عرض مشاركة واحدة
قديم 18-07-07, 01:56 PM   #5
أمة الخبير
جُهدٌ لا يُنسى
افتراضي

*
*
*


الحصة الخامسة

الأربعاء 18/07/2007



لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه :

أحدهما :

أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ، ويكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم ، وما جربه في نفسه وغيره ، وما سمعه من أخبار الامم قديما وحديثا .

ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن ، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه . وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة ، ثم السنة ، فإنها شقيقة القرآن ، وهي الوحي الثاني .
ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما ، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما ، حتى كأنك تعاين ذلك عيانا ، وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الامم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به ، وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق ، وأن الرسول حق وأن الله ينجز وعده لا محالة ، فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر .


فصل


الأمر الثاني :

أن يحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب ، وهذا من أهم الأمور ، فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ولا بد ، ولكن تغالطه نفسه بالاتكال على عفو الله ومغفرته تارة ، وبالتسويف بالتوبة وبالاستغفار باللسان تارة ، وبفعل المندوبات تارة ، وبالعلم تارة ، وبالاحتجاج بالقدر تارة ، وبالاحتجاج بالاشباه والنظراء تارة ، وبالاقتداء بالأكابر تارة أخرى .


كثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ثم قال : ’’أستغفر الله ’’ ، زال أثر الذنب ، وراح هذا بهذا وقال لي رجل من المنتسبين الى الفقه : أنا أفعل ما أفعل ثم أقول سبحان الله وبحمده مائة مرة ، وقد غفر ذلك أجمعه ، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {{ من قال في يوم : سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر }} .
وقال لي آخر من أهل مكة : نحن إذا فعل أحدنا ما فعل ، ثم اغتسل وطاف بالبيت أسبوعا قد مُحي عنه ذلك .
وقال لي آخر : قد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {{ أذنب عبد ذنبا ، فقال : أي رب : أصبت ذنبا فاغفر لي ، فغفر الله ذنبه ، ثم مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنبا آخر فقال : أي رب : أصبت ذنبا فاغفر لي ، فقال الله عز وجل ، علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ، فليصنع ما شاء }} . قال : أنا لا أشك أن لي ربا يغفر الذنب ويأخذ به .

وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء ، واتكل عليها ، وتعلق بها بكلتا يديه ، واذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغرته ونصوص الرجاء ! وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب ، كقول بعضهم :

وكثِّر ما استطعت من الخطايا *** إذا كان القدوم على كريم

وقول الآخر : التنزه من الذنوب جهل بسعة عفو الله .

وقال الآخر : ترك الذنوب جراءة على مغفرة الله واستصغار.

وقال محمد بن حزم : رأيت بعض هؤلاء من يقول في دعائه : اللهم اني أعوذ بك من العصمة .


التعلق بالجبر :

ومن هؤلاء المغرورين من يتعلق بمسألة الجبر، وأن العبد لا فعل له البتة ولا إختيار ، وإنما هو مجبور على فعل المعاصي .


التعلق بالإرجاء :

ومن هؤلاء من يغتر بمسألة الإ رجاء ، وأن الايمان هو مجرد التصديق ، والاعمال ليست من الايمان ، وأن ايمان أفسق الناس كايمان جبريل وميكائيل .


الخطأ في الحب :

ومن هؤلاء من يغتر بمحبة الفقراء والمشايخ والصالحين ، وكثرة التردد إلي قبورهم والتضرع إليهم ، والاستشفاع بهم ، والتوسل الى الله بهم ، وسؤاله بحقهم عليه ، وحرمتهم عنده .

ومنهم من يغتر بآبائه وأسلافه ، وأن لهم عند الله مكانة وصلاحا ، فلا يدعوه أن يخلصوه كما يشاهد في حضرة الملوك ، فإن الملوك تهب لخواصهم ذنوب أبنائهم وأقاربهم ، وإذا وقع أحد منهم في أمر مفظع خلصه أبوه وجده بجاهه ومنزلته .


الإغترار بالله :

ومنهم من يغتر بان الله عز وجل غني عن عذابه ، وعذابه لايزيد في ملكه شيئا ورحمته له لاينقص من ملكه شيئا ، فيقول : أنا مضطر إلى رحمته وهو أغني الاغنياء . ولو أن فقيرا مسكينا مضطرا الى شربة ماء عند من في داره شط يجري لما منعه منها ، فالله أكرم وأوسع ، والمغفرة لاتنقصه شيئا والعقوبة لاتزيد في ملكه شيئا .


الإغترار بالفهم الفاسد للقرآن والسنة :

ومنهم من يغتر بفهم فاسد فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة ، فاتكلوا عليه .

كاتكال بعضهم على قوله تعالى : {{ ولسوف يعطيك ربك فترضى }} الضحى5. ، وهو لايرضى أن يكون في النار أحد من أمته ، وهذا من أقبح الجهل ، وأبين الكذب عليه ، فانه يرضى بما يرضى به ربه عز وجل ، والله تعالى يرضيه تعذيب الظلمة والفسقة والخونة والمصرين على الكبائر ، فحاشا رسوله أن يرضى بما لايرضى به ربه تبارك وتعالى .

وكاتكال بعضهم على قوله تعالى : {{ ان الله يغفر الذنوب جميعا }} الزمر53. وهذا أيضا من أقبح الجهل ، فان الشرك داخل في هذه الآية ، فانه رأس الذنوب وأساسها ، ولا خلاف أن هذه الآية في حق التائبين ، فانه يغفر ذنب كل تائب أي ذنب كان ، ولو كانت الآية في حق غير التائبين لبطلت نصوص الوعيد كلها ، وأحاديث إخراج قوم من الموحدين من النار بالشفاعة .

وهذا إنما أتى صاحبه من قلة علمه وفهمه ، فانه سبحانه ههنا عمم وأطلق ، فعلم أنه أراد التائبين . وفي سورة النساء خصص وقيد فقال : {{ إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }} النساء48. فاخبر الله سبحانه أنه لايغفر الشرك ، وأخبر أنه يغفر ما دونه ، ولو كان هذا في حق التائب لم راحم بين الشرك وغيره .

وكاغترار بعض الجهال بقوله تعالى : {{ يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم }} الإنفطار6 ، فيقول : كرمه ، وقد يقول بعضهم : إنه لقن المغتر حجته ! وهذا جهل قبيح ، وإنما غره بربه الغرور - وهو الشيطان - ونفسه الأمارة بالسوء وجهله وهواه ، وأتى سبحانه بلفظ : ’’الكريم’’ وهو السيد العظيم المطاع الذي لاينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه ، فوضع هذا المغتر الغرور فى غير موضعه ، واغتر بمن لاينبغي الاغترار به .

وكاغترار بعضهم بقوله تعالى في النار : {{ لايصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى }} الليل15-16 ، وقوله : {{ أعدت للكافرين }} البقرة24 ، ولم يدر هذا المغتر ان قوله : {{ فأنذرتكم نارا تلظى }} الليل14 هي النار مخصوصة من جملة دركات جهنم ، ولو كانت جميع جهنم فهو سبحانه لم يقل لايدخلها ، بل قال : {{ لايصلاها الا الاشقى }} ولا يلزم من عدم صليها عدم دخولها ، فان الصلي أخص من الدخول ونفي الاخص لا يستلزم نفي الأعم .

ثم هذا المغتر لو تأمل الآية التي بعدها لعلم أنه غير داخل فيها ، فلا يكون مضمونا له ان يجنبها .

وأما قوله في النار : {{ أعدت للكافرين }} فقد قال في الجنة : {{ أعدت للمتقين }} ، ولا ينافي إعداد النار للكافرين أن يدخلها الفساق والظلمة ولا ينافي إعداد الجنة للمتقين أن يدخلها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من الإيمان ، ولم يعمل خيرا قط .


وكأغترار بعضهم بالإعتماد على صوم يوم عاشوراء ، أو يوم عرفة ، حتي يقول بعضهم : صوم يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها ، ويبقى صوم عرفة زيادة في الاجر .
ولم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء ، وهي إنما تكفر ما بينهما اذا اجتنبت الكبائر .
فرمضان والجمعة الى الجمعة ، لايقويا على تكفير الصغائر الا مع انضمام ترك الكبائر اليها ، فيقوي مجموع الامرين على تكفير الصغائر .
فكيف يكفر صوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها ، غير تائب منها ؟هذا محال ، على أنه لايمتنع أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء مكفرا لجميع ذنوب العام على عمومه ، وتكون من نصوص الوعد التي لها شروط وموانع ، ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير ، فاذا لم يصر على الكبائر لتساعد الصوم وعدم الاصرار ، وتعاونا على عموم التكفير ، كما كان رمضان والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر مع أنه سبحانه قد قال : {{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }} النساء31 .

فعلم أن جعل الشىء سببا للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسبب آخر على التكفير ، ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما . وكلما قويت أسباب التكفير كان أقوي وأتم وأشمل.


*
*



توقيع أمة الخبير
*
*
*


إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله

*
*
*


أمة الخبير غير متواجد حالياً