حسناء محمد
20-04-06, 06:41 AM
محمد بن إبراهيم الحمد
خلق الناس للاجتماع لا للعزلة , وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا لينفرد كل واحد بمرافق حياته.
وللإنسان عوارض نفسية كالحب، والبغض، والرضا، والغضب، والاستحسان، والاستهجان؛ فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشؤون في كل وقت وعلى أي حال- لاختل الاجتماع، ولم يحصل التعارف، وانقبضت الأيدي عن التعاون.
فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به ما يحدث تقاطعاّ،أو يدعو إلى تخاذل،ذلك الأدب هو المداراة.
فالمدارة مما يزرع المودة والألفة، ويجمع الآراء المشتتة، والقلوب المتنافرة.
"والمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار إلا في أحوال يكون الإشعار به خيراّ من كتمانه.
فمن المداراة أن يجمعك بالرجل يضمر لك العداوة مجلس، فتقابله بوجه طلق،وتقضيه حق التحية،وترفق به في الخطاب".
قال أحد الحكماء :
وأمنحه مالي وودي ونصرتي * وإن كان محني الضلوع على بغضي
وقال الشافعي -رحمه الله-:
إني أحيي عدوي عند iiرؤيته * لأدفع الشر عني iiبالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه * كأنه قد حشا قلبي iiمحبات
بل إن المداراة قد تبلغ إلى إطفاء العداوة, وقلبها إلى صداقة، فما أحوج المرء إلى هذه الخصلة الحميدة، خصوصاّ مع من لابد له من معاشرته، أو ممن يتوقع الأذى منه.
قال ابن الحنفية: "ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداّ حتى يأتيه الله منه بالفرج أو المخرج".
وقال العتابي: "المداراة سياسة لطيفة،لا يستغني عنها ملك ولا سوقه، يجتلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فمن كثرت مداراته كان في ذمة الحمد والسلامة".
وقال بعضهم: "ينبغي للعاقل أن يداري زمانه مداراة السابح في الماء الجاري".
وقال الحسن: "حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل، والقصد في المعيشة نصف المؤونة".
وقال ابن حبان: "من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك، ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بداّ، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها،أو استقباح أشياء كان يستحسنها ما لم يكن مأثماّ،فإن ذلك من المدارة وما أكثر من داري فلم يسلم , فكيف توجد السلامة لمن لا يداري ؟".
قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب -رضي الله عنه-:
يقول لك العقل الذي زين الورى * إذا أنت لم تقدر عدواّ فداره
وقال عبدالله بن جعفر: "كمال الرجل بخلال ثلاث:
معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة، فذو الثلاث سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنَّن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق".
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؛ فلقد كان يولي هذا الجانب عنايته فقد جاء في الصحيحين عن عروة عن عائشة - رضي الله عنه- أن رجلاً استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة".
فلما جلس تطلَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق قالت له عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه، وانبسطت إليه؟
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشةُ! متى عهدتِّني فحَّاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس؛ اتقاء شره".
وفي رواية: "من تركه الناس، أووَدَعَهُ الناس؛ اتقاء فحشه"(1).
فلقاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الرجل المعروف بالبذاء من قبيل المداراة؛ لأنه لم يزد على أن لاقاه بوجه طلق، أو رَفَقَ به في الخطاب.
وقد سبق إلى ذهن عائشة -رضي الله عنه- أن الذي بلغ أن يقال فيه "بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة" لا يستحق هذا اللقاء، ويجب أن يكون نصيبُه قسوةَ الخطاب، وعبوسَ الجبين.
ولكنَّ نَظَرَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أبعدُ مَدَىً، وأناته أطول أمداً؛ فهو يريد تعليم الناس كيف يملكون ما في أنفسهم؛ فلا يَظْهَر إلا في مكان أو زمان يليق إظهاره فيه.
ويريد تعليمهم أدباً من آداب الاجتماع، وهو رِفْقُ الإنسان بمن يقصد إلى زيارته في منزله، ولو كان شرَّه في الناس فاشياً.
على أن إطلاق الجبين لمثل هذا الزائر لا يمنع من إشعاره بطريق سائغ أنك غير راض عما يُشيعُه في الناس من أذىً، ولا يعوقك أن تعالجه بالموعظة الحسنة إلا أن يكون شيطاناً مريداً.
وبالجملة فالمداراة خصلة كريمة يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء.
10 / 8 / 1426 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البخاري (6032) و(6054) و(6131)، ومسلم (2591).
المصدر : موقع دعوة الإسلام
الرابط (http://www.toislam.net/files.asp?order=3&num=2387&per=1111&kkk=)
خلق الناس للاجتماع لا للعزلة , وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا لينفرد كل واحد بمرافق حياته.
وللإنسان عوارض نفسية كالحب، والبغض، والرضا، والغضب، والاستحسان، والاستهجان؛ فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشؤون في كل وقت وعلى أي حال- لاختل الاجتماع، ولم يحصل التعارف، وانقبضت الأيدي عن التعاون.
فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به ما يحدث تقاطعاّ،أو يدعو إلى تخاذل،ذلك الأدب هو المداراة.
فالمدارة مما يزرع المودة والألفة، ويجمع الآراء المشتتة، والقلوب المتنافرة.
"والمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار إلا في أحوال يكون الإشعار به خيراّ من كتمانه.
فمن المداراة أن يجمعك بالرجل يضمر لك العداوة مجلس، فتقابله بوجه طلق،وتقضيه حق التحية،وترفق به في الخطاب".
قال أحد الحكماء :
وأمنحه مالي وودي ونصرتي * وإن كان محني الضلوع على بغضي
وقال الشافعي -رحمه الله-:
إني أحيي عدوي عند iiرؤيته * لأدفع الشر عني iiبالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه * كأنه قد حشا قلبي iiمحبات
بل إن المداراة قد تبلغ إلى إطفاء العداوة, وقلبها إلى صداقة، فما أحوج المرء إلى هذه الخصلة الحميدة، خصوصاّ مع من لابد له من معاشرته، أو ممن يتوقع الأذى منه.
قال ابن الحنفية: "ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداّ حتى يأتيه الله منه بالفرج أو المخرج".
وقال العتابي: "المداراة سياسة لطيفة،لا يستغني عنها ملك ولا سوقه، يجتلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فمن كثرت مداراته كان في ذمة الحمد والسلامة".
وقال بعضهم: "ينبغي للعاقل أن يداري زمانه مداراة السابح في الماء الجاري".
وقال الحسن: "حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل، والقصد في المعيشة نصف المؤونة".
وقال ابن حبان: "من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك، ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بداّ، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها،أو استقباح أشياء كان يستحسنها ما لم يكن مأثماّ،فإن ذلك من المدارة وما أكثر من داري فلم يسلم , فكيف توجد السلامة لمن لا يداري ؟".
قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب -رضي الله عنه-:
يقول لك العقل الذي زين الورى * إذا أنت لم تقدر عدواّ فداره
وقال عبدالله بن جعفر: "كمال الرجل بخلال ثلاث:
معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة، فذو الثلاث سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنَّن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق".
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؛ فلقد كان يولي هذا الجانب عنايته فقد جاء في الصحيحين عن عروة عن عائشة - رضي الله عنه- أن رجلاً استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة".
فلما جلس تطلَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق قالت له عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه، وانبسطت إليه؟
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشةُ! متى عهدتِّني فحَّاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس؛ اتقاء شره".
وفي رواية: "من تركه الناس، أووَدَعَهُ الناس؛ اتقاء فحشه"(1).
فلقاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الرجل المعروف بالبذاء من قبيل المداراة؛ لأنه لم يزد على أن لاقاه بوجه طلق، أو رَفَقَ به في الخطاب.
وقد سبق إلى ذهن عائشة -رضي الله عنه- أن الذي بلغ أن يقال فيه "بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة" لا يستحق هذا اللقاء، ويجب أن يكون نصيبُه قسوةَ الخطاب، وعبوسَ الجبين.
ولكنَّ نَظَرَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أبعدُ مَدَىً، وأناته أطول أمداً؛ فهو يريد تعليم الناس كيف يملكون ما في أنفسهم؛ فلا يَظْهَر إلا في مكان أو زمان يليق إظهاره فيه.
ويريد تعليمهم أدباً من آداب الاجتماع، وهو رِفْقُ الإنسان بمن يقصد إلى زيارته في منزله، ولو كان شرَّه في الناس فاشياً.
على أن إطلاق الجبين لمثل هذا الزائر لا يمنع من إشعاره بطريق سائغ أنك غير راض عما يُشيعُه في الناس من أذىً، ولا يعوقك أن تعالجه بالموعظة الحسنة إلا أن يكون شيطاناً مريداً.
وبالجملة فالمداراة خصلة كريمة يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء.
10 / 8 / 1426 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البخاري (6032) و(6054) و(6131)، ومسلم (2591).
المصدر : موقع دعوة الإسلام
الرابط (http://www.toislam.net/files.asp?order=3&num=2387&per=1111&kkk=)