عرض مشاركة واحدة
قديم 27-03-09, 11:24 PM   #8
د.سهيرالبرقوقي
نفع الله بك الأمة
افتراضي

منشــأ التشــابه وأقســامه وأمثلتــه

نعلـم ممـا سـبق أن منشـأ التشـابه إجمـالاً ، هـو خفـاء مـراد الشـارع مـن كلامـه ؛ أمـا تفصيـلاً فنذكــر أن منـه مـا يرجـع خفـاؤه إلـى اللفــظ ، ومنـه مـا يرجـع خفـاؤه إلـى المعنـى ، ومنـه مـا يرجـع خفـاؤه إلـى اللفـظ والمعنـى معـًا
فالقســـم الأول :

وهـو ما كـان التشـابه فيـه راجعـًا إلـى خفـاء فـي اللفـظ وحـده :
منه " مفـرد " و " مركـب "

والمفــرد

قـد يكــون الخفــاء فيـه ناشــئًا :
= مـن جهـة " غرابتــه " ، أو
= مِـن جهــة " اشـتراكه " .

والمركــب

قـد يكـون الخفــاء فيـه ناشــئًا :

= مـن جهـة " اختصـاره " ، أو
= مـن جهــة " بسـطه " ، أو
= مـن جهـة " ترتيبـه " .

مثـال التشـابه فـي " المفـرد " بسـبب غرابتـه ونــدرة اسـتعماله :

لفـظ " الأبّ " بتشـديد البـاء فـي قولـه سـبحانه :
" وفاكهـةً وأبـًّا " [ سورة عبس / آية : 31 ]
وهــو ما ترعـاه البهائـم ؛ بدليـل قولـه بعـد ذلـك :

" متاعـًا لكـم ولأنعامكـم " [ سورة عبس / آية : 32 ]

ومثـال التشـابه فـي " المفــرد " بسـبب اشـتراكه بيـن معـان عـدة :

لفـظ " اليميــن " فـي قولـه سـبحانه :

" فـراغ عليهـم ضربـًا باليميـن " [ سورة الصافات / آية : 93 ]


أي فأقبـل إبراهيـم علـى أصنـام قومـه ضاربـًا لها باليميـن مـن يديـه لا بالشـمال ، أو ضاربـًا لهـا ضربـًا شـديدًا بالقـوة ؛ لأن اليميـن أقـوى الجارحتيـن ؛ أو ضاربـًا لها بسـبب اليميـن التـي حلفهـا ونَـوَّه بهـا القـرآن إذ قـال :

" وتـا الله لأكيـدنَّ أصنامكـم بعـدَ أن تولـوا مدبريـن " [ سورة الأنبياء / آية : 57 ]

كل ذلـك جائـز ، ولفـظ اليميـن مشـترك بينهـا .

ومثـال التشـابه فـي " المركــب " بسـبب اختصـاره :
قولـه تعالـى :

" وإن خفتـم ألا تقسـطوا فـي اليتامـى فانكحـوا مـا طـاب لكـم مـن النسـاء "
[ سورة النساء / آية : 3 ]


فإن خفـاء المـراد فيـه ، جـاء من ناحيـة إيجـازه ؛ والأصـل :
" وإن خفتـم ألا تقسـطوا فـي اليتامـى لو تزوجتموهـن ، فانكحـوا مـن غيرهـن ما طـاب لكـم مـن النسـاء "

= ومعنـاه أنكـم إذا تحرجتـم مـن زواج اليتامـى مخافـة أن تظلموهـن ؛ فأمامكـم غيرهـن فتزوجــوا منهـن ما طـاب لكـم .
= وقيـل إن القـوم كانـوا يتحرَّجـون مـن ولايـة اليتامـى ولا يتحرجـون مـن الزنـى ، فأنــزل الله الآيـة .
= ومعنـاه :

إن خفتـم الجَـوْر فـي حـق اليتامـى فخافـوا الزنـى أيضـًا ، وتبدلـوا بـه الـزواج
الـذي وسـع الله عليكـم فيـه ، فانكحـوا ما طـاب لكـم مـن النسـاء مثنـى وثـلاث وربـاع .

ومثـال التشـابه فـي " المركــب " بسـبب بسـطه والإطنـاب فيـه :

قولـه جلْـت حكمتـه :
" ليـس كمثلـه شـيء " [ سورة الشورى / آية 11 ]

فـإن حـرف الكـاف لو حـذف وقيــل " ليـس مثلـه شـيء " كـان أظهـر للسـامع مـن هـذا التركيـب الـذي ينحـل إلـى : " ليـس مثـل مثلـه شـيء " وفيـه مـن الدقـة مـا يعلـو علـى كثيـر مـن الأفهـام .

ومثـال التشـابه يقـع فـي " المركــب " لترتيبـه ونظمـه :
قولـه جـل ذكـره:
" الحمـد للهِ الـذي أنـزل علـى عبـده الكتـابَ ولـم يجعــل لـه عِوَجـًا * قَيِّمـًا "
[ سورة الكهف / آية : 1 ، 2 ]


فـإن الخفـاء هنـا جــاء مـن جهـة الترتيـب بيـن لفـظ " قَيِّمـًا " ومـا قبلـه ولـو قيـل : " أنـزل علـى عبـده الكتـاب قَيِّمـًا ولـم يجعـل لـه عِوَجـًا " لكـان أظهـر أيضـًا .

واعلـم أن فـي مقدمـة هـذا القسـم فواتـح الســور المشـهورة ، لأن التشـابه والخفــاء فـي المـراد منهـا ، جـاء مـن ناحيـة ألفاظهـا لا محالـة .

والقســم الثانـي :

وهـو مـا كـان التشــابه فيـه راجعـًا إلـى خفــاء المعنـى وحــده :
مثالـه :

كـل ما جـاء فـي القـرآن الكريـم :
= وصفـًا لله تعالـى ، أو
= لأهـوال القيامـة ، أو
= لنعيـم الجنـة وعـذاب النـار ؛

فـإن العقــل البشـري لا يمكـن أن يحيـط بحقائــق صفـات الخالـق ، ولا بأهـوال القيامـة ، ولا بنعيـم أهـل الجنـة وعـذاب أهـل النـار .

وكيـف السـبيل إلـى أن يحصـل فـي نفوسـنا صـورة ما لـم نحسُّـه ، ومـا لـم يكـن فينـا مثلـه ولا جنسـه ؟

واعلـم أن فـي مقدمــة هـذا القسـم المشـكلات المعروفـة بمتشـابهات الصفـات ؛ فـإن التشـابه والخفــاء لـم يجـيء مـن ناحيـة غرابــة فـي اللفــظ أو اشـتراك فيـه بيـن عـدة معـان أو لإيجـاز أو إطنـاب مثـلاً ، فيتعيـن أن يكـون مـن ناحيـة المعنـى وحـده .

القســـم الثالــث :

وهـو ما كـان التشـابه فيـه راجعـًا إلـى اللفـظ والمعنـى معـًا :
مثالـه :

قولـه تعالـى :
" وليـسَ البِــرُّ بـأن تأتـوا البيـوتَ مـن ظهورهـا " [ سورة البقرة / آية : 189 ]

فإن مـن لا يعـرف عـادة العـرب فـي الجاهليـة ، لا يسـتطيع أن يفهـم هـذا النـصَّ الكريـم علـى وجهـه ..

وَرَدَ أن ناسـًا مـن الأنصـار كانـوا إذا أحرمـوا لم يدخـل أحـد منهـم حائطـًا ولا دارًا ولا فسـطاطًا مـن بـاب ؛ فـإن كـان مـن أهـل المَـدَرِ ( 1 ) نقــب نقبـًا فـي ظهـر بيتــه يدخـل ويخـرج منـه ، وإن كـان مـن أهـل الوبـر ( 2 ) خـرج مـن خلـف الخبـاء ، فنـزل قـول الله :

" وليـس البِـرُّ بـأن تأتـوا البيـوتَ مـن ظهورهـا ولكـنَّ البِــرَّ مـن اتَّقـى ، وأُتـوا البيـوت مـن أبوابهـا ، واتَّقـوا الله لعلكـم تفلحـون "

( 1 ) أهـل المـدر : سـكان البيـوت المبنيـة ، خـلاف البـدو ، سـكان الخيـام 0
( 2 ) أهـل الوبـر : أهـل الباديـة ؛ لأنهـم يتخـذون بيوتهـم مـن الوبـر0

فهـذا الخفـاء الـذي فـي الآيـة ، يرجـع إلـى اللفـظ بسـبب اختصـاره ؛ ولو بسـط لقيـل :

" وليـس البـر بأن تأتـوا البيـوت مـن ظهورهـا إذا كنتـم محرميـن بحـج أو عمـرة "

ويرجـع الخفـاء إلـى المعنـى أيضًـا ؛ لأن هـذا النـص علـى فـرض بسـطه كمـا رأيــت ، لابــد معـه مـن معرفـة عـادة العـرب فـي الجاهليـة وإلا لتعـذَّر فهمـه .
( مناهل العرفان / ج : 2 / ص : 297 )
يُـــتْـــبـَــعُ



توقيع د.سهيرالبرقوقي
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
http://www.tvquran.com/


{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }

د.سهيرالبرقوقي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس