؤلاء [السًّبعَة]" اهـ نَقلا عَن «فَتح الباري»: (19/ 37)، والزيادة بين المَعكوفَتين مِن عِندي لتوضيح المَعنَى.
وتوضيحًا لقول الإمام (مَكي) –رَحِمَه الله- الذي قد يُشكِل على بَعض القُراء، أقول: لقد أنزِل القُرآنُ على سَبعة أحرُف، إن كانَت هي نفسها القِراءات السَّبع، فباقي القِراءات –إذَن- ليس لها نَصيبٌ مِن الأحرف السَّبعة التي هي كل القُرآن، فهي –على هذا القَول- ليست قُراءنًا، فتأمَل!
قال شَيخُ الإسلام (ابن تيميَّة) –رَحِمَه الله تعالى-:
"لا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ " الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ " الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ "قِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةَ" بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ قِرَاءَاتِ هَؤُلاء هُوَ الإمامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَكَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِبَغْدَادَ فَإِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ الْمَشْهُورَ مِنْ قِرَاءَاتِ الْحَرَمَيْنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ; إذْ هَذِهِ الأمصارُ الْخَمْسَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا عِلْمُ النُّبُوَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِنْ الأعمال الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ فَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ جَمَعَ قِرَاءَاتِ سَبْعَةِ مَشَاهِيرَ مِنْ أَئِمَّةِ قُرَّاءِ هَذِهِ الأمصار; لِيَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ لا لاعتقادِه أَوْ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هِيَ الْحُرُوفُ السَّبْعَةُ أَوْ أَنَّ هَؤُلاء السَّبْعَةَ الْمُعَيَّنِينَ هُمْ الَّذِينَ لا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَتِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ: لولا أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ سَبَقَنِي إلَى حَمْزَةَ لَجَعَلْت مَكَانَهُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ إمَامَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ وَإِمَامَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِهِ فِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ" اهـ كلامُه مِن «مَجموع الفتاوى»: (13/ 389).
(2) قال الإمام (مَكي بن أبي طالب) –رَحِمَه الله-: "هذه القِراءت التي يُقرأ بِها اليوم وصحت رواياتها عَن الأئمة؛ جُزءٌ مِن الأحرف السَّبعة التي نَزَل بها القُرآن" اهـ نَقلا عَن «فتح الباري»: (19/ 37).
وقال الإمامُ (أبو العباس بن عمار) –رَحِمَه الله-: "أصح ما عليه الحُذاق أنَّ الذي يُقرأ الآن [في المُصحَف هو] بعض الحُروف السَّبعة المأذون في قِراءتها لا كُلها، وضابِطُه ما وافق رَسمَ المُصحَف" اهـ نَقلا عَن «فتح الباري» (19/ 36)، والزيادة بين المَعكوفَتين مِن عِندي لتوضيح المَعنَى.
وقال الإمامُ (البَغوي) –رَحِمَه الله- في «شَرح السُّنَة»: "المُصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العَرضات على رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)؛ فأمر (عُثمان) –رَضي الله عَنه- بِنَسخِه في المَصاحِف وجَمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك؛ قَطعًا لمادة الخِلاف فصار ما يُخالِفُ خَطَّ المُصحف في حُكم المَنسوخ والمَرفوع كسائِر ما نُسخ ورُفِع، فليس لأحدٍ أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارِج عَن رَّسم المُصحَف" اهـ بتصرف يَسير نَقلا عَن «فَتح الباري»: (19/ 36: 37).
وبَيَّن الإمامُ (الزركشي) –رَحِمَه الله- في كِتابِه «البُرهان في عُلوم القُرآن» أنَّ الحَرف الذي استقر عليه الأمرُ هو حَرفُ (زَيد بن ثابِت) –رَضي الله عَنه؛ فقال: "السبعة أحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدى الناس منها إلا حرف (زيد بن ثابت) الذي جمع (عثمانُ) عليه المصاحف" اهـ.
(3) قال الإمامُ (ابن أبي هاشِم) –رَحِمَه الله-: "إنَّ السَّبب في اختلاف القِراءت السَّبع وغيرِها أنَّ الجِهات التي وُجِهَت إليها المَصاحِف كان بها مِن الصَّحابَة مَن حَمَل عَنه أهلُ تِلك الجِهَة، وكانت المصاحِف خالية مِن النُقط والشَّكل، فَثَبَت أهلُ كل ناحية على ما كانوا تَلقوه عَن الصحابة بِشَرط موافَقَة الخَط، وتركوا ما يُخالِفُ الخَطَّ؛ امتثالا لأمرِ (عُثمان) –رَضي الله عَنه- الذي وافقه عليه الصَّحابَةُ؛ لِما رأوا في ذلك مِن الاحتياط للقُرآن، فَمِن ثَمَّ نشأ الاختلافُ بين قُراء الأمصار مَع كونِهم مُتَمَسكين بِحَرفٍ واحِدٍ مِن السَّبعة" اهـ بتصرف يَسير جِدًّا نَقلا عَن «فَتح الباري»: (19/ 36: 37).
وصلى الله وسَلَّم على نَبيِّنا مُحمد وعلى آله وأصحابِه أجْمَعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
منقول من ملتقى اهل التفسير
جزاك الله خيرا شيخنا لو تعطينا مثال على القول الثاني لانه بالمثال يرسخ المعنى ويفهم