فى رحاب قوله تعالى:"ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله"
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل:
"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ"
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسه ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّه } يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَمِنْ النَّاس مَنْ يَبِيع نَفْسه بِمَا وَعَدَ اللَّه الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيله وَابْتَاعَ بِهِ أَنَفْسهمْ بِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّه اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة }
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى شَرَى بَاعَ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَته . وَأَمَّا قَوْله : { ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّه } فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الشَّارِي يَشْرِي إذَا اشْتَرَى طَلَب مَرْضَاة اللَّه
اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِيهِ وَمَنْ عُنِيَ بِهَا ,
فَقَالَ بَعْضهمْ : نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار , وَعُنِيَ بِهَا الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّه .
وقيل نَزَلَتْ فِي صُهَيْب بْن سِنَان الرومى
فَإِنَّهُ أَقْبَلَ مُهَاجِرًا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعَهُ نَفَر مِنْ قُرَيْش , فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَته , وَانْتَثَلَ مَا فِي كِنَانَته , وَأَخَذَ قَوْسه , وَقَالَ : لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ , وَايْم اللَّه لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِي بِمَا فِي كِنَانَتِي , ثُمَّ أَضْرِب بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدَيَّ مِنْهُ شَيْء , ثُمَّ اِفْعَلُوا مَا شِئْتُمْ . فَقَالُوا : لَا نَتْرُكك تَذْهَب عَنَّا غَنِيًّا وَقَدْ جِئْتنَا صُعْلُوكًا , وَلَكِنْ دُلَّنَا عَلَى مَالِك بِمَكَّة وَنُخَلِّي عَنْك , وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَفَعَلَ , فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتْ : " وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّهِ " الْآيَة , فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَبِحَ الْبَيْع أَبَا يَحْيَى ) , وَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَة
وَالْمَعْنِيّ بِهَا كُلّ مَنْ شَمِلَهُ ظَاهِرهَا . فَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال : إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلّ وَصَفَ شَارِيا نَفْسه ابْتِغَاء مَرْضَاته , فَكُلّ مَنْ بَاعَ نَفْسه فِي طَاعَته حَتَّى قُتِلَ فِيهَا أَوْ اُسْتُقْتِلَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَل ,
فَمَعْنِيّ بِقَوْلِهِ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَشْرِي نَفْسه ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّه } فِي جِهَاد عَدُوّ الْمُسْلِمِينَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ فِي أَمْر بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْي عَنْ مُنْكَر .
"وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ"
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّه رَءُوف بِالْعِبَادِ } قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى الرَّأْفَة بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع , وَأَنَّهَا رِقَّة الرَّحْمَة ; فَمَعْنَى ذَلِكَ : وَاَللَّه ذُو رَحْمَة وَاسِعَة بِعَبْدِهِ الَّذِي يَشْرِي نَفْسه لَهُ فِي جِهَاد مَنْ حَادَّهُ فِي أَمْره مِنْ أَهْل الشِّرْك وَالْفُسُوق وَبِغَيْرِهِ مِنْ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلهمْ وَآجِلِ مَعَادهمْ , فَيُنْجِز لَهُمْ الثَّوَاب عَلَى مَا أَبْلَوْا فِي طَاعَته فِي الدُّنْيَا , وَيُسْكِنهُمْ جَنَّاته عَلَى مَا عَمِلُوا فِيهَا مِنْ مَرْضَاته
المصدر
تفسير الطبرى
تفسير القرطبى
|