بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين
الحصة الأولى
السبت 14/07/2007
مقدمة التحقيق
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وجعله شرعة صالحة خالدة للعالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبي الرحمة المهداة للثقلين ، والموصوف بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم .
وبعد :
هناك دوافع طبعية تدفع الإنسان إلى تحقيق مراده ، وليس كل الدوافع الطبعية سيئة ولا قبيحة ، بل كثير منها أوجده الله في الإنسان كي يندفع اندفاعا ذاتيا لتحقيق مراده الذي تقوم حياته به ، ولو لم يخلق الله له هذه الدوافع لما سعى في طلب الرزق ، ولما تناول الطعام ولما سعى للزوجة .. وقد لاحظ جمع من العلماء – من بينهم الإمام ابن القيم في كتابه << الداء والدواء >> - أن الأمور التي لها دوافع طبعية مغروسة في أعماق النفس الإنسانية اكتفى الشارع بشرعها ، ولم يقم الدواعي إلى فعلها اكتفاء بالدوافع الداخلية ، فهي وحدها كافية في الإلحاح على صاحبها كي ينال مراده منها، ولو قدّر أن بعض الناس أراد أن يعمل على تقويض مطلوبات النفوس وتحريمها ، اكالزواج والطيبات من الطعام .. فإن الشارع يمقت فعلها هذا ، ويعده جريمة نكراء .
أما الأفعال التي تكرهها النفوس وتنفر منها ، والشارع يريد من الإنسان تحقيقها والقيام بها ، فإن الشارع يحدث لها من الدواعي بمقدار كراهيتها لها ، ونفارها منها ، ويكفي أن نعود إلى كتب الترغيب والترهيب ، لنعلم ما أعدّه الله للذين يؤدون الواجبات ، ويكثرون من المستحبات من أجر عظيم ، وجزاء كريم ، عندما تسمع به القلوب وتعيه فإنه يستهويها ، ويملك عليها أمرها ، فلا تملك إلا أن تندفع إلى تحقيق ما طلب منها .
والناظر في سير الصالحين من هذه الأمة يعجب من صبرهم علىالبأساء والضراء ، وبذل أنفسهم في سبيل الله ، ولا يرهبون الردى ، ولا يقيمون وزنا لما يصيبهم من آلام .
يعجب الناظر من صبرهم على السهر الطويل يصلون ويستغفرون ، ومن بذلهم الكثير والقليل ، ولا يطلبون جزاء ولا شكورا ، ومن امتناعهم عن محبوبات النفوس صائمين في شهور الحرّ ذات النهار الطويل ، وما ذلك إلا لأنهم علموا عن الله وعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما جعل الله لمن استقام على شرعه ، فلميجدوا سبيلا إلا في القيام بما أراد الله منهم مريدين نيل وعد الله .
ولقد رأينا الشارع يزيد من الدواعي والترغيب بما يوازي الدواعي الكبيرة التي تدعو إليها النفس والشيطان ، بحيث يمنع النفس الأمارة بالسوء ، والشيطان الذي يحسّن القبائح والباطل للإنسان ، من السيطرة علىقلب الإنسان وعقله بحيث تكون الغلبة لهما .
فالأعمال التي تنفر منها النفوس ، ويشق القيام بها عند بني البشر ، يقيم لها الله تعالى الدواعي التي تجعلها خفيفة على النفوس ، تسعى إليها عن رضا وطواعية .
وهذا المنهج واضح لمن استقرأ الكتاب والسنة ، ولذلك وصف الله كتابه بالتبشير والإنذار : {{ قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا }}
ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بهاتين الصفتين : {{ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا }}
ويتضح منهج الإمام ابن القيم عندما يحلل ويشرح طبيعة الإرادة الإنسانية ، إذ لا عذر للمرء في اختيار الردائل ومكابدة آلام الخطايا حيث الأسف والندم لأن الإرادة صالحة للضدين ، فاختيار أحد الطريقين على الآخر من مسؤوليته ، ويتم بحريته ، فالعبد هو المستجيب المريد الفاعل حقيقة إذ لا سلطان لأحد على إرادته الحرة المختارة ، وآية ذلك أيضا حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : {{ بعثت داعيا ومبلغا وليس لي من الهداية شيء ، وبعث إبليس مزينا ومغويا ، وليس إليه من الضلالة شيء }} .
ويظل الإنسان طوال حياته – مع الكفاح في تقوية الإرادة الخيرة وإضعاف الإرادة الشريرة مؤملا في غفران الله تعالى ، مستغفرا من ذنوبه ، عائدا إلى الله تائبا نادما مصمما على الكف عما يغضبه يحدوه الأمل والرجاء . فقد كان عمر رضي الله عنه مع منزلته في الصحبة والإيمان والعدل ومكارم الأخلاق يقول في دعائه : {{ اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت }}
وتنبني نظرية ابن القيم في الأخلاق والتربية على قسمين :
أحدهما علمي : وهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال ، وإدراك ما في المحظور من الشر والضر والنقص .
الثاني عملي : إي العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروؤة الإنسانية ، وبذلك يكون مصارعة باعث العقل والدّين لباعث الهوى والنفس .
وبهذا يكون ابن القيم صاحب نظرية لعلاج أمراض النفوس ، وأهمها عنايته لطرق علاج داء الشهوات المحرمة الذي يصبح هيّنا سهلا إذا ما اتبع الإنسان طرق العلاج الآتية :
الأول : أن ينظر مادة قوة الشهوة فيجدها من الأغدية المحركة للشهوة فيقللها أو يمتنع عن تناولها فإذا لم تنحسم فعليه بالصوم فإنه يضعفها ويكسر حدتها .
الثاني : أن يجتنب محرك الطلب وهو النظر ، ففي الحديث : {{ النظر سهم من سهام إبليس }} فإن نصبت قلبك غرضا فيوشك أن يقتله سهم من تلك السهام المسمومة .
الثالث : تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام .
الرابع : التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر .
وبذلك أوضح ابن القيم ضرورة تكامل جوانب الشخصية الأخلاقية ، ونظرته للتشريع الأخلاقي في الإسلام و تكامل في الجوانب الثلاثة وهي الجسد والعقل والروح ، ولكل جانب منها ضوابط تجعله يتكامل مع غيره من الجوانب ليكون الإنسان الرشيد .
رحم الله الإمام ابن القيم وعلماء المسلمين على ما قدموا للإسلام والمسلمين.
وأخيرا .. فإنا نسأل الرحمن مغفرة ، وأن يعفينا من كل سوء وتقصير .. آمين.
وكتبه
محمد محمد عامر
ماجستير في العقيدة والفلسفة الإسلامية
في كلية دار العلوم