عرض مشاركة واحدة
قديم 01-02-13, 02:49 PM   #14
رقية مبارك بوداني
|تواصي بالحق والصبر|
مسؤولة الأقسـام العامة
افتراضي

القرآن يريد النفس البشرية مشدودة الارتباط بالله جل وعلا في جميع الأحوال..
يريد من المسلم أن يكون الله حاضراً في كل سكنة وحركة..

وكنت أتأمل كيف يذكر الله النصر العسكري ليربط النفوس بالله ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[آل عمران: 123].

وحتى حين ذكر الله المعاصي والخطايا إذ يقارفها ابن آدم فإن القرآن يفتح باب ذكر الله أيضاً ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ﴾[آل عمران: 135]

وذكر الله تبدلات موازين القوى عبر التاريخ، وربط الأمر - أيضاً - بأن المراد اختبار عمق الإيمان والارتباط بالله ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ [آل عمران: 140].

وقص الله في القرآن قصة قومٍ قاتلوا مع نبيهم .. وحكى القرآن ثباتهم.. ومن ألطف ما في ذلك السياق أنه أخبرنا بمقالتهم التي قالوها في ثنايا معركتهم.. فإذا بها كلها مناجاة وتعلق بالله ﴿وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[آل عمران: 146-147]..

شيء مدهش والله من حال ذلك القوم الذين عرضهم الله في سياق الثناء.
في قلب المعركة .. وتراهم يستغفرون الله من خطاياهم، ويبتهلون إليه، ويظهرون الافتقار والتقصير وأنهم مسرفون ..
يا لتلك القلوب الموصولة بالله..

ولما ذكر الله الجهاد شرح وظيفته وأنها اختبار ما في النفوس من تعلق بالله وإيمان به ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾[آل عمران: 154].. وقال ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران: 166]

ولما ذكر الله حب النفس البشرية للنصر على الأعداء لفت الانتباه إلى المصدر الرئيسي للنصر ..

تأمل بالله عليك كيف يضخ القرآن في النفوس التعلق المستمر بالله ﴿إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾[آل عمران: 160] ويقول تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[محمد، 7]..

وكنت أنظر كيف يصوّر القرآن أوضاع الجلوس والقيام والاسترخاء.. وكيف تكون النفس في كل هذه الأحوال لاهجة بذكر الله ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾[آل عمران: 191].

يذكر الله وهو واقف ..
يذكر الله وهو جالس ..
يذكر الله وهو مضطجع..
أي تعلق بالله .. وأي نفوس معمورة بربها أكثر من هذه الصورة المشرقة..

سألتك بالله وأنت تقرأ هذه الآية ألا تتذكر بعض العبّاد المخبتين من كبار السن الذين لا تكف ألسنتهم عن تسبيح وتحميد وتكبير ..
هل ترى الله حكى لنا هذه الصورة عبثاً؟
أم أن الله تعالى يريد منا أن نكون هكذا ..
نفوساً مملوءة بربها ومولاها لا تغفل عن استحضار عظمته وتألهه لحظة واحدة..

وحتى في المشاعر بين الزوجين إذا سارت الأمور في غير مجاريها فإن القرآن يحرك في النفوس استحضار الغيبيات والأبعاد الإيمانية حيث يقول تعالى: ﴿فإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[النساء: 19].

فإن بلغت أمور الزوجين إلى الشقاق الزوجي شرع التحكيم بينهما .. وحتى في هذا التحكيم الزوجي فإن القرآن يلفت انتباه المنخرطين في هذه العملية إلى أن مسارات التحكيم مرتبطة بما قام في القلوب من العلاقة بالله ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾[النساء: 35].

ولما ذكر الله البلد الذي لا يستطيع المؤمن فيها إظهار شعائره وأمر بالهجرة إلى بلد آخر؛ لم يجعل الأمر مجرد هجرة من مكان جغرافي إلى آخر، بل جعل القضية "هجرة إلى الله" ذاته، كما يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾[النساء: 100] .. فالأمر في صيغته الحسية مجرد هجرة من بلد إلى بلد، لكنه في ميزان القرآن "هجرة إلى الله ورسوله"..

ومن أعجب مواضع القرآن في ربط النفوس بالله وعمارتها بربها، ولا أظن أن ثمة دلالة أكثر من ذلك على هذا الأمر: (صلاة الخوف حال الحرب)، هذه الشعيرة تسكب عندها عبرات المتدبرين..

وقد تكفل القرآن ذاته بشرح صفتها، وجاءت في السنة على سبعة أوجه معروفة تفاصيلها في كتب الفقه .. بالله عليك تخيل المسلم وقد لبس لأمة الحرب، وصار على خط المواجهة، والعدو يتربص، والنفوس مضطربة قلقة، والأزيز يمخر الأجواء، والدم تحت الأرجل.. ومع ذلك لم يقل الله دعوا الصلاة حتى تنتهوا، بل لم يقل دعوا "صلاة الجماعة" !
وإنما شرح لهم كيف يصلوا جماعة في هذه اللحظات العصيبة ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾[النساء: 102].

هل تعرف في الدنيا كلها شاهد على حب وتعظيم الله جل وعلا للارتباط بالله واستمرار مناجاته أكثر من ذلك..

بل هل يوجد رجل فيه شيء من الورع وخوف الله يهمل صلاة الجماعة وهو في حال الأمن والرفاهية وعصر وسائل الراحة؛ وهو يرى ربه تعالى يطلب من المقاتلين صلاة الجماعة ويشرح لهم تفاصيل صفتها بدقة، وهم تحت احتمالات القصف والإغارة؟!

هل تستيقظ نفوس افترشت سجاداتها في غرفها ومكاتبها تصلي "آحاداً" لتتأمل كيف يطلب الله صلاة "الجماعة" بين السيوف والسهام والدروع والخنادق..؟!

أترى الله يأمر المقاتل الخائف المخاطر بصلاة الجماعة، ويشرح له صفتها في كتابه، ويعذر المضطجعين تحت الفضائيات، والمتربعين فوق مكاتب الشركات؟!
هل تأتي شريعة الله الموافقة للعقول بمثل ذلك؟!

ومن اللطيف أن الآية التي أعقبت الآية السابقة تكلمت عن حال إتمام الصلاة، حسناً .. نحن عرفنا الآن من الآية السابقة صفة الصلاة لحظة احتدام الصفين، فما هو التوجيه الذي سيقدمه القرآن بعد الانقضاء من الصلاة؟ يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾[النساء: 103]

يا سبحان ربي .. الآن انتهى المقاتل من صلاة الجماعة، فيرشده القرآن لاستمرار ذكر الله ..
هل انتهى الأمر هاهنا؟

لا، لم ينته الأمر بعد، فقد واصلت الآية الحديث عن انتهاء حالة الخوف، وبدء حالة الاطمئنان، ويتصل الكلام مرةً أخرى لربط النفوس بالله ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾[النساء: 103]..
صارت القضية كلها لله ..

بالله عليك أعد قراءة الآيتين متواصلتين ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾[النساء: 102-103].

ولما ذكر الله الصلاة في سورة "طه" أشار إلى غاية تغيب عن بال كثير من المصلين فضلاً عمن دونهم، ربما يتحدث الواحد منا عن عظمة الصلاة في الإسلام، وأنها أعظم ركن بعد الشهادتين، وأنها الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، ونحو هذا من معاني مركزية الصلاة، ولكن لماذا شرع الله الصلاة وأحبها وعظمها سبحانه؟
إنها بوابة استحضار الله وتذكره، يقول الله سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾[طه، 14] هكذا بكل وضوح.. يقيم المسلمون الصلاة ليتذكرون الله جل وعلا.. يكبروه ويسبحوه ويناجوه..

بل وحتى حين ذكر الله الجوارح المعلّمة في الصيد لم يذكر تعليمها مغفلاً هكذا .. بل يربطه بالحقيقة العقدية الإيمانية ليستمر القلب موصولاً بعظمة الله .. تأمل كيف ينبه المسلم على ذلك ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾[المائدة: 4] ..

حتى تعليم الجوارح وكلاب الصيد يجب أن يستحضر المؤمن أنها تعليم مما علم الله ..
ما أشد كثافة حضور العلاقة بالله في القرآن..



توقيع رقية مبارك بوداني

الحمد لله أن رزقتني عمرة هذا العام ،فاللهم ارزقني حجة ، اللهم لا تحرمني فضلك ، وارزقني من حيث لا أحتسب ..


رقية مبارك بوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس