عرض مشاركة واحدة
قديم 07-09-09, 04:30 AM   #16
إشراف الأقسام العامة
|تواصي بالحق والصبر|
 
تاريخ التسجيل: 19-09-2006
المشاركات: 925
إشراف الأقسام العامة is on a distinguished road
افتراضي

أما المرتبة الأولى، وهي معرفة حكمه وأسراره؛ فإن أعظم حكمة في هذا الشهر الكريم المبارك أن يحصل للنفس غذاء روحاني يعينها على المبادرة إلى فعل الطاعات، والثبات على دين الله جل وعلا، ولهذا جعل الله التقوى أول حكمة في آيات الصيام، وآخرها.

وهذا إنما يكون بأمرين:

أحدهما: تفريغ ، والثاني: تعبئة.

أما التفريغ، فهو الإمساك عن الأكل والشرب، فإنه يعين على التفكر والتأمل، ويصون القلب عن وساوس الشيطان؛ لضيق مجاري الدم بقلة الأكل، إلا أن هذا الصيام لا بد أن يكون معه ستة أمور من جنسه، فيها تفريغ، وهي:

الأول: صيام القلب عن الشك والريبة، والشرك، وسيء الأخلاق، فيطمأن قلبه بالله جل وعلا، فلا يشك ولا يرتاب، ويتعلق بالله فلا ينظر إلى غيره، ويتطلع لأحد سواه، ويطهر قلبه من الغل والحسد والبغضاء.

الثاني: صيام العين: إن الصائم تصوم عينه فيغض بصره ويكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل(انظر: إحياء علوم الدين1/233) قال صلى الله عليه وسلم: ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله، فمن تركها خوفًا من الله آتاه الله عز وجل إيمانًا يجد حلاوته في قلبه))(رواه الحاكم في المستدرك (4/346، رقم 7875) من حديث حذيفة، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه الطبراني ر(10/173، رقم 10362) من حديث عبد الله بن مسعود).

ألم تر أن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [سورة طـه 20/131]، فالصائم يمسك عينه عن هذا النظر الذي يملأ القلب بزينة الحياة الدنيا والتعلق بها، ويشغل الجوارح بطلبها، فإذا صامت عينه عن ذلك فرغ قلبه من التعلق بزخارف تتحول وتتبدل، ووجه نظره إلى ما هو خير وأبقى، واستعد لاستقبال ما يرد عليه من كلام الله وهداه، وذكره والانشغال به.


الثالث: صوم اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت عما فيه مضرة، أو ما لا منفعة فيه، وقد قال سفيان: "الغيبة تفسد الصوم" رواه بشر بن الحارث عنه، وروى ليث عن مجاهد: "خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب"(إحياء علوم الدين (1/234))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم))(متفق عليه من حديث أبي هريرة)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الصيام من الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث))(رواه البخاري (1770))، وقال أيضًا: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) (رواه البخاري من حديث أبي هريرة).

الرابع: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه؛ لأن كل ما حرُم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت}، وقال عز وجل: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحتوقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)} [سورة النساء 4/140](انظر: إحياء علوم الدين (1/235)).


والسمع بريد القلب، فمن حفظ سمعه فقد حفظ قلبه وروحه من أن يصل إليها ما يفسدها، وقد ورد أن ((الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع))، والألحان شراب الأرواح التي تسكر بها، وتطرب لها، وتنشغل بها عن سماع كلام الله والاستفادة منه.

الخامس: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الأكل الحرام وقت الإفطار، فلا معنى للصوم -وهو الكف عن الطعام الحلال- ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرا ويهدم مصرا، فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته، لا بنوعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهًا، والحرام سم مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله(انظر: إحياء علوم الدين (1/235)).

السادس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار، بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغضُ إلى الله عز وجل من بطن ملئ من حلال، وكيف يُستفاد من الصوم قهرُ عدوِّ الله وكسرِ الشهوة إذا تداركَ الصائمُ عند فطره ما فاته ضَحوةَ نهارِه؟!! وربما يزيد عليه في ألوان الطعام، حتى جرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر، ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى؛ لتقوى النفس على التقوى، وإذا فرغت المعدة من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها، ثم أُطعمت من اللذات وأشبعت، زادت لذتها وتضاعفت قوتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها، فلهذا ترى من بعض الناس في رمضان زيادة في الشر، وبعدًا عن الخير، وتفننًا في أنواع المعاصي؛ لما يفعلونه في ليلهم من ملأ البطون، وتلبية دواعي الشهوات، فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً، فلم ينتفع بصومه، بل إن من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه، وليبق لليله شيئًا من الضعف والجوع، حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء، ومن ملأ بطنه بأصواع من الطعام فهو عن ملكوت الله محجوب، وقد أوسع للشيطان مجراه، وفتح له الأبواب (انظر: إحياء علوم الدين (1/235)).

والمتأمل في عبادة الاعتكاف يجدها تعين الصائم على هذه الأمور كلها.

ثم بعد هذا التفريغ تكون الروح جاهزة لاستقبال ما يرد عليها من النور الإلهي، والفيض الرباني، فتشتاق بسببه إلى فعل الخيرات، وتنشغل به عن المحرمات.

فأول ذلك: الصلاة، وهي الصلة بين العبد وربه، وشهر رمضان شهر القيام، فالنفوس تتعلق
فيه بالصلاة، وتقبل عليها، وتمتلئ المساجد بالمصلين.

والصلاة لا تكون غذاء للروح حتى يخشع صاحبها فيها ويخضع، ويستحضر قلبه، وجميع جوارحه فيحضرها ذليلة بين يدي الله، فينكشف له في هذه الحال من عظمة الله وكبريائه، وقوته وجلاله، ما يصغر معه كل كبير في الدنيا، فينطق قلبه بالتكبير والتحميد والتسبيح والتهليل قبل أن ينطق لسانه، قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}.

الثاني: قراءة القرآن، وهو الروح الذي أنزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، فلا حياة لأرواح بني آدم إلا به، فهو غذاؤها ودواؤها، وهو حياتها ونظامها، قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82)} [سورة الإسراء 17/82]، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة 2/185].

الثالث: مداومة الذكر، من التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار؛ فإن الله مع عبده إذا ذكره، وهو يطرد الشيطان، ويحيي القلب ويغنيه، ويحط السيئات، ويزيل الوحشة بين العبد وربه، قال سليمان الخواص رحمه الله: "الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد, فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم, فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا"(نقله عنه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/52)).

الرابع: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقًا مضطربًا بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدرى أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين، وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها، فقد روي عن الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون، فقال: "إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءتهأي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك، وعن الأحنف بن قيس أنه قيل له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك!! فقال: "إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه"(انظر: إحياء علوم الدين (1/235- 236)).

وقيل لأبي مسلم الخولاني: ما حملك على الصيام وأنت مسافر؟! قال: "إن الخيل لا تجري الغايات وهن بُدَُّن(قال في القاموس: ككُتُب، ورُكَّع. هذا إذا أردت الجمع، أما المصدر فهو: بَدْنًا، وبَدانًا، وبَدانَةً)، إنما تجري وهن ضُمَّرٌ، ألا وإن أيامنا باقية جائية لها نعمل"(سير أعلام النبلاء (4/10)).
إشراف الأقسام العامة غير متواجد حالياً