عرض مشاركة واحدة
قديم 17-07-07, 03:46 PM   #4
أمة الخبير
جُهدٌ لا يُنسى
افتراضي

*
*
*


الحصة الرابعة

الثلاثاء 17/07/2007


فصل


الدعاء والقدر

وههنا سؤال مشهور وهو أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع . وإن لم يكن قد قُدِّر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله .


فظنت طائفة صحة هذا السؤال ، فتركت الدعاء ، وقالت :لا فائدة فيه ، وهؤلاء ، -مع فرط جهلهم وضلالهم - متناقضون ، فأن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب !


فيقال لأحدهم : إن كان الشبع والريّ قد قدرا لك فلا بد من وقوعهما أكلت أو لم تأكل ، وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل .

وإن كان الولد قدر لك فلابد منه ، وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأها ، وإن لم يقدر ذلك لم يكن ، فلا حاجة الى التزوج والتسري ، وهلم جرا

فهل يقال هذا عاقل أو آدمي ؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته ، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاءالذين هم كالانعام ، بل هم أضل سبيلا .


وتكايس بعضهم ، وقال : الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي ، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ! ولا فرق عند هذا المتكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب . وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ، ولا فرق .


وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء : بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه وتعالى أمارة على قضاء الحاجة ، فمتى وفق الله العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قضيت ، وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء فإن ذلك دليل وعلامة على أنه مطر .


قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب ، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب ، لأنها أسباب له .

وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار ، والحرق مع الاحراق ، والازهاق ومع القتل ، ليس شيء من ذلك سببا ألبتة ، ولا إرتباط بينه وبين ما يترتب عليه ، إلا مجرد الاقتران العادي ، لا التأثير السببي ، وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة ، وسائر طوائف العقلاء ، بل أضحكوا عليهم العقلاء .



والصواب : أن ههنا قسما ثالثا ، غير ما ذكره السائل ، وهو أن هذا المقدور قدِّر بأسباب ، ومن أسبابه الدعاء ، فلم يقدر مجردا عن سببه ، ولكن قُدِّر سببه ، فمتى أتي العبد بالسبب وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور ، وهذا كما قدر الشبع والريّ بالاكل والشرب ، وقدر الولد بالوطيء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه ، وكذلك قدر دخول الجنة بالاعمال ، ودخول النار بالاعمال .
وهذا القسم هو الحق وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له .



الدعاء من أقوى الأسباب :

وحينئذ فالدعاء من أقوى الاسباب ، فاذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال لا فائدة في الاكل والشرب وجميع الحركات والاعمال ، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب .

عمر يستنصر بالدعاء :

ولما كان الصحابة رضى الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله – صلى الله عليه وسلم - وأفقههم في دينه ، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم .
وكان عمر رضى الله عنه يستنصر به على عدوه ، وكان أعظم جنديه ، وكان يقول للصحابه : (( لستم تنصرون بكثرة ، وإنما تنصرون من السماء )) . وكان يقول : (( إني لا أحمل همّ الاجابة ولكن همّ الدعاء فاذا ألهمتم الدعاء فإن الاجابة معه )) .


وأخذ هذا الشاعر فنظمه فقال

لو لم ترد نيل ما أرجوه وأطلبه * * من جود كفيك ما عودتني الطلبا


فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الاجابة ، فإن الله سبحانه يقول : {{ادعوني أستجب لكم }} غافر 60 .

وقال : {{ وإذا سألك عبادي عني فأني قريب أجيب دعوة الداع أذا دعان }} البقرة 186 .

وفى ’’سنن ابن ماجه’’ من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {{ من لم يسأل الله يغضب عليه }} .


وهذا يدل على أن رضاءه في سؤاله وطاعته ، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير فى رضاه ، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه .

وقد ذكر الإمام أحمد ’’في كتاب الزهد’’ أثرا : (( أنا الله لا إله إلا أنا ، إذا رضيت باركت ، وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ، ولعنتي تبلغ السابع من الولد )) .

وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم - على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها - على أن التقرب إلى رب العالمين ، وطلب مرضاته ، والبر والاحسان الى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير ، وأضدادها من أكبر الاسباب الجالبة لكل شر ، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمته بمثل طاعته والتقرب إليه ، والإحسان إلى خلقه .



ارتباط الخير والشر بالعمل :

وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الاعمال ، ترتب الجزاء على الشرط ، والمعلول على العلة والمسبب على السبب ، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع :

فتارة : يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له ، كقوله تعالى : {{ فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين }} الأعراف 166 ، وقوله : {{ فلما آسفونا انتقمنا منهم }} الزخرف 55 ، وقوله : {{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا }} المائدة 38 ، وقوله : {{إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين و المؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما }} الأحزاب 35 .وهذا كثير جدا .

وتارة : يرتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى : {{ إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيآتكم ويغفر لكم }} الأنفال 29 ، وقوله تعالى : {{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين }} التوبة 11 ، وقوله : {{ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا }} الجن 16 . ونظائره .


وتارة : يأتي بـ ’’لام التعليل’’ كقوله : {{ ليتدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب }} ص 29 . وقوله : {{ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }} البقرة 143 .


وتارة : يأتي بأداة ’’كي’’ التي للتعليل ، كقوله تعالى : {{ كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم }} الحشر 7 .

وتارة : يأتي بـ ’’باء السببية’’ كقوله تعالى : {{ ذلك بما قدمت أيديكم }} آل عمران 181 . وقوله : {{بما كنتم تعملون }} المائدة105 . وقوله : {{ وبما كنتم تكسبون }}، وقوله : {{ ذلك بأنهم كفروا بآيات الله }} آل عمران 112.


وتارة : يأتي بالمفعول لأجله ظاهرا أو محذوفا ، كقوله تعالى : {{ فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }} البقرة 282 . وكقوله تعالى : {{ أن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين }} الأعراف 172 . وقوله : {{ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا }} الأنعام 156 .أي كراهة أن تقولوا .


وتارة : يأتي بـ ’’فاء السببية’’ كقوله : {{ فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها }} الشمس14. وقوله : {{ فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية }} الحاقة10. وقوله: {{ فكذبوهما فكانوا من المهلكين }} المؤمنون 48.ونظائره.


وتارة : يأتي بأداة ’’لما’’ الدالة على الجزاء كقوله : {{ فلما آسفونا انتقمنا منهم }} الزخرف55. ونظائره .


وتارة : يأتي بـ ’’إن’’ وما عملت فيه كقوله : {{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات }} الأنبياء90، وقوله فى ضد هؤلاء : {{ إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين }} الأنبياء77.


وتارة : يأتي بأداة ’’لولا’’ الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله : {{ فلولا أنه كان من المسبحين للبث وفي بطنه الى يوم يبعثون }} الصافات 143-144 .


وتارة : يأتي بـ ’’لو’’ الدالة على الشرط كقوله : {{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم }} النساء 66 .



وبالجملة : فالقرآن من أوله الى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والاحكام الكونية والامرية على الاسباب ، بل ترتيب احكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الاسباب والاعمال .


ومن تفقه في هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع ، ولم يتكل على القدر جهلا منه وعجزا ، وتفريطا وإضاعة ، فيكون توكله عجزا ، وعجزه توكلا ، بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر ، ويدفع القدر بالقدر ، ويعارض القدر بالقدر ، بل لا يمكن الانسان أن يعيش إلا بذلك ، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر .

والخلق كلهم ساعون في دفع القدر بالقدر .

وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الاخروية بقدر التوبة والايمان والاعمال الصالحة ، فهذا وزن المخوف في الدنيا وما يضاده سواء ، فرب الدارين واحد ، وحكمته واحدة ، لا يناقض بعضها بعضا ، ولا يبطل بعضها بعضا ، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ، ورعاها حق رعايتها ، والله المستعان .


ملاحظة : هذه الصفحة : >>> الجواب الكافي (مشروع قراءة ) مخصصة للمدارسة ووضع الإجابات فقط ..

*
*



توقيع أمة الخبير
*
*
*


إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله

*
*
*



التعديل الأخير تم بواسطة أمة الخبير ; 18-07-07 الساعة 01:57 PM
أمة الخبير غير متواجد حالياً