العودة   ملتقى طالبات العلم > . ~ . أقسام العلوم الشرعية . ~ . > روضة مكتبة طالبة العلم > مكتبة طالبة العلم المقروءة

الملاحظات


إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-07-07, 03:36 PM   #1
رقية
معلمة بمعهد خديجة
c5 محاضرات مفرغة للشيخ / عبد الرحمن السديس (إمام الحرم)

خطبة استسقاء 16/9/1423هـ

ملخص الخطبة
1- الحكمة من خلق العباد. 2- الحكمة من توالي النعم. 3- أسباب البلايا والرزايا. 4- آثار الذنوب والمعاصي. 5- الغيث الحسّيّ والغيث المعنويّ. 6- تشخيص الداء. 7- أسباب منع القطر. 8- حال الأمة المزري. 9- حلم الله بعباده. 10- الحث على التوبة والإنابة والاستغفار. 11- الحكمة من الابتلاء. 12- دعاء وابتهال.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عبادَ الله، اتّقوا الله تبارك وتعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفِروه، فتقوى الله أمانٌ من الرزايا، وسلامة مِن البَلايا، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أيها المسلمون، لقد خلقكم ربُّكم تبارك وتعالى لغايةٍ عظمى ومهمّة كبرى، ألا وهي تحقيقُ العبودية له سبحانه، يقول عزّ وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فإياكم ـ عباد الله ـ والغفلةَ عن حكمة خلْق الله لكم في هذه الحيَاة، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
أيها المسلمون، إنَّ ربّكم تبارك وتعالى يوالي نعمَه على عباده لتكونَ عوناً لهم على طاعتِه والتقرّب إليه، فإذا استعانوا بنعمِه على معصيته وفرّطوا في جنبِه وأضاعوا أوامرَه واستهانوا بنواهيه واستخفّوا بحرماتِه غيّرَ عليهم حالَهم جزاءً وِفاقاً، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]. فإذا غيَّر العباد الطاعة بالمعصية غيَّر الله عليهم الغنى بالفقر، والنعمَ بالنقم، والخصبَ بالجدب، والمطرَ بالقحط، والخيرَ بالشدَّة والمؤونة، فلم ينزل بلاءٌ من الله إلا بذنوب العباد وتقصيرهم وإعراضهم عن ربِّهم وإقبالهم على شهواتِهم، وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
وما ابتُلي المسلمون اليومَ بقلّةِ الأمار وغَوْر المياه، وانتشارِ الجدب والقحطِ، وغلبةِ الجفَاف والمجاعة والفَقر في بقاعٍ كثيرة من العالم إلا بسببِ ذنوبهم، وانتشارِ المعاصي بينهم، وتفشِّي المنكراتِ في مجتمعاتهم، ولن يُرفَع ما هم فيه من شدّةٍ وبلاء وجدب وقحط وعناء إلا بإقبالهم على ربّهم، وعودتِهم إلى دينهم، وكثرةِ توبتهم واستغفارِهم لربِّهم من تقصيرهم. فالمعاصي ـ يا عبادَ الله ـ ما حلَّت في قلوبٍ إلا أظلمَتها، ولا في نفوسٍ إلا أفسدَتها، ولا في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمَّرتها، يقول ابن القيم رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرة شرّ وبلاء إلا وسببُه الذنوب والمعاصي؟!".
فالمعاصي تقُضُّ المضاجع، وتدع الديار بلاقع، وتجلِب البلايا والفواجِع.
رأيتُ الذنوب تميت القلوب ……وقد يُورث الذلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوب حياةُ القلوب ……وخيرٌ لنفسك عصيانُها
إنَّه إذا أجدَبت القلوبُ والضمائر وقحطتِ الأحاسيسُ والمشاعر من المُثُل والقيَم المعنويّة حصل الجدبُ والقحط في الأمور الحسّيّة.
ولقد خرجتُم ـ أيها المسلمون ـ تستغيثون ربَّكم للغيث الحسِّيّ، وإنه لجديرٌ بنا أن نهتمَّ بالغيث المعنويِّ غيثِ القلوب والأرواح، لأنَّ به حصولَ الغيث الحسّيّ، يقول جلّ وعلا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ [الأعراف:96].
إخوة الإسلام، لقد شكوتُم إلى ربّكم جدبَ دياركم، وتأخّرَ المطرِ عن إبَّان نزوله على بلادِكم وأوطانِكم، وسقي زروعكم وحروثكم، فما أحرى ذلك أن يدفعَكم إلى تلمُّسِ أسبابِه، ليكون عونًا لكم على تشخيص الداء الذي أصابكم، فإذا تشخَّص الداء سهُل وصفُ الدواء.
وإنَّ من أسبابِ منعِ القطر من السماء ـ يا عباد الله ـ غفلةَ العباد عن طاعةِ ربهم، وقسوةَ قلوبهم بما ران عليها من الذنوب والمعاصي، وتساهلَهم بتحقيق الإيمان والتقوى، وتقصيرَهم في أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، يقول : ((لم ينقُص قومٌ المكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنين وشدّة المؤونة وجورِ السلطانِ عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يمطَروا)) خرَّجه البيهقي والحاكم وصحّحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما(1)[1]، ويقول مجاهد رحمه الله: "إنَّ الحُبارى في أوكَارها لتَلعَن عصاةَ بني آدَم إذا أجدَبتِ الأرضُ وحُبس القطر، تقول: هذا بشؤم معصيةِ بني آدم"(2)[2].
وإنّ من الأسباب لمنع القطر ـ يا عباد الله ـ إعراضَ كثير من الناس عن التوبَة إلى ربّهم واستغفاره، وهما من أعظم أسبابِ نزول الغيث، يقول تعالى عن نوحٍ عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، ويقول تعالى عن هودٍ عليه السلام: وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [هود:52]، وقد خرَج عمرُ رضي الله عنه للاستسقاء فلم يزِد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، فقال: (لقد طلبت الغيثَ بمجاديحِ السماء التي يُستَنزَل بها المطر)(3)[3].
معاشر المسلمين، إنّه ما نزل بلاءًُ إلا بذنب، ولا كُشِف إلا بتوبَة، وإن ذنوبنا ـ يا عباد الله ـ كثيرة وعظيمة، وإنَّ تقصيرَنا لشديد وكبير، وإن شؤمَ الذنوبِ والمعاصي لعظيمٌ وخطير، ألم نقصِّر في الإيمان والعبادةِ والإخلاص والتقوى؟! ألم تظهرِ المنكراتُ وتعمّ المحرمّات في كثيرٍ من المجتمعات؟! أما هذه الصلاةُ قد طاش ميزانُها عند كثيرٍ من الناس وهي عمودُ الإسلام والفارقُ بين الكفرِ والإيمان؟! أمَا هذه الزكاة المفروضة قد بَخل بها كثيرٌ من الناسِ فلم يخرجوا حقَّ الله فيها؟! أمَا هذه الموبقاتُ والجرائم من القتل والزّنا والرّبا وشربِ الخمور والمسكرات وتعاطِي المخدّرات موجودةٌ في كثيرٍ من المجتمعات؟! أمَا ظلمُ العباد وغشّهم ومطلهم حقوقَهم وبخسهم في المكاييل والموازين والمقاييس منتشرٌ بين صفوف كثيرٍ من المسلمين وفي أسواقِهم ومعاملاتِهم؟! أما مُلئت بعض قلوب ضعافِ النفوس بالحسَد والشحناء والحِقد والبغضاء؟! أمَا مظاهر التبرّج والسّفور والاختِلاط وهي من أكبرِ دواعي الفسادِ ظاهرةٌ منتشِرة في بعضِ المجتمعات؟! أمَا هَذا الزَّخَم الهائل من المناظرِ السيّئة والمظاهِر المحرّمة موجودٌ في بعض المجتمعات؟! وحدِّث ولا كرامة عن عفَن القنوات الفضائية والشبكات المعلوماتيّة والوسائل الإعلاميّة، مع التقصيرِ في القيام بواجب الدعوة إلى الله والحسبَة والإصلاح والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قِوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمةُ الخيريّةَ على العالمين، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فلا بد من إعزاز جانب الحسبة، ورفع هامات المحتسبين، ورفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما فيه من صمام أمان وطوق نجاةٍ للأمة حتى لا تغرق سفينة المجتمع، فإنه إذا طُوي بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأُغيض جناحه ونكِّست أعلامه ولُفَّ نشرُه وانتقصَت عَشْرُه وأهمِل عِلمُه وعمله حلَّت بالأمَّة المثلات وأصيبت الأمَّة بالنّكبات وأخِذت بألوانِ العقوبات، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أمَا هذا القصور في مجالات الفكر والثقافة والتربية والإعلام ظاهرٌ للعيان؟! فأين الغيرة الإسلامية؟! وأين الحميّة الدينية؟! وأين الشّهامة العربيّة؟! وأين الكرامة الإنسانية؟! فرحماك ربَّنا رُحماك، وعفوَك يا مولانا، وعافيتَك يا الله، واللهم سلِّم سلِّم، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
ألا ما أحلمَ اللهَ على عباده، لكن لعلَّنا نُرحَم ونُغاث بحال المستضعفين، من الشيوخ الرّكَّع، والأطفال الرُّضَّع، والبهائم الرّتَّع.
فاتّقوا اللهَ عباد الله، واعلَموا أنَّه ليس طلب الغيثِ بمجرّد القلوب الغافلة والعقول اللاهية، وإنّما يتطلّب تجديدَ العهد مع الله، وفتحَ صفحة جديدةٍ ملؤها الطاعات والقرُبات، بعيداً عن المعاصي والمحرمّات، وإصلاحاً شاملاً في كلّ مرافق الحياة، فحاجةُ الأمة إلى الاستغاثة العمليَة التطبيقيّة لا تقلّ أهميّةً عن استغاثتها القوليّة والدعائيَّة، اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
وإنَّه مع كلّ هذا التّقصير والتفريط في جنب الله فعفوُ الله واسع، ورحمتُه وسعَت كلَّ شيء، وعفوه عمَّ كلَّ التائبين، فما ضاقَ أمر إلا جعَل الله منه مَخرجاً، ولا عظُم خطبٌ إلا جعَل الله معَه فرجاً، ها هو مولاكم جلَّ وعلا يدعوكم للتّوبة والإنابة، ويطلُب منكم دعاءَه واستغفارَه: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ويقول سبحانه: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، ويقول جلّ وعلا: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرْضِ أَءلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
أيّها الإخوة في الله، وما أنزل الله بأهلِ الأرض من شدّةٍ وعناء، ولا أصَابهم من محنةٍ وبلاء إلا ليعلَم الله الذين صدَقوا ويعلمَ الكاذبين، ولينظرَ سبحانه من يُحدِث منهم توبة. وإنَّ من حكمتِه جلّ وعلا أن لا يديمَ عبادَه على حالةٍ واحدة، بل يتعهَّدهم بالشدّة والرخاء، ويبتليهم بالسرّاء والضرّاء، نعَمًا ونِقما، مِنَحا ومحَنًا، وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]. وإنما يُخوّفكم الله بالجفاف والقحط والجدب ومنعِ القطر وشدّة المؤونة في الأرزاق لئلا تستمرّوا في ذنوبكم وتصرّوا على غفلتكم. وإنَّ مواهبَ ربّنا لجليلة وعطاياه لجزيلة، بابه للسائلين مفتُوح، وعطاؤه للراغبين ممنوح، وفضله على الجميع يغدو ويروح، فاشكروه على المنن والعطاء، وارجعوا عن الذنوب والأخطاء، واطلبوا كلَّ شيء منه سبحانه، وأخلِصوا له التوحيدَ والعبادة، فهو المتكفِّل بإنزالِ الغيث وتقديرِ الأرزاق، وتوجَّهوا إلى الله جلّ وعلا في هذه الساعة المباركة، والأزمنة والأمكنة المباركة، لا سيما في هذا الحرم العظيم والشهر الكريم شهرِ الخيرِ والبركات وإجابة الدعوات، توجَّهوا إلى الله بالتوبةِ والاستغفَار، حقِّقوا التوبةَ إلى الله من ذنوبكم، بشروطها الشرعيّة، بالنّدم على ما حصل من الذنوب والإقلاع عنها والعزمِ على عدم العودِ إليها مرّة أخرى، رُدّوا المظالمَ إلى أهلها، من كان عنده مظلمة لأخيه من مالٍ أو عِرض فليتحلَّله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، جدِّدوا التوبة إلى الله من ذنوبكم قبل فوات الأوان، جرِّدوا القلوب ـ يا عباد الله ـ من الحسَد والحِقد والبغضاء والغيبة والنميمة والبهتان والشحناء، أدّوا زكاةَ أموالكم، ولا تبخَسوا الناس أشياءَهم، ولا تنقصوا المكيال والميزان، تسامَحوا وتراحَموا، لا تحاسَدوا ولا تَباغضوا، صِلوا الأرحام، برّوا الوالدين، أحسِنوا إلى الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والمحاويج، أكثِروا من الصدقاتِ والإنفاق والجودِ في سبيل الله، وكونوا إخوةً متحابّين، على الخير متعاونِين، فمتى ما علِم الله إخلاصَكم وصدقكم وصحّة توبتِكم وإنابَتكم وإلحاحَكم عليه بالدعاء أغاث قلوبَكم بالإنابة إليه، وبلدَكم بإنزال المطر عليه، وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22].
لا إله إلا الله غياث المستغيثين، وجابر كسر المنكسرين، وراحم المستضعفين، ومجيب دعوة المضطرين، وكاشف كرب المكروبين، ورافع البلاء عن المستغفرين، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين ولا أقلَّ من ذلك، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنّا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانه إنّا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنتَ سبحانه إنّا كنا من الظالمين.
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85، 86].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار والغيث العميم، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا نستغفرك إنّك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعًا سحًّا غدقاً طبقا واسعا مجلِّلا نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أغثنا غيثاً مباركا، تحيي به البلاد، وترحم به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر والباد، اللهم أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغا إلى حين، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأسقنا من بركاتك، وأنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا القحط والجفاف والجوع والجهد، واكشف ما بالمسلمين من البلايا، فإنَّ بهم من الجهدِ ما لا يكشفه إلا أنت، اللهمّ اكشف الضرّ عن المتضررين، اللهم اكشف الضر عن المتضررين، والكربَ عن المكروبين، وأسبغ النعم على عبادك أجمعين، اللهم لا تهلكنا بالسنين، ولا تجعلنا من الآيسين، اللهم أخرج في أرضنا زينتها، وأعمنا خيرها وبركتها، اللهم هؤلاء عبادك رفعوا أكف الضراعة إليك يسألونك الغيث، اللهم فأعطهم سؤلهم، اللهم فأعطهم سؤلهم، اللهم حقِّق أملهم، اللهم يا مغيث أغثنا، اللهم يا مغيث أغثنا، واجعل ما أنزلته عونا لنا على طاعتك وبلاغا إلى حين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
أيّها المسلمون المستغيثون، لقد كان من سنّة نبيّكم بعدَما يستغيث ربَّه أن يقلبَ رداءه(4)[4]، فاقلبوا أرديتَكم اقتداءً بسنة نبيكم ، وتفاؤلا أن يقلب الله حالكم من الشدة إلى الرخاء، ومن القحط إلى الغيث، وألحوا على الله بالدعاء، فإنه سبحانه يحبّ الملحّين في الدعاء.
ربّنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، يا حي يا قيوم، اللهم لا تردّنا خائبين، ولا عن بابك مطرودين، ولا من رحمتك محرومين، سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.

-------------------------
الخطبة الثانية
لم ترد.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
(2) أخرجه سعيد بن منصور (236)، وابن جرير في جامع البيان (2/54، 55) بنحوه.
(3) أخرجه عبد الرزاق (4902)، وسعيد بن منصور (5/353)، وابن أبي شيبة (29485)، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال: خرج عمر يستسقي فذكره، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الشعبي عن عمر مرسل. تحفة التحصيل (ص 164).
(4) سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



منقول
يتبع
رقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-07-07, 03:40 PM   #2
رقية
معلمة بمعهد خديجة
c1


خطبة استسقاء 5/2/1424هـ

ملخص الخطبة
1- سنة الابتلاء. 2- سنة الله تعالى في التغيير. 3- نعمة الماء. 4- ما نزل بلاء إلا بذنب. 5- من أسباب حبس المطر. 6- حالة المسلمين اليوم. 7- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 8- دعاء.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتّقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفِروه، وأنيبوا إلى ربّكم ولا تعصوه، فتقوى الله ـ يا عباد الله ـ خيرُ لِباس، وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، وأهل التقوى ـ لعمرو الحقِّ ـ خيرُ النّاس، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. فمن رامَ الظفرَ بالسّول وبلوغ المأمول وحصولَ المطلوب والنجاة من المرهوب والسلامةَ من الخطوب فعليه بتقوى العليم بذات السّرائر والقلوب، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76].
أيّها المسلمون، من حكمةِ الباري جلّ وعلا أن لا يديمَ عبادَه على حالٍ واحدة، بل يبتليهم بالسرّاء والضرّاء ويمتحِنهم بالشدّة والرخاء، وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ [البقرة:155].
وإنَّ مولاكم جلّت حكمته يوالي نعمَه على عبادِه لتكون رِفداً على طاعتِه والتقرّب إليه، فإذا استعانوا بنعمِه وفيوض خيرِه ورزقه على معصيتِه وفرّطوا في جنبِه وأضاعوا أوامرَه واستخفّوا بها غيّر حالَهم جزاءً وفاقاً، ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
فإن غيّر العباد حالَهم من الطّاعة إلى المعصية ومن الحقّ إلى الباطل ومن الجدّ إلى اللهو والعبث أحال الله عليهم الغِنى بالفَقر والنّعم بالنّقم والعزّة بالذّلة والقوّة بالضّعف والمَهانة والخصبَ بالجَدب والمَطر بالقَحط والخَير بالشّدّة والمؤونة، وأقامهم في دروب الضّيق تائهين.
وممّا أنعم الله به على عباده الماءُ العذب الزّلال الذي به حياةُ كلّ من على وجهِ الأرض من حيوانٍ ونبات، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]. فبه تُغاث الأنعام، وتروى الهضاب والآكام، وتحيى النباتات والسّوام، وبه يستعين كلُّ زارع وغارس، ويرتوي الظّمآن من بَني الإنسان والحيوان في كلّ زمان ومَكان، أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70].
معاشِر المُسلِمين، وما ابتُلي المُسلمون اليومَ بقلّة الغيثِ ونقصِ الأمطار وغَور المِياه واتّساع الجَدب والمجاعة والفَقر في بقاع كثيرةٍ إلا بسبَب ذنوبِهم وانتشار المعاصي بينَهم وفشوّ المنكرات في مجتمعاتهم، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ [الروم:41]، أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
ولن يُرفع ما هم فيه إلا بتوبة صادقةٍ وعودة حميدة إلى دينِهم، مع لزوم الاستغفار والضّراعة إلى الله عز ّوجلّ: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42].
إخوةَ الإسلام، لقد شكوتُم إلى ربّكم جدبَ دياركم، وأنبتُم إلى ربّكم شاكين قحطَ ربوعِكم، وتأخُّر المطَر عن إبّان نزوله على بلادِكم، فما أحرَى ذلك أن يثير فيكم تلمُّسَ الأدواء ومعرفة الدّواء؛ لتكون نبراساً لتشخيص الدّاء الذي ألمّ بكم.
وإنَّ من أسباب حبسِ الغيث ـ يا عباد الله ـ انغماسَ كثير من العباد في الشهوات والملذّات، وغفلتَهم عن طاعة ربهم، وقسوة قلوبهم جرّاء ما غشيها من أدران الذنوب والمعاصي، حتى أصبحت كما قال المصطفى في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: ((كالكوز مجخِّياً، لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكَراً))(1)[1]. أضِف إلى ذلك ضعفَ تحقيق الإيمان والتقوى، والتقصيرَ في أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، يقول محذّراً وزاجراً: ((لم ينقُص قوم المكيالَ والميزان إلا أُخِذوا بالسّنين وشدّة المؤونة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يمطروا)) خرّجه البيهقي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما(2)[2].
ومِن الأسباب ـ يا عباد الله ـ إعراضُ كثير من الناس عن التّوبة إلى ربّهم واستغفاره، وعدمُ التفطّن لهذا الأمر المهمّ واستشعارِه، وإنهما لمن أعظم أسباب نزولِ القطر وحلول البركات، يقول الحقّ تبارك وتعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، وقال جلّ اسمه على لسان هود عليه السلام: وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52].
إخوَة الإيمان، في الأثرِ عن الخليفة الرّاشد علي رضي الله عنه أنه قال: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة)(3)[3]. وإنّ ذنوبَنا ـ يا عباد الله ـ قد كثُرت، وإن تقصيرَنا قد تعاظم واستفحَل، وإنّ شؤم الذنوب والمعاصي لعظيمٌ وخطير، فما حلّت في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا في قلوب إلا أفسدَتها، ولا في مجتمعاتٍ إلا دمّرتها، يقول ابن القيم رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرة وهل في الأرض والماء والهواء شرٌّ وبلاء إلا سببُه الذنوب والمعاصي؟!".
رأيتُ الذنوبَ تميت القلوبَ ……وقد يورث الذلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوبِ حياة القلوبِ ……وخيرٌ لنفسِك عصيانُها
أوَليس ظلمُ العباد وغشُّهم ومطلهم حقوقَهم وبخسهم في المكاييل والموازين والمقاييس، أوَليس التعاملُ بالرّبا والمعاملات المحرّمة والمكاسب الخبيثة منتشراً بين صفوفِ كثيرٍ من المُسلمين في أسواقِهم ومعاملاتِهم؟! أمَا هذه قلوبُ كثيرين قد انطوت على الحِقد والحَسد والشّحناء والتقاطع والتدابر والبغضاء؟! أمَا هذه الزّكاة المفروضة قد بخِل بها كثيرٌ من النّاس، وظنّوها جبايةً وعناءً، لا مواساة ونماءً، وألهاهم التكاثر والتنافسُ في دنيا الغرور عن إخراج حقِّ الله فيها؟! أمَّا مظاهرُ التّبرّج والسّفور في كثيرٍ من المجتمعات وما تبثُّه الشبكات والقنوات والفضائيات فحدِّث ولا كرامةَ بما يعجز اللّسان عن وصفِه، وحسبُك من شرٍّ سماعُه، ولا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
ألا ما أحلمَ الله على عبادِه، لكن لعلّنا نُرحَم ونُغاث بحال المنيبين المخلِصين، ودعواتِ الأخفياء الصّالحين، فلولا الأطفالُ الرُّضَّع والشّيوخ الركَّع والبهائم الرتَّع لما أُمطِرنا بوابل ولا طَلّ، فاللهمّ سلِّم سلِّم، ورُحماك ربَّنا رُحماك، وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
أنِيبوا إلى ربِّكم يا عباد الله، واعلَموا أنّ استنزالَ الغيث واستنبات الزّرع مُحالٌ أن يكونَ بالدّعوات الساهيَة أو بالقلوب الغافِلة والعقول اللاهية في أوديَة الدنيا وشِعابها، وإنّما بالخشيةِ والمُراقبة وتزكيَة النفوس والمتابعة، وإنّ حاجةَ الأمّة إلى الاستغاثة العَمليّة التطبيقيّة لا تقلّ أهميّةً عن استغاثتِها القوليَّة والدُّعائية، مع الجِدّ في الأخذِ بأسباب الصّلاح والإصلاح، وتعزيز جانب الحِسبة والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وحراسة العقيدة والفضيلة، وسدّ الثغرات في قنواتِ التّعليم ووسائل الإعلام. يجِب أن تُحسن الأمّة من شأنها في مرآة الشريعة ما شانَها.
أمّة الإسلام، وإنّما يُخوّفكم الله بالجفافِ والقَحط والجَدب ومَنع القطرِ وشدّة المؤونة لئلا تستمرِئوا الذنوبَ وتصرّوا على الغفلة. ألا فإنّ مواهبَ ربّنا لجليلة، وإنَّ عطاياه لجزيلة، فبابُ رحمتِه ومنّه مفتوح، وبابُ خيره وجودِه ممنوح، وفضلُه سبحانه يغدو ويروح.
ولتعْلَموا ـ يا رعاكم الله ـ أنَّ ما ضاق أمرٌ إلا جعل الله معه فرَجاً، ولا عظُم خطبٌ إلا جعَل الله مِنه مخرجاً، وإنَّ في طياتِ المِحن لمِنحاً، قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].
فاشكروه جلّ وعلا على ما بِكم من النّعمة والأمنِ في الدّيار، وأقلعوا عن الذنوب والأوزار، والجؤوا إليه بغاية الذلِّ والافتقار، فبيدِه وحدَه إنزالُ الغيث وتقدير الأرزاق، حقِّقوا التوبةَ من ذنوبِكم بشروطِها المعروفة؛ بالنّدم على ما سلف من الذّنوب، والإقلاع عنها، والعزم على عدم العَود إليه. رُدّوا المظالم إلى أهلِها، جدِّدوا التوبةَ إلى الرحمن قبلَ قواتِ الأوان، جرّدوا القلوبَ من الحَسد والبغضاء، وصونوا ألسنتَكم عن الغيبَة والنّميمة وقولِ البهت والزور على البرآء، واتّقوا الله واحذَروا الولوغَ في الأعراض وترويجَ الأكاذيب والشائعات.
أدّوا زكاة أموالكم طيِّبة بها نفوسُكم، تراحَموا وتسامَحوا، صِلوا الأرحام وبرّوا الآباءَ والأمهات، وأحسنوا إلى الفقراء والمساكينِ والأرامل والأيتام والمحاويج، وليكُن ذلك دأبَكم مع هذه الفئَة من المجتَمع.
كونوا إخوةً متحابّين، على الخير متعاوِنين، تحلّوا بالأخلاق الكريمة، وتخلّوا عن الأوصاف الرّذيلة، وتأسّوا بنبيّكم عند استسقائه، فقد خرج متذلِّلاً متخشِّعاً تائباً ملِحًّا على الله بالدّعاء، فاهتدوا بهديِه، واقتدوا بسنّته ، وادعوا ربَّكم وأنتم موقنون بالإجابة، ملظّين بيا ذا الجلال والإكرام، ولا تقنَطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من رَوح الله، فإنّه يحبّ الملحّين في الدعاء، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
مُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر، فإنّه قوامُ الدين، وبه نالت هذه الأمّة الخيريّةَ على العالمين، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
ارفَعوا أكفَّ الضراعة إلى ربّكم، والهَجوا بالثناء عليه مؤمّلين نوالَه وكرمَه، ملحّين في الدعاء أن يكشفَ هذه الشدّة وهذا الكرب، وأن يغيثَ البلادَ والعباد، وأن ينصرَ دينَه ويُعليَ كلمتَه، إنّه جواد كريم.
لا إله إلا الله غياثُ المستغيثين، لا إله إلا الله راحم المستضعفين، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم ونتوب إليه.
لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين.
إلهَنا، كلّ فرَحٍ بغيرك زائِل، وكلّ شُغل بسواك باطِل، والسّرور بِك هو السّرور، والسّرور بغيرك هو الغرور.
اللهمّ يا حيّ يا قيّوم برحمتِك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ ولا أقلَّ من ذلك، لئِن لم يرحمنا ربّنا ويغفرْ لنا لنكوننَّ من الخاسرين، ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمْنا لنكوننَّ من الخاسرين.
سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير، ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا، فانصُرنا على القوم الكافرين.
على الله توكّلنا، على الله توكّلنا، ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، ونجِّنا برحمتك من القوم الكافرين.
اللهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمَ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أغِثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ اسقنا وأغثنا، اللهمّ أغث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا ربّ العالمين.
اللهمّ إنّا خلق من خلقك فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك، اللهمّ إنّا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهمّ أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سَحًّا غَدَقاً طَبقاً واسِعاً مجلِّلاً نافِعاً غيرَ ضارّ عاجِلاً غير آجل، اللهمّ سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عَذاب ولا بلاءٍ ولا هدم ولا غرق.
اللهمّ اسق عبادَك وبهائمك وبلدَك الميّت، وانشر رحمتَك، اللهمّ أغثنا غيثاً مباركاً تُحيي به البلادَ، وترحم به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضِر والباد.
اللهمّ أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته قوّةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللهمّ أنبِت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضّرع، وأنزل علينا من بركات السّماء، وأخرِج لنا من بركاتِ الأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهمَّ ارفَع القحطَ والجفاف والجوعَ والجهد، واكشِف ما بالمسلمين من البلايا والرزايا، فإنَّ بهم يا رحيم يا كريم من اللأواء ما لا يكشِفه ولا يعرفُه إلا أنت.
سبحانك وبحمدِك، اللهمّ اكشِف الضرَّ عن المتضرّرين، والكربَ عن المكروبين، وأسبِغ النّعم على عبادِك أجمعين.
اللهمّ هؤلاء عبادك، رفعوا أكفَّ الضراعة والحاجة إليك، يسألونك الغيثَ، اللهمّ يا ذا الجلال والإكرام أعطِهم سؤلَهم، وحقِّق أملَهم، يا حيّ يا قيّوم.
عبادَ الله، لقد كان من سنّة نبيّكم بعدما يستغيث ربّه أن يقلبَ رداءَه(4)[4]، فاقلبوا أرديَتَكم اقتداءً بهديِه ، وتفاؤلاً أن يقلِب الله حالَكم من الشدّة إلى الرّخاء، ومن القَحط إلى الغيث والنّماء، وليكون ذلك ميثاقاً وعهداً تأخذونَه على أنفسِكم بتغيير لباسِكم الباطِن إلى لباسِ الإيمان والتّقوى.
ربّنا تقبَّل منّا إنّك إنت السميع العليم، وتُب علينا إنّك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا برحمتك ومنِّك يا أرحم الراحمين.
اللهمّ لا تردَّنا خائبين، اللهمَّ لا تردّنا خائبين، اللهمّ لا تردّنا خائبين، ولا عن بابك وجنابك مطرودين، ونعوذ بك اللهمّ أن نكون من رحمتك ولطفك وعفوك محرومين.
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد.

-------------------------
الخطبة الثانية
لم ترد.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان (144) عن حذيفة رضي الله عنه.
(2) أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
(3) انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس رضي الله عنه في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
(4) سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (969)، ومسلم في الاستسقاء (1489) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


يتبع
منقول
رقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-07-07, 03:43 PM   #3
رقية
معلمة بمعهد خديجة
افتراضي


كلمات الأزمات

ملخص الخطبة
1- حاجة الأمة إلى فقه التعامل مع الأزمات. 2- خطورة النوازل والأزمات. 3- سنة الابتلاء. 4- نعمة الشريعة الإسلامية. 5- من حِكم الابتلاء. 6- مآسي العراق. 7- مطالبة بالإنهاء الفوري للحرب. 8- مفاسد الحروب وأضرارها. 9- دعوة لأخذ الدروس والعبر. 10- التحذير من المتنكّرين لأمتهم. 11- التحذير من الإشاعات. 12- واجب المسلم عند الأزمات. 13- المستقبل للإسلام. 14- دعوة لدراسة أسباب النصر والهزيمة. 15- الدِّرعان الواقيان. 16- دور العلماء والدعاة. 17- جهود بلاد الحرمين.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله الملِك الرزّاق، ففي تقواه سبحانه أوفرُ الخلاق، وبها النجاة يومَ التّلاق، فكونوا في تحقيقها في تنافسٍ واستباق، واحذَروا التفريطَ فيها فعاقبة أهلِه المثلاتُ التي لا تطاق، ومَا لهم منَ اللَّه مِن وليّ ولا وَاق.
أيّها المسلمون، في ظلّ النوازل والأزماتِ وفي خضَمّ تداعيات الأحداث والنّكبات تتعاظم حاجة الأمّة إلى الفِقه العميق والنّظر الدقيق والمنهج الوثيق المتمثّلِ في فِقه التعامل مع الأزَمات والنّوازل حتى لا تختلِط الأوراق وتنقلبَ الموازين وتنعكسَ المعايير، ولكيلا تزلّ الأقدام وتضلَّ الأفهام وتكِِلّ الأقلام ويختلَّ الإعلام.
في النّوازل والأزمات يتعاظم الخطرُ على الهويّة والثوابت، وتحتاج سفينة الأمّة إلى رُبّان مهرةٍ يحسنون قيادةَ دفّتها إلى شاطئ السلامة والنجاة وساحلِ الأمن والأمان؛ حتى تُحفَظ للأمة حقوقها العقديّة والأمنيّة في تحقيقٍ لكلمة التوحيد وتوحيدِ الكلمة عليها، لأنّهما صمام الأمان أمام العواصفِ الهوجاء التي تمرّ بها أمّتنا، وتكاد لخطورتِها تنسيها كلَّ الأزَمات التي مرّت عليها في تأريخها المعاصر.
معاشرَ المسلمين، لما كانت هذه الدنيا دارَ اختبار وابتلاءٍ وممرًّا إلى الآخرة دارِ الحساب والجزاء شاء المولى جلّ وعلا لحكمته أن يتقلّب فيها النّاس بين السراء والضراء والشدّة والرّخاء، وأن يتعرّضوا للمصائب والمِحن، ولا تخلو حياتهم من نوائبَ وأزماتٍ وفتَن، ولله في ذلك كلِّه الحكمة البالغة.
ومِن رحمتِه جلّ وعلا بعباده أن منَحهم شِرعَةً غرّاء تحكمهم في جميع الظروف والأوقات، تنير لهم الطريقَ في السراء والضراء وحين البأس والأرزاء، وتأخذ بأيديهم أيّامَ المِحن والشدائد والأزماتِ، وهذا السَّنن الربانيّ تنزّه عن الحَسَب والنّسَب وأقام في البرايا الذهولَ والعجب، وهو بلا شكّ مِسبار للأفراد وعِللُ القلوب ومِصقلة لأدواء الأمم والشعوب، ومن ثبت في التمحيص بلغ من الظفر والتمكين كل الذُّرى، ومن تسخّط وجزع باءَ بالخسار عياذا بالله وارتكَس في أوحال الثّرى، ولا يظنّنَّ ظانّ أنّ الابتلاء بالضراء نقص كلُّه وشرّ كلّه ومنع كلّه، كلاّ، بل تضمَّن من الحكم والأسرار والمنازل عليّةِ الأقدار ما لا يخفى على ذوي البصائر والأبصار.
فمنها الرجوعُ والاستكانة والتضرّع إلى الله سبحانه واليقين بأنَّ ما يحدُث في هذا الكون فبتقديره وتدبيره، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وأنَّ إليه الملجأ والمعاذ والمهربَ والملاذ، وقد عاب سبحانه على من لم يستكِن إليه ويتضرّع عند الشدائد، وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
ومنها التمحيص والاصطفاءُ وترويض النفوس على مرّ الابتلاء، فلم يكن هذا هو الأوّل، ولن يكون الأخير، فلقد مُنيت أمّتنا عبرَ التاريخ بأحداثٍ وبلايا، وتجرّعت نكباتٍ ورزايا، وخرجت منها بحمد الله معزَّزة منصورَة، إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10، 11].
وفي الجملةِ فلا تخلو المصائب والأزمات من عِبَر لأهل الإيمان، ففيها تنبيهُ الغافل، وتعليم الجاهل، وتقوية الروابط على الاتحاد والوئام، ونبذ التنازعِ والتشتّت والخصام، وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
أمّة الإسلام، قضاء الباري بالغ النّفوذ، وليس إلاّ عليه نتوكّل وبه نلوذ، وها هي الأمّة الإسلاميّة لا تزال تحتسي القلقَ والضّنى، وتقتات الويلاتِ والعنا، جرّاءَ الكرب المتفاقِم والخطبِ المتعاظم في أرضنا أرضِ العراق، لقد أعيَى هذا المصابُ الجلل كلَّ محبٍّ للسلام وللأمن توّاق، أرتالُ مصفّحات ولهيب نيران، أزيزُ قنابلَ وسحُب دخان، دويّ قذائف وأنين حِرمان، طلقاتُ مدافِع وسلبٌ ونهب وعنفوان، تدميرٌ للمباني وقصف للعمران، حربٌ جعلت من الجداول الرقراقة خنادِق، ومن الأغصان الزاهيَة بنادق، دخلت البيوتَ من غير أبوابِها، وجرَّعت المدنيّين العُزل مُرَّ عذابِها، فرحماك ربَّنا رحماك، واللهمّ سلّم سلّم.
كم في العراق وكم في القدس ذو شجنٍ…شكا فردّدتِ الأصداء شكواه
بني العقيدةِ إنّ القرحَ مسَّكُمو …ومسَّنا نحن في الإسلام أشباه
شعبٌ يُقتل والدنيا تشاهدهم…كأنّهم من بني الإنسان ما كانوا
فيهم من البؤس والتشريد ملحمَة…خوفٌ وجوع وتقتيل وحرمان
صوتُ استغاثتهم يكوي الفؤادَ وما…من منقذ أوَما للناس آذان؟!
أجَل، لا بدَّ أن يُرفعَ عن سماءِ الأمّة هذا الكابوس، ولا بدَّ أن تُهْتَمَ أنياب هذه الحَرب الضّروس التي لا زال مشتعلاً فتيلها، حامياً وطيسُها، بالحلول السّريعة السّلمية المتَّئِدة القائمةِ على الحِكمة والعقل وبُعدِ النّظر في العواقب، تحت مظلَّة الشريعةِ الغرّاء والدساتير العالميّة والأنظمة الدوليّة لحقوقِ الإنسان والأعراف والمواثيق المحترِمة لسيادةِ الأوطان.
إنّنا باسم الشعوب الإسلاميّة والإنسانيّة نوجّه النداءَ الحارّ إلى الرّأي العامّ العالميّ وصنّاع القرار للوقف الفوريّ لهذه الحرب الطاحنة، واستمرار أعمال العنفِ والشّغب والفوضى التي تقود المنطقةَ إلى أنفاقٍ مظلمة وسراديبَ معتِمة ومجهولة النهايَة، وكم وكم تجرَّعت الإنسانيّة من ويلاتِ العنف والحروب، وأحدثت من مشاعرِ البغضاء والكراهية بين الشعوب، وألوان الصّراع والصّدام بين الحضارات. فالحروبُ والنكبات طويلٌ ذيلُها، قليلٌ نيلها، كثير وَيلها، فمِن الضروريّ المبادرة إلى إطفاء فتيلِها حتى تضع الحرب أوزارَها، ويُكفَى المسلمون شرَّها وأوارَها، وحمايةً للمدنيّين الأبرياء، وتفادياً للخسائر في الأرواح والممتلكات، وحفاظاً على أمنِ الشعوب والمجتمعات، وإبقاءً على المعالم الحضارية والتاريخية للعواصم العلميّة والحواضر الإسلامية، وسدًّا للطريق أمام القِوى الصهيونيّة الغاشمة التي استغلّت انشغالَ العالَم بهذه الحوادث والمستجدات، فعمِلت على توسيع نفوذِها في أرض الرسالات ومهدِ البطولات على ثرى فلسطين المجاهدة.
أربابَ السلام، حماةَ الشرعيّة، دعاةَ الحريّة والإنسانيّة، يا شرفاءَ العالم في كلّ مكان، هُبّوا سِراعاً إلى الحلّ الناجز والتحرّك الإيجابيّ السريع، لإنهاء هذه القضيّة المأساويّة والكارثة الإنسانية، قبل أن تُسلَب أرسَان الثقة والمصداقيّة من كثير من الهيئات الدوليّة والمنظمات العالميّة، واعلموا أنّه ما ضاق شيء إلا اتّسع بالمساعي الحثيثةِ خطوُه، وما ظهر فتقٌ إلا أمكن بالعهود والمواثيق رَفوُه، والله المستعان، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7]، وإن في طيَّات المحن لمِنحًا، وفي ثنايا النّقم لنعمًا، ((واعلم أنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرَج مَع الكرب، وأنَّ مع العسر يسراً))(1)[1].
إخوة الإيمان، ها أنتم أولاء تِلقاء محنٍ نجمت، وخطوب مُريعة هجَمت وجَثمت، فتبصّروا في هذه الحوادِث والسيَر، وانتزِعوا منها الدّروس والعبَر، لا سيّما في التوحيد والوحدة، إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
أمّة الإسلام، وفي غَمرة هذه الأحداث الدامية والأوقات المستعِرة الحامية تلجأ بعضُ النّفوس الضعيفة التي خلت من المروءة وتعرَّت من الوفاء والنّبل لتشرَخ تلاحمَ الأمّة ووحدتها، ولتلبِّس على النّزهاء والبرآء زعوماً ودعاوى بشائعات باطلة وأكاذيب ملفّقة، هي جراثيم قاتِلة وفيروسات مُهلكة وجِراحات مدمّرة وحربٌ نفسية خطِرة وتحطيم للمعنويّات ووأد للطموحات، والله عز وجل يقول: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]. وكلّما اتّسعت رقعة الشائعات الباطلات والأراجيف الذائعات التي يروِّجها ذو قِحةٍ وغِلالة صفيقة كان إثمه عند الله أعظم، فعلى المسلم العفّ أمامَ هذه الإفرازات النفسيّة الداكنة أن يتمثّل قولَ الحقّ جلّ جلاله: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16]. أورد ابن أبي الدنيا عن حماد بن زيد قال: بلغني أنَّ محمدَ بن واسع كان في مجلسٍ فتكلّم رجل فأكثر الكلام، فقال محمد: "ما على أحدكم لو سكت، فتنقّى وتوقّى"(2)[2].
أيّها المسلمون، مَن كان كلامه رسلاً وهَذَرا فليتذكّر قول الباري سبحانه وتعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]. ومن سَرَى في خَلَده أنّه نائلٌ بالسفاسف والترَّهات من ترابطنا الذهبيّ البديع وتآلفنا المتألّق المنيع فيقال له: هيهاتَ هيهات، فالطّود أشُمّ، والوِفاق بحمد الله أتمّ.
فالحذرَ الحذر ـ عباد الله ـ من تناقلِ وتداول الشائعاتِ المغرِضة التي غدت سلاحاً فتّاكاً ومِعولاً هدّاماً يقوّض وحدةَ الصف، ويفسد العلاقة بين الرّعاة والرعية والعلماءِ والعامّة والشّباب والشيوخ، ويزرَع الشكَّ وسوءَ الظنّ بين أبناء المجتمع، وبخاصّة مع انتشار وسائلِ الاتصال الحديثة التي أضحى بعضُ مواقعِها ومنتدياتِها مراحيضَ إلكترونية تُزكِم الأنوفَ بعفنِها ونتنِها أجلّكم الله، فكم أشهرَت من قبائح، وأعلنت من فضائح، وأظهرت من معائِب، ونشرت من سوآت ومثالِب، يترفَّع منها العقلاء والشرفاء.
والواجب على المجتمَع المسلم أن يكون حِصنًا حصينا ضدَّ الشائعات المغرِضة، فالرسول يقول: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكلِّ ما سمِع)) خرّجه مسلم في صحيحه(3)[3].
فليُعرض المسلم ويَربأ بنفسه عن سماعِها وترويجها، فالركون إليها وتناقلُها يؤدِّي إلى مفاسدَ خطيرة، تهدّد بنيانَ المجتمع، وتقوّض بناءَ الأمة، وتقضي على البقيّة الباقية من تلاحمِها وتعاونِها.
أمّة الإسلام، إنَّ من الفقه عند الأزمات أن يُنظر إليها برؤيةٍ شرعية، تحليلاً وتطبيقاً، فالإسلام يحرّم الظلمَ والعدوان، ويوجب على المسلمين التناصرَ والتآزر حسَب ما تقتضيه الظروف والأحوال، فعلى المسلم أن لا ينسى إخوانَه المسلمين من دعائه، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأرْضِ أَءلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل:62].
في الأزماتِ حيث خريفُ تساقط القيَم يتعيَّن على المسلم الأخذُ بأسباب الثبات على صحيح المعتقد وسلامة المنهج عند غياب صحيح المنهج، والتقيّد بالضوابط الشرعيّة من لزوم الرّفق والسّكينة، والتثبّت والأناة وعدم العجلة، وحفظ اللسان، والتبصّر في عواقبِ الأمور، والقرب من نصحاء الأمة وصلحاءِ المجتمع، وعدم الاستشراف للفتَن، فمن يستشرف لها تستشرفه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين(4)[4]، وأن لا يُتَكلَّف في ليِّ أعناقِ النّصوص الشرعيّة لتنزيلها على الوقائِع العصريّة بلا أثارةٍ من علم، وكذا عدمُ تداول الأحاديثِ الضعيفة والموضوعة، كما ينبغي تغليبُ العقل على العاطفة والرويّة والمنطق على التشنّج والانفعالات، وتقديمُ الرأي والمشورَة على ما يُظنُّ من الإقدام والشجاعة، والبعد عن الغوغائية والغثائية التي لا تصيب صيداً ولا تنكأ عدوا، والحذر من الانسياق وراءَ ما يُدَّعى من جهادٍ موهوم لم تتبيَّن له رايَة، ولم تظهر له غايَة، ولم تتحقَّق فيه الشروط الشرعيّة والمقاصد المرعيّة، ومنها المحافظة التامّة على لحمتِنا الاجتماعيّة، وجبهتنا الداخليّة، وقيادتِنا الشرعيّة والعلميّة، من أولي الأمر المسلمين والعلماءِ الربانيين، وحسن الظنِّ بهم، وعدم تصديق الدّخلاء والمرجفين الذين يظهرون في الأزمات، خفافيش ظلمات، وطفيليات زرعٍ ونبات، يصطادون بالمياه العكِرة، وينفُذون في الطّرق الوعِرة، وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
إخوةَ العقيدة، ومهما اربدّت الآفاق في مرأى العين، فإنّ دينكم بحمد الله دينُ الثبوت والبقاء، محالٌ أن يعتريَه الزوال والفناء، روى الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح أن رسول الله قال: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَر ولا وبَر إلاّ أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل))(5)[5]. وقد أعطى المولى حبيبَه ومصطفاه وخليله ومجتباه محمّداً أن لا يُهلِك أمتَه بسِنَة بعامّة، وأن لا يسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتَهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها. خرّجه مسلم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه(6)[6].
ألا ما أحوجَ الأمّةَ أن تدرُس أسبابَ النّصر والهزيمة بمنظورٍ جديد ورأي سديد وموقف رشيد ومنهج حميد، وأن تدقِّق في المقاصد والغايات والنتائج لاعتلاء شرفِنا السامق ومجدِنا الشامِخ بإذن الله، وحذارِ حذار من اليأس والقنوطِ والإحباط، وإلى مزيدٍ من التفاؤل والاستبشار، فالنصرُ للإسلام وأهله، والقوة لله جميعاً، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].
حفظ الله أمّتَنا مِن كيد الكائِدين وحقدِ الحاقدين وعدوان المعتدين، وأصلح أحوالَ المسلمين في كلّ مكان، وكشف الغمّةَ عن هذه الأمّة، وأعاذنا والمسلمين من مضِلاّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنَّه جواد كريم.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب وسنة النبيّ المصطفى الأوّاب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله الغفور الوهّاب لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه كان غفّاراً، وتوبوا إليه إنّه كان توّاباً.

-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أسبغ علينا المِنن، وأكرمنا بأقوَم كتابٍ وأهدى سَنَن، نستغفره سبحانه من الذنوب والخطايا في السرِّ والعَلن، ونسأله بقوَّته وعزَّته دفعَ الكروب والمِحن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمّداً المبعوث بالرّحمة وأزكى السُّنن، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته شموس الضّحى وبدُور الدُّجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، ولتكن التقوى ديدنَكم وميسَمَكم، تفوزوا في الدارين وتسعَدوا في الحياتين.
أيّها الإخوة في الله، إنَّ على شبابِ الأمّة الفطِن الواعي ـ وفقهم الله ـ بل والمسلمين عامّة في هذه الأحداث والأزمات قصيرةِ العمُر بحول الله أن يتدرّعوا بدرعين واقيَين بإذن الله هما دِرع الأوبةِ إلى الله وصدق الالتجاء إليه، والإلحاح في الدعاء، فهو سِهام الليل التي لا تخطئ، والسلاح الخفيّ الذي لا يَخيب، ودِرعُ الالتفاف حولَ القيادة المسلِمة وكوكبةِ العلماء الربانيّين، استرشاداً بتوجيهاتِهم واستنارةً بإرشاداتِهم، كيف لا؟! وهم مِسَاك الدين ومِلاكه وأنصاره وهداتُه، وبهم يُحفَظ الدين، وهم الموقِّعون عن ربّ العالمين، ومن صدَر أو ورَد عن غير رأيِهم وبصيرتهم فيُخشى عليه المزلّة والعطَب.
وإنَّ علماءَ الشريعة ودعاةَ الإصلاح ـ وفقهم الله ـ لمُدركون مدَى الأمانة المناطَة بأعناقِهم، سيّما في الشدائد والأزمات، وإنَّ المنصِفَ لواجدُهم أشدَّ الناسِ حرصاً على توجيه الأمّة وبيان الحقّ بالهدي النبويّ المتضمّن للحكمَة والكياسة والأناة والحصافة، مصطحِبين القواعدَ الشرعيّة والمقاصد المرعيّة، مِن دفع المفاسدِ والشرور وجلبِ المصالح والخيور، عملاً بالقاعدة الذهبيّة: التصرُّف في الرعيّة منوطٌ بالمصلحة الشرعيّة، وخصوصاً إذا اتَّقدت العواطف والتهبت المشاعر، ووقتئذ فالأمّة أحوجُ ما تكون إلى الدّليل المخلِص والربان الماهِر والهادي الرشيد بالرأي الحصيف والقول السديد، وإذا كثُر الملاّحون غرِقت السفينة، فلا بدّ من تجاوُز الخلافات والمعارِك الوهمية والحوارات العقيمة الهامشيّة، لا بدّ من تفعيل الدّور التربويّ للوسائل الإعلاميّة وعدم التضخيم والإثارة والبلبلة والتهويل والتّهويش والتحريش والتّشويش، والحذر من الاجتهادات الفرديّة والتصرّفات الآحاديّة وبثّ الفتاوى الطائرة وإصدار الأحكام الجُزاف الجائِرة التي تدَع الأفهامَ حائرَة، وتجرّ البلاد والعباد إلى فتنٍ عمياء، لا يعلم عواقبَها إلا الله سبحانه.
وللأمّة في تاريخِها المجيد نماذجُ باهرة في الحزم والحكمة، فهذا أبو بكر يومَ الردّة، وهذا الإمام أحمد يومَ المحنة، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله جميعاً، وغيرهم كثير. إنّنا بهذا لا نُلغي المشاعرَ والعواطف المتدفّقة لدى شبابِ الأمّة غيرةً على الدين والملّة، فبُوركت غيرتهم، وسُدِّدت خطاهم، بل نحمدُها لهم، ونستبشِر بها الخيرَ إن شاء الله، ولكنَّنا ندعو إلى حسن توظيفِها، والاستبصار بعواقبِها، والتحليق بجناحَي العقل والعاطفة، إذ الاستقلال بأحدِهما مفسدةٌ وشطَط عن سواءِ الحقّ، وفي التواؤُمِ بينهما تحقيقٌ للوسطية والاعتدال، ونزوع إلى الطريق السويّ بإذن الله، ويعلم الله وحدَه أنَّ هذا محضُ الحبِّ والنّصح لهم والمودّةِ والحدْب عليهم(7)[1].
ألا إنّ من فضلِ الله ومنّه على بلادِ الحرمين نسيجَها المتميّز ومنظومتَها الفريدة المتألّقة، لا سيّما في الفِتن والأزمات، فرُعاتها ـ وفقهم الله ـ دأبوا بكلّ الثقل ـ ولا يزالون ـ لإخماد هذه الفتنةِ الهوجاء، يغالبون تيّارَها، ويروِّضون بالحكمة والحِنكة زخارَها، وعلماؤها ودعاتها ورعيّتها يسعَون بالإيمان والثّبات والدّعاء لإطفاء لهيبِ نارِها وأُوَرها.
سدَّد الله الخطى، وكلّل المساعيَ بالنجاح والتوفيق، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
هذا واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ من خير أعمالكم وأرفعها في درجاتِكم وأزكاها عن مليكِكم كثرةَ صلاتكم وسلامكم على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد بن عبد الله كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين وأشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...

__________
(1) جزء من وصية النبي لابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه بهذا اللفظ أحمد (1/307)، والحاكم (3/624)، والضياء في المختارة (10/23، 24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398)، وحسن إسناده الصنعاني في سبل السلام (8/249). وأصل الوصية عند أحمد أيضاً (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حسن صحيح"، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2043).
(2) الصمت لابن أبي الدنيا (33).
(3) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (1/112)، وكذا ابن حجر في الفتح (10/407).
(4) أخرجه البخاري في الفتن (7081، 7082)، ومسلم في الفتن (2886).
(5) أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181) من حديث تميم الداري رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
(6) أخرجه مسلم في الفتن (2889).
(7) أي: العطف عليهم





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-07-07, 03:44 PM   #4
رقية
معلمة بمعهد خديجة
افتراضي

كساد الفساد في بلاد الأمجاد

ملخص الخطبة
1- تساؤلات لا بدّ منها. 2- ضلال فئة النشاز. 3- هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! 4- جريمة التفجير. 5- براءة الإسلام من أعمال الفساد والإفساد. 6- ضرورة تحصين المجتمع واحتواء النشء والعناية بالشباب. 7- واجب علماء الأمة ودعاتها. 8- واجب الآباء والمربِّين. 9- دور وسائل الإعلام. 10- أسباب الانحراف. 11- نصيحة لشباب الأمّة. 12- ضرورة التعاون الكامل للقضاء على أعمال الشر والإرهاب. 13- جدارة بلاد الحرمين في الخروج من المآزق. 14- التحذير من المنافقين.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى خير لباس، وأزكى ذُخر عند الشدائد والباس، وأفضل عُدّة وزاد، يبلّغ إلى جنان ورضوان ربّ العِباد، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيّها المسلمون، عند حلول حدَثٍ أيِّ حدَث يتساءل الناسُ بعامّتهم في سكرةٍ: ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وكيف حدَث؟ وبعد مُضيِّ الحدَث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعدَ الحدَث؟ في تفكّرٍ ومحاسبات ومعالجَة ومراجعات وتحليل ومتابعاتٍ وأبحاث ودراسات، تربِط النتائجَ بالمقدّمات، وتصل الأسباب بالمسبَّبات، لا سيّما في ما يمسّ دينَ الأمّة وأمنَ المجتمعات، وما يعكِّر استقرارَ الشعوب والبيئات، وما يعوق بناءَ الأمجاد وإشادة الحضارات ويعبث بالمكتسبات والمقدَّرات، تشخيصًا محكمًا للدّاء، ووصفًا ناجعًا للدّواء.
معاشرَ المسلمين، لا يفتَأ المتأمِّل في أدواء أمّتنا وعِللها المزمِنة أن يرى في بيداءِ الأحزان أشباحَ الأوهام تتقافز في أضواء بواطلِ الأحلام، فإذا ما دنَا منها وقف على فِئةٍ نشاز سَمجةِ الفكر صفيقةِ الروح ضيِّقة العطَن ضعيفة الرّأي عميقةِ العُقَد والنّزوات، أُرخِصت لدَيها الأعمار، فقامت بسَفك الدّماء وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان. ولا يكادُ عجبُ الغيور يأخذ بالأفول من ضلالِ تلك العقول التي اتَّخذت وراءها ظهريًّا المعقولَ والمنقول فيتساءل بأسًى: ما بال هؤلاء يرتكِسون في حمأة الجهل الوبيل، ولا يصيخون إلى النّداء العلويّ الجليل الذي عظَّم حرمةَ الإنسان، ونأى به عن مساقِط الغلوّ والإجرام؟! ما لهؤلاء القوم قد افترستهم أفكارُ الضّلال واستقطبتهم موجاتُ الوبال؟! أذلك ناتجٌ عن عمَى الفكر والبصيرة، أم ضحالةِ العلم والتربية، أم سطحيّة الوعي والمعرفة، أم زيف شعاراتٍ وشرور، أم جهل ونزَق وغرور وهو يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أم نتيجة لتراكمات نفسيّة وضغوطٍ اجتماعيّة، أم ماذا؟!
يُقضَى على المرء أيّام محنتِهِ …حتّى يرى حسنًا ما ليس بالحَسنِ
إخوةَ الإيمان، وعلى تلك السلالة ينبعِث صوتٌ مصدَّرٌ بأنّاتِ الأمّة ومسطَّرٌ بآلامها ومذيّلٌ بتوقيعِها المخضّب بالدّماء، وينطلق قولٌ يفور من أعماقِها المحزونة ويتصاعد من أنفاسِها المكلومة غداةَ يومِ الفاجعة النّكراء والجريمة الشّنعاء التي حلَّت بعاصمة المجدِ والشّموخ، وحاضرة التوحيد والتأريخ، عاصمةِ بلاد الحرمين الشريفين، رياضِنا النّضرة، رياضِ العقيدة والسّلام، وربوعِ الأمن والأمان، ونجدِ المحبّة والإخاء، ورمزِ الحضارة والإباء: هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان؟!
إنّ هذا التدميرَ وذلك التفجيرَ بفظيع الأسَى جرمٌ شنيعٌ وكيد مريع ولونٌ من ألوان الإفساد القاتم في الأرض من أيادٍ غاشمة حمراء، تمثّل صورةً شوهاء سودَاء من صورِ المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين والإساءةِ إلى أهل الذمّة والمعاهَدين.
إخوةَ العقيدة، لا يشكّ العقلاء ولا يرتاب الشّرفاء في تجريم مثل هذا الحدَث وتحريمه، وإنّ العباراتِ لتتضاءل والكلماتِ لتعجز أن تتكامَل في دقّة التصوير وعمق التعبير لهذا الحادث الجَلَل الذي يُعدُّ بحقٍّ سابقةً خطيرة تحمِل نُذُرَ سوء، وتنحدِر بالأمّة إلى مستنقَع موبوء، وتورِث قلقًا، وتفرِز أرَقًا، يُخشى أن تمتدَّ آثاره إلى أبعادٍ خطيرة وشرورٍ مستطيرة.
أيُّ دينٍ وعقلية، بل أيّ مروءة وإنسانيّة تحمل على ارتكاب هذه الفظائعِ والإقدام على تلك الفواجع واستمراء مثل هذه الشنائع التي تقضّ المضاجع وتدَع الديارَ بلاقع؟! فأفٍّ ثم أفٍّ لنفسٍ تتوق لقتل الأبرياء، وتبًّا ليدٍ تلذُّ لإراقة الدّماء وتناثُر الأشلاء، ألا قاتل الله أعمالَ الظلم والإرهاب والإفساد والإرعاب، فكم أحدَثت من أفعالٍ وحشيّة وجرائمَ همجيّة، يستنكرها كلَّ الاستنكار ويدينها أشدَّ الإدانة كلُّ مَن كان في قلبه أدنى ذرّة من إيمان، وعنده أدنى مسكةٍ من عقل، وتتحلّى بأقلّ قدرٍ من وازع أو ضمير، وهيهات أن يكونَ أمنٌ وفلاح وتتحقّق دعوة وإصلاح في مطايا النّسف والتفجير، وأنَّى تُرفع للحقّ راية وتُحقَّق للإسلام غايَة في مسالكِ القتل والتدمير؟!
أما قصدَت شريعتُنا الغرّاء إلى حفظِ الضرورات الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والعرض؟! فبأيّ كتابٍ أو سنّة تُستباح؟! فلعمرو الحقّ إنّه الباطل الصُراح. أمَا سعت إلى جلب المصالح وتكميلها ودرءِ المفاسد وتقليلها؟! أما قال المنتقِم الجبّار جلّ جلاله في جزاء من أزهقَ الأنفسَ المعصومة وسعى في الإفساد بكلّ غَدر وحيلة: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]؟! وقال جلّ اسمه: مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]، وقال سبحانه: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف:56]، وقال فيما أخرجه أحمد والبخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنّة))(1)[1]. أما أكَّد الإسلام على الوفاء بالعهد وحضّ عليه على مستوى الأفراد والدوَل؟! وما ذاك إلاّ لأنّه مناطُ استقرار الأحوال وسلامةِ البلاد والعباد من اللأواء والضّلال. وإنّ البشرية جميعًا لم تبلغ شأوًا مديدًا في الوفاء بالعهود إلا في تفيُّؤ ظلِّ الإسلام وكنَفه وتحت قِيَمه وحضارته، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟!
أمّة الإسلام، وعلى إثرِ هذه الشروخ والنّدوب التي لن تزعزِعَ شامخَ دِعامة أمنِنا الراسخ بإذن الله لا بدّ من التأكيد على منافاة هذه الأعمال المروّعة لِقيَم الإسلام السامية ومبادئه السمحة العادلة، وأنّ الأمّة بحاجة ماسّةٍ إلى سلوك منهَج الوسطيّة والاعتدال، ومجانبة مسالك العنف والضلال، يقول سبحانه: وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
لا بدّ من تحصين المجتمع واحتواء النّشء من كلّ فِكر دخيل ومنهجٍ هزيل إنْ جفاءً وإن غُلوًّا، قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة:77].
معاشرَ المسلمين، ها قد برح الخفاء، وأغنى العيان عن البيان، فكان في هذه البوائق إخبارٌ بأنّ وراءَ الأكمة ما وراءها، وأنّ البغاثَ بأرضنا يستنسر(2)[2].
وفي المنعرج الحرِج تُوجّه الدّعوة بإلحاحٍ إلى إيلاء قضايا الشّباب عنايةً خاصّة؛ إذ هم في الأمّة محطّ أنظارها ومعقِد آمالها، هم مشاعلُ الحاضر وبناة المستقبل بإذن الله، هم ذُخر الأوطان، وغيثُها المبارك الهتّان، فيجِب ـ ونحن أمّة ثريّة بحمد لله بدينها وقيَمها ـ أن نعملَ على إنشاء جيلٍ يحمِل مشعلَ الإيمان والعقيدة، ونورَ العقل والبصيرة، وبردَ الثقة واليقين، وسدادَ الفكر والرأي، واتّقادَ الذهن والضمير، وصفاءَ السيرة والسريرة، ليكون بإذن الله خيرَ مَن يغار على دينه وأمّته وبلاده ومقدَّراتها، يدفع عنها الأوضار، ويقيها بحول الله عاتياتِ الأشرار وعاديات الفتَن وهائجات المِحن.
وإنَّ علماءَ الأمّة ودعاتها وريثي الدعوة السلفيّة الإصلاحيّة المعتدلة وفَّقهم الله لهم خيرُ مَن يُمثِّل المصدرَ الإشعاعي الأوّل لهذا الجيل، خاصّةً في هذه الأزمة التي تتقاذفه فيها الأفكار المحرفة والمبادئ الدخيلة والمشارِب الضالّة، وفورةُ الشّباب وغلواؤه تحتاج مِن رُبّان التوجيه بلا شكّ إلى فتح الصّدور قبلَ تعليم السّطور، والنزول إلى ميدان التّوجيه وساحات الإرشاد وسدّ الثغور، مع لباقةٍ في التّعامل، وحِذق في التّوجيه، وحزم برِفق، وحَسم بأناة، ومكاشفات علميّة تبدّد الشبهاتِ بفنِّ الحوار، ولا سيّما في قضايا التكفير وضوابِطه ومفاهيم الولاء والبراء وطرائق التغيير والإصلاح وقضايا الإمامة والجهاد بين المشروع والمظنون ونحوها، في قالبٍ مشوق، يُعنى بأسلوب الخطاب واتِّزان الطرح وجودة المضامين ومخاطبةِ العقول قبل تأجيج العواطف؛ لأنّهم في مرحلةِ عاطفةٍ جيّاشة، لا تعرِف التّؤدةَ ولا الهُوينى، وفترةِ حماسة متدفِّقة لا تبالي بالمخاطر والعواقب، وسيتحقَّق لنا جميعًا بإذن الله ولوجُ هذا الفضاء الخيِّر الرّحب عند فتح روافد الحِوار الهادئ وقنواتِ التّواصل الهادِف، بكلّ وضوحٍ وشفافية ومصداقية وموضوعيّة، مع براعة في الطرح وسعةٍ في الأفق وعُمق في الحجّة وصدق في الرّؤى وحُسنٍ في الأساليب وفنٍّ في التّعامل، ووضع آلياتٍ عمليّة لعلاج الفراغ والبطالة لدى هذه الشرائح المهمّة في المجتمع، وقبل ذلك وبعدَه حسنٌ في النّوايا وسلامة في المقاصد والطوايا.
وأنتم أيّها الآباء والمربّون حرّاس الجيل والمؤتمنون عليه، أنتم بناةُ عقولهم ونفوسهم، أسِّسوها على مبادئِنا الإسلاميّة الأصيلة، أشربوهم عرفانَ نفاستها وقيمتِها، فإنّ من لم يعرف قيمةَ الثمين أضاعَه. ولمّا أن ضاعت من آحاد وفُقِدت من أفرادٍ كان ما كان من القلاقل.
كذلكم، أينَ دورُ وسائل الإعلام والتّقانات المدهشة التي فاقَتِ الوصفَ في الانعكاس والتأثير؟ فإنَّ لها القِدحَ المعلّى في تسديد الشّباب وتأييدِه باتجّاه الفضيلة، وتبصيرِه بالمزالق الخطِرة والمناهج الوعرة والزوايا الموبوءة والدسائس المخبوءة، حتّى لا يربِط الخصومُ الإسلامَ بالإرهاب، ويصفوا المسلمينَ بهذا الاتّهام المَشين.
إنّ المستقرئَ اللّبيب والمتأمّل الأريبَ ليقطع أنَّ أسبابَ الانحراف النشاز وصوره المتعدّدة ليست ذاتيةً ولا فطريّة في مَن درجوا بين مِهاد الحرمين الشريفين، وشبّوا على عقيدة التوحيد ومنهَج الدعوة الإسلامية، وترعرعوا تحتَ راية الشريعة الخفّاقة، وإنّما هي كسبيةٌ عارضة متسرِّبة، ومناهجُنا بل مباهجُنا المستهدَفَة أسمى وأرقى من أن تفرِزَ تلك العُررَ والأوضار.
فيا شبابَنا، يا أحبابَنا، يا فلذاتِ أكبادنا وثمرات فؤادنا، حيَّ هَلا ثمّ حيَّ هلا بكم لتستيقِنوا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ دينَكم الوسَط هو البرهان والنّور والفلَج والظهور، فلا يزهِّدنّكم فيه جهلةٌ مؤوِّلون، ولا مارقون معطِّلون، ولا مشبوهو الدِّخلة والنِّحلة، ولا أنصافُ المتعلِّمين مِن ذوي الفتاوى الشاذّة والأحكام الجائِرة الفاذّة.
واعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّكم في دياركم المباركة تتقلَّبون بين أعطافِ العيش السعيد، وتنعَمون بأوفرِ أسباب الأمن الوارفِ الرّغيد، سواء في داركم أم في حِلِّكم وترحالكم، وإنّ هذا النّداء المترَع بالحبّ والحنوّ ليستجيشُ فيكم مشاعرَ النّخوة والاعتزاز في أن تكونوا خيرَ رادةٍ في رياضه، وخيرَ ذادَةٍ عن حياضه، ترِدون قرضَه، وتحفظون بإذن الله مجدَه وأرضَه، ائتِساءً بنبيّكم وَسَيرًا على نهج سلفِكم الصالح رحمهم الله.
فاللهَ الله ـ أمّة الإسلام ـ في أداءِ الواجب الملقى على عواتقِنا جميعًا، في معالجة هذه الظواهر الخطِرة على مجتمعاتِنا واستئصال شأفتِها، وأن نكون يدًا واحدة وعينًا ساهرة في الحفاظ على دين الأمّة وأمنِها وبلادها، كما يجِب تجفيفُ منابع الشرور والإرهاب والإبلاغُ وعدمُ التستّر على كلّ من أراد تعكيرَ أمن المجتمع أو الإخلال باستقرار البلاد والعباد أو السعي في الأرض بالفساد، وأن لا يُستجرَّ شباب الأمّة إلى منحدراتٍ فكريّة سحيقة، وأن يلتحِموا مع ولاتِهم المسلمين وعلمائِهم الربانيّين ودعاتِهم المصلحين النّاصحين.
لقد آن الأوانُ بعدَ هذا كلّه أن تضطلِعَ الأمّة بمشروع إسلاميٍّ حضاريّ لمعالجة ظواهِر العُنف والإرهاب عبرَ هيئات إسلاميّةٍ عالميّة متخصِّصة عُليا، تنبثقُ منها مراكز أبحاثٍ علميّة وقنواتُ حوار معرفيّة، ويتولّى فيها أهلُ الاختصاص في أمور الشريعة والأمن والتربية والنفس وعلم الاجتماع دراسةَ هذه الظواهر وعلاجَها علاجًا ناجعًا، حتى لا تقابَل الأفعال بردود أفعال موقوتَة، وأن لا يُنظرَ إلى النتائج في غفلةٍ عن البواعثِ والأسباب والمقدِّمات، وأن تعالجَ الأفكار المنحرفة بأفكارٍ صائبة حتّى تسلمَ البلاد والعباد من عواقبها وشرورها ولأوائها.
ألا فلتسلمي يا أرضَ الحرمين الشريفين، ولتهنئي يا موئِلَ العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضلِ الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسُّكًا وأشدّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع وأنموذجًا يحتذَى ومَثلاً يُقتفى في الأمن والإيمان، وشاهَت وجوه الأعداء المتربّصين، وخسِئت أعمال المعتدِين المفسِدين المجرمين، وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وحفِظ اللهَ بلادَنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأسأل المولى جلّ وعلا أن يغفرَ لي ولكم فضلاً منه وجودًا ومنًّا، لا باكتسابٍ منّا، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّ ربّي لغفور رحيم.

-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، فكلّ عَمل بالتّقوى يزكو ويرقى، وعليكم بالجماعة؛ فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها المسلمون، وفي غِمار المُلِمَّات والأحداث تظهَر كعادتِها أفاعٍ من بين الصخور والأجداث، تنفث سمومَها، وتؤذِي بفحيحِها، ويهرع المتصيّدون في المستنقعات الآسِنة لترشق نصالهم المفتريةُ ثوابتَنا وقيَمنا، ناسبين هذه الأدناس إلى عامّة الصفوةِ والخيرة من النّاس، من أهل الخير والصلاح، في إساءةٍ للدين، ونيل من الصالحين، وسخرية بالمتديِّنين، واتّهامٍ لمناهجنا التعليميّة ومؤسَّساتنا الشرعيّة الدعويّة والاحتسابية والخيريّة. وايمُ الله إنّ هذا لمِن أبطل الباطل، أطرِق كَرا إنّ النَّعام لفي القِرى(3)[1]، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، ولا يُظنّ بشبابِنا وأبنائنا في جملتهم إلا الخَير والولاء إنصافًا وتقريرًا، لا حيفًا وتبريرًا.
ومِن فضل الله وعظيم آلائه أن خصّ بلادَنا بسماتٍ ومزايا أهّلتها للطّليعة من بين دوَل العالم بحمد الله، يأتي في قمّة خصائصها قيامُها بأمر هذا الدّين، وتحكيمُها لشرع ربّ العالمين، ودعم ومؤازرة العلماء الراسخين والدعاةِ المصلحين، وإعزازُ جانب الحسبة ورجالاتِها، ودعم هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجالاتها، وتأكيدُ ولاتِها ومسؤوليها إنّ هذا من أعظمِ مقوّمات كيانِها، ممّا كان بلسَمًا على قلوب المؤمنين وسدًّا للمجال أمام كلِّ دعيٍّ متحذلق وكلّ قلمٍ مأفونٍ متشدِّق، يظهر في الأزمات، ويبرز في المصائب والملمَّات، لينكأ الجراح، ويعكّر الماءَ القراح، في صورةٍ انتهازيّة مقيتة ونفعية بغيضة وشِنشِنة أخزميّة مفضوحة، يتباكَون بدموع التماسيح على سفينةِ الأمّة وهم يخرقونَها، ويصيحون ويتضاغَون على مصيرها وهم يُغرقونَها، يُخرجون المكنونَ ويتشفَّون، وينوحون نَوح النائحةِ المستأجَرَة، في لونٍ من ألوان التّطرّف الفكريّ والشّطط الثقافيّ والتحامُل الصحفيّ والإعلاميّ الذي يستميتُ في الحوار مع الآخر الغريب، ولو أدّى ذلك إلى عطَبِ الحبيب القريب.
فحذارِ حذار من توسيع الهوّة، والجدَّ والجدّ في ردم الفجوة، والمزيدَ المزيد من بَذل المجهود لإعزاز الدّين وأهلِه، توحيدًا للكلمة، ورصًّا للصفوف، وَسَيرًا في دروب الصلاح والإصلاح، وتمسُّكًا بعُرى قيادتِنا الشرعيّة والعلميّة، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى في أصدق قيله ومحكمِ تنزيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين...

__________
(1) أخرجه البخاري في الجزية (3166).
(2) البغاث بفتح الموحدة وضمها وكسرها: ضرب من الطير، والجمع بغثان، ويستنسر أي: يصير نسرا فلا يُقدر على صيده، يضرب في قوم أعزاء يتّصل بهم الذليل فيعز بجوارهم. انظر: المستقصى في أمثال العرب (1/402-403)، ومجمع الأمثال (1/10).
(3) الإطراق أن يطأطئ عنقه ويسجد ببصره إلى الأرض، وكرا ترخيم كروان وهو ذكر الحبارى ويكون طويل العنق، يقال له ذلك إذا أريد اصطياده، أي: طأطئ واخفض عنقك للصيد فإن أكبر منك وأطول أعناقا وهي النعام قد اصطيدت وحملت إلى القرى. يضرب لمن يتكبّر وقد تواضع من هو أشرف منه. انظر: المستقصى في أمثال العرب (1/221-222).




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-07-07, 03:45 PM   #5
رقية
معلمة بمعهد خديجة
افتراضي

فخ العولمة

ملخص الخطبة
دعوة العولمة , معناها وخطورتها – بعض مظاهر العولمة – محاذير الإنترنت – المؤتمرات والمؤامرات ( السكان , المرأة .. ) – المنظمات الدولية ودورها الخبيث – أثر الاقتصاد وخطورة الاقتراض من الدول الكافرة – كيف نواجه العولمة
-------------------------
الخطبة الأولى
عباد الله: إن فخا عظيما ينصب لأمة الإسلام اليوم يراد لها أن تقع فيه فتضمحل في غيرها وتفقد خصوصيتها وتخسر خيريتها وشهادتها على الناس إنه فخ العولمة الذي تنصب شراكه هذه الأيام شعاره المصير الواحد للبشرية هدفه إزالة الحواجز الدينية والأخلاقية وتذويب الفروق بين المجتمعات الإنسانية المختلفة وإشاعة القيم المشتركة التي يراد لها أن تجمع البشر بزعمهم وسيادة المال وحرية التجارة عبر الدول والنفاذ إلى المجتمعات بعيدا عن هيمنة حكوماتها فتضعف بذلك السلطات المحلية ويحل محلها سلطات أخرى تنتظم مجموعة الدول التي وقعت في الشراك عبر شركات كبرى تجوب الأرض طولا وعرضا لا تعوقها حدود ولا تضايقها قيود ولا تراعي خصوصيات لبلد لسان حالها من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ومن مظاهرها التي تم شيء منها وبعضها في الطريق شبكات المعلومات العالمية الإنترنت والتي يصعب السيطرة عليها إلا بإلغاء نظام الإتصال أصلا وهذا لا تفكر أي دولة بالإقدام عليه أما الرؤى والأخلاق والثقافات والمواقف التي تطرح عبر هذه الشبكات فهي بمنأى عن سيطرة الدول وتحكمها وفيها من الإختلاط والتوصل إلى الشعوب ما ينذر بخطر عظيم على ما فيه من خير لا يتطلبه إلا علماء الناس وحكماؤهم وما أكثر الناس بعالمين ومن مظاهرها المواطئة لها شبكات الإتصال والإعلام عبر الأقمار الصناعية من خلال أطباق الإستقبال التي تعلو كثيراً من بيوت المسلمين وتنشر فيهم ثقافات وقناعات وتغرس في أبنائهم وبناتهم قيما ومبادئ وأخلاقا ما كان يعرفها أحد من آبائهم المحافظين حتى أصبح ما يشبه إنفصاما نكدا بين ثقافة الوالدين وقناعاتهم وقيمهم وأخلاقهم وبين كل ذلك في الأولاد واستسلم كثير من الأولياء وأعلن عجزه عن تربية أولاده وما ذاك إلا لأن هناك من يزاحمه بل من يبعده ويحتل موقعه في تربية فلذات كبده وهي هذه القنوات التي تصب عليهم بالليل والنهار أخلاقاً وقيماً ومبادئ وأفكاراً مستمدة من قيم وأفكار ومبادئ القائمين عليها وأكثرهم من اليهود ومن شايعهم من الصليبيين ومنها هذه المؤتمرات التي تعقد بين الفينة والأخرى بهدف فرض رؤى العولمة بفرض رؤى غريبة عن المجتمعات الإسلامية حتى تفقد هويتها وتضمحل في غيرها ومنها مؤتمر السكان بالقاهرة والذي تدخل في أمور شرعية هي من المسلمات عند المسلمين وقاطعته هذه البلاد والحمد لله واستنكره في حينه علماؤنا في هذه البلاد وفي مصر ولله الحمد وفي كثير من بلاد المسلمين ثم مؤتمر السكان بلاهاي ومؤتمر المرأة ببكين ومؤتمر الإسكان بإسطنبول وكلها نوع من العولمة لقيم غريبة غربية محددة لسحب المجتمع الدولي والمجتمع الإسلامي بخاصة إلى الوحل الأخلاقي والإجتماعي الذي انحدر إليه الغرب فالأسرة في المجتمعات الإسلامية تعد ركيزة إجتماعية متماسكة قوية وهي في الغرب تعد من مخلفات الماضي ولذا يحرصون على هدم هذه الركيزة عند المسلمين عبر هذه المؤتمرات عبر إخراج المرأة من تميزها النوعي والإنساني والكثافة السكانية وهي قوة بشرية يتمتع بها العالم الإسلامي تمثل هاجساً مخيفاً للغرب يسعى لتقليصه عبر هذه المؤتمرات وتوصياتها أما الوسائل التي عن طريقها تفرض رؤى العولمة فهي المؤتمرات والمنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والمجلس الإقتصادي والإجتماعي ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسكو وغيرها إن المال والإعلام هما السلاحان النافذان في عصر العولمة فمن ملكهما كانت له السيطرة والنفوذ وقد قال أحد حكماء الغرب قبل خمسمائة عام : إذا حاربت بسيف المال فستكون الغالب دائما وقد أخبرنا الله تعالى عن هذا عن اليهود ونظرتهم إلى المال فقال جل وعلا عن قولهم في طالوت: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال وقال جل وعلا عن المنافقين: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا إن من ملك المال والإعلام هو من سيفرض مفاهيمه وقيمه ومبادئه على الآخرين في عصر العولمة وهو الذي سيحدد المعايير ويدفع الهيئات والمؤسسات نحو ما يريد وسيعمل لتحقيق مصالحه خاصة إنه الغرب وعلى رأسه أمريكا فهو الذي سيبقى مسيطرا في عصر العولمة إلى درجة العمل على إفناء الآخرين وإلغائهم ومن عدى الغرب سيصبح مجرد حشو يمكن توظيفه لصالح المستفيد الأول من العولمة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر لله على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله يجب ألا يعزب عن أذهاننا أن تدخل إنجلترا واحتلالها لمصر في القرن الماضي واحتلال فرنسا لتونس في القرن الماضي أيضا هو عن طريق القروض التي أوجدت بتراكمها والعجز عن سدادها أوجدت الذريعة للتدخل السافر للمستعمر وبسبب الديون التي بدأت بتشجيع من الغرب عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذين يعملان على إغراق الدول المستهدفة بالديون بسببها أصبح إقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً وما كوارث الدول الإسلامية في جنوب شرق آسيا عنا ببعيد والدول العربية وهي إحدى الدول المستهدفة بالعولمة بلغت ديونها الآن مائتان وخمسون مليار دولار وهي تتزايد ربا بمقدار خمسين ألف دولار في الدقيقة الواحدة فيا لهول الأمر وعظم الفاجعة ولعلنا إن شاء الله في خطب لاحقة نكمل الحديث عن خطر العولمة ونبين جوانب الضعف فيها التي لو أحسن المسلمون إستغلالها لقلبوا السحر على الساحر ونبين واجبنا تجاهها ونقول ما قال ولي العهد في تصريحه لا لعولمة الفساد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-07-07, 05:55 PM   #6
فراشة مسلمة
جُهدٌ لا يُنسى
افتراضي

بارك الله فيكِ حبيبتى رقية وجعلها الله فى ميزان حسناتك
فراشة مسلمة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-07-07, 02:35 PM   #7
رقية
معلمة بمعهد خديجة
افتراضي

آمين وإياكِ حبيبتي

شكرا على المرور
ورزقت الجنة
رقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-07-07, 02:45 PM   #8
رقية
معلمة بمعهد خديجة
n2 الدعوة إلى تحرير المرأة

الدعوة إلى تحرير المرأة

ملخص الخطبة
دور العلمانيين والمنافقين في إفساد العقيدة وترويج الفساد , والانحلال – أسلوبهم في إضلال الأمة وإفساد النساء وتدرجهم – مخططات إفساد المرأة السعودية – تاريخ الدعوة لتحرير المرأة بزعمهم – خروج المرأة للعمل , ضوابطه ومخاطره وآثاره على الأسرة والمجتمع
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله: لا يزال المنافقون من أهل العلمنة والتغريب ومن اغتر بدعواهم يطالعوننا المرة بعد المرة بأقوال وآراء عبر صحفنا اليومية تخالف ثوابتنا الشرعية ومسلماتنا الإعتقادية يلبسون لبوس الغيرة على الدين أحيانا ولبوس النهضة بالاقتصاد أحيانا أخرى ويطرحون أفكارا خاوية لا تتفق وواقعنا المحافظ على دينه وما هم إلا حفنة قليلة من المتأثرين بالغرب اللاهثين خلف ما يفد منه ولو كان فيه حتفنا ولو كان الغرب قد ذاق مرارته ونادى بالويلات والثبور من جرائه فيصدق عليهم بذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) إن هؤلاء المسعورين من العلمانيين والمستغربين ومن سار في فلكهم ممن يتباكون على وضع المرأة في بلادنا هم أعداء المرأة حقا ولعلمهم بواقع مجتمعنا واختلافه عن سائر المجتمعات التي عانت من الاستعمار دهورا فإنهم يتسللون بأفكارهم التحررية ودعوتهم للانحلال من خلال قضايا شرعية يحاولون أن يجعلوها مجال نقاش وأخذ ورد فحين يطالب أحدهم مثلا بالبخنق الذي تلبسه نساء ماليزيا أترونه صادقا في مطالبته هل سيرضى بالوقوف عند هذا الحد أم أنها خطوات الطريق الطويل اللاحب الذي يراد جر المرأة إليه في بلادنا وهل قدوته ماليزيا حقا أم إن قدوته هناك حيث العري والاختلاط والعار والشنار وهل واقعه الآن يشهد بحسن سيرته وطيب طويته وسلامه مشربه أم هو بحاجة إلى إصلاح حاله ثم من نصبه وكيلاً لبنات آدم يطالب لهن بحقوقهن بزعمه ثم ينسف في طريقه مسلمات شرعية وثوابت عقدية بصريح العبارة أو بتلويحها ولحنها: أم حسب الذين في صدورهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم لقد طار العلمانيون والمستغربون ومن انخدع بهم بكلمة قالها ولي العهد وعلق عليها مصدر لم يصرح باسمه نشر تعليقه في جريدة الشرق الأوسط وجريدة الحياة ومما جاء في تعليقه: إن الكلمة المشار إليها تعد الطلقة الأولى للحوار حول المرأة السعودية وتحريك دورها وتابع يقول: إن البعض يتناول قضايا هامشية وقشور مثل قيادة المرأة للسيارات وغطاء الوجه فالموضوع الأول تمت مناقشته في مجلس الشورى وهي قضية تقنية بحاجة مثلا لشرطة نسائية تتولى تنظيمها وأما الثاني فهي قضية خلافية هكذا يقول هذا المصدر الذي لم يصرح باسمه وتابع قائلا: وإذا أردنا مجتمعا دون اختلاط فإننا سنخلق مجتمعاً منقسماً وشاذاً وزاد: حان الوقت لمساهمة المرأة السعودية في المسيرة التنموية وحرص هذا المصدر على تأكيد أن الدين الإسلامي دين يخاطب الجميع وقال: لا وجود لكهنوتية في السعودية هكذا قال هذا المصدر المجهول ولنا مع تصريحه الذي قد جاء بيان يرد عليه بيان توضيحي لكلمة ولي العهد يتبرأ من كل التعليقات التي نسبت إليها والتي تعد نفسها شرحا لها لنا مع هذا التصريح عدة وقفات أولها يلمس أن هناك توجها لبحث قضايا محسومة في هذا البلد من قبل هيئة كبار العلماء تتعلق بالمرأة وطرحها للمفاوضة والنقاش والاعتراض ثانيا وصف القضايا الشرعية كالحجاب ونحوها بأنها قشور وأمور هامشية مما يدعو إلى التوجس والخوف من تلك الدعاوى وإن ألبست بلباس الدين. ثالثاً: الزعم بأن موضوع قيادة المرأة للسيارة تمت مناقشته في لجنة الشورى رغم أنه صدرت فيه فتوى شرعية رسمية وهذا الزعم باطل فقد صرح وزير الداخلية لجريدة اقتصادية بأنه لا توجد أي رغبة أو توجه لدى الدولة بشأن السماح للمرأة بالقيادة في السعودية وبأنه ليس هناك دراسة بهذا الخصوص وأن كل مجتمع له خصوصياته وكأي أمور أخرى تخضع لهذه الاعتبارات لكن أعود وأؤكد أنه لا توجد أي دراسة حول هذا الموضوع انتهى كلامه رابعا أن عمل المرأة الذي يدعى له ويراد فتح أبوابه هو عمل في محيط الرجال وميادينهم كما جاء في التصريح إننا إذا أردنا مجتمعا دون اختلاط فسنخلق مجتمعاً منقسماً شاذاً هكذا قال المصدر المجهول خامسا إلغاء دور المرجعية الدينية والرجوع في كل أمر إلى كتاب الله وسنة رسوله بقوله: لا كهنوتية في السعودية وفي ذلك نسف للثوابت الشرعية وقد تتابعت المقالات الصحفية من جملة من المستغربين من أبناء وبنات هذا المجتمع رغم صدور بيان يرد ويوضح كلمة ولي العهد ويتنصل من كل المقالات التي تعلقت بها رغم ذلك كله فقد تتابعت المقالات من المستغربين في الصحف ومما تضمنته هذه المقالات استغلال كلمة ولي العهد وتوجيهها حسب توجههم المنحرف وجعلها توطئة لعرض ما يريدونه ومن ذلك أن المقالات تضمنت الدعوة الصريحة لتحرير المرأة وتغريبها ورفع الظلم والضيم الذي تعانيه من مجتمعها حسب زعمهم حتى قال بعضهم: المرأة لا تملك الصلاحيات في اتخاذ أبسط القرارات وقال آخر من هؤلاء المستغربين: عمل المرأة كمعلمة بطالة مقنعة وهدر للأموال وقال ثالث : لن تتقدم أمة نصفها مصاب بالشلل شل الله يمينه ويلحظ تبرم واستياء تلك الفئة المنحرفة من حال مجتمعنا المحافظ والدعوة إلى تغيير أوضاعه حتى قال بعضهم: حال المرأة يدعو إلى الرثاء وضع النساء في مجتمعنا لا يطابق المعايير التي يتفق عليها العقلاء النساء في مجتمعنا لا يحصلن على حقوقهن المرأة لا مكان لها في مجتمعنا نساؤنا في العالم العربي لا يتحدثن عن حقوقهن كي تعود المرأة إلى الإنتاج فإننا في حاجة إلى الكثير من الكلام الصريح اللهم أكفنا شر الأشرار وشر الفجار اللهم من أرادنا والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله لقد بدأت حركة ما يسمى بتحرير المرأة قبل مائة عام أي في عام ألف وثمانمائة وتسع وتسعين للميلاد حيث خرج كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين الذي دعا فيه المرأة إلى السفور ونبذ الحجاب واختلاطها بالرجال ولم يكن في ذلك الوقت في مصر امرأة تختلط بالرجال سوى امرأة واحدة هي ناظلي فاضل حفيدة محمد على باشا وفي تركيا دعا أحمد رضا عام ألف وتسعمائة وثمانية للميلاد أي قبل تسعين سنة إلى إفساد المرأة حيث قال ما نصه: ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة على جسر غلطة وهو جسر في تركيا وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية فهكذا دعا هذا الأثيم إلى سفور المرأة قبل تسعين عاماً تقريباً ولكن انظروا ما يحدث الآن حيث وصل الحال إلى إنشاء المراقص وبيوت البغاء وكل أنواع الشرور كما هو مشاهد ومعلوم في بعض البلاد نسأل الله أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه وإن كثيرا من الكتابات التي نطالعها على صفحات جرائدنا إنما هي نسخة مستلة من دعوة قاسم أمين وهي طبق الأصل من كتاباته وأفكاره هو وأضرابه دعاة السفور والاختلاط وإن عمل المرأة بالصورة التي ينادون بها له من المفاسد الشيء الكثير فمما نذكره باختصار إهمال الأسرة وتمزيق أركانها وتضييع النشء وإفساد الأولاد وكثرة حالات الطلاق وكثرة حالات العنوسة في المجتمع وتحديد النسل إذ أن المرأة العاملة تضطر لإيقاف الإنجاب مراعاة للوظيفة والتضييق على الرجل في الحصول على الوظيفة وهذا مشاهد ملموس بل الواقع يشير إلى بداية ظهور البطالة في المجتمع في أوساط الرجال والرجل مطالب بالعمل لكونه مطالب بالنفقة على المرأة ومن ذلك كثرة السائقين والخادمات والمربيات ومن ذلك ما تحدثه من أثر نفسي على الأطفال نتيجة تنشأتهم في دور الحضانة ومنها أنه لا عائد مادي من عمل المرأة إذ أنه سيصرف في تبعات ذلك خادمة أو مربية أو سائق وسيارة وغيرها من المصاريف ومنها تسهيل اللجان بالفساد والانحراف الأخلاقي وما يتبع ذلك من هتك الأعراض وضياع الحرمات أما بالصورة المحافظة فإن الآثار تكاد تنعدم وبالجملة فمن أراد أن يعرف آثار عمل المرأة بالصورة التي ينادي بها العلمانيون فلينظر إلى المجتمعات التي سبقت إلى مثل هذا العمل وما حل بها من فساد وانحراف يوجب على العقلاء من أبناء هذا المجتمع السعي لكف هذا الشر عن المسلمين ويتعين على الجميع بذل الجهود لحفظ المجتمع وصيانة الأمة من خلال السعي على الحفاظ على خصوصية تعليم المرأة وعملها في هذه البلاد بمنع الاختلاط في التعليم والعمل والسعي الجاد إلى إقرار التقاعد المبكر للمرأة والعمل بنظام الساعة والعمل بهذين الأمرين سيغلق الباب أمام تلك المطالبات والخطوات إذ أن قلة الوظائف المطروحة للمرأة هي حجة أولئك في مطالباتهم ومن ذلك إعادة النظر في سنوات تعليم المرأة وعملها بما يتوافق مع طبيعتها ويتلاءم مع وظيفتها الأساسية كأم وزوجة ومن ذلك إنشاء مستشفيات نسائية خاصة تراعي حرمات المرأة ومن ذلك تعديل مناهج التعليم في المراحل كلها من الإبتدائية إلى الجامعية بما يوائم طبيعة المرأة ويخالف الرجال وفي الختام نسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-07-07, 02:58 PM   #9
اختكم فى الله
~صديقة الملتقى~
افتراضي

جزاك الله خيرا اختى رقيه
اثابك الرحمن



توقيع اختكم فى الله
[IMG]http://www.up99.com/giffiles/nn686987.gif[/IMG]


[CENTER][SIGPIC][/SIGPIC][/CENTER]

[COLOR="DarkOrange"][CENTER]قال الحسن البصرى"ياابن ادم انما انت ايام....
اذا ذهب يومك ذهب بعضك....[/CENTER][/COLOR]
اختكم فى الله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-07-07, 03:00 PM   #10
رقية
معلمة بمعهد خديجة
Lightbulb المجادلة بالباطل في آيات الله

المجادلة بالباطل في آيات الله

ملخص الخطبة
المجادلة في الله بغير علم من أعظم أسباب مقت الله , والآيات في ذلك – صفات المجادلين بالباطل – كيف تواجَه شبه الملحدين في رفضهم التحاكم إلى الشريعة – خطورة المجادلة عن المسرفين وأهل الباطل
-------------------------
الخطبة الأولى
عباد الله: إن من أعظم أسباب مقت الله وغضبه المجادلة في الله بغير حجة من الله والمحاجة في دينه بغير هدى منه سبحانه فتلكم يا عباد الله توجب غضبه سبحانه ومقته وتوجب طبعه على قلب صاحبها فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً وهو الضال الذي ذمه الله بقوله: كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ثم بين سبحانه وتعالى من هو المسرف المرتاب في الآية التي بعدها: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم فالمسرف على نفسه المتجاوز قدره الطاغي في شؤونه المرتاب في دينه فلا يقين عنده بوعد الله ووعيده ولا يقين عنده بحكم الله وشرعه ولا يقين عنده بقضاء الله وقدره هم الذين يجادلون في آيات الله الظاهرات البينات التي تتلى من كتابه أو أحاديث رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الثابتة عنه تتلى عليهم فيجادلون فيها بمخاريق من القول وزور من الكلام وهجر من الحديث يجادلون فيها بغير حجة ولا سلطان إلا ما جاء عن الله أو عن رسوله فالحجة والسلطان والبرهان فيهما وكل ما عدا الكتاب والسنة فراجع إليهما ثم يبين سبحانه شدة وعيد من كان هذا شأنه بقوله جل وعلا: كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا أي والله إن الله سبحانه ليمقت على ذلك أشد المقت ويغضب أشد الغضب على من يجادل في آياته البينات الباهرات وحججه الساطعات بموروثات من الأسلاف أو ضغوط من الواقع أو استسلام للعادات وكل هذه ترهات لا يجوز لمسلم أن يجادل بها في آيات الله ثم بين جل وعلا أن من كانت هذه صفته يطبع الله على قلبه فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً ولذلك قال سبحانه: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وكم رأينا من ذلك أصنافا ممن يجادل في آيات الله بغير سلطان حتى وصل ببعضهم الحال إلى ما قص الله في كتابه فصار مطبوعاً على قلبه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا فالمعروف عنده هو ما عرفه واشتهاه والمنكر عنده ما كرهه وخالف هواه ولو كان هو مراد الله فالكبر هو الحامل له على إتباع الهوى والمجادلة في آيات الله بلا حجة ولا برهان: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه .
قال ابن كثير رحمة الله عليه: أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله فهؤلاء إن في صدورهم إلا كبر عن اتباع الحق واحتقار لمن جاء بالحق وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع وقولهم وقصدهم هو الموضوع انتهى كلامه رحمه الله فقوله جل وعلا: ما هم ببالغيه أي لن يبلغوا مرادهم وقصدهم وهو إزهاق الحق وإعلاء الباطل فهي كقوله جل وعلا: أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون وقوله سبحانه: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون وقوله سبحانه: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وقوله جل شانه: وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقوله سبحانه: وما كيد فرعون إلا في تباب أي في خسار وغيروا من الآيات الدالة على أن مجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحق ستبوء بالخسران وتنتهي بالخيبة والعاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين.
عباد الله: إن شمس الرسالة إذا سطعت على شبه الملحدين والمضلين أحرقتها وجعلت أهلها في ذهول لا يحرون جواباً فكيف إذا انضاف إلى حجج الله الواضحات وآياته البينات كيف إذا انضاف إليها التطبيق العملي لهذه الشرائع والنموذج الواقعي من ثلة مؤمنة تأخذ بها والامتثال الفعلي لتلك التكليفات عندها تعظم الحجة حيث صارت آية وتطبيقا وحديثا وواقعا يعيشه الناس حين تستجيب أمة من الناس لشريعة الله فتطبقها في واقعها يكون هذا ردا عمليا على من يزعمون أن شريعة الله غير قابلة للتطبيق وأنها مثل عليا لكنها مستحيلة التطبيق في دنيا الناس ولذا كان جرم من يحاج في آيات الله بعد استجابة المؤمنين بها لله جرما عظيما واستحق الغضب من الله والعذاب الشديد إضافة إلى ضحود حجته وبطلانها حيث كذبها الواقع الذي يكذبه من استجابوا لهذه الآيات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له أي من بعد ما استجاب له فريق من عباده المؤمنين ومع ذلك تجد فريقا من المعاندين المجادلين يحاجون فيها ويزعمون عدم إمكانية الاستجابة لها: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد فيا عباد الله علمنا أن من أعظم أسباب سخط الله ومقته وغضبه المجادلة في آيات الله بعد وضوحها وقيام عباده الصالحين بها واستجابتهم لها وأن ذلك من أسباب العذاب الشديد في الآخرة وضحود الحجة وانكسارها في الدنيا عباد الله إن من الناس فريقا عافاهم الله من هذه الحال فاستجابوا لله في ذواتهم وطبقوا شرعه في أنفسهم ورضوا حكمه في خاصتهم ولكن منهم من باع دينه بدنيا غيره ووقع فيما نهى الله عنه في قوله: ولا تكن للخائنين خصيما فأخذ يخاصم لصالح الخائنين المفسدين في الأرض وبقوله جل شأنه: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً .
فالنجاة النجاة يا أهل الصلاة ممن وفقكم الله للتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حذار من المجادلة عن المسرفين في الأرض الذين يبغونها عوجا وقد بغاها الله دينا قيما ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين فالنجاة النجاة يا عباد الله من حال هؤلاء فيا من من الله عليه بالتزام شرعه فليتوج ذلك بمجانبة الزائغين ونصحهم وإرشادهم والأخذ بأيديهم ودلالتهم إلى الطريق المستقيم بدلا من المجادلة عنهم وتبرير واقعهم والتماس المعاذير لهم أو ليلزم نفسه ولا يوردها موارد الهلكة بالمجادلة بالباطل عن من يختانون أنفسهم فيحشر في زمرتهم فالمرء مع من أحب يوم القيامة





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

(View-All Members who have read this thread in the last 30 days : 0
There are no names to display.

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ملخص ترجمة مختصرة للشيخ عبد الرحمن السحيم - حفظه الله - محبة كتاب الله مادة تفسير آيات الأحكام 1 0 17-01-14 05:22 PM
حكم بعض التواقيع التي تحوي آيات كريمات << للشيخ عبد الرحمن السحيم أم خــالد دروس وملحقات 27 06-12-13 05:41 PM
حكم بعض التواقيع التي تحوي آيات كريمات << للشيخ عبد الرحمن السحيم أم خــالد روضة الفقه وأصوله 8 20-06-08 07:29 AM


الساعة الآن 04:23 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024,Jelsoft Enterprises Ltd.
هذه المنتديات لا تتبع أي جماعة ولا حزب ولا تنظيم ولا جمعية ولا تمثل أحدا
هي لكل مسلم محب لدينه وأمته وهي على مذهب أهل السنة والجماعة ولن نقبل اي موضوع يثير الفتنة أو يخالف الشريعة
وكل رأي فيها يعبر عن وجهة نظر صاحبه فقط دون تحمل إدارة المنتدى أي مسؤلية تجاه مشاركات الأعضاء ،
غير أنَّا نسعى جاهدين إلى تصفية المنشور وجعله منضبطا بميزان الشرع المطهر .