عرض مشاركة واحدة
قديم 01-02-13, 03:04 PM   #15
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي

وأخذ القرآن مرةً يستثير ذكرياتٍ للصحابة كاد الكفار فيها أن يفتكوا بهم، فينبش القرآن هذه الوقائع التاريخية ليرتفع بالقلوب إلى الله الذي نجاهم، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المائدة: 11].

وقد ذكر أهل التفسير فيها عدة وقائع تندرج في ذلك، كمحاولة الأعرابي غورث بن الحارث أن يقتل رسول الله، كما في البخاري.. ومثل مؤامرة اليهود لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأوحى الله إليه وانكشفت المؤامرة، ونحوها من الأحداث..

ليس المهم تعيين هذه الأحداث التي فشلت فيها مؤامرات الكفار ضد الرسول والصحابة ..
الأهم والله حين يرى متدبر القرآن كيف يفاجئ القرآن الصحابة بذكر تلك القصص ليحيي علاقة القلب بالله.. فينبههم أن الله سبحانه هو الذي كف أيدي الكفار عنكم، وأنه يجب أن تتوكل القلوب عليه سبحانه ..

آيات تنبش في أذهان الصحابة ذكريات أحداثٍ وخطوب سلموا فيها، لا تذكرها هذه الآيات إلا لتصعد بالقلوب إلى الخالق المتفضل سبحانه.. كأن هذه الآيات تقول: انتبهوا إن سلامتكم في تلك الأحداث ليست أمراً عابراً، بل هو فضل من الله ورحمة، فاذكروا هذا ولا تنسوه، وليكم منكم على بال، ولتعشه القلوب وتلهج بشكر الله الألسنة والجوارح.. انظر كيف تكون وظيفة (السير والمغازي) في كتاب الله، وقارنها بنمط تعاملنا معها ..

وتذكير القرآن للصحابة بغزواتهم في سورة الأنفال يشبه قول الله في سورة إبراهيم عن موسى: ﴿ولَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾[إبراهيم، 5] فقال موسى مستجيباً في الآية التي تليها: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾[إبراهيم: 6]

ولما ذكر الله تعالى قصة موسى صلى الله عليه وسلم إذ أمر قومه بدخول (الأرض المقدسة) والتي ذكر بعض أهل التفسير أنها الطور وما حولها، فتخاذل قوم موسى واعتذروا بأن فيها قوماً جبارين لديهم إمكانيات لا نستطيع مقاومتها، وفي هذه اللحظة وقف رجلان من قوم موسى موقف الشجاع مستجيبين لأمر موسى، ونبهوا قومهم أنهم بمجرد الدخول على الجبارين فسينهزمون بإذن الله.. هذان الرجلان البطلان لم يذكرهما الله في كتابه وينسب الفضل لهما، بل نبّه تعالى أن موقفهم البطولي إنما له خلفيات أخرى. بالله عليك تتبع نمط القرآن في عرض ذلك، يقول الله حاكياً خطاب موسى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة: 20-23]

لعلك لاحظت الأمر، وكيف يلح القرآن على إبراز خلفيات العلاقة بالله، فهذا الرجلان لم يقفا هذا الموقف الصواب إلا لأنهما يخافا من الله، وقد أنعم الله عليهما بمقامات الإيمان والديانة..

وحتى وصيتهما لقومهما كانت ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا﴾ والتوكل من أدق مقامات تعلق القلب بالله، بل إن التوكل هو لحظة التعلق بالله فعلاً..

هذه الوقائع والحوارات بين موسى وقومه لا يمكن أن تخرج منها بمبدأ جوهري إلا مركزية التعلق بالله.. فموسى يذكرهم بالله لكي يدخلوا الأرض المقدسة، وبطلا المشهد إنما وقفا هذا الموقف لأن الله أنعم عليهما بمقامات الإيمان، ونصيحتهما الختامية هي (التوكل على الله) .. القصة كلها إيمان في إيمان..

ثم يحدثك القرآن عن ظاهرة المصائب والأضرار التي تصيب الإنسان في حياته الشخصية، وبالرغم من أن الله شرع لنا اتخاذ الأسباب، كالأدوية للشفاء من المرض، والتماس الرزق لرفع الفقر، إلا أن القرآن يكثف دائرة الضوء على أمرٍ آخر أهم وهو أن يرتبط الفؤاد بالله سبحانه وتعالى وهو يصارع هذه البلاءات، تأمل كيف يصوغ القرآن هذا المعنى، يقول الله: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الأنعام: 17]

ويقول ربنا في موضعٍ آخر مشابه ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[يونس: 107]

لعلك لمحت معنى آخر، وهو أن الآيتين كليهما لم يتحدثا فقط عن أن كاشف الضر هو الله، بل المدهش أنهما أشارتا كذلك إلى أن من مسّك بهذا الضر هو الله سبحانه أيضاً!

فحين يتعمق المؤمن في أسرار هذه الآيات فيمتلئ قلبه باليقين بأن من مسّه بالفقر أو المرض هو الله، وأن من سيرفع هذا الضر، فيغنيه ويعافيه؛ هو الله أيضاً، فصار مبتدأ الأمر ومنتهاه من الله وإلى الله، فماذا بقي في القلب لغير الله!
الله وحده - جل جلاله - هو الذي أوقعه، والله وحده - جل جلاله- هو الذي سيرفعه!
هكذا يتبحر المؤمن في حقائق العلم بالله والإيمان به وعمارة النفوس بمهابته سبحانه..




توقيع رقية مبارك بوداني

الحمد لله أن رزقتني عمرة هذا العام ،فاللهم ارزقني حجة ، اللهم لا تحرمني فضلك ، وارزقني من حيث لا أحتسب ..


رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس