|
دورات بين دفتي كتاب (انتهت) بَيْنَ دِفَّتَي كِتَابٍ مشروع علمي في قراءة كتاب مختار |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
12-09-07, 07:34 PM | #31 |
جُهدٌ لا يُنسى
|
القاعدة العاشرة إحياء الطاعات المهجورة والعبادات الغائبة شأن التجارة الرابحة مع الله أن تتناول كل مراضيه، والذي يفتش عن مردات إلهه ومحابه فيأتيها هو الحاذق في تجارته مع ربه عز وجل. وقد اعتاد الناس عباداتٍ معينة ظنوها هي وحدها الأبواب المفتوحة إلى الله، لكن بنبغي أن يكون الساعي في مرضات ربه بحّاثًا عن المسالك المهجورة والأبواب البعيدة ذات الطرق الوعْرة التي تنكبت عنها إرادات الناس كسلاً أو عجزًا. فمن تلك الطاعات التي غفل عنها الناس وأهملوها ولم نجد من يحافظ عليها إلا القليل، الاستغفار بالأسحار، وهي عبادة الصادقين قال تعالى: ]{والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}. والسحر هو آخر الليل، وهو وقت السحُّور، لذا استُحب أن يطعم مريد الصوم في هذا الوقت، ثم يستحب له أن يُبقى وقتًا يسيرًا قبل الفجر للاستغفار وطلب العفو والصفح والعتق من النار، وهذا الوقت زبدة الأوقات العامرة وخلاصة الأزمنة السائرة، تتصل الأرض بالسماء، ويعبق ليل المتهجدين بأنفاس الملائكة المُنزلة والألطاف الهاطلة، ويكون النزول الإلهي، المهيب في الثلث الأخير من الليل حيث الأقدام مصفوفة في محاريب التبجيل، والمآقِي مُغرورِقة فرحًا بقرب الكبير الجليل، والأيادي مرفوعة بالأدعية والتراتيل، والألسنة لهجة بالذكر وتلاوة التنزيل. ومن تلك العبادات المهجورة: عبادة التفكر والتأمل في مخلوقات الله وعجائب قدره، والتدبر في أسمائه وصفاته وآلائه ونعمته قال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار}، وقال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}، وقال تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمت البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون. وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}، وقال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}. وغير ذلك من الآيات الدالة على قدرة الله الداعية إلى التفكر والتدبر والتأمل فيها. واعلم أن هذه العبادة هي أصل طريق اليقين في الله عز وجل، وبهذا التدبر يثبت بالضرورة في الذهن وجود الرب الخالق المدبر ومن ثمَّ إلهية هذا الرب المدبر واستحقاقه للعبادة دون غيره، وبهذا التقرير خاطب الله عز وجل المشركين مطالبًا إياهم بأن يتفكروا في هذه الحقائق،قال تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}. وقال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون}.واعلم أيضًا أن هذه العبادة من أعظم ما يقرب الإنسان من ربه ويوقفه على جلاله وعظمته بل هي العلم الذي أشار الله عز وجل إليه باعتباره موصّلاً لخشية الله، قال تعالى: {ألم تر أن الله أ نزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعم مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}. ومن تلك العبادات الغائبة بين الناس عبادة التبتل، أي الانقطاع إلى الله. قال تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً} والتبتل: الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع، وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفًا وفضلاً، وقُطعت منهن، ومصدر بتل: تبتلاً كالتعلّم والتفهّم ولكن جاء على التفعيل مصدر- تفعّل- سر لطيف، فإن في هذا الفعل إيذانًا بالتدريج والتكلّف والتعمّل والتكثّر والمبالغة، فأتى بالفعل الدال على أحدهما وبالمصدر الدال على الآخر، فكأنه قيل: بَتِّل نفسك إليه تبتيلاً، وتبتّل إليه تبتُّلاً، ففُهم المعنيان من الفعل ومصدره، فالتبتل الانقطاع إلى الله بالكلية)( ). ومثل هذه العبادة تلازم الإنسان في كل زمان ومكان لا تنفك عنه، فهو بين الناس بجسمه ولكن روحه تطوف حول العرش، يكلمهم بمحياه ولسانه، لكن مشاهدة عظمة الله وجلاله في سويداء جنانه. يفرح مع الناس لفرحهم، لكن قلبه قد مُلئ وجلاً وخوفًا وخشية من ربه، يحزن مع الناس لحزنهم ولكن فؤاده قد ملئ أنسًا ورضًا وحبورًا بما قضى الله وقدر، إنه ذلك الحاضر الغائب الموجود المفقود بين الهياكل والصور والأجسام والغِيَر. ومن العبادات المهجورة في هذا الشهر عبادة الصدقة والإنفاق، وهي من أرجى الطاعات عند السالكين، والفقه فيها عظيم أثرهُ في النفس. في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله علية وسلم أجودَ الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله علية وسلم حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الريح المرسلة". قال الشافعي رحمه الله: أُحبُّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله علية وسلم ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم وتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم. وليس المقصود كثرة المُنفق، بل كثرة الإنفاق أي فعله وإن قل المال، ورب درهم ينفقه امرؤٌ من درهمين يملكهما أحب إلى الله من مائة ينفقها مّنْ يملك الآلاف، قال صلى الله علية وسلم: "سبق درهم مائة ألف درهم: رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها" رواه النسائي عن غيره وهو . وقد خرج أبو بكر من ماله كله وترك لأهله الله ورسوله صلى الله علية وسلم، وخرج عمر من نصف ماله، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بقافلة قدمت المدينة بأحلاسها وأقتابها. وأدبُ المتصدق أن يعلم منةَ الله عليه إذ رزقه المال ثم وفقه للصدقة ويسر له من يقبل منه صدقته ثم تلقاها منه ربه وقبل منه ما رزقه. وأن يتصدق بأفضل ما عنده {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وأن يتلطف في إعطائها للفقير أو المحتاج حتى لا يشعر بمنة العبد فيها، فيعمل على إخفائها أو إرسالها مع قريب له أو نحو ذلك. وكان بعض السلف إذا أعطى الصدقة وضعها على كفه وناولها للفقير على يده مبوسطة حتى يتناولها الفقير بنفسه، فقيل له في ذلك! فقال حتى تكون يده هي اليد العليا، يشير إلى قوله صلى الله علية وسلم: "واليد العليا خير من اليد السفلى" وهذا من لطيف ما يقوم به أولئك الأكابر. والله الموفق. ومن الطاعات المهجورة بل من أعظمها تحديث النفس بالغزو والجهاد، وخاصة في شهر رمضان شهر المعارك الكبرى كبدر وفتح مكة وغيرهما، بل إن المتبادر من الحديث أن هذه الطاعة واجبة لا يجوز الانفكاك عنها، فقال صلى الله علية وسلم: "من مات ولم يغزُ ولم يُحدِّث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق". رواه أحمد ومسلم، فالظاهر وجوب أحد الأمرين حتى يبرأ من هذا النفاق. وفائدة تحديث النفس بالغزو: إحياء معاني الجهاد والعزة والولاء والنصرة للدين والبراءة من الكفر والشرك ومعاداة أهله، والوصول بالنفس إلى أعلى مراتب البذل وهو بذل الأرواح والمُهَج في سبيل الله. ولقد هجرت هذه المعاني حتى صارت بين الملتزمين فضلاً عن المسلمين نسيًا منسيًا، وما أجدرنا أن نعاود إحياء هذه المعاني في هذا الشهر المبارك شهر الصبر والبذل وجهاد النفس. فهذه بعض نماذج من العبادات المهجورة الغائبة، ولو تأملت قوله صلى الله علية وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" لعرفت كم ضيع الناس من شعب الإيمان العملية وطرق الخير الموصلة لرضا الرب تبارك وتعالى، والله ***المستعان. |
12-09-07, 07:35 PM | #32 |
جُهدٌ لا يُنسى
|
القاعدة الحادية عشرة ها أنت قد شمرت عن ساعد الجد، وحثثت الهمة الخاملة، وأوقدت نار العزيمة الخامدة، وألجمت هواك بلجام الإرادة وجمعت رقاب الأماني بزمام التوكل على الله في الفعل، وبدأت السير إلى الله عز وجل لتصل إلى شهر رمضان وقد توقَّدت عزيمتك وانقادت لك إرادتُك وأذعنت لك همتُك.معرفة قطاع الطريق إلى الله لقد بدأت المعركة الحقيقية مُذ تمحّض اختيارك لله وجدَّ سيرك إليه ويممت القلب والقالب في الإقبال عليه، فاحذر حينئذ قطّاع هذا الطريق الوعر، فإنه طريق الجنة، وهو محفوف بالشهوات والهوى والشياطين والنزغ والشبهات، وكلها أنواع لجنس واحد، وهو العائق عن الوصول لدرب القبول المؤِذن لشمس عزمك بالأُفول. فتعال معًا نتذاكر صفات بعض هؤلاء القطاع ومكامنهم، وخدعهم، فبذلك تتعلم صفة الشر لتتجنبه. عرفت الشر لا للشر لكن لتوقّيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه والمقصود بيان نماذج من هؤلاء القطّاع ليستدل بهم على غيرهم فمن هؤلاء القطاع: الفتور والسآمة والملل، وهو من أعظم ما يعتري السالكين، وقدي تعاظم أمره ويستفحل حتى يكون سببًا للردة والنكوص والعياذ بالله. وغالب شأن هذا الفتور من كثرة الفرح بالطاعة وعدم الشكر عليها ورؤية منة الله فيها ومشاهدة النفس في أدائها، قال ابن القيم رحمه الله واصفًا ومحللاً ومعالجًا لهذا الداء: (فإذا نسي السالك نفسه وفرح فرحًا لا يقارنه خوف فليرجع إلى السير إلى بدايات سلوكه وحدة طلبه، عسى أن يعود إلى سابق ما كان منه من السير الحثيث الذي كانت تسوقه الخشية، فيترك الفتور الذي لابد أن ينتج عن السرور. فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لابد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم يخرجه من فرض ولم تدخله في محرّم: رجي له أن يعود خيرًا مما كان. قال عمر بن الخطاب: إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل وإن أدبرت فألزموها الفرائض. وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلا الله، وبهذا يتبين الصادق من الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه، والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله ويُلقي نفسه بالباب طريحًا ذليلاً مسكينًا مستكينًا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتة ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له، لا بسبب من العبد- وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب- لكن ليس هو منك، بل هو الذي منّ عليك به، وجرّدك منك وأخلاك عنك وهو الذي: {يحول بين المرء وقلبه}. فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فأعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مُضيَّع فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يردّه عليك ويجمع شملك به. وقد أخبر النبي صلى الله علية وسلم: "إن لكل عامل شِرَّة ولكل شرة فَترة" فالطالب الجاد لابد من أن تعرض له فترة فيشتاق في تلك الفترة إلى حالة وقت الطلب والاجتهاد. وربما كانت للسالك بداية ذات نشاط، كان فيها عالي الهمة، فيفيده عند فتوره أن يرجع إلى ذكريات تلك البداية فتتجدَّد له العزيمة، ويعود إلى دأبه في الشكر. وكان الجنيد رحمه الله كثير الذكر لبداية سيره، وكان إذا ذكرها يقول: واشوقاه إلى أوقات البداية: يعني لذة أوقات البداية وجمع الهمة على الطلب والسير إلى الله والإعراض عن الخلق. أهـ من تهذيب مدارج السالكين. أما إذا راودتك السامةُ في عبادتك، كصلاة أو ذكر أو تلاوة قرآن فلا تُرسل زمام هواك للشيطان محتجًا بقوله صلى الله علية وسلم: "فوالله إن الله لا يملّ حتى تملوا"، وقد ذكرنا لك في تمارين العزيمة فقه هذا الحديث ونحوه عن الأئمة الأعلام، فحريٌ بمن ملّ العبادة أن يعود إلى نفسه هلعًا وخوفًا من أن يكون ذلك من إعراض الله عنه. وليستحضر في قلبه سوء أدبه مع الله وعدم تعظيمه وقدره حق قدره إذ تطيب نفسه مع شهوات الدنيا ومعافسة الأولاد والزوجات للساعات الطوال ثم هو يُبتلى في عبادته بالملل بعد لويحظات معدودات. وما روي عن بعض السلف من أنهم كانوا يتكدرون لطلوع الفجر لأنه يحول بينهم وبين لذيذ المناجاة فيُحمل على أنهم يحزنون لعدم تواصل لذة المناجاة لا أنهم كانوا يكرهون طلوع الفجر ويقدّمون قيام الليل على الفريضة، فهذا أبعد ما يكون عن هديهم ومتواتر سيرتهم، كيف وهم يعلمون أن قرآن الفجر مشهود تحضره الملائكة وترفع أمره إلى الله. ومن قطاع الطريق إلى الله: الوساوس والخواطر الرديئة التي ترد على السالك طريق الآخرة، وتشمل هذه الخواطر الرديئة ما يرد على المبتلين بالشهوات من التفكير في الصور وفيما يعشقون ومن يهوون وكذا أصحاب الحقد والحسد والأمراض والآفات النفسية، وكلها انحرافات سلوكية، أي في السالك طريق الآخرة، ومن أعظمها خطرًا وسواس الشبهات في وجود الله وذاته وصفاته، وهذا مما ابتلى به كثير من شباب هذه العصور لغلبة الأفكار الإلحادية والعلمانية المبنية على المادة والتفسير العلمي لكل الظواهر الكونية وشيوع الفحشاء والشهوات الصارفة للقلوب عن ممارسة عبوديتها في التسليم والإذعان، وتحليلاً للخواطر يمكننا تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:النوع الأول: خواطر الشبهات وهي العارضة في شأن وجود الله وذاته وصفاته وفي قرآنه وأنبيائه ورسله وقضائه وقدره. النوع الثاني: خواطر الشهوات وهي واردات الذهن من الصور ونماذج المعشوقات. النوع الثالث: خواطر القلب من آفات وأمراض نفسية كالكبرياء والعجب والحقد والحسد. وعلاج النوع الأول باستحضار اليقين، وكلامنا مع من اعتقد وجود الله، أما الملحد فلا خطاب معه، وعندي أن الإلحاد هو النوع الوحيد من الجنون الذي يؤاخذ الإنسان به، فمن أيقن وجود الله وربوبيته وهيمنته وتصرفه وعدله وحكمته مثَّل هذا اليقين بالشمس يراها ثم يستعرض الشبهات ويمثلها بمن يماريه في رؤيته للشمس، ويجادله في الدليل المفيد لطلوعها، حينئذ يردد قوله عز وجل: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض}، ويردد قوله: آمنت بالله، ويستعيذ بالله من نزغ الشيطان معتصمًا بالله لائذًا بحفظه وكلاءته، متعجبًا من تفاهة شبهته: وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل أما النوع الثاني وهو الأعم الأفشى بين الناس، وعلاجه من أصعب العلاجات لكننا نأتي على ذِكر جملةٍ من الفوائد المهمة المُجتثة لهذا المرض من جذوره. فاعلم أيها الأريب أن الشهوات في أصلها فطرية قدرية لا فكاك للعبد منها، فهو مفطور على الغضب واللذة وحب الطعام والشراب، غير أن هذه الشهوات رُكزت في الجبلة لغايات هي حفظ النفس بالطعام ورد الاعتداء وصيانة الذات بالغضب وحفظ النسل باللذة (أعني شهوة الفرج) فإذا تعدّت هذه الشهوات غاياتها كانت وبالاً على أصحابها، ولذلك جاء عن النبي صلى الله علية وسلم التنبيه على حفظ الفرج والبطن واللسان وأنه من أعظم أسباب النجاة والفوز. فإذا علمت ذلك تبين سلطانك على هذه الشهوات، وأن الله عز وجل قد أمرك في الحقيقة عليها، وأعطاك زمام قيادتها فما عليك إلا ممارسة هذه الإمارة دون خوف أو تباطؤ. وحسم مادة الشهوات يكون بحسم موارد حياتها، وأهم تلك الموارد حب الدنيا والرغبة في نوال كل ما يراه من جميل فيها، فقطع شجرة الدنيا من القلب كفيل بصرف الهمة مطلقًا عن الدنيا والاهتمام بما تحصل به النجاة. وهاك بعض الفوائد المعينة على حسم مادة الشهوة وصرف واردات الخواطر الشهوانية: أولاً: التبرؤ من حول النفس وقوتها والالتجاء والاعتصام والاستعاذة بالله، ومن جليل ما ينبغي ترداده في حق المبتلى بالشهوة "لا حول ولا قوة إلا بالله" ومعناها: لا تحوّل عن معصيةٍ إلا بمعونة من الله ولا قوة على طاعة إلا بتوفيق من الله. ثانيًا: تذكر المنغّصات: سكرات الموت، نزع الروح، القبر وأهواله، سؤال الملكين، البعث والنشور وأهوال يوم القيامة، والمثول بين يدي الله عاصيًا مذنبًا والنار وأهوالها. ثالثاً: تذّكر المشوقات: كلذة المناجاة وتوفيق الله للطاعة وشرف الولاية والانتساب إلى حزب الله والكرامات اللائقة لأوليائه عند موتهم ودخولهم الجنة وما فيها من الحور العين اللائي لا تقارن الدنيا كلها بأنملة من أنامل الواحدة منهن، ورؤية الله عز وجل يوم القيامة ورضوانه على أهل الجنة. رابعًا: تذكر جمال خالق الجمال البشري، الذي سماه الرسول صلى الله علية وسلم جميلاً، فكل جمالٍ فُتن به المرء لو قُرن بجمال الله عز وجل لتلاشت كل خواطره الرديئة. خامسًا: تذكّر مثالب الصور المعشوقة وآفاتها وأمراضها وفساد بواطنها وظواهرها. سادسًا: البعد عن المثيرات كالسير في الطرقات العامة (وخاصة في هذه الأزمنة وفي أماكن الفجور والفسوق) أو مشاهدة التلفاز والفيديو والمجلات والجرائد الساقطة التي تهدف غواية النفوس المطمئنة وتحت أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ومن هذا القبيل عدم المكوث في خلوة إذا طرأ عارض الشهوة، بل يشتغل بالصوارف التي تلهيه عن تلك الخواطر كذكر الله وزيارة الصالحين وحضور مجالس العلم أو خدمة الأهل والمسلمين. وينصح ابن القيم بما يلي: (1) العلم الجازم بإطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك. (2) حياؤك منه. (3) إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في البيت الذي خلقه لتُسكِنَه معرفته ومحبته. (4) خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر. (5) إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته. (6) خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويتسرع شررها فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر. (7) أن تعلم أن هذه الخواطر بمنزلة الحبِّ الذي يُلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر. (8) أن تعلم أن الخواطر الرديئة لا تجتمع مع خواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلاً بل هي ضدها من كل وجه. (9) أن تعلم أن الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته فيطلب الخلاص فلا يجد إليه سبيلاً فيكون بعيدًا عن الفلاح. (10) أن تعلم أن الخواطر وادي المحقى وأماني الجاهلين فلا تثمر إلا الندامة والخزي وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها انسدت عليه عينه وألقته في الأسر الطويل أهـ. أما النوع الثالث وهو آفات القلب كالحقد والحسد والكبرياء والعُجب، فهو باطن الإثم، قال تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} وجماع دواء هذه الآفات رؤية عجز النفس وقيامها بالله، ومشاهدة حكمة الله عز وجل وتصرفه في الخلق، فمثل هذا الاستحضار يحول بينه وبين الاعتراض على تقسيم الرزق والنعم، ويحول بينه وبين رؤية النفس وقدرتها، ويئول به الحال إلى التسليم بمنة الله وعدله وحكمته. وقد تكلم الإمام ابن الجوزي كلامًا نفيسًا عن هذه الآفات في كتابه "الطب الروحاني" فراجعه هناك نجد علاجات تفصيلية لكل آفة ومرض وحسبنا من الألف شاهد مثال واحد. لكن ابن القيم رحمه الله يلمس مكمن الداء ويصفه وصفًا دقيقًا ثم يقترح العلاج المناسب فيقول: (واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذ الفكر فيؤديها إلى التذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة، فردُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها، ومعلوم أنه لم يُعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها وهي تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، على رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما قال الصحابة يا رسول الله: إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: "أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان" وفي لفظ "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" وفيه قولان: أحدهما: أن رده وكراهته صريحُ الإيمان، والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في نفسه صريح الإيمان، فإنه إنما ألقاه في النفس طلبًا لمعارضة الإيمان وإزالته به. وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرَّحا الدائرة التي لا تسكن ولابد لها من شيء تطحنه، فإن وُضع فيها حيُّ طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحا ولا تبقى تلك الرحا معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من يطحن رحاه حبًا يخرج دقيقًا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصًا وتبنًا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحنه، أهـ كلامه رحمه الله (الفوائد 161). فهؤلاء نماذج من قطاع طريقك إلى الله وسفرك في درب الآخرة وسعيك في عتق رقبتك من النار وبذل ثمن الجنة، فاحذر مثل تلك الصوارف وأعد لها عدتها والله الموفق. |
12-09-07, 07:36 PM | #33 |
جُهدٌ لا يُنسى
|
تتمة في فهم بعض الوصايا الأولى: الاجتهاد في العشر الأواخر وأواخر العشر.في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول اللهصلى الله علية وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "أحيا الليل وأيقظ أهله وجدّ وشد المئزر". وفي رواية لمسلم عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله علية وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره". وروى أبو نعيم بسند فيه ضعف عن أنس قال: "كان النبي صلى الله علية وسلم إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعًا وعشرين لم يدق غُمضًا". وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله علية وسلم قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يوصل فليواصل إلى السحر" قالوا فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: "إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مُطعمٌ يطعمني وساق يسقيني". وأخرج ابن أبي عاصم بإسنادٍ قال عنه ابن رجب إنه مقارب عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله علية وسلم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء واغتسل بين الأذانين وجعل العشاء سحورًا". وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله علية وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى". تحصّل من هذه الأحاديث بعض السنن المؤكدة التي ينبغي الاعتناء بها في العشر الأواخر وهي من أهم وظائف هذا الشهر الكريم لأنها فورة الوداع ومسك الختام. وسنلخص لك هذه السنن مع الكلام في فقهها وأسرارها.أولاً: إحياء الليل كله. ويدل عليه ظاهر قول عائشة: أحيا الليل، وفي رواية مضعّفة: "أحيا الليل كله" ويشهد لهذا الأمر أيضًا قولها: "جد" أي اجتهد وبالغ في الطاعة العمل. وهذه هي العزيمة اللازمة في أخريات رمضان. فيجب تقليل النوم قدر الإمكان وجعله في النهار، وشغل الليل بالصلاة والذكر . وقد وردت عن بعض السلف آثار في بيان المراد بإحياء الليل، وأنه يحصل بقيام غالبه (وهو قريب من الأول) أو إحياء نصفه، وقيل تحصيل فضيلة الإحياء بساعة، ونُقل عن الشافعي وغيره أن فضيلة الإحياء تحصل بأن يصلي العشاء في جماعة ويعزم على أن يصلي الصبح في جماعة وهذا الإحياء المذكور يشمل كل ليالي رمضان بوجه عام، والعشر الأواخر بوجه خاص، وليلة القدر بأخص. ومثل هذا الاجتهاد يحتاج إلى الإعداد الذي تكلمنا عنه فيما مضى من الأبواب، وإلى العزيمة والمجاهدة والمكابدة للنوم والتعب من جَهد العبادة. ويساعد على ذلك قلة الطعام، وتنويع العبادات بين قيام وركوع وسجود وذكر وتلاوة لقرآن، وصحبة العابدين لشحذ الهمم. وجماع ذلك كله أن يستمطر العون والمدد والألطاف من الله عز وجل، فهو القادر على أن يقيمك بين يديه الدهر كله دون نصب أو رهق أو سآمة. ثانيًا: إشاعة الأجواء الإيمانية في البيوت بِحثَ الأهل على الاجتهاد في الطاعة والعمل وإيقاظهم في الليل لصلاة التهجد، ويدل ذلك قول عائشة: "وأيقظ أهله". ثالثًا: شد المئزر والمراد به على الراجح: اعتزال النساء وعدم الجماع والمباشرة والاستمتاع، ووجهه: كون النبي صلى الله علية وسلم معتكفًا في المسجد لطلب ليلة القدر، ويؤخذ من ههنا أنه كان يصيب صلى الله علية وسلم من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساء ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر. رابعًا: الاعتكاف. قال ابن رجب: وإنما كان يعتكف النبي صلى الله علية وسلم في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر، قطعًا لأشغاله وتفريغًا لباله، وتحليًا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشغل بهم. وذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية، وإنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع والجماعات، فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات منهيٌّ عنها. سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعة؟ قال: هو في النار. فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد خصوصًا في شهر رمضان وخصوصًا في العشر الأواخر منه كما كان النبي صلى الله علية وسلم يفعله، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له همٌّ سوى الله وما يرضيه عنه. فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله بالكلية على كل حال. كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه، فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: "أنا جليس من ذكرني" أهـ . خامسًا: إقلال الطعام للغاية، أو الوصال للسحر، وقد اختلف العلماء في هذا الوصال، وقد أجازه الإمام أحمد وإسحق، والصحيح أن الوصال إلى السحر فقط جائز لقوله صلى الله علية وسلم: "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" رواه البخاري. والغاية منه كما قال العلماء خواء البطن وشرايين الشهوات من مادة الثوران، وخواء البطن مجلبة لامتلاء القلب بصنوف المعارف، وكلما ازداد الجوعُ وألَمُه رقَّ الفؤاد ولان وخشع. قال ابن رجب: ويتأكد تأخير الفطر في الليالي التي تُرجى فيها ليلة القدر، قال زِرٌّ بن حبيش في ليلة سبع وعشرين: من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل وليفطر على ضياح اللبن. وضياح اللبن وروي ضيح هو اللبن الخائر الممزوج بالماء. سادسًا: الاغتسال بين المغرب والعشاء كل ليلة من العشر الأواخر وقد وردت فيه بعض الأحاديث الضعيفة والآثار المستفيضة عن سلف هذه الأمة في التنظيف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، وهي مشمولة بالنصوص العامة الآمرة بالتنظف والتزين والتطيب، والمستقرئ لسيرة النبي صلى الله علية وسلم والصحابة والسلف يجزم بحرصهم على الاغتسال في أزمنة العبادة ومواسم الطاعة. واعلم أيها النابه أن كل هذه الوظائف تحوم حول تحصيل وموافقة ليلة القدر التي قال عنها النبي صلى الله علية وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري، وهي ليلة حريٌّ بالمسلم أن يستميت في تحصيل فضلها وثوابها، قال عنها الله عز وجل، {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر وهو ما يقارب ثمانين سنة أو أكثر. ولا تنفع الأماني والأحلام في إثبات تحريك لها، بل لابد من التشمير، وأن تُري الله من نفسك خيرًا، حتى يرى إقبالك فيقبلكَ واجتهادك فيلطُف بمقامك ويهبك منشور الولاية ويضع اسمك في ديوان العتقاء من النار. أما تعيين ليلة القدر فهي ممكنة على الراجح كما قال النووي ووافقه ابن حجر رحمهما الله، وهذا لمن كشفها الله له، بل ثوابها لا يحصل إلى لمن كُشفت له كما رجح الأكثر، وذهب الطبري وابن العربي وجماعة إلى أن ثوابها يحصل لمن اتفق له قيامها وإن لم يظهر له شيء، وهذا مفرّع على أن ليلة القدر لها علامة أم لا؟ فذهب البعض إلى وجود تلك العلامات ومنها أن يرى كل شيء ساجدًا، وقيل الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل يسمع سلامًا أو خطابًا من الملائكة، وقيل علامتها استجابة دعاء من وفقت له، واختار الطبري أن جميع ذلك غير لازم وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه. واختار ابن حجر رحمه الله أن لها علامة وأن شرط حصول ثوابها الكامل الموعود به يكون لمن علمها فقط لا لمن اتفق قيامه فيها وإن حصل ثوابًا جزيلاً بقيامه ابتغاءها، ولو علم بها أحد هل يذكرها لغيره؟ استنبط تقي الدين السبكي من قوله صلى الله علية وسلم: "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرُفِعت وعسى أن يكون خيرًا فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" رواه البخاري، استنبط منه استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها قال: ووجهُ الدلالة أن الله قدر لنبيه أنه لم يُخبر بها، والخير كله فيما قَدَّر له، فيستحب اتباعه في ذلك. وفيما قاله بحث ونظر، وذكر في شرح المنهاج ذلك عن الحاوي قال: والحكمة فيها أنها كرامة، والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف بين أهل الطريق من جهة رؤية النفس فلا يأمن السّلب ومن جهة ألا يأمن الرياء، ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها وذكرها للناس، ومن جهة أنه لا يأمن الحسد فيوقع غيره في المحذور، ويُستأنسُ له بقول يعقوب علية السلام: {يا بني لا تقصص رؤياك على إخواتك} الآية. وهذا هو الأولى في التوجيه. وبالله التوفيق. الثانية: لا تهمل الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإنها من صميم رسالتك في هذا الوجود، فوق كون هذا الأمر ثمرة النُّسك وتعظيم الأمر والنهي، وتركه مُؤذِنٌ بجعل الطاعات والعبادات بلا طعم أو ثمرة، قال علية الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه فتدعونه فلا يستجاب لكم". رواه الترمذي بإسناد صحيح. وما ثمرة صف الأقدام أمام رب يتجاوز الناس حرماته ويجاهرونه ويبارزونه بالمعصية وأنت لا تغضب له. فإذا عجزت عن الدعوة إليه ودلالة الناس عليه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فاعتذر إلى الله عز وجل بإلقاء النصيحة ولا عليك أن يتركها الناس قال تعالى {وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}. الثالثة: لو كنت إمامًا أو خطيبًا أو داعيًا فاجهد أن يكون لك دورٌ مع الناس في وصولهم إلى خالقهم ومليكهم، فالدلالة على الله مهنة الأنبياء والرسل، وما إخال الدال على الله محجوبًا عن الدخول مع الداخلين. ثم لا تنس تشديد الحساب على نفسك في طاعاتها، حتى تنقّي بواطنك من والجات الهوى. الرابعة: لو ضاع منك معظم الشهر فلا تحرم نفسك الاجتهاد في باقيه، ولا يلقينّ الشيطان في قلبك اليأس فتقعد عن الاجتهاد، فلا يبعد أن تُرى مع المشمّرين فيهبك الله لهم، فتسعد: من لي بمثل سيرك المدلّلِ تمشي الهُوينى وتجِي في الأوَّل الخامسة: إذا لم يقع عليك الهمُّ من خوف الرد وعدم القبول، فهو أمارة سوء. فمن صفات المتقين أنهم {يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} قال مالك بن دينار: الخوف على العمل ألا يُتقبل أشد من العمل، وقال عطاء السليمي: الحذر: الاتقاء على العمل ألا يكون لله، وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أُيقبل منهم أم لا؟ وقال ابن رجب: كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعلم له عملاً فلا أدري أيقبله مني أم لا؟ روي عن علي رضي الله عنه أن كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه: رحل الشـهرُ الهـَفاهُ وانصرمـا واختص بالفوز في الجنات من خدما وأصبح الغافل المسكين منـكسرًا مثلي فيا ويحه يا عُظـم ما حُرمـا من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصُـد إلا الهـم والندمـا السادسة: لا تجزع من هول التبعات وضيق الأوقات بالعمل والدراسة ورعاية الأهل.. إلى آخر هذه المنظومة، وكذلك المرأة يَهُولنَّها ضخامة ما تقوم به من تربية الأولاد ورعاية البيت، فكل هذا و إن تفاقم لا يمنع من القيام بواجب الخدمة للمعبود والبذل في هذا الشهر. وسبب تحاشي أولئك أنهم متّكلون على قوتهم معتمدون على مهارتهم، هنا يُوكلون إلى ضعفهم وعورتهم. أما صدق اللجأ إلى الله فهو كفيل يقبل قوانين الزمان والجهد والقوة، فيضحي اليوم مديدًا دون أن تشعر، وقوتك الت يكانت تخور أما الأحمال الثقال تراها عند الطاعات وثابة. أما تعجب من الصحابة كيف يغزون وزادهم تمرات يمصونها فيُقِمن أصلابهم أمام أعدائهم. بالله ثق وله أنب وبه استعن فإذا فعلت فأنت خيرُ معانٍ السابعة: لا تُخلِ الأوقات من عمل نافع، وقيدّ عندك البدائل حتى إذا ما داخلت نفسك السآمة من عمل كان عندك غيره ليشغلك. ونقترح عليك هذا الجدول في رمضان:1- تلاوة خمسة أجزاء على الأقل يوميًا. 2- التواجد في المسجد قبل الأذان لكل صلاة. 3- استيفاء كل السنن الراتبة وغير الراتبة. 4- ا ستيفاء الخشوع في الفرائض والنوافل ومحاسبة النفس قبل الصلاة، وبعدها. 5- التراويح والتهجد ثلاث ساعات على الأقل كل ليلة، وإذا كنت تؤدي التراويح جماعة فاجعل لبيتك قسطًا من صلاة الليل. 6- دوام الذكر باللسان والقلب وخاصة أذكار الصباح والمساء. 7- دوام الدعاء والتضرع. 8- عدم إخلاء ساعة في يوم أو ليل في رمضان من نافلة خلا أوقات الكراهة. 9- الضحى في المسجد بعد الفجر. 10- الصدقة بمبلغ كل يوم. فهذا المقترح- يا باغي الخير- أقل ما يمكن تصوره لمجتهدٍ في رمضان، وهو معدود على مذهب السلف (من المقصرين أو المفرطين)، فاعلُ بهمتك وتزود من الطعات ما به تنال صك العتق من النار، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. الثامنة: الاستعداد لشهر رمضان والشوق له وبلوغ زمانه ينبغي أن يسبق رمضان بأشهر عديدة، فيوطن نفسه على المعاني التي ذكرناها في الرسالة ويدرب جسده على تمارين العزيمة التي تحدثنا عنها ويؤمل المغفرة والعتق فيه فيكون ممن أعد للشهر عدته. قال ابن رجب: قال بعض السلف كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أخرى أن يُتقَبَُل منهم. ويقتضي هذا النقل عن السلف أنهم كانوا يدعون في رمضان أن يتقبل الله منهم أو يدعون بأن يبلغهم رمضان اللاحق، وهذا من أجدر ما يأمله الإنسان من ربه أن يتقبل منه الطاعة وأن يوفقه إلى غيرها. أيها السالك طريق الآخرة: ها نحن قد رددنا العجز إلى الصدر، وأكدنا لك المعنى بأسهل عبارة، فإن آنست مما ذكرناه حافزًا لهمتك فدونك الميدان أثر نقعه وتوسّط جمعه. وإلا فتدبر قول الله عز وجل: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محذورا. انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً}. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. *** |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
(View-All) Members who have read this thread in the last 30 days : 0 | |
There are no names to display. |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
أيهما أولى حفظ القرآن أو طلب العلم الشرعي | مسلمة لله | روضة آداب طلب العلم | 31 | 02-08-16 12:15 PM |
أفلا يتدبرون القرآن؟! /للشيخ عبدالسلام الحصين | أم خــالد | روضة القرآن وعلومه | 15 | 14-02-10 02:56 AM |
نزول القرآن الكريم وتاريخه وما يتعلق به | طـريق الشـروق | روضة القرآن وعلومه | 8 | 22-12-07 03:50 PM |