ولمّا كان هذا الفضل العظيم لصاحب القرآن ، وكان المقصود الأعظم من إنزاله ، التعبد لله والعمل به ،
قال سبحانه :
: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [9]}[الزُّمَر:9].
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«المُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ. وَالمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا.
وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ. وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ، أَوْ خَبِيثٌ، وَرِيحُهَا مُرٌّ».متفق عليه.
فكان حفظ القرآن في الصدور هو الوسيلة لذلك ، والمداومة على تلاوته وتعاهده من أجل العبادات والقربات ،
قال الله تعالى:
{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [49]} [العنكبوت:49].
وقال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [170]} [الأعراف:170].
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
«تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَهُوَ أشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإبِلِ فِي عُقُلِهَا». متفق عليه.
وَعَنْ عَبْدِالله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:
«إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرْآنِ كَمَثَلِ الإبِلِ المُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أمْسَكَهَا، وَإِنْ أطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» متفق عليه.
ثم إن من يحرص ويثابر على تكرار مراجعة حفظه للقرآن الكريم،
لا يلبث أن يصل إلى مرحلة لا يسعه معها التفريط بتعاهد كلام الله عزّ وجلّ،
لم؟
لأنه ينال بفضل الله وتوفيقه الحسنيين:
- تثبيته
- والشعور بحلاوة مناجاة الله عزّ وجلّ بترديد كلامه العظيم
فلم تَعُد المسألة لديه مسألة خوف من التفلت أو النسيان وحسب،
بل.. هاهي جلسات تثبيته تزدان بالأنس والشوق للإقبال على ربِّه والتقرب من خالقه منزل الكتاب، الذي أعانه على حفظه في صدره،
فلطالما.. ردّد على ظهر قلبه صفات الملك سبحانه:
{إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء : 1]، {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود : 90]، {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة : 186]...
فالتثبيت سبب لبلوغ الحافظ درجة الإحسان عند مراجعة القرآن؛
حيث يردّده حافظه وكأنه يرى مولاه جلّ وعلا، وهو سبحانه –لا ريب- يراه ويسمع ترتيله،
فيُورثه ذلك خشية واطمئانًا وخضوعًا لبارئه الحميد المجيد...،
ولا شك أن في ذلك غنيمة وأيّ غنيمة!
لا يصل إليها إلا من صدق الله في الطلب، وجدّ العزم في اتخاذ السبب.
ومن الوسائل لذلك : أن يكون همه في يقظته ومنامه ،
فيصحو عليه فيكون أول ما يبدأ به يومه ، وينام عليه ، فيكون آخر ما يختم به قبل نومه .
ومن الوسائل أيضا : أن يتلوه في الصلاة ، يتعبد به لله عز وجل ،
ويصبر على ذلك ويصابر حتى يصير إلى منزلة لا يخطيء فيها بحرف
متأملا كل آية يقرؤها فيفتح الله عليه بالفهم والتدبر .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«أيُحِبُّ أحَدُكُمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى أهْلِهِ أنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟». قُلْنَا: نَعَمْ.
قال: «فَثَلاثُ آيَاتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ». أخرجه مسلم.
ومن الوسائل أيضا : الاجتماع على تلاوة القرآن ، والتواصي والتعاهد على ذلك ،
فما أنفع للإنسان من صحبة مؤمنة تجتمع في الدنيا على الخير ، حتى يجمعها الله في الجنة برحمته جل جلاله ,
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [2]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [3]
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [4]}[الأنفال:2- 4].
ولذلك.. كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين ،
من أشد الناس محافظة على القرآن ، علمًا وعملا وتدبرًا وفهما ،
روي عن أَوْسٌ بن حذيفة قَالَ سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ
قَالُوا ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ .
.فقد حزّبوا القرآن على سبعة أحزاب ؛ لأن المسنون عندهم قراءته في سبع أيام ،
وذلك على النحو التالي :
- في أول يوم ثلاث سور : البقرة وآل عمران والنساء.
-واليوم الثاني خمس سور : المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة .
- واليوم الثالث سبع سور : يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
- واليوم الرابع تسع سور : الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان .
- واليوم الخامس إحدى عشر : الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس .
- واليوم السادس ثلاث عشر : الصافات وص و الزمر وغافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات .
-واليوم السابع حزب المفصّل : وهو من بداية سورة ( ق) على الصحيح إلى آخر المصحف .
ومن هنا ...كانت رسالة "معهد أم المؤمنين خديجة" -رضي الله عنها -
في العناية بكتاب الله تعالى ، حفظًا وتثبينا ، وفهما وتجويدًا ..
فلنشد الأيادي ،
نجتهد لنبلغ ما تصبو إليه أنفسنا ،
وإن من أراد القمة لايزال صاعدًا إليها ،
ومن أراد أن يسعد بالقرآن الكريم ويحافظ عليه لا يزال مضحيا باذلا.
فحفظ القرآن الكريم وتعهده وتدبره والعمل به منزلة عالية لا يصل إليها إلا من وفقه الله تعالى،
فبذل جهده وضحى بوقته لنيل تلك الدرجة العالية التي لاحظ فيها للكسالى والمهملين..
فنوصي أنفسنا بتقوى الله تعالى ، والمحافظة على ما حفظناه ، بتخصيص وقت للمراجعة وزيادة الحفظ ، وتفقد النفس بالتوبة والاستغفار دائما ..
جعلنا الله وإياكم من حملة القرآن .. الذين يتلونه حق تلاوته .
ونضع بين أيديكن خطة الحفظ والمراجعة للفصول الدراسية المختلفة