■ السمة الرابعة: تتبادل فيه المسؤوليات والأدوار:
عن عبد الله بن عمــر ـ رضــي الله عنهما ـ أنه ســمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته. قال: فسمعت هؤلاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، وأحسب النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته؛ فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2).
ولو تتبعنا منهجية النبي -صلى الله عليه وسلم - في تربية أصحابه لوجدنا توزيع المهام والمسؤوليات واضحاً وجلياً؛ فمنهم من تولى جانباً عملياً، ومنهم من أُعد لجانب علمي، ومنهم من تولى شأناً من شؤون النبي -صلى الله عليه وسلم - وخدمته.
والأدوار التي من الممكن تبادلها داخل الأسرة كثيرة ومتعددة، ومن الممكن تجزئتها أو دمجها حسب عدد أفراد الأسرة، ويأتي على رأس القائمة الوالدان وتبادلهما للدور التربوي والقيادي في الأسرة واتفاقهما على ذلك كما ذكر في السمة الأولى.
وإنه لمن المحزن في هذا العصر أن تجد شباباً قد قاربوا سن الزواج ولَـمَّا يستطيعـــوا إدارة شــؤونهــم وحوائجهــم الخاصة، فلا توجد لديهم قدرة على بيع أو شراء، ولا إنجاز معاملة في دائرة أو جهة، بل ولا القدرة على اختيار ما يناسبهم من ملبس ونحوه.
والفتيات ليس لديهن القدرة على إدارة منزل من طبخ أو غسل أو تربية أو استقبال ضيوف.
يقول الدكتور مصطفى فهمي: «يؤكد كثير من علماء النفس أهمية العمل في تكامل الشخصية؛ فهو وسيلة ومن وسائل التعبير عن الذات يحاول بها الفرد أن يحقق أهدافه وأن يشبع رغباته وحاجاته، وأن يحيل قيمه ومثله حقيقة واقعة، وأن يعبر عن دوافعه وصراعه وقلقه بصورة مقبولة منه ومن المجتمع في معظم الأحيان، وهو في أثناء التفاعل مع الوسط الذي يعمل فيه ينمو وتتكامل شخصيته وتتحقق ذاته ويشعر بقيمته وإنسانيته(3). وذكر الدكتور عبد العزيز النغيمشي عند كلامه عن التهيئة لتحمل المسؤولية أن من ضمن المجالات التي تعين على ذلك المشاركة الأسرية، وعلل ذلك بقوله: «إذ إن الأسرة كالمجتمع الصغير لها أعضاء وأنظمة وقيادة وميزانية وبرامج وعادات، ويمكن من خلالها ممارسة كثير من الأدوار والمسؤوليات. والأسرة هي المحضن الأول للفرد الذي فيه يترعرع وينشأ؛ ووفق كيفية النشأة والتربية في الأسرة تكون استقلاليته أو تبعيته وإقدامه أو إحجامه»(4).
إلا أن إعطاء هذه الأدوار والمسؤوليات لا بد أن يكون بتدرج وتدريب مسبق ومراقبة من المربي لئلا يؤدي ذلك إلى نتيجة عكسية.
■ السمة الخامسة: يشجع المشاركة الاجتماعية:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة»(5).
وقال -صلى الله عليه وسلم - : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»(6).
إن تحميل الهم العام للأمة، وغرس حب خدمة الآخرين وتقوية الشعور بالانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد كل ذلك يساعد الفرد في اكتشاف الذات، وتحقيق الإنجاز الذي هو حاجة من الحاجات النفسية التي يحتاج الإنسان إلى إشباعها، وهي في الوقت نفسه وسيلة من وسائل بناء وتطوير الذات وتوسع دائرة العلاقات لدى الفرد.
ومن المجالات المتاحة في المشاركة الاجتماعية النشاط المدرسي اللامنهجي من توعية إسلامية، ونشاط كشفي، وجماعات النشاط الطلابي المتنوعة؛ ففي هذا المجال غرس البذرة الأولى للمشاركة الاجتماعية لدى أفراد الأسرة ممن ينتمون إلى التعليم باختلاف مراحله، ومن المجالات المتاحة في المشاركة الاجتماعية المؤسسات والجمعيات الخيرية النفعية أو الدعوية أو العلمية.
وعلى الوالدين إعانة أولادهم على المكان الأنسب لهم من بين تلك المجالات وفتح المجال لهم للاختيار.
واندماج أفراد الأسرة في البرامج الاجتماعية المتنوعة يساعد الأسرة في صقل شخصيات أفرادها وقوة الارتباط الأسري، والبعد عن سفاسف الأمور والانشغال بالترهات الملهية مما يرفع قوة الطرح في الجلسات الأسرية، ويفتح المجال لتبني مشاريع أسرية مشتركة، بل يؤثر تأثيراً ظاهراً في الأجيال المتتابعة من الأسرة الواحدة.
يقول الدكتور أمين أبو لآوي مبيناً مكانة المشاركة الاجتماعية في التربية الإسلامية: «تتجه التربية الإسلامية إلى زرع بذور التعاضد والتماسك والتضامن في نفوس الناشئين من أجل تحقيق اتجاه العمل الجماعي والشعور بالمسؤولية عن الجماعة؛ وذلك عن طريق إبراز أهمية العمل المنظم والهادف إلى رصِّ الصف وتنسيق الجهود الفردية لخدمة الأهداف العليا في المجتمع الإسلامي»(1).
■ السمة السادسة: يشجع النجاح والتميز:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل. فكان عبد الله بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً»(2).
وعن عبد الرحمن بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء عثمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بألف دينار حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره. قال عبد الرحمن: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقلبها في حجره ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم»(3).
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للأشج، أشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»(4).
ولو تتبعنا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - لوجدنا فيها مواقف متعددة لاستنفار الطاقات وتشجيع المواهب.
وهذا الجانب يعطي الشعور بالثقة وتقدير الآخرين للمتربي، ويقوي فاعليته وانتماءه للجهة التي منحته الفرصة لإظهار ما لديه من قدرات، ويساعد في تكرار النجاح والحرص عليه.
يقول الدكتور مأمون مبيض: «من الأهمية بمكان أن يبذل الآباء بعض الجهد في تعلم أساليب التشجيع فهو من أهم الأمور التي يمكنهم استعمالها في التربية وهو من الأمور المؤثرة في الأنواع الأخرى من السلوك»(5).
وتشجيع النجاح والتميز في الأسرة لا يكون عن طريق التمييز في الحقوق بين أعضائها أو الاهتمام ببعضهم وإهمال الآخرين، بل يكون بغرس المفاهيم الصحيحة للنجاح، وفتح المجال للإنتاج والإبداع، وتوفير الوسائل المساعدة على ذلك والتحفيز المدروس والصادق الواقعي لمظاهر النجاح لدى أفراد الأسرة.
■ السمة السابعة: لديه أوقات للمرح والفكاهة والاستجمام:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ «أنها كانت مع النبي -صلى الله عليه وسلم - في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة»(6).
وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو»(7).
وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَيِ العشاء وهو حامل حَسناً أو حُسيناً، فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فوضعه، ثم كبَّر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها. قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعت إلى ســجودي، فلما قضــــى رســــول الله -صلى الله عليه وسلم - الصـلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك. قال: «كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعَجِّله حتى يقضي حاجته»(8).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقاً»(9).
إن إغناء أفراد الأسرة عن الالتفات إلى خارج الأسرة أو البحث عمن يشبع حاجة من حوائجهم أمر مهم، وعلى قائد الأسرة الاهتمام به. والمرح والفكاهة والاستجمام من الأشياء المهمة المهملة من الكثير من الآباء لعدم الاقتناع، أو لكثرة مشاغله، وقد اعتبر الكثير من التربويين اللعب والمرح وسيلة من وسائل التربية، بل أُلِّف في ذلك كتب متعددة ورسائل متخصصة.
يقول خالد العودة: «للترويج دور مهم في التربية الخلقية والروحية إضافة إلى دوره في الجوانب الأخرى، والأسرة محتاجة إلى اللعب والترويح حاجة أساسية كحاجتها للطعام والشراب أحياناً»(10).
ووسائل الترويح في الأسرة المسلمة متعددة، ومن ذلك المداعبة والمزاح والنزهة والرحلة الأسرية، وتوفير لعب الأطفال الهادفة، والتجمعات العائلية، وزيارة المتاحف والمعارض المفيدة، وتوفير الكتب والأشرطة السمعية والمرئية وبرامج الحاسب الآلي التعليمية والترفيهية ووسائل الإعلام؛ إلى آخر القائمة من الوسائل التي بإمكان الأب توفيرها لأسرته وفق الضوابط الشرعية.
يقول خالد العودة: «وإدارة الترويح المنزلي تتميز بكونها شأن أسري خاص يصعب التحكم فيه من خارجها، ولذا تزداد مسؤولية الوالدين في اختيار الأنماط والتطبيقات المناسبة»(1).
■ السمة الثامنة: يتسم بالمرونة ومراعاة الظروف:
الأسرة محضن تربوي يستمد مكانته من النصوص الشرعية التي هــي بدورهــا منضبطة بقواعـد مــن ضمنها: «لا ضرر ولا ضرار» و «المشقة تجلب التيسير» وعدم المؤاخذة عند الجهل أو النسيان أو الإكراه.
ولا يخلو عضو من أعضاء الأسرة من ظروف تمر به وتمنعه من تحقيق الأهداف العامة للأسرة من مرض ومشاغل وتعكُّرِ مزاجٍ وقلة ذات اليد، ونحو ذلك.
فلا يعني وجود خطط أو أهداف أو اتفاقيات محددة داخل الأسرة أن نكون صارمين في تحقيقها؛ فقد تضطر الأسرة لتأجيل بعض برامجها أو إلغائها، أو قد تضطر للتعامل بطريقة معينة مع أحد أفرادها؛ لأنه يمر بمرحلة نمو معينة، أو قد تتنازل الأسرة عن بعض مطالبها لصعوبات مالية تمر بها.
ولو تتبعنا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم - في ذلك لوجدنا اليسر والسهولة والبساطة.
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَت»(2).
قال أنس ـ رضي الله عنه ـ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خُلُقاً، فأرســـلني يوماً لحـــاجــة فقلت: واللــه! لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله -صلى الله عليه وسلم - قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق؛ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه هو يضحك، فقال: يا أُنَيْسُ! اذهب حيث أمرتك! قلت: نعم أنا اذهب يا رسول الله! قال أنس: واللهِ لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لِمَ فعـلتَ كذا وكذا، ولا لشيء تركتُ: هلاَّ فعلتَ كذا وكذا!»(3).
ولا يعني ذلك اللين أو المداهنة في المحرمات، بل على رب الأسرة حمايتها من كل ما يخالف الشرع، والإنكار على من وقع في منكر منهم مع اعتبار الآداب الشرعية في ذلك.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلكَ الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(4).
ومن المرونة في الحياة الأسرية النظرة الإيجابية للمشكلات؛ فلا يخلو تجمع بشري منها. والإيجابية هنا في تقبُّل وجود المشكلة، وأنها أمر طبيعي لا يعني انتهاء العلاقة الأسرية أو فسادها. ومن الإيجابية في النظرة إلى المشكلات الأسرية السعي لعدم ترسبها في الأسرة واستغلالها كحدث تربوي.
■ السمة التاسعة: يسود فيه الأدب والاحترام المتبادل:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»(5).
يتصور الكثير من الناس أن الأدب والاحترام عندما يُطلق يراد به احترام الأصغر لمن هم أكبر منه سواء كان ذلك في العمر أو في غيره؛ مع أن الاحترام قضية تبادلية لا يمكن أن توجد من الإنسان تجاه من لا يحترمه، ولكي يكون الاحترام سمة من سمات أسرنا علينا أن نسعى لتوفير سمات المناخ الأسري السليم في أسرنا؛ إذ بتوفيرها يشعر عضو الأسرة بالانتماء إليها والحرص على مصالحها ومحبته لأعضائها، وعلينا كذلك أن نحرص على توفير أمرين مهمين لهما أثرهما في الاحترام المتبادل.
أ - العدل بين أفراد الأسرة:
في الحقوق والواجبات وعدم إشعار أحد منهم أن غيره مقدم عليه أو أفضل منه.
يقول الدكتور عادل رشاد: «إن عطاءنا لأبنائنا يجب أن يكون متوازناً بشكل عام؛ فلا ينبغي أن يشعر الأبناء بأنك تفضل بعض أطفالك على بعضهم الآخر، وأي اختلال لهذه القاعدة كفيل ببعث الغيرة والكراهية ومن ثَم تهيئة أسباب النزاع بين الإخوة»(6). ويقول مجاهد ديرانية: «إن التفضيل في المحبة بين الأولاد خطأ فادح؛ أما إظهار ذلك والتصريح به فهو خطيئة، بل هو جريمة لا تغتفر ولا تعود أضرار ذلك على المفضولين فقط بأن ينشؤوا ساخطين أو معقَّدين، بل إن الضرر يكون أوسع من ذلك؛ بحيث يسود بين الإخوة أنفسهم روح الحسد والضغينة ومشاعر الكره المتبادل»(7).
وهذا العدل لا يكون في العطاء أو العاطفة فقط، بل حتى بالتكليف والمطالبة بالمشاركة في أعمال الأسرة؛ فبعض الآباء يركز على أحد أبنائه لسرعة استجابته أو لإتقانه العمل، ويظهر ذلك في تركيز الوالدين على الابن الأول أو البنت الأولى، فتجد هذين يقومان بالكثير من أدوار الوالدين في الأسرة، وهذا الأمر يؤدي إلى سلبيات تربوية متعددة من أقلها الحقد والكره بين الإخوة؛ فالمكلف بالعمل يرى أنه قد أثقل عليه بالعمل وفتح المجال للآخرين للهو وإنجاز ما يريدون من أعمال، والآخرون يرون أن والديْهم لا يثقان بهم كما يثقان بالمكلف بالعمل.
ب - فتح باب الحوار داخل الأسرة:
إن تنفيذك للأمر وأنت مقتنع فيه لا شك أنه سيكون أفضل وأتقن مما لو فعلته بالإكراه وقوة السلطة. ومن المحال أن يتقبل الإنسان فكرة من الأفكار عن طريق الإكراه والسلطة التعسفية حتى لو أظهر خلاف ذلك تجنباً للضرر الذي قد يلحق به عند المخالفة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يؤدي إلى التفكك ونشوء النجوى والثللية داخل الكيان الواحد، ولذا فمن الخير للأسرة ولكي تسود فيها الشفافية والجماعية في اتخاذ القرار أن يفتح فيها باب الحوار لنقاش المشكلات.
يقول سلمان خلف الله: «للحوار قيمة حضارية وإنسانية، وعلينا أن نعمل ونأخذ به في حياتنا وممارساتنا التربوية والأسرية، ويجب أن تؤمن به كل أمة. والحوار يخلق التفاعل الدائم بين الطفل من ناحية وبين المنهج والمعلم من ناحية أخرى؛ فلا بد أن يوصل الحوار إلى كشف الحقيقة وخاصة إذا كانت غائبة؛ فهو الوسيلة المهمة في بناء شخصية الطفل كفرد وكشخصية اجتماعية، وهو يخلق أيضاً روح المنافسة بين الأطفال، فيحملهم على الدخول في ميادين المناقشة العلمية. وكذلك يثبت فيهم روح الجماعة والتعاون، ويبعد عنهم الأنانية وحب الذات المفرط، ويبث فيهم روح الألفة والمحبة، ويعودهم على النظام والتعاون، ويساعد على الابتكار واحترام الطفل لذاته»(1).
ومن صور الحوار التي أدت إلى المحبة والألفة والاقتناع، ومنعت من التمادي في الخلل ما رواه أبو أُمامة قال: «إن فتى شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادْنُهْ! فدنا منه قريباً قال: فجلس. قال: أتحبه لأمــك؟ قال: لا، والله! جعلنـي فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبــه لابنتك؟ قال: لا، والله! يا رسول الله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فرجه! فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»(2).
فلو تعسف النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ وحاشاه ذلك ـ لما حصلت هذه النتيجة الجميلة.
ومشكلة الكثير من المربين مع الحوار هو عدم معرفة آدابه وأساليبه، بل إن الكثير من صور الحوار لدينا تنقلب إلى موعظة أو تحقيق أو مناظرة، ومع ذلك نظن أننا نؤدي الكم والكيف المطلوب من الحوار مع من نربي، وأن الخلل أتى من قِبَلهم وليس من قِبَلنا. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «لم تترسخ بعدُ تقاليد الحوار الصحيح في حياتنا الاجتماعية والأسرية، ولهذا فإن من الملاحظ أننا كثيراً ما نبدأ حديثنا مع من نربيهم من أبناء وطلاب على أنه محاورة تتجلى فيه النِّدِّية، ثم ينتهي إلى أن يكون مناظرة خشنة يملى فيه الرأي إملاءً مباشراً؛ فهل نتخذ من العثور على طريقة جديدة في التفاهم هدفاً نسعى إليه؟»(3).
■ السمة العاشرة: يشعر كل فرد فيه بالانتماء والاندماج والتحمس لتحقيق أهداف الآخرين والتعاون معهم:
هذه السمة هي نتيجة لتوفر السمات السابقة ومن الغريب أن يطالب بعض المربين مَنْ تحت يده بهذا الأمر وهو قد فرط بالأمور السابقة. وجزء من هذه السمة هو حاجة نفسية أساسية لا بد من إشباعها وإلا أدى ذلك إلى العزلة والشعور بالوحشة والاغتراب. يقول الدكتور أحمد راجح: «يزداد شعور الفرد بالأمن والتقدير الاجتماعي كما يزداد اعتداده بنفسه واعتزازه بها حين ينتمي إلى جماعة قوية يتقمص شخصيتها، ويوحد نفسه بها كالأسرة القوية، أو النادي، أو النقابة، أو الشركة ذات المركز الممتاز، وتنبت هذه الحاجة في أحضان الأسرة من علاقة الطفل بأمه وأفراد أسرته، ثم تعززها أو تحبطها بعد ذلك التجارب التي يمر بها الفرد، ومتى أرضيت هذه الحاجة وشعر الفرد بالانتماء إلى جماعة معينة زاد ولاؤه لها وشعوره بأنه جزء منها يصيبه ما يصيبها على أن إرضاءها يتوقف على تقبُّل الجماعة للفرد؛ لأنه يعمل من أجلها، وعلى تقبُّل الفرد للجماعة؛ لأنها تُرضي حاجاته ومطالبه»(4). وتقول الدكتورة هدى قناوي: «المرء في حاجة إلى أن يشعر بأنه فرد من مجموعة تربطه بهم مصالح مشتركة تدفعه إلى أن يأخذ ويعطي، وإلى أن يلتمس منهم الحماية والمساعدة؛ كما أنه في حاجة إلى أن يشعر بأنه يستطيع أن يمد غيره بهذه الأشياء في بعض الأحيان»(5).
وعندما يتحقق الشعور بالانتماء للأسرة لدى أعضائها سيترتب على ذلك الاندماج بين أفرادها والتعاون والسعي لتحقيق أهداف الجميع لشعورهم بأهمية وأثر ذلك على حياتهم الخاصة، وعندما يستطيع المربي تقوية الجوانب الإيمانية وغرس أهمية الجانب الأخوي وتقديم ما عند الله على ما عند الناس لدى المتربين ـ عند ذلك تزول النظرة للمصلحة المادية الدنيوية في هذا الجانب أو تعظيمها.
وأخيراً: فإن الوصول لإصلاح الأمة على المستوى العام يحتاج إلى إصلاحات كثيرة على المستويات الفردية والمؤسسية، ومن المؤسسات الأولى المؤثرة في هذه الجانب كيان الأسرة، وما ذكر في هذا المقال هو جزء من الإصلاح الأسري الذي نسعى إليه، وأرجو من الله ـ عز وجل ـ أن أكون قد وفقت للصواب فيه.
حسين بن عجاب العوفي
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البخاري ومسلم.
(1) دليل التربية الأسرية، ص 12. (2) الطفل تنشئته وحاجاته، هدى قناوي، ص172.
(3) المرجع السابق، ص 352. (4) أخرجه مسلم. يفرك: يبغض.
(5) علم نفس المراحل العمرية، عمر المفدى، ص 292. (6) مسند الإمام أحمد، رقم (14623)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح.
(7) أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة.
(1) دليل التربية الأسرية، ص 158. (2) أولادنا من الطفولة إلى الشباب، مأمون مبيض، ص 45.
(3) أخرجه البخاري ومسلم. (4) أخرجه البخاري ومسلم.
(5) علم نفس النمو، حامد زهران، ص 297. (6) أخرجه البخاري ومسلم.
(7) أخرجه البخاري ومسلم. أوكى: شَدَّ. خمَّر: غَطَّى. (8) دليل التربية الأسرية، ص 91.
(1) كيف تنمي الانضباط الداخلي لدى طفلك، إبراهيم الحارثي، ومحمد دباس، ص73. (2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) سيكولوجية الطفولة والمراهقة، مصطفى فهمي، ص300. (4) المراهقون، عبد العزيز النغيمشي، ص 113.
(5) أخرجه البخاري ومسلم. (6) أخرجه البخاري ومسلم.
(1) أصول التربية الإسلامية، محمد أبو لآوي، ص 61. (2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، وحسنه الألباني. (4) أخرجه مسلم.
(5) أولادنا، ص 225. (6) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد وصححه الألباني.
(7) أخرجه البخاري ومسلم. (8) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق وصححه الألباني.
(9) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، وقال:

صحيح. (10) الترويح رؤية إسلامية، خالد العودة، ص 153.
(1) المرجع السابق، ص 153. (2) أخرجه البخاري.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب. (4) أخرجه البخاري ومسلم.
(5) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة وصححه الألباني. (6) خمس خطوات لتعديل سلوك طفلك، عادل رشاد غنيم، ص 121.
(7) نصائح لتربية طفل صالح، مجاهد ديرانية، ص 28.
(1) الحوار وبناء شخصية الطفل، سلمان خلف الله، ص 51. (2) أخرجه أحمد، رقم (2118)، وصححه الألباني.
(3) 175 بصيرة في التربية، عبد الكريم بكار، ص 56. (4) أصول علم النفس، أحمد عزت راجح، ص 95.
(5) الطفل تنشئته وحاجاته، ص 189.
المصــــدر :
http://www.albayan-magazine.com/zwaya/trbwi/68.htm