04-06-08, 10:37 PM | #1 |
~ كن لله كما يُريد ~
|
[ فصولٌ في الصداقةِ ] ..
( 1 )
لكلٍّ امرئٍ منا صُحبانٌ لا يزالُ يصلهم ويصلونه ؛ فمن الناسِ مَن يستمسك بهم ما كُتبَ له البقاءُ ، ومنهم من يتبدّلُ بهم غيرَهم . ولا يتبدلُ المرءُ غيرَ صاحبِه إلا لعلةٍ يجِدها منه ؛ فتراه أولَ أمرِه يتغاضَى عنها ، ثم لا تزالُ تكبُرُ حتى تؤذنَ بانقطاعِ الحبالِ . ومن الحسنِ أن أذكرَ هنا بعضَ مفسداتِ الصداقةِ ، حتى يكونَ المرءُ منها على خُبرٍ ؛ فيتوقاها . وهي على نحوينِ ؛ فمنها ما يجعلُ الصديقَ يرتابُ في ودِّ صديقِه . ومنها ما يجعلُه يرى أنّ أخلاقَ صديقه ذلك لا تناسبُه ؛ فأما النحو الأولُ فمن قِبَل أن الصداقةَ لا تستمرّ متينةَ القوى حتى يتفقَ عليها الطرفانِ ، وحتى يكونَ ما بينهما من الودٍّ على مقدارٍ واحدٍ . ومتى ارتابَ أحدُهما في ودِّ الآخَر أوشكت حبالُ الصداقةِ أن تقضّبَ ، ولم يُهيأ لصداقتِهما أن تدومَ . فمن صور ذلك أن تكونَ الصِّلةُ من طرفٍ واحدٍ ، ويكونَ الآخرُ متلقيًا وحسبُ ؛ فالأول هو الذي يتصلُ ، وهو الذي يطلبُ لقاءَ الآخرِ ! ومن صورِها التي تبعث على سوءِ الظنِّ في الودِّ أن يتصلَ الصديقُ بصديقِه ؛ ثم لا يردّ عليهِ ، ولا هو يتصلُ به من بعدُ ؛ حتى يتوهمَ المتصلُ أن صديقَه ليس في جواله أدنى خاصّةٍ ، خاصّةُ ( مكالمات لم يردّ عليها ) ؛ فلا يزالُ الشيطانُ يزيّن للأوّلِ أن صاحبَه لا يحبّه ، وأنه غيرُ مبالٍ بهِ ، ولا ملتفتٍ إليه . ثم تأخذ الصداقةُ في الضعفِ ، حتى تضمحلَّ ، وينقطعَ ما بينهما من الودِّ . ومن صورِها أن يجدَ المرءُ صديقَه لا يسألُ عنه إذا انقطعَ عنه ، حتى إنه ربّما يَمرضُ المرضَ العضالَ ، ويلاقي الهمومَ الثقالَ ، ولا يدري عنه صاحبُه ؛ أفيكون مثلُ هذا صديقًا ؟ وهل يُلامُ المرءُ إذا دخلَ في قلبِه الريبُ من ودّه ؟ فالصديقُ الحقّ هو الذي يتفقدُ أحوالَ صديقِه ، ويرعى ما بينهما من الحُرمةِ ، ولا يكونُ قليلَ الوفاءِ ، سريعَ النسيانِ . والصديقُ الحقّ هو الذي لا يسوء صديقَه في مغيبِه ، ولا في محضره ، ولا يقولُ ما عسى أن يَحزُنَه : وما أنا للشيءِ الذي ليس نافعي *** ويغضبُ منه صاحبي بقئُولِ .. |
04-06-08, 10:38 PM | #2 |
~ كن لله كما يُريد ~
|
( 2 )
قد ذكرنا في ما تقدَّمَ نُتَفًا من مفسداتِ الصداقةِ ، التي تُدخِلُ على الصديقِ من صديقِه تُهَمةً ورَيبًا . ونحن نأتنِفُ ما ذكرنا ؛ إذْ كانَ هذا البابُ من القولِ ، لا يوقفُ منه على غايةٍ ، ولا يُنقطَعُ منه إلى نهايةٍ ، وكانَ في ذكرِ القليلِ بلاغٌ ومعتبَرٌ ! كما أنَّ حقًّا على الصديقِ أن ينفيَ عن صديقِه أسبابَ سوءِ الظنِّ ، وألا يجعلَه يقِفُ منه على ما يَريبُه في ودِّهِ لهُ ، فإنَّ من حقِّ ذلك الصديقِ ألا ينساقَ وراءَ أولِّ خاطرٍ ، ولا يجعلَ لسوءِ الظنِّ على نفسِه مدخلاً ، وأن يتخِذَ الإغضاءَ ، وصلاحَ الرأيِ شِعارًا ومذهبًا . فإذا أحسَّ من صديقِه جفوةً ، أو صدودًا ، أو رأى منه انقطاعًا في الاتِّصالِ ، وإبطاءً في الرسائلِ ، فلا يعجلنَّ على صديقِه بالتُّهَمةِ ، وليتبيَّنْ أن يحكمَ عليهِ قبلَ النظرِ ، والتماسِ العللِ ؛ فعسَى أن يكون ذلك لعذرٍ منه ، أو لفهمٍ معدولٍ عن وجهِ الحقِّ ؛ فكأيِّن من ظنينٍ على غيرِ سوءٍ ، ومتَّهمٍ في غيرِ ذنبٍ ! تأنَّ ، ولا تعجلْ بلومِكَ صاحبًا *** لعلَّ له عذرًا وأنت تلومُ ومن ذلكَ أن يكونَ كلُّ كلامِه إياهُ كلامًا جافًّا باردًا . ولا ينبغي لفرْطِ الإدلالِ أن يحملَ الرجلَ على أن يكلَّمَ صديقَه كما يكلّمُ عدوَّه . على أنه لا ينبغي أيضًا أن يُبلِغُ في تكلُّفِ الكلامِ الحُلوِ ؛ فيعاملَ صديقَه معاملةَ الغريبِ ؛ ولكنْ بينَهما ؛ قالَ بعضُهم : ( حقُّ الصديقِ إذا دنا أن يُّرحَّبَ بهِ ، وإذا جلسَ أن يُّوسعَ له ) . وقالَ الشاعرُ : " كيفَ أصبحتَ " ، " كيفَ أمسيتَ " ممَّا *** يَزرعُ الودَّ في فؤادِ الكريمِ ومنه أن يتركَ تعهُّدَه بالزيارةِ ، أو الرسالةِ ؛ فربّما انقضَى الشهرُ ، أو الشهرانِ ، ولم يلتقِ بهِ ، على قربِ الدارِ ، وتهيّؤ الأسبابِ ، وإسعادِ الزمانِ ، وفراغِ القلبِ من الأشغالِ . فإنَّ طولَ الانقطاعَ يُورثُ الجفاءَ ، ويُكدّرُ الصفاءَ ، ويخلقُ المودَّةَ . فإذا هما رجعَا إلى ما بقِيَ من الودِّ رجعا إلى ودِّ طارفٍ ، وصُحبةٍ مستحدَثةٍ ! تركُ التعهُّدِ للصديـ *** ـقِ يكونُ داعيةَ القطيعهْ و : ومَن لم يكن مُنصِفًا في الإخا *** ءِ ، إن زرتُّ زارَ ، وإن عُدتُّ عادا أبيتُ عليهِ أشدَّ الإباءِ *** وإنْ كانَ أعلى قريشٍ عِمادا على أنّ للزيارةِ مقدارًا لا يحسُن أن تتجاوزَه . فأما إذا كانت الصداقةُ بينهما مبرَمةً متينةً ، وكانَ كلُّ واحدٍ منهما من أخيهِ على ثقةٍ ، فلا يضرّهما أن يلتقِيا كلَّ ساعةٍ ، كما لا يضرّهما أن يطولَ فراقُهما ؛ قالَ أبو حاتمٍ : ( من صحَّحَ الحالَ بينه وبين أخيه ، وتعرَّى عن وجودِ الخللِ ، أحببتُ له الإكثارَ في الزيارةِ ، والإفراطَ في الاجتماعِ ) [ بتصرفٍ ] ، وتوفّيَ ابنٌ ليونسَ بنِ عُبيدٍ ، فقيلَ له : إن ابنَ عونٍ لم يأتِك ! فقال : إنا إذا وثِقنا بمودةِ أخينا ، لم يضرَّنا ألا يأتينا . وقالَ الأعمشُ : ( أدركتُ أقوامًا كانَ الرجلُ منهم لا يلقى أخاه شهرًا وشهرين ؛ فإذا لقيه لم يزده على " كيف أنت ؟ " ، و " كيف الحالُ ؟ " ، ولو سأله شطرَ مالِه لأعطاه . ثم أدركت أقوامًا لو غابَ أحدهم عن أخيه يومًا ، ثم لقِيه ، لسأله عن الدجاجة في البيتِ ، ولو سأله شطرَ حبّةً من مالِه لمنعه ! ) . أما ما جاءَ في الأثرِ : ( زُرْ غِبًّا تزددْ حبًّا ) ، فذلك في حقِّ من لم تستحكمْ بينك وبينَه عُرى المودةِ ، ولا بلغَ من نفسِك مبلغًا تُطَّرحُ معه الحشمةُ ، ويُرفعُ لهُ التكلُّفُ . وفي ذلك قولُه : زُرْ قليلاً لمن يَّودّك غِبًّا *** فدوامُ الوِصالِ داعي المَلالِ و : أقللْ زيارتَك الصديـ *** ـقَ تكن كثوبٍ يستجِدّهْ إنّ الصديقَ يغُمّهُ *** ألا يزال يراك عندهْ للحديث بقية وهو للأستاذ أبو قصي انتقيته ونقلته من ملتقى أهل اللغة : http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=13 نفعني الله وإياكن .، |
05-06-08, 01:02 AM | #3 |
جُهدٌ لا يُنسى
تاريخ التسجيل:
05-07-2006
الدولة:
أرض الشيشان...
المشاركات: 1,534
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكـِ الله خيرا غاليتي * أم أسامة * ننتظركـِ بوركـ فيكـِ |
24-06-08, 11:53 AM | #4 |
جُهدٌ لا يُنسى
|
أم أسامة
جزاكِ الله خيرا ونفع بكِ |
27-06-08, 09:18 AM | #5 |
جُهدٌ لا يُنسى
|
ما أثمنها من كلمات!!
بورك هذا النقل يا أم أسامة , فلقد لامست تلك الكلمات شغاف قلبي !!
فما ذكرت من مفسدات للصداقة نعيشها حقيقة ونتهرب من شعور أنها سبب القطيعة . كود:
ومنه أن يتركَ تعهُّدَه بالزيارةِ ، أو الرسالةِ ؛ فربّما انقضَى الشهرُ ، أو الشهرانِ ، ولم يلتقِ بهِ ، على قربِ الدارِ ، وتهيّؤ الأسبابِ ، وإسعادِ الزمانِ ، وفراغِ القلبِ من الأشغالِ . فإنَّ طولَ الانقطاعَ يُورثُ الجفاءَ ، ويُكدّرُ الصفاءَ ، ويخلقُ المودَّةَ . فإذا هما رجعَا إلى ما بقِيَ من الودِّ رجعا إلى ودِّ طارفٍ ، وصُحبةٍ مستحدَثةٍ ! كود:
فإذا هما رجعَا إلى ما بقِيَ من الودِّ رجعا إلى ودِّ طارفٍ ، وصُحبةٍ مستحدَثةٍ |
08-07-08, 09:58 PM | #6 |
|مديرة معهد أم المؤمنين خديجة|
|
فصول رائعة جدا
جزيتِ خيرا حبيبتي أم اسامة |
12-10-08, 11:20 AM | #7 |
معلمة بمعهد خديجة
|
فصــولٌ رائعــة !
أثــابكِـ البــاري خيــــرًا .. ولا حرمكِـ الجنّـــة .،، |
12-10-08, 01:17 PM | #8 |
جُهدٌ لا يُنسى
|
بسم الله و بالله
جزاكِ الله على الموضوع الجيّد و الحمد لله على نعمة الصداقة و الحب في الله بالتوفيق |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
(View-All) Members who have read this thread in the last 30 days : 0 | |
There are no names to display. |
|
|