العودة   ملتقى طالبات العلم > . ~ . أقسام العلوم الشرعية . ~ . > روضة العلوم الشرعية العامة > روضة القرآن وعلومه

الملاحظات


إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-02-25, 03:00 AM   #2
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Home

تفسير سورة آل عمران
مما ورد في فضلها:


عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ"اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ. قالَ مُعاوِيَةُ: بَلَغَنِي أنَّ البَطَلَةَ: السَّحَرَةُ"صحيح مسلم.
الزَّهْراوَيْنِ: المنيرتان/ غَمامَتانِ :سحابتان / غَيايَتانِ: كل ما أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيرها. / فِرْقانِ:طائفتان / صَوافَّ: جمع صافة، وهي الجماعة الواقفة على الصف, أو الباسطات أجنحتها متصلا بعضها ببعض./تُحاجَّانِ: من المحاجة: وهي المخاصمة والمجادلة وإظهار الحُجَّة، والمعنى: تجادلان عنه عند السؤال, أو تدافعان عنه الجحيم والزبانية./ البَطَلَةُ: السحرة. اقرؤوا القرآن وداوموا على تلاوته؛ فإنه يشفع يوم القيامة لأصحابه التالين له العاملين به، واقرؤوا على الخصوص سورة البقرة وسورة آل عمران فإنهما يسميان الزهراوان أي المنيرتان؛ لنورهما وهدايتهما وعظم أجرهما، فكأنهما بالنسبة إلى ماعداهما عند الله مكان القمرين من سائر الكواكب، وإن ثواب قراءتهما يأتيان يوم القيامة على صورة سحابتين تظلان صاحبهما من حر يوم القيامة، أو يأتي ثواب قراءتهما على صورة جماعتين من طير واقفات في صفوف باسطات أجنحتها متصلا بعضها ببعض، تدافعان عن أصحابهما وتدفعان عنهم الجحيم. ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة سورة البقرة؛ فإن المواظبة على تلاوتها والتدبر في معانيها والعمل بما فيها بركة ومنفعة عظيمة، وترك هذه السورة وعدم قراءتها وتدبرها والعمل بما فيها حسرة وندامة يوم القيامة، وإن من عظيم فضل هذه السورة أن السحرة لا تقدر أن تضر من يقرأها ويتدبرها ويعمل بها، وقيل: لا يقدر السحرة على قراءتها وتدبرها والعمل بها ولا يوفقون لذلك.موسوعة الأحاديث.
تعظيمُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم لقارِئ البقرةِ وآلِ عِمْرانَ:

فعن أنس رضِي اللهُ عنه، قال"كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا- يعني: عظُمَ- وفي رواية: يُعَدُّ فينا عَظيمًا، وفي أخرى: عُدَّ فينا ذا شأنٍ" صحَّحه الألباني في :صحيح الموارد- 1268.
سورةُ آل عِمْرانَ سورةٌ مدنيَّةٌ، نزلَتْ بعد الهجرةِ، ونقَل الإجماعَ على ذلك عددٌ من المفسِّرين. نقَل الإجماعَ على ذلك: القرطبيُّ, وابنُ تيمية, وابنُ كثير، ومجدُ الدِّين الفيروزابادي, وابنُ عاشور. ينظر: ((البداية والنهاية)) (3/104), ((تفسير القرطبي)) (4/1), ((منهاج السنة النبوية)) (6/422)، ((البداية والنهاية)) (3/104), ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) (1/158)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/146). وقد نزَل صدْرُ سورة آل عِمْرانَ إلى ثلاثٍ وثمانينَ آيةً في وَفْدِ نَجْرانَ؛ ولهذا كان عامَّة السُّورة في شأن المسيح عليه السلام، وكان قُدومُهم سنةَ تِسعٍ من الهجرةِ. ينظر: ((تفسير القرطبي)) (4/4)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/377)، ((تفسير ابن كثير)) (2/5).موسوعة التفسير-الدرر السنية.
موضوعاتُ السُّورةِ:
تعريف بسورة آل عمران:
سبق في تفسير سورة البقرة وقلنا إن سورة البقرة بتتكلم عن إقامة الدين وبناء المجتمع لكن سورة آل عمران بتتكلم عن الحفاظ على هذا الدين ، بتتكلم عن الحفاظعلى هذا المجتمع من الهدم ، جاءت سورة آل عمران لتوضح كيف نحافظ على هذا البنيان الذي بنيناه في سورة البقرة ؟ كيف نثبت على هذا الدين ؟ كيف نُواجه الشبهات ؟نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين الإسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم.

سورة آل عمران هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة.وتبلغ آياتها مائتي آية.
وسميت بسورة آل عمران، لورود قصة آل عمران بها بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد في غيرها.والمراد بآل عمران عيسى، ويحيى ، ومريم وأمها عليهم السلام.والمراد بعمران والد مريم أم عيسى- عليه السّلام-.
وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نصارى نجران التي تقع جنوب مكة في اتجاه اليمن ، وكان هذا الوفد مؤلفًا من ستين رجلا، وكانوا قد وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يناظرونه في شأن عيسى ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم بالبراهين الساطعة . وقد لبثوا في المدينة المنورة أيامًا، فلما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، امتنعوا، وكثر جدالهم في عيسى عليه السلام، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، أي الدعوة إلى أن يبتهل كل طرف إلى الله عز وجل أن يجعل لعنته على الطرف الكاذب، فخافوا وأبوا. تفسير الوسيط.وإسلام ويب.
نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين الإسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم.تفسير السعدي.
"جاءَ العاقِبُ والسَّيِّدُ صاحِبا نَجْرانَ إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يُرِيدانِ أنْ يُلاعِناهُ، قالَ: فقالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: لا تَفْعَلْ؛ فَواللَّهِ لَئِنْ كانَ نَبِيًّا فَلاعَنَّا، لا نُفْلِحُ نَحْنُ ولا عَقِبُنا مِن بَعْدِنا، قالا: إنَّا نُعْطِيكَ ما سَأَلْتَنا، وابْعَثْ معنا رَجُلًا أمِينًا، ولا تَبْعَثْ معنا إلَّا أمِينًا، فقالَ: لَأَبْعَثَنَّ معكُمْ رَجُلًا أمِينًا حَقَّ أمِينٍ، فاسْتَشْرَفَ له أصْحابُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ، فَلَمَّا قامَ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا أمِينُ هذِه الأُمَّةِ.الراوي : حذيفة بن اليمان-صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم: 4380.
شرح الحديث:
بعدَ جِهادٍ طَويلٍ، وصَبرٍ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه؛ ظهَرَ دينُ اللهِ وعزَّ وقَوِيَ، فكانتِ القَبائلُ تُرسِلُ الوُفودَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ مُعلِنينَ إسْلامَهم، أو خُضوعَهم التَّامَّ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي حُذَيْفةُ بنُ اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه جاء العاقِبُ، قيلَ: اسمُه عبدُ المَسيحِ، والسَّيِّدُ، واسمُه الأيْهَمُ، أو شُرَحْبيلُ، صاحِبَا نَجْرانَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهما مِن أكابِرِ نَصارى نَجْرانَ وحُكَّامِهم، وكان السَّيِّدُ رَئيسَهم وصاحِبَ رِحالِهم ومُجتَمَعِهم، والعاقبُ صاحبُ مَشورَتِهم، وكان معَهم أيضًا أبو الحارِثِ بنُ عَلْقَمةَ، وكان أُسْقُفَّهم، وحَبْرَهم، وصاحِبَ مِدْراسِهم، وكان مَقدَمُهم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَنةَ تِسعٍ مِنَ الهِجْرةِ في وَفدٍ من أهلِ نَجْرانَ، ونَجْرانُ مَدينةٌ بيْنَ مكَّةَ واليمَنِ. وقدْ جاءا يُريدانِ مُلاعَنةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُلاعَنةُ هي المُباهَلةُ، وهي أنْ يَدْعوَ كلُّ واحدٍ مِن المُتَلاعِنَيْنِ على نفْسِه بالعَذابِ على الكاذِبِ والمُبطِلِ، فخافَ أحَدُهما وقال لصاحِبِه: لا تَفعَلْ؛ فواللهِ لَئنْ كان نَبيًّا، فلاعَنَنا لا نُفلِحُ نحْن ولا ذُرِّيَّتُنا مِن بَعدِنا، فامْتَنَعا عنِ المُلاعَنةِ، وتَصالَحا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على مالٍ يَدفَعونَه له، فقالا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّا نُعْطيكَ ما سأَلْتَنا، وابعَثْ معَنا رَجلًا أمينًا، ولا تَبعَثْ معَنا إلَّا أمينًا، وهذا تَشْديدٌ وتَأكيدٌ على أمانَتِه، فأجابَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى طلَبِهم، وقال لهمْ "لَأَبعَثَنَّ معَكم رَجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ"، وهذا تَأكيدٌ على أمانةِ مَن سيَبعَثُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فرَغِبوا النَّاسُ في أنْ يَنالوا ذلك؛ لمَا فيه مِن تَزْكيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَصْفِه للرَّجلِ المُخْتارِ بالأمانةِ، وليس حِرصًا على الوِلايةِ والمَسؤوليَّةِ، فبعَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا عُبَيْدةَ بنَ الجرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنه، وقال"هذا أمينُ هذه الأُمَّةِ"، وإنَّما خَصَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالأمانةِ، وإنْ كانت مُشترَكةً بيْنَه وبيْنَ غيرِه منَ الصَّحابةِ؛ لغلَبَتِها فيه بالنِّسبةِ إليهم، وقيلَ: لكَوْنِها غالِبةً بالنِّسبةِ إلى سائرِ صِفاتِه..الدرر السنية.
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-02-25, 03:03 AM   #3
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Ah11

"الم" هذه الحروف المقطعة:قال الشعبي وجماعة :الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وهي سر القرآن . تفسير البغوي. فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان لمعانيها وبناء على ذلك اختلفت أقوال العلماء في بيان معانيها.فهذه الحروف ليس لها معنى في نفسها، ولكنها تُشير إلى قضية الإعجاز كأنه يقول: إن هذا القرآن مركب من هذه الحروف التي تُرَكِّبُونَ منها الكلامَ فأتوا بمثله.
" اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"2.
افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه، فكل معبود سواه فهو باطل، والله هو الإله الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية، الْحَيُّ: أي: إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى هو الذي له الحياةُ الكاملة، التي لم يَسبِقها عَدَمٌ، ولا يَلحَقها زَوالٌ، المٌستلزِمةُ لجميعِ صِفاتِ الكمال، وهو أيضًا الْقَيُّومُ:القائمُ بنفْسِه؛ فلا يَحتاج لأحدٍ، القائمُ بأمورِ غيرِه من خَلْقه مِن الرَّزق وغيرِه؛ فكلُّ الموجوداتِ إليه مُفتَقِرةٌ، ولا قِوامَ لها بدونه، وهذه القَيُّوميَّة مُستلزِمةٌ لجميعِ أفعالِ الكَمال.الدرر: موسوعة التفسير وتفسير السعدي.
" نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ"3.
ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نَزَّلَ على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب، الذي هو أَجَلّ الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه، فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو العدل، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابَهُ ، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ:من الكتب السابقة، فهو المزكي لها، فما شهد له فهو المقبول، وما رده فهو المردود، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون، وهي شاهدة له بالصدق، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به، فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم، ثم قال تعالى وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ :أي: على موسى ، وَالْإِنجِيلَ: على عيسى.تفسير السعدي.
" مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ"4.
مِن قَبْلُ : أي: أنزل التَّوراةَ على موسى عليه السَّلام، والإنجيلَ على عيسى عليه السَّلام، مِن قَبلِ هذا القُرْآنِ الَّذي نزَّله عليك . وقال سبحانه: مِنْ قَبْلُ؛ لكي لا يتوهَّم أنَّ هُدَى التوراةِ والإنجيل مُستمرٌّ بعد نزول القرآن، وفيه إشارةٌ إلى أنَّها كالمقدِّماتِ لنزولِ القرآن، الذي هو تمامُ مرادِ الله مِن البَشر.
هُدًى لِّلنَّاسِ : الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم، أي: أنزل الله القرآن والتوراة والإنجيل هدى للناس من الضلال، فمن قبل هدى الله فهو المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله.تفسير السعدي.
تعقيب:وخُصَّ الهدى بالتَّوراة والإنجيل في قوله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ، وإنْ كان القُرْآن هدًى؛ لأنَّ المناظرةَ كانتْ مع النَّصارى، وهم لا يَهتدون بالقُرْآن، بل وُصِف في الآية التي قبلها " نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ " بأنَّه حقٌّ في نفْسه، قَبِلوه أو لم يَقْبَلوه، وأمَّا التَّوراةُ والإنجيلُ فهم يَعتقدون صحَّتهما؛ فلذلك اختصَّا في الذِّكر بالهُدَى .
وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ : أي: وأنزَلَ في كُتبِه ما يُفرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ ، والهُدى والضَّلال.
فيه: تَرتيبٌ بديعٌ في التَّقديم والتأخير، حيث لم يَجئِ الإخبارُ عن ذلك على حسَب الزَّمان؛ إذ التَّوراة أولًا، ثمَّ الزَّبور، ثمَّ الإنجيل، ثمَّ القُرْآن؛ فقدَّم القُرْآن الكِتَاب الذي هو القرآن؛ لشَرفِه، وعِظَم ثَوابِه، ونَسْخِه لِمَا تقدَّم من الكتُب، وبقائِه، واستمرار حُكمه إلى آخِر الزَّمان، وثنَّى بالتَّوراة؛ لِمَا فيها من الأحكامِ الكثيرة، والقَصص، وخفايا الاستنباط، ثمَّ ثلَّث بالإنجيل؛ لأنَّه كتابٌ فيه من المواعِظ والحِكم ما لا يُحصَى، ثمَّ تلاه بالزَّبور- عند القائِلِ بأنَّ الفرقان هو الزَّبور-؛ لأنَّ فيه مواعظَ وحِكمًا لم تبلغ مبلغَ الإنجيل.الدرر السنية :موسوعة التفسير.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ :أي إن الذين كفروا بآيات الله الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فكذَّبوا بالقرآن أولًا ثم بسائر الكتب تبعًا لذلك - لهم عذاب شديد بما يلقي الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسَهُم - وتكون سببَ عقابِهم في الدار الآخرة.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ:أي إن الله قوي لا يعجزه شيء ، وينتقم ممن عصاه.
"إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ" 5.
تُرشد الآياتُ إلى كَمال عِلمِ الله تعالى؛ فهو سبحانه لا يغيبُ عن عِلمه شيءٌ في الأرض ولا في السَّموات ، جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها.وهذا يورث مراقبة الله في كل سكاناتنا وحركاتنا. وهذا فيه حضٌّ على تربيةِ الإنسان لنفسِه على امتثالِ ما أمَره الله به، واجتنابِ ما نهاه عنه، وأنْ يتيقَّنَ أنَّ عمَلَه لا يَخفَى على الله، بل هو معلومٌ له سبحانه.
ثم ساق - سبحانه - ما يشهد بشمول قدرته وعلمه فقال
"هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" 6.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ : أي : يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكر وأنثى ، أبيض أو أسود ، تامًّا أو ناقصًا، طويل أوقصير ، وشقي وسعيد..... وقوله - تعالى - كَيْفَ يَشَاءُ :إخبار منه -سبحانه - بأن هذا التكوين والتصوير فى الأرحام تبع لمشيئته وقدرته وليس خاضعًا لقانون الأسباب والمسببات، إذ هو الفعال لما يريد.
فهو وحده القادر على تصوير خلقه بتلك الصور المختلفة المتفاوتة، ومن كان شأنه كذلك. فهو المستحق للعبادة والخضوع، لذا قال سبحانه إثباتًا لاستحقاه وحده العبادة " لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ"
" الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" الذي يقهر كل شيء بقوته وقدرته " ٱلْحَكِيمُ " في كل أفعاله سبحانه . وهذا تأكيد لما قبله، من انفراده بالألوهية، وإبطال إلهية ما سواه، وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام، وحقيقة المعبودية، بعد أن أقام الأدلة الساطعة على ذلك من كونه حيًا قيومًا، مُنزلا للكتب الهادية للناس إلى الحق عالمًا بكل شيء، مصورًا لخلقه وهم في أرحام أمهاتهم كيف يشاء. فهذه الآية الكريمة أيضًا فى مقام التعليل للتي قبلها، لأن قبلها بينت أن الله لا يخفى عليه شيء فى الأرض ولا في السماء، إذ هو العليم بما يسره الإِنسان من كفر أو إيمان أو غيرهما. وهذه الآية تفيد أنه - سبحانه - يعلم أحوال الإِنسان لا بعد استوائه بشرًا سويًا، بل يعلم أحواله وهو نطفة فى الأرحام، بل إنه -سبحانه - ليعلم أحواله قبل أن يكون شيئًا مذكورًا، فهو - كما يقول القرطبي - العالم بما كان وما يكون ومالا يكون.
ومن كان ذلك شأنه فمن الواجب على الذين أوجدهم - سبحانه - فى بطون أمهاتهم، ورباهم ورعاهم وخلقهم خلقًا من بعد خلق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. التفسير الوسيط.
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "7.
" هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ" أي: هو الَّذي أنزَل عليك- يا محمَّدُ- القُرْآنَ.
" مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ " أي: مِن القُرْآن آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتُ الدَّلالة، لا التباسَ فيها على أحدٍ من النَّاسِ، ولا شُبهةَ، ولا إشكالَ.
" هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ" أي: وهذه الآياتُ المُحكَماتُ هي أصل هذا الكتابِ، ومُعظَمُه الَّذي يُرجَعُ إليه عند الاشتباهِ.
المحكم اصطلاحًا، فقد اختلفت أنظار أهل العلم في تعريفه، فقال بعضهم: هو ما عُرِفَ المراد منه؛ وقال آخرون: هو ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا؛ وعرَّفه قوم بأنه: ما استقلَّ بنفسه، ولم يحتج إلى بيان. ويمكن إرجاع هذه التعريفات إلى معنى واحد، هو معنى البيان والوضوح.
" وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" أي: ومِن القُرْآنِ آياتٌ أُخَرُ يَلتبسُ معناها، أو تشتبهُ دَلالتُها على كثيرٍ من النَّاسِ أو بعضهم.
المتشابه اصطلاحًا، فعرفه بعضهم بأنه: ما استأثر الله بعلمه، وعرفه آخرون بأنه: ما احتمل أكثر من وجه، وقال قوم: ما احتاج إلى بيان، بردِّه إلى غيره.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ... الآيةَ: أنَّ اللهَ أنزَل المتشابِهَ ليمتحِنَ قلوبَنا في التَّصديق به، فإنَّه لو كان كلُّ ما ورَد في الكتاب معقولًا واضحًا، لَمَا كان في الإيمان شيءٌ من معنى الخضوعِ لأمرِ الله تعالى والتَّسليمِ لرُسلِه
" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ " أي: فأمَّا الَّذين في قلوبِهم مَيْلٌ عن الحقِّ، وانحرافٌ عنه وضلال ، فيَتعلَّقون بالمتشابِهِ من آياتِ القُرْآن، ويأخذون به ويتركون المُحكَمَ .ويَعْكِسُونَ الأمرَ فيحملون المُحكم على المتشابه.
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: التأويل يكون بمعنى التفسير، و التأويل بمعنى العاقبة المجهولة. اختلف السلف في الوقف ، أكثر السلف وقف على قوله" إِلَّا اللَّهُ" وجعل الوقف هنا لازمًا، يعني يجب أن تقف. ثم تبتدأ فتقول" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا "
فإن كان المراد بالتأويل التفسير فقراءة الوصل أولى : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" فتكون الواو للعطف. أي: ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآنوالمتشابه ولا يخفى عليهم برسوخهم في العلم وبلوغهم عمق العلم ، فهم لتمكنهم وثبوت أقدامهم في العلم وتعمقهم فيه يعلمون ما يخفى على غيرهم.
"وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"يوسف:36. أي بتفسير هذه الرؤيا.
أما إذا جعلنا التأويل بمعنى العاقبة والغاية المجهولة فالوقف على: إِلَّا اللَّهُ:أولى ، لأن عاقبة هذا المتشابه وما يؤول إليه أمر مجهول لكل الخلق.يعني هذا المتشابه لا يعلم تأويله المراد به إلا الله عز وجل.
والراسخون في العلم الذين لم يعلموا لا يكلفون في ذلك الفتنة وإنما يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ، وليس في كلام ربنا تناقض ولا تعارض فيسلمون الأمر إلى الله عز وجل، لأنه هو العالم بما أراد.
"هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"الأعراف:53. قال أبو جعفر في تفسير الطبري: .... هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وصِلِيِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به.
مقتبس من:أهل الحديث والأثر.الشيخ محمد صالح العثيمين.

مثال المتشابه :أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضًا :
لقوله تعالى" مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ... " . سورة النساء / آية : 79 .
ولقوله تعالى في موضع آخر :
" ... وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ ... " . النساء: 78 .
فرد هذا النص المتشابه ، ظاهر التناقض يُرد إلى المحكم الواضح الدلالة ليكون الجميع محكمًا كالآتي :الراسخون في العلم يقولون : إن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير الله عز وجل ، لكن الحسنة سببها التفضل من الله تعالى على عباده ، أما السيئة فسببها فِعل العبد ؛ كما قال تعالى " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " . سورة الشورى / آية : 30 .
فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه ، لا من إضافتة إلى مقدِّرِهِ ، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله تعالى فمن باب إضافة الشيء إلى مُقَدِّرِهِ ، وبهذا يزول ما يُوهِم الاختلاف بين الآيتين لانفكاك الجهة .تفسير سورة البقرة / محمد صالح بن عثيمين / ج : 1 / ص : 48 / بتصرف .
مثال آخر :
أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضًا لقوله تعالى " إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ... " . سورة القصص / آية : 56 .
لقوله تعالى " .. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"سورة الشورى: 52 .
ففي الآيتين موهم تعارض ، فيتبعه من في قلبه زيغ ، ويظن أن بينهما تناقضًا وهو النفي في الأولى ، والإثبات في الثانية .وأما الراسخون في العلم فيقولون :لا تناقض في الآيتين ، فالمراد بالهداية في الآية الأولى : هداية التوفيق ، وهذه لا يملكها إلا الله وحده ، فلا يملكها الرسول ولا غيره .والمراد بها في الآية الثانية : هداية الدَّلالة ،وهذه تكون من الله تعالى ؛ ومن غيره . فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين .
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ: أي:ما يتعظ بهذا إلا أهل العقول الرزينة ، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه. فلا يَنتفعُ بهذا القُرْآن ولا يتذكَّرُ بآياته إلَّا مَن كان له عقلٌ.
"رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ"8.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا : أي: ويقول الرَّاسخونَ في العِلم أيضًا: يا ربَّنا، لا تُمِلْ قلوبَنا عن الهُدى والحقِّ بعد إذ هديتَنا إليه، فوفَّقْتَنا للإيمانِ بمُحكَمِ كتابِك ومتشابِهه، فلا تَجْعَلْنا كالَّذين في قلوبهم زَيغٌ، ممَّن يتَّبِعُ ما تشابهَ من القُرْآن.
عن عبدِ الله بن عمرٍو قال: قال رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلبٍ واحِدٍ، يُصرِّفُه حيثُ يشاءُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ، صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ"صحيح مسلم :2654.
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً :أي: وأعطِنا يا ربَّنا- تفضُّلًا مِن عندك- رحمةً عظيمةً تَزيدُنا بها إيمانًا وثَباتًا ويقينًا وسَدادًا . ، رحمة عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات.
إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ : أي: إنَّك أنت واسعُ العطايا والهِبَاتِ، كثيرُ الإحسان. الذي عم جودك جميع البريات.
"رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ"9.
أي: ويقول الرَّاسخون في العِلمِ أيضًا: يا ربَّنا، إنَّك تبعَثُ النَّاسَ، وتجمَعُهم في يومٍ لا شكَّ فيه، وهو يوم القيامة، وذلك للفصلِ بينهم، ومجازاةِ كلِّ واحد بعمَلِه.
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ :والميعاد مفعال من الوعد . أي: إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعده؛ أنَّ مَن آمَن به واتَّبَع رسولَه، وعمِل صالحًا، أنَّه يغفِرُ له.
فقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققًا، وعارفًا مدققًا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علمًا وحالًا وعملًا، الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافيةمما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة:اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله : رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل.تفسير السعدي.
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-02-25, 03:05 AM   #4
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Mmm

"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ" 10.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
وبعد هذا الدعاء الجامع الحكيم الذي حكاه الله - تعالى - عن عبادِهِ المؤمنين عقب ذلك بالحديث عن الكافرين، وعن أسباب كفرهم وغرورهم، وعن سوء عاقبتهم.تفسير الوسيط.
إن الذين كفروا بالحق لما جاءهم، وعموا وصموا عن الاستجابة له، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة، ولن تدفع عنهم شيئًا من عذاب الله الذي استحقوه بسبب كفرهم، واغترارهم بكثرة المال، وعزة النفر، وقوة العصبية وقد أكد - سبحانه - هذا الحكم ردًا على مزاعمهم الباطلة من أن ذلك سينفعهم فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا" نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ " فبين - سبحانه - أنه بسبب كفرهم الذي أصروا عليه، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم أي نفع من وقوع عذاب الله عليهم.
فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون "وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"الزمر: 48.
وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة، كما قال تعالى:
"وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ "سبأ : 37.
وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ: أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدًا. وفى هذا التذييل تهديد شديد للكفار الذين اغتروا بأموالِهم وأولادِهم ببيان أن ما اغتروا به لن يحول بينهم وبين الخلود فى النار.
"كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ " 11.
الدأب: أصله الدوام والاستمرار. يقال: دأب على كذا ، إذا داوم عليه وجَدَّ فيه وتعب. ثم غلب استعماله فى الحال والشان والعادة، لأن من يستمر فى عمل أمدًا طويلًا يصير عادة من عاداته، وحالًا من أحواله .
وآل فرعون: هم أعوانه ونصراؤه وأشياعه الذين استحبوا العمى على الهدى واستمروا على النفاق والضلال حتى صار ديدنا لهم.
والمعنى: حال هؤلاء الكافرين الذين كرهوا الحق الذي جئت به - يا محمد - ولم يؤمنوا بك حالهم فى استحقاق العذاب، كحال آل فرعون والذين من قبلهم من أهل الزيغ والضلال، كفروا بآيات الله، وكذبوا بما جاءت به من هدايات فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر حيث أهلكهم بسبب ما ارتكبوه من ذنوب، والله - تعالى - شديد العقاب على من أتى بأسباب العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلاف أنواعها وتعدد مراتبها.
"قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ " 12.
قُل : يا محمد لهؤلاء اليهود وأمثالهم من المشركين الذين كانوا يتفاخرون عليه بأموالهم وبقوتهم ، ويغترون بأموالهم وأولادهم وعصبيتهم، قل لهم ستغلبون وتهزمون فى الدنيا على أيدي المؤمنين وتحشرون يوم القيامة ثم تساقون إلى نار جهنم لتلقوا فيها مصيركم المؤلم. وَبِئْسَ الْمِهَادُ: أي بئس المكان الذى هيأوه لأنفسهم فى الآخرة بسبب سوء فعلهم. والمهاد: المكان الممهد الذى ينام عليه كالفِرَاشِ. فبئس المهاد مهادهم، وبئس الجزاء جزاؤهم.
وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير للكفار، وقد وقع كما أخبر تعالى، فنصر الله المؤمنين على أعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى، وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين إلى يوم القيامة.
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-02-25, 03:10 AM   #5
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Hr

من آية 13 إلى آية 17
"قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ"13.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ : أي: عبرة وعظة عظيمة.
الفئة كما يقول القرطبي - الجماعة من الناس، وسُميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة، ولا خلاف في أن الإِشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر،وضَرْبُ الأمثالِ بالأمورِ الواقعةِ أبلغُ في التَّصديقِ والطُّمأنينةِ.
فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.وَأُخْرَى كَافِرَةٌ:أي: كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرًا وفخرًا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، فجمع الله بين الطائفتين في بدر، وكان المشركون أضعاف المؤمنين، فلهذا قال : يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ :أي: يرَى المسلِمون الكافرين مثلي عدد المسلمين، وأكد هذا بقوله : رَأْيَ الْعَيْنِ أي رؤية ظاهرة لا لَبْسَ فيها؛ حيث تَلحقُهم أبصارُهم، وإنْ كانوا أكثرَ من ذلك في حقيقةِ الأمر ؛ ليتوكَّلوا على اللهِ، ويَطلُبوا منه الإعانةَ.
والمعنى: قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون ؛ والمؤمنين سيُنْصَرُون بما جرى في غزوة بدر، فقد رأيتم كيف أن الله - تعالى - قد نصر المؤمنين مع قلة عددهم، وهزم الكافرين مع كثرة عَددهم وعُددهم. ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عددًا وعُدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم.
ووصف - سبحانه - الفئة المؤمنة بأنها تقاتل فى سبيل الله، على سبيل المدح لها، والإِعلاء من شأنها، وبيان الغاية السامية التى من أجلها قاتلت، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عَرَض من أعراضِ الدنيا، وإنما قاتلت لإِعلاء كلمة الله ونصرة الحق.
ووصف الفئة الأخرى بأنها كافرة؛ لأنها لم تؤمن بالحق، ولم تتبع الطريق المستقيم، بل كفرت بكل ما يصلحها فى دينها ودنياها.
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ :
أي: واللهُ يُقوِّي بنَصرِه مَن يشاء ممَّن تَقتضي الحِكمةُ نَصْرَه أو تأييدَه.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ: ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى.
"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ"14.
بعدَ أنْ بيَّن تبارَك وتعالَى عقوبةَ الكافرين، وأنَّهم لن تُغنيَهم أموالُهم ولا أولادُهم مِن عذابِ اللهِ وغضَبِه، حذَّر أهلَ الإيمان من أنْ تُلهيَهم زينةُ الدُّنيا وشهواتُها عن الآخرةِ, فذكَر أنَّه زُيِّن للنَّاسِ محبَّةُ عددٍ مِن المشتهَيَاتِ؛ كالنِّساءِ، والبنينَ، وأنواعِ الأموال, هي كلُّها ممَّا يُستمتَعُ به في الدُّنيا مِن زينتِها المنتهيَةِ بالزَّوالِ, تذهب لذاتها ومسراتها، وتبقى تبعاتها وآلامها، ثم قرر أن ما عنده خير وأبقى من متاع الدنيا وشهواتها وزخرفها ومغرياتها، فعند الله سبحانه حُسْنُ المرجِعِ والثَّوابِ.
ذكر المفسرون في المزَيِّن في الآية قولين: أحدهما: أن المزَيِّن هو الله. ثانيهما: أن المُزَيِّن هو الشيطان.
قال القرطبي "فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء – بالضوابط الشرعية .
وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. فتزيين الشيطان إنما كان بالنسبة لأعمال هؤلاء؛ يعني: زين لهم الأعمال، أما الأشياء المخلوقة فالذي يزينها هو الله عز وجل.
حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ :فحب الشهوات ـ حاصل لجميع الناس ليُنْتَفَع بها بطريق مشروع على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة، وهذا ممدوح ومطلوب شرعًا، أما إذا كان تحصيلها والاستمتاع بها بطريق غير مشروع، فذلك محرم، ولكن قد يحصل للإنسان محبة لبعض المحرمات، بمعنى الميل إليها بطبعه لكنه لا يسعى لتحصيلها، ولا يحب ذلك ، فلا شيء عليه.
مِنَ ٱلنِّسَاءِ:ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية.واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمرأة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغني عن ذكر الطرفين معًا، وما يستفاد بالإِشارة يُستغنَى فيه عن العبارة خصوصًا فى هذا المجال الذي يحرص فيه القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس.
وَٱلْبَنِينَ:قال الرازي "اعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة؛ فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل، ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية؛ ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات، والحكمة فيه بقاء النسل"انتهى.
وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ :والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد.
وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر... فيكون مذمومًا، وتارة يكون للنفقة في وجوه البر فيكون محمودًا..
وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ :أسامَ الماشيةَ :سامَها، أخرجها إلى المرْعى ،وقال آخرون " َٱلْخَيْل ٱلْمُسَوَّمَة " المعلَّمَة ،ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة. وحب الخيل على ثلاثة أقسام، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوًا عليها فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرًا ومناوأة لأهل الإِسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها ستر.تفسير ابن كثير وصادر أخرى.
ٱلأَنْعَام : جمع نعم، وهى الإِبل والبقر والغنم ،وهي مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم.
وَٱلْحَرْث: مصدر بمعنى المفعول أي المحروث. والمراد به المزروع سواء أكان حبوبًا أم بقلًا، أم ثمرًا إذ من هذه الأشياء يتخذ الإِنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته،وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر.
فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاءً وامتحانًا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقًا يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها " ذلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا" فجعلوها مَعْبَرًا إلى الدار الآخرة ومتجرًا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادًا إلى ربهم.
وهذه المشتهيات ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد الإِسلام إلى تخسيسها في ذاتها أو إلى التنفير منها، وإنما الإِسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا في طلبها، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة، وأن يضعوها في مواضعها المشروعة، وأن يشكروا الله عليها، وألا يجعلوها غاية مقصدهم في هذه الحياة إن الإِسلام لا يحارب الفطرة الإِنسانية التي تشتهي هذه الأشياء، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الأشياء في موضعها المناسب، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل في غير ما خلقها الله من أجله، وبذلك يسعد الإِنسان في دينه ودنياه وآخرته.
وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ:إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإِنسان فهي إلى زوال، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهي التي أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين في الدار الآخرة.فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه، والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال" وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" البقرة: 201. أي: سؤال من خير الدنيا كله بأوجز لفظ وعبارة، فجمعت هذه الدعوة كل خير يتمناه العبد، فإنّ الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودارٍ رحبةٍ، وزوجةٍ حسنةٍ، ‏ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيءٍ، وثناء جميل، إلى غير ذلك. "وَفي الآخِرةِ حَسنَةً" يَعني: وأعطِنا في الآخرَةِ الجَنَّةَ، وَما فيها مِنَ النَّعيمِ المُقيمِ، "وقِنا عَذَابَ النَّارِ" أي: وَاحفَظْنا مِن عَذابِ النَّارِ، وَما يُقرِّبُ إليه مِن عَملٍ.
" قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ"15.
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْبِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ: الإِنباء معناه الخبر العظيم الشأن.النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات.فبعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالًا - أمر رسولَهُ بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.
وقوله "بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ " يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها، ولا شك في ذلك إذ هي من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها ، مثل من يستعمل عقله في استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هي في ذاتها شر ولا كون حبها شرًا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة. فنعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والأضرار.
ذلِكُمْ : لاشتماله على الإِشارة التى للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به.
والاستفهام للتقرير، والمراد به التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين، أي تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا، وحضهم على الاستجابة لما سيلقَى عليهم.
لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا: هذه هى اللذائذ والمتع التي أعدها الله - تعالى - لمن اتقاه، أي أدى ما أمره به، وابتعد عما نهاه عنه.
عِندَ رَبِّهِمْ: العِنديَّةُ هنا: تُفيدُ فضلًا عظيمًا؛ لأنَّها هي القُربُ مِن الله عزَّ وجلَّ.
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ: أي بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار، وفي هذه الجنات مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
"في الجنةِ مالَا عينٌ رأَتْ ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ ، ولا خَطَرَ على قلْبِ بَشَرٍ"الراوي : أبو سعيد الخدري - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع -الصفحة أو الرقم : 4246 - خلاصة حكم المحدث : صحيح .
خَالِدِينَ فِيهَا:أي أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدين في تلك الجنات التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلودًا أبديًا، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال.
وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ:والأزواج: جمع زوجة وهي المرأة يختص بها الرجل. أي ولهم في تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسي ومعنوي، فقد وصف - سبحانه - هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل في المرأة.
وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ:وهذه النعمة هي أعظم النعم وأجلها أي لهم رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون، ومنشىء الوجود. وهو مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم، لأن زيادة المبنَى تدل على زيادة المعنَى، ولأن التنكير قُصد به التفخيم والتعظيم.
إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالَى يقولُ لأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، فيَقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ، فيَقولُ: هلْ رَضِيتُمْ؟ فيَقولونَ: وما لنا لا نَرْضَى وقدْ أعْطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِن خَلْقِكَ؟ فيَقولُ: أنا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِن ذلكَ، قالوا: يا رَبِّ، وأَيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِن ذلكَ؟ فيَقولُ: أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا."الراوي : أبو سعيد الخدري - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم : 6549.
أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا:الرضوان أي رضا الله.أي: أُنزِل عليكم دَوَام رِضْوانِي؛ فإنَّه لا يَلزَمُ مِن كَثرةِ العطاءِ دَوامُ الرِّضا؛ ولذا قال: فلا أسْخَطُ: ولا أَغْضَبُ " علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا" والرضا والرضوان بمعنى واحد، إلا أن الرضوان يعبَّر به عن الرضا الكثير، وأعظمُ الرِّضَا رضا الله تعالى، لذا خُصّ الرّضوانُ في القرآن بما كان من الله تعالى.
قال ابنُ حَجَرٍ:فيه أنَّ الخيرَ كُلَّه والفَضلَ والِاغتِباطَ إنَّما هو في رِضا اللهِ سُبحانَه وتعالى، وكُلُّ شيءٍ ما عَداه وإنِ اختَلَفَت أنواعُه فهو مِن أثَرِه.
وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ: أي أنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم. وسيجازي الذين أساءوا بما عملوا، ويجازي الذين أحسنوا بالحسنى. ففي هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين.وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيًا، وإنما المتقي من يعلم منه ربه التقوى.
" ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ"15.
إسقاطُ أداة النِّداء في رَبَّنَا؛ إشعارًا بما لهم من القُرب؛ لأنَّهم في حَضرةِ المراقبةِ .
يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا :مرادهم بالإيمان الذي أقروا به - هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.
فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ:
توسلوا بمنةِ اللهِ عليهم بتوفيقهم للإيمان أن يغفرَ لهم ذنوبَهم ويقيهم شر آثارها وهو عذاب النار، ثم فصل أوصاف التقوى.
"الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ" 17.
وصف- سبحانه- المتقين بخمس صفات كريمة من شأنها أن تحمل العقلاء على التأسي بهم ، وفي كل صفة من صفاتهم دليل على قوة إيمانهم، وإذعانهم للحق حق الإذعان.
الصَّابِرِينَ: الصابرين أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة.والصبر في البأساء والضراء وحين البأس من أكبر البراهين على سلامة اليقين، وقد حث القرآن أتباعه على التحلي بهذه الصفة في أكثر من سبعين موضعًا.
وَالصَّادِقِينَ: الصادقين في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم . قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية .
وَالْقَانِتِينَ : والقانت هو المداوم على طاعة الله- تعالى- غير متململ منها ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها. فالقنوت يصور الإذعان المطلق لرب العالمين.
وَالْمُنفِقِينَ:أي:المنفقين مِن أموالِهم في جميعِ ما أُمِروا به من الطَّاعاتِ؛ كأداءِ الزَّكاةِ والصَّدقات، وصلةِ الأرحام والقَرابات، ومواساةِ ذوي الحاجاتِ، وغيرِ ذلك مِن الوجوه الَّتي أذِنَ اللهُ لهم بالإنفاقِ فيها.
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ :أي: السَّائلين المغفرةَ في آخِرِ اللَّيل ؛ فهو وقتُ نُزولِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى سماءِ الدُّنيا؛ ففي الحديثِ عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم" يَنْزِلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يقولُ: من يَدعوني فأَستجيبَ له، من يَسْأَلُني فأُعْطِيَه، مَن يستغفرُني فأَغْفِرَ له؟"رواه البخاري 1145 ومسلم 758.


وخُص وقتُ الأسحارِ بالذكر لأن النفس تكون فيه أصفى، والقلب فيه أجمع، ولأنه وقت يستلذ فيه الكثيرون النوم فإذا أعرض المؤمن عن تلك اللذة وأقبل على ذكر الله كانت الطاعة أكمل وأقرب إلى القبول.
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-02-25, 03:13 AM   #6
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Mo

تفسير سورة آل عمران
من آية 18 إلى آية 25
" شَهِد اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"18.
بعد أنْ ذكَر اللهُ ثناءَه على المؤمنين, وبعد أن بيَّنَ - سبحانه - ما أعده للمتقين، وذكر صفاتَهم عقَّبَ ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد، فجاء ليُقرِّر التَّوحيدَ بأعظمِ الطَّرائقِ الموجِبة له، وهي شَهادتُه سبحانه؛ فشهِد أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا هو ، أي: عَلِمَ اللهُ تعالى أنَّه لا معبودَ حقٌّ إلَّا هو، وتكلَّمَ بذلك، وأخبر به خلْقَه، وأَمَرَهم وأَلْزَمهم به. وأتْبَع شَهادتَه بذِكْرِ شَهادةِ ملائكتِه وأُولي العِلم مِن عبادِهِ؛شهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار،
جعَل اللهُ الملائكةَ في المرتبةِ الأُولى في الشَّهادةِ بالتَّوحيدِ بعدَه سبحانه؛قيل: لبيان فضيلتِهم، ولأنَّهم الملأُ الأعلى، وعِلمُهم كلُّه ضروريٌّ – وهو العلم الحاصل دون نظر، أو استدلال، ولا يمكن الانفكاك عنه، ولا الخروج منه، ولا التشكيك فيه.، ومن العلوم الضرورية العلم الحاصل ببديهة العقل، كالعلم بأن الكلَّ أعظمُ من الجزء، وأنَّ النفي والإثبات لا يجتمعان.-، بخلاف البشَر؛ فإنَّ عِلمَهم ضروريٌّ واكتسابيٌّ – العلم الاكتسابي الذي يُعلم بالحواس والقرائن . العِلْمُ المُكْتَسَبُ: فَهُوَ المَوقُوفُ عَلَى النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ" ويدرك بالحواس الخمس، وذلك كالعلم بأن العالم حادث، فإنه موقوف على النظر في العالم ومشاهدة تغيره، فينتقل الذهن من تغيُّره إلى الحكم بحدوثه. وفي هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء، لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء.
والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف في خدمة عقيدتهم، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم، وأخلصوا الله في عبادتهم، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم.
قَائِمًا بِالْقِسْطِ : والقسط: العدل. أى: مقيما للعدل فى تدبير أمر خلقه، وفى أحكامه. وفيما يقسم بينهم من الأرزاق والآجال، وفيما يأمر به وينهى عنه، وفى كل شأن من شئونه.
لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: تكرير للمشهود به للتأكيد والتقرير.
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:ختم سبحانه الآية بهذين الاسمين لأنَّ العزَّةَ تُلائِمُ الوحدانيَّة، والحِكمة تُلائِمُ القيامَ بالقِسط، فأتى بهما لتقريرِ الأمرينِ على ترتيبِ ذِكرهما.صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل. أي لا إله في هذا الوجود يستحق العبادة بحق إلا الله " ٱلْعَزِيزُ " الذى لا يمتنع عليه شىء أراده، وينتصر من كل أحد عاقبه أو انتقم منه، " ٱلْحَكِيمُ " فى تدبيره فلا يدخله خلل من ظلم وغيره.
ففي الآية الشَّهادةُ له بالتَّوحيد، والعَدْل، والقُدرة والعِلم والحِكمة؛ ولهذا كانتْ أعظمَ شَهادةٍ.
" إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ "19.
وأصل الدين في اللغة الجزاء والحساب ، ومنه قولهم: كما تَدين تُدان أي، كما تفعل تجازى.والمراد به هنا ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات، فيكون بمعنى الملة والشرع. . قال ابن كثير: وقوله- تعالى- إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ :إخبار منه تعالى - بأنه لا دين عنده يقبله من أحدٍ سوى الإِسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى خُتِمُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله تعالى - بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل. كما قال- تعالى" وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ...." الآية.ا.هـ.
فالإِسلام هو الدين الذي ارتضاه الله - تعالى - للناس، وأن من يعارض في ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه.
وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ:
بيَّن - سبحانه - أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغي والحسد وطلب الدنيا.
وفي التعبير عنهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قُبحًا وفُحشًا.
وقوله "إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ" زيادة أخرى في تقبيح أفعالهم، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القبح والعناد.
ثم ختم- سبحانه- الآية بهذا التهديد الشديد فقال :وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ: أي: ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته- سبحانه- فإن الله مُحْصٍ عليه أعمالَه في الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه في الآخرة. وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو- سبحانه- لا يحتاج إلى فحص وبحث، لأنه لا تخفى عليه خافية.
"فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ "20.
ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم ما يرد به على أهل الكتاب إذا ما جادلوه أو خاصموه ليحسم الأمر معهم ومع غيرهم من المشركين وليمضى في طريقه الواضح المستقيم فقال- تعالى:
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ : وقوله حَاجُّوكَ من المحاجة وهي أن يتبادل المتجادلان الحجة، بأن يقدم كل واحد حجته ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعم أنه الحق الذي لا شك فيه.
والمعنى: فإن جادلك- يا محمد- أهل الكتاب ومن على شاكلتهم؛ بالأقاويل المزورة والمغالطات الباطلة بعد أن قامت الحجج على صدقك؛ فلا تلتفت إلى أكاذيبهم ولجاجتهم ، بل قل لهم أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ : أي أخلصت عبادتي الله وحده، وأطعته ، وكذلك من اتبعني وآمن بي قد أسلم وجهه لله وأخلص له العبادة.والمراد بالوجه هنا الذات، وعبر بالوجه عن سائر الذات لأنه أشرف أعضاء الشخص، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم فالتعبير به عن الجسم كله تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل.
وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ: والمراد بالأميين الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب.والاستفهام في قوله أَأَسْلَمْتُمْ للحض على أن يسلموا وجوههم الله، ويتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما اتبعه المسلمون. ثم بين- سبحانه- ما يترتب على إسلامهم من نتائج، وما يترتب على إعراضهم من شرور تعود عليهم فقال : فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ:
أي: فإن أسلموا وجوههم لله وصدَّقوا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد اهتدوا إلى طريق الحق، لأن هذا الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للناس، وإن أعرضوا عن هذا الطريق المستقيم، فإن إعراضَهم لن يضرك- أيها الرسول الكريم- لأن الذي عليك إنما هو تبليغ الناس ما أمرك الله بتبليغه إياهم . وهو- سبحانه- بصير بخلقه لا تخفى عليه خافية من أقوالهم أو أفعالهم، وسيجازي كل إنسان بما يستحقه.وعبر بالماضي في قوله فَقَدِ اهْتَدَوْا مبالغة في الإخبار بوقوع الهُدَى لهم.
"والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّارِ.الراوي : أبو هريرة -صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 153-
"كانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأَسْوَدَ" الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم : 521.
"إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ "21.
هناك فرق بين الكفر بآيات الله وبين الكفر بالله. لماذا؟ لأن الإيمان بالله يتطلب البينات التي تدل على الله، والبينات الدالة على وجود الله موجودة في الكون.إذن فالبينات واضحة، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرًا بالأدلة التي تدل على وجود الخالق.
يُخبِرُ اللهُ تبارَك وتعالَى- ذامًّا- الَّذين كفَروا بآياتِه أي يكفرون بالآيات المثبتة لوحدانيته سبحانه ، وبالرسل الذين جاءوهم بالهدى والحق, ولم يَكتَفُوا بذلك، بل أَمعَنوا في طُغيانهم، وازدادوا في ضَلالِهم, فقتَلوا أنبياءَ الله ورُسلَه بغير جُرْمٍ ولا جَرِيرةٍ ولا شُبْهَة ، وقتَلوا كذلك مَن يدعو إلى العدلِ، ويأمُرُ بالمعروف ويَنهى عن المنكر مِن عبادِ الله؛ فأمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخبِرَهم بما ينتظرُهم من عذابٍ أليم, وعقابٍ موجِعٍ, جزاءً على كُفرِهم وسيِّئِ أعمالِهم.فقال تعالى : فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
وأخبَر سبحانه وتعالى أنَّ أعمالَ هؤلاء باطلةٌ, لا يَنتفعون بها ولا بآثارِها، لا في دُنياهم ولا في أُخراهم , ولن يَجِدوا نَصيرًا يَنصرُهم ولا مُنقِذًا من عذابِ الله إذا حلَّ بهم.
"أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ"22.
والمراد بحبوط أعمالهم إزالة آثارها النافعة من ثواب في الآخرة وحياة طيبة في الدنيا، لأنهم عملوا ما عملوا وهم لا يرجون الله وقارا.
فلا يَنتفعون بثوابِ أعمالِهم في الآخرةِ، مع ما أعدَّ لهم فيها من العقابِ.
وما لهؤلاءِ القومِ مِن ناصرٍ ينصُرُهم من بأس الله وعقابه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، الله- تعالى- قد وصفهم بصفات ثلاث: بالكفر وقتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس.وتوعدهم- أيضًا- بثلاثة أنواع من العقوبات: بالعذاب الأليم، وحبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة، وانتفاء من ينصرهم أو يدافع عنهم.
وبعد أن وصف القرآن هؤلاء المعاندين بالكفر وقتل الأنبياء والمصلحين وبين سوء مصيرهم، أتبع ذلك ببيان رذيلة من أفحش رذائلهم وهي أنهم يدعون إلى التحاكم إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، فيمتنعون عن ذلك غرورًا وعنادًا، قال تعالى:
" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ" 23.
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه، فكان يجب أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لأحكامه، فأخبر الله عنهم أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون، تولوا بأبدانهم، وأعرضوا بقلوبهم، وهذا غاية الذم، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم، فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد، كما قال تعالى : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ"النور: 51.
" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ " 24.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي صرفتهم عن الحق. واسم الإشارة ذلِكَ :يعود إلى المذكور من توليهم وإعراضهم المذكور في الآية السابقة.
والمراد من أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ : المحصورات القليلات يقال شيء معدود: أي قليل وشيء غير معدود أي كثير. فهم يزعمون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد تكون سبعة أيام، وقد تكون أربعين يومًا، وبعدها يخرجون إلى الجنة.
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ: والسبب الذي غر وخدع أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة وبعدها يخرجون إلى الجنة.
وقوله وَغَرَّهُمْ من الغرور وهو كل ما يغر الإنسان ويخدعه من مال أو جاه أو شهوة أو غير ذلك من الأشياء التي تغر الإنسان وتخدعه وتجعله غافلا عن اتباع الحق.
قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا :
"فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " 25.
الاستفهام هنا للاستعظام والتهويل والرد على مزاعمهم الباطلة.
أي : كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله ، ومحاسبهم عليه ، ومجازيهم به، كيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب في مجيئه وحصوله – يوم القيامة، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا، بل يجازى كل إنسان على حسب عمله، لا شك أنهم في هذا اليوم الهائل الشديد سيفاجأون بذهاب غرورهم، وبفساد تصورهم، وأنهم سيقعون في العذاب الأليم الذي لا حيلة لهم في دفعه، ولا مخلص لهم من ذوقه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-05-25, 05:33 AM   #7
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Mo

من آية 180 إلى آية 187

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
"
.180.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء مصير الذين يبخلون بنعم الله ، فلا يؤدون حقها . ولا يقومون بشكرها .
قوله : بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ:إشعار بسوء صنيعهم ، وخبث نفوسهم ، حيث بخلوا بشىء ليس وليد عملهم واجتهادهم ، وإنما هذا الشىء منحه الله - تعالى - لهم بفضله وجوده ، فكان الأولى لهم أن يشكروه على ما أعطى ، وأن يبذلوا مما أعطاهم في سبيله .
أَيْ: لا تظنَّنَّ- يا مُحمَّدُ- ولا يظنَّنَّ هؤلاء الذين يشِحُّون بأموالهم التي رزَقهم الله تعالى؛ كرَمًا منه عن أداء حقِّه فيها، أَنَّ بُخلَهم هذا خيْرٌ لهم من العطاء الذي يُنقص المال كما يبدو في الظاهر. قال صلى الله عليه وسلم" ما نقصت صدقة من مال ومازاد الله رجلا بعفو إلا عِزًا ، أو ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله"صحيح سنن الترمذي.
بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ: أَيْ: ليس الأمرُ كما يَظنُّون؛ فامتناعُهم عن أداءِ حَقِّ الله تعالى فيما رزَقَهم من أموالٍ بُخْلًا منهم، هو في حقيقةِ الأمْرِ شرٌّ من هذا النقْصِ الذي يَبدو لهم، ومضرَّةٌ عليهم في دِينهم ودُنياهم.
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْ: سيَجعل اللهُ تعالى المالَ الذي بَخِل به مَن منَعَ حقَّ اللهِ تعالى فيه، سيجعلُه طَوْقًا يُحيطُ بعُنُقِ صاحبه، ويُعذَّب به يوم القيامة.
عَن أبي هُرَيرَةَ رَضِي الله عنه: أَنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال"مَن آتاه الله مالًا فَلم يُؤدِّ زَكاتَه، مُثِّلَ له مالُه شُجاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ "ثمَّ تلا هذه الآية: وَلَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ...إلى آخِرِ الآية" رواه البخاريُّ :4565.
وقال الله عزَّ وجلَّ"وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ "التوبة: 34-35.
وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ:والمعنى : أن لله - تعالى - وحده لا لأحد غيره ما في السموات والأرض فما بال هؤلاء القوم يبخلون عليه بما يملكه ، ولا ينفقونه فى سبيله ؛ فهو المالكُ ذو المَلَكوت، والحيُّ الباقي الَّذي لا يموتُ؛ فأنفِقوا في حياتِكم مِمَّا جعلَكم اللهُ عزَّ وجلَّ مُستَخلَفين فيه، وقدِّموا فيها من أموالِكم ما يَنفعُكُم يومَ تأتون إلى الله سُبحانَه، وليس معكم شيءٌ مِمَّا كنتُم تملكون.
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: أَيْ: إِنَّ الله عزَّ وجلَّ مُطَّلِعٌ على خفايا أعمال الخلْق ومُطَّلِعٌ على نيَّاتهم وضمائرهم، وسيجازيهم على أعمالهم ونيَّاتهم بحسْبها، ومن ذلك: هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله تعالى من فَضْلِه؛ فإنَّ الله سبحانَه مُطَّلِعٌ على ما يُخفونَ ويَكنِزون، ويعلمُ إنْ كانوا قد أدَّوا حقَّ الله تعالى فيه أمْ لا، وإِنْ خَفِيَ ذلك على غيرِه.
"لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" 181.
الآية تثبت صفة السمع لله تعالى ، واسم الله السميع ثابت لقوله تعال" َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" الشورى: 11.
معنى الاسم في حق الله تعالى: قال الخطابي رحمه الله "السميع: هو الذي يسمع السر والنجوى، سواء عنده الجهر والخفوت، والنطق والسكوت"، والسماع قد يكون بمعنى القبول والإجابة.. فمن معاني السميع: المُستجيب لعباده إذا توجهوا إليه بالدعاء وتضرعوا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشعومن دعاء لا يُسمع.." صحيح الجامع:1297. أي: من دعاء لا يُستجاب
رابط المادةg3p

قالَ أبو بَكْرٍ لفِنْحاصَ -وكانَ مِن عُلَماءِ اليَهودِ وأحْبارِهم: اتَّقِ اللهِ وأَسلِمْ، فوَاللهِ إنَّك لتَعلَمُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولٌ مِن عِنْدِ اللهِ، قد جاءَكم بالحَقِّ مِن عِنْدِه تَجِدونَه مَكْتوبًا عِنْدَكم في التَّوْراةِ والإنْجيلِ، قالَ فِنْحاصُ: واللهِ يا أبا بَكْرٍ ما سَأَلْنا اللهَ مِن فَقْرٍ وإنَّه لإلَيْنا فَقيرٌ، وما نَتَضَرَّعُ إليه كما يَتَضَرَّعُ إلينا، وإنَّا لأَغْنياءُ، ولو كانَ عنَّا غَنِيًّا ما اسْتَقْرَضْنا أمْوالَنا كما يَزعُمُ صاحِبُكم! يَنْهانا عن الرِّبا ويُعْطيناه، ولو كانَ غَنِيًّا عنَّا ما أَعْطانا الرِّبا ، فغَضِبَ أبو بَكْرٍ فضَرَبَ وَجْهَ فِنْحاصَ، فأَخبَرَ فِنْحاصُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي بَكْرٍ: ما حَمَلَك على ما صَنَعْتَ بفِنْحاصَ؟ فأَخبَرَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما قالَ، فقامَ فجَحَدَ فِنْحاصُ، وقالَ: ما قُلْتُ لك، فأَنزَلَ اللهُ"لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ" إلى قَوْلِه"عَذَابَ الْحَرِيقِ"، نَزَلَتْ في أبي بَكْرٍ وما فَعَلَه في ذلك مِن غَضَبِه". الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الضياء المقدسي - المصدر : الأحاديث المختارة-الصفحة أو الرقم : 12 / 256 - خلاصة حكم المحدث : أورده في المختارة وقال :هذه أحاديث اخترتها مما ليس في البخاري ومسلم. حسن إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح ،وقال أحمد شاكر أن إسناده جيد أوصحيح.
والمعنى : لقد سمع الله - تعالى - قول أولئك اليهود الذين نطقوا بالزور والفحش فزعموا أن الله - تعالى - فقير وهم أغنياء، وهو تطاول على ذات الله ، وكذب عليه ، ووصف له بما لا يليق به - سبحانه .
وهذا السمع لازمه العلم والإحاطة بما يقولون من قبائح ، ثم محاسبتهم على ما تفوهوا به من أقوال ، وما ارتكبوه من أعمال ، ومعاقبتهم على جرائمهم بالعقاب المهين الذين يستحقونه .
هذا قولهم في الله ، وهذه معاملتهم لرسل الله ، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء.
وقوله"سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ"أي سنسجل عليهم فى صحائف أعمالهم قولهم هذا، أي نأمر الحفظة بإثبات قولهم حتى يقرءوه يوم القيامة في كتبهم التي يؤتونها ; حتى يكون أوكد للحجة عليهم ، كما سنسجل عليهم قتلهم أنبياء الله بغير حق. .وقتل الأنبياء دوما بغير حق ولكن سيقت هذه العبارة كقيدٍ كاشفٍ وليس قيدًا احترازيًا.
وقد قرن - سبحانه - قولهم المنكر هذا ، بفعل شنيع من أفعال أسلافهم ، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق؛ وذلك لإثبات أصالتهم فى الشر ، وإستهانتهم بالحقوق الدينية ، وللتنبيه على أن قولهم هذا ليس أول جريمة ارتكبوها ، ومعصية استباحوها ، فقد سبق لأسلافهم أن قتلوا الأنبياء بغير حق ، وللإشعار بأن هاتين الجريمتين من نوع واحد ، وهو التجرؤ على الله - تعالى ،وبهذا كله يكونون قد عتوا عتوًا كبيرًا ، وضلوا ضلالا بعيدا .
وأضاف - سبحانه - القتل إلى المعاصرين للعهد النبوي من اليهود ، مع أنه حدث من اسلافهم؛ لأن هؤلاء المعاصرين كانوا راضين بفعل أسلافهم ولم ينكروه وإن لم يكونوا قد باشروه ، ومن رضى بجريمة قد فعلها غيره فكأنما قد فعلها هو .
وفى الحديث الشريف " إذا عُمِلت الخطيئةُ في الأرضِ كان من شهِدها فكرِهها – وقال مرَّةً : أنكرها – كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضِيها، كان كمن شهِدها"الراوي :العرس بن عميرة الكندي -المحدث : الألباني -المصدر : صحيح أبي داود-الصفحة أو الرقم:4345 - خلاصة حكم المحدث : حسن.

كانَ مَن شَهِدَها"، أي: كانَ الذي حضَرَها وفُعِلَت أمامَه، أو عَلِمَ بها "فكَرِهَهاوقالَ مرَّةً: أنكرَها"، أي: أنكرَها بيدِه ولِسانِه، أو أنَّه كرِهَها بقَلبِه ولم يرضَ بها، "كمَنْ غابَ عَنها"، أي: كانَ مِن جَزائهِ أنَّه يكونُ في حُكمِ مَن لم يحضُرْها فلَم يقعْ علَيهِ إثمٌ. "ومَن غابَ عَنها فرَضِيَها"، أي: ومَن لم يَقعْ أمامَه مُنكَرٌ أو مَعصيةٌ، ولكنَّه سمِعَ بها ثم أَعجَبتْه ولم يُنكِرْها بقَلبِه. "كانَ كمَنْ شَهِدَها"، أي: كانَ مِن جَزائِه أن يقعَ عليهِ إثمُ مَن شَهِدَ المنكرَ ورَضِيَه ولم يُغيِّرْه معَ قُدرتِه على ذلكَ لأن سكوته عن النكر بمثابة إقرا لهذا القول القبيح .
ووصف - سبحانه - قتلهم الأنبياء بأنه"بِغَيْرِ حَقٍّ"مع أن هذا الإجرام لا يكون بحق أبدًا ، للإشارة إلى شناعة أفعالهم ، وضخامة شرورهم ، وأنهم لخبث نفوسهم ، وقسوة قلوبهم لا يبالون أكان فعلهم في موضعه أم في غير موضعه .
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ :أي : سنجازيهم بما فعلوا ، ونلقي بهم في جهنم ، مخاطبين إياهم بقولنا : ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة التي كنتم بها تكذبون .
والذوق حقيقته إدراك المطعومات ، والأصل فيه أن يكون فى أمر مرغوب في ذوقه وطلبه ، والتعبير به هنا عن ذوق العذاب هو لون من التهكم عليهم ، والاستهزاء بهم كما فى قوله - تعالى"فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ"الانشقاق: 24."إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا""النساء: 56. ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ.نسأل الله العافية .
ثم صرح - سبحانه - بأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم بوقوعهم فى العذاب المحرق فقال :
"ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" 182.

ذَلِكَ: إشارة إلى عذاب الحريق. والحق سبحانه لم يظلمهم، لكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم. "بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ" والمراد بالأيدي الأنفس، والتعبير بالأيدي عن الأنفس من قبيل التعبير بالجزء عن الكل.
وخصت الأيدي بالذكر، للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته، ولأن أكثر الأفعال يكون عن طريق البطش بالأيدي، ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به والاتصال بذاته.

فاليد هي الجارحة التي نفعل بها أكثر أمورنا، وعلى ذلك يكون قول الحق"بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ"مقصود به: بما قدمتم بأي جارحة من الجوارح.
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ: فالله لا يظلم كافرًا، ولا يظلم مؤمنًا، بل يجازي كل إنسان بعمله .
نفى سبحانه عن نفسه صفة الظلم مع ملاحظة أن الصفات المنفيةعن الله عز وجل لا يراد بها مجرد النفي، بل المراد انتفاء هذه الصفة لثبوت كمال الضد، فإذا نفى أن يكون ظلامًا للعبيد فذلك لكمال عدله، وإذا نفى أن تأخذه سنة ولا نوم فذلك لكمال حياته وقيوميته، وإذا نفى أن يصيبه لغوب فذلك لكمال قوته، وهكذا، ويجب أن نعلم أنه لا يمكن أن يوجد في صفات الله نفي مجرد فصفات النفي تتضمن كمال الضد، وهذه قاعدة" لا يوجد في صفات الله نفي محض، بل كل ما نفى الله عن نفسه فهو متضمن لكمال"والدليل قوله تعالى" "وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " النحل: 60.والنفي المجرد ليس مثلا أعلى، المثل الأعلى أي:الوصف الأعلى والأكمل، والنفي المجرد عدم، والعدم ليس بشيء فضلا عن أن يكون وصفًا أعلى.
"الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"183.
بِقُرْبَانٍ:والقربان هو ما يتقرب به إلى الله من نعم أو غير ذلك من القربات.
يقول تعالى تكذيبًا أيضًا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أنه يتصدق بصدقة فيتقبلها الله منه وعلامة قبولها نزول نار من السماء تأكل هذه الصدقة.
وأن من تصدق بصدقة من أمته فقبلت منه تنزل نار من السماء تأكلها . قاله ابن عباس والحسن وغيرهما . وكانوا فيما سبق إذا غنموا غنائم من الكفار جمعوها ثم نزلت نار من السماء فأكلتها حتى أُحلت الغنائمُ لأمةِ محمد صلى الله عليه وسلم.
فجمعوا بين الكذب على الله، وحصر آيات الرسل بما قالوه، من هذا الإفك المبين، وأنهم إن لم يؤمنوا برسول لم يأتهم بقربان تأكله النار، فهم -في ذلك- مطيعون لربهم بزعمهم الباطل ، ملتزمون عهده، وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ رسولٍ يرسلُه اللهُ، يؤيده من الآيات والبراهين ، ولم يقصرها على ما قالوه، ومع هذا فقد قالوا إفكا لم يلتزموه، وباطلا لم يعملوا به،
والمعنى: أن عذابنا الأليم سيصيب أولئك اليهود الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قالوا إن الله أمرنا في التوراة وأوصانا بأن لا نصدق ونعترف لرسول يدَّعي الرسالة إلينا من قِبَلِ الله-تبارك وتعالى- حتى يأتينا بقربان يتقرب به إلى الله، فتنزل نار من السماء فتأكل هذا القربان.
ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم ردًا على زعمهم الباطل "قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ: أي جاءكم الرسل من قبلي بالدالات وبالآيات البينات التي تبين صدق رسالتهم.
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ:أي جاؤوا أيضًا بالذي ذكرتم من القُربان الذي تحرقه نار من السماء، فلِمَ كذبتموهم وقتلتموهم إن كنتم صادقين فيما تقولون!؟. يعني زكريا ويحيى ... ، وسائر من قُتلوا من الأنبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم .أراد بذلك أسلافهم، وذلك لأن أسلافهم طلبوا هذه المعجزة من الأنبياء المتقدمين فلما أظهروا لهم هذا المعجزة سعوا في قتلهم بعد أن قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة.
ومتأخرو اليهود راضون بفعل متقدميهم. لذا الله تعالى سمى اليهود قتلة لرضاهم بفعل أسلافهم ، وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة .

"فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ "184.
أَيْ: إنْ كَذَّبَك- يا مُحمَّدُ- سواء قريش أوأهل الكتاب أوكل من كذب الرسل ، فلا يُوهِنك ولا يَحزُنك ذلك ولا تبتئس ، ولك أُسْوَة بمَن قبلَك؛ فأنتَ لستَ بأوَّلِ مَن يُكذَّب، بل كُذِّب عددٌ من الرُّسُل عليهم السَّلام مع أنَّهم أتَوا أقوامَهم بِالْبَيِّنَاتِ :والبينات هي: الحُجَج القاطِعة والمعجِزات الباهِرة السَّاطعة.وَالزُّبُرِ: جمع زبور، والمراد به ما اشتمل على المواعظ والزواجر، ولهذا كان الزبور الذي أوتيه داود أكثره مواعظ وزواجر.وَالْكِتَابِ: بمعنى المكتوب. الْمُنِيرِ: بمعنى المنير للظلمات. المضيئةِ لطريق الحقِّ بذكْرِ الأحكامِ العادِلة والأخبارِ الصَّادِقة.
وهذا العطف الذي في قوله" وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ"هذا من باب عطف الصفة على الصفة الأخرى؛ لأن الزبر تتضمن الكتاب المنير. فالتغاير تغاير صفة وليس تغاير ذات.
الكتب السابقة ككتابنا كلها تنير الطريق لمن أراد المسير، ولكن أعظمها إنارة هو هذا القرآن الكريم، ولهذا كان مهيمنا على ما سبق من الكتب، فكل الكتب التي سبقت منسوخة به.
فالمعنى الإجمالي: لا تحزن فقد كُذِّب رسل من قبلك جاؤوا بمثل ما جئت به من باهر المعجزات و هَزُّوا القلوب بالزواجر و العظات و أناروا بالكتاب سبيل النجاة فلم يُغْنِ ذلك عنهم شيئا فصبروا على ما نالهم من أذى و ما نالهم من سخرية و استهزاء.
و في هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لأن طباع البشر في كل الأزمنة سواء فمنهم من يتقبل الحق و يُقْبِل عليه بصدر رحب و نفس مطمئنة و منهم من يقاوم الحق و الداعي إليه و يسفه أحلام معتنقيه.
من فوائد الآية الكريمة:تسليةُ الرسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام، ويتفرَّع عليها أنْ يَتسلَّى الإنسان ويهون عليه في كلِّ ما أصاب غيرَه.
"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ "185.
بعد أن سلَّى نبيه فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرََا من الرسل قبلك قد كُذِّبوا كما كُذِّبت و لاقَوْا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لاقيت بل أشد مما لاقيت فقد قَتلوا كثيرا منهم كيحيى و زكرياء عليهما السلام- زاده هنا تسلية و تعزية أخرى فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو مُنته إلى غاية و كل آت قريب فلا تضجر و لا تحزن على ما ترى منهم فإنَّ مصيرَهم ومصيرَ غيرِهم إليه سبحانه ، وعُبر عن حدوث الموت لكل نفس بذوقه ، للإشارة إلى أنه عند ذوق المذاق إما مُرًّا لما يستتبعه من عذاب ، وإما حلوًا هنيئا بسبب ما يكون بعده من أجر وثواب .
أن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ قالَ"إنَّ المَيِّتَ تَحضُرُه المَلائِكةُ، فإذا كانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قالوا: اخْرُجي أيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبةُ كانَتْ في الجَسَدِ الطَّيِّبِ، واخْرُجي حَميدةً، وأَبْشِري برَوْحٍ ورَيْحانٍ، ورَبٍّ غَيْرِ غَضْبانَ، فلا يَزالُ يُقالُ لها ذلك حتَّى تَخرُجَ، ثُمَّ يُعرَجُ بِها إلى السَّماءِ، فيُسْتَفتَحُ له، فيُقالُ: مَن هذا؟ فيُقالُ: فُلانٌ، فيُقالُ: مَرْحبًا بالنَّفْسِ الطَّيِّبةِ كانَت في الجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلي حَميدةً، وأَبشِري، ويُقالُ: برَوْحٍ ورَيْحانٍ، ورَبٍّ غَيْرِ غَضْبانَ، فلا يَزالُ يُقالُ لها ذلك حتَّى يُنْتَهى بها إلى السَّماءِ الَّتي فيها اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فإذا كانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قالوا: اخْرُجي أيَّتُها النَّفْسُ الخَبيثةُ كانَت في الجَسَدِ الخَبيثِ ، اخْرُجي مِنه ذَميمةً، وأَبشِري بحَميمٍ وغَسَّاقٍ ، وآخَرَ مِن شَكْلِه أزْواجٍ، فما يَزالُ يُقالُ لها ذلك حتَّى تَخرُجَ، ثُمَّ يُعرَجُ بها إلى السَّماءِ، فيُسْتَفتَحُ لها، فيُقالُ: مَن هذا؟ فيُقالُ: فُلانٌ، فيُقالُ: لا مَرْحبًا بالنَّفْسِ الخَبيثةِ كانَت في الجَسَدِ الخَبيثِ ، ارْجِعي ذَميمةً؛ فإنَّه لا يُفتَحُ لكِ أبْوابُ السَّماءِ، فتُرسَلُ مِن السَّماءِ، ثُمَّ تَصيرُ إلى القَبْرِ، فيَجلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فيُقالُ له ويَرُدُّ "الراوي : أبو هريرة- المحدث : الوادعي- المصدر : الصحيح المسند-الصفحة أو الرقم-2/342خلاصة حكم المحدث : صحيح.
فالموت حتم على جميعِهم و أنهم سيجازون على أعمالهم في دار الجزاء كما تجازى و حسبُك ما تصيب من حسن الجزاء و حسبهم ما أصيبوا به و ما يصابون به من سوء الجزاء في الدنيا و سيوفون الجزاء كاملا يوم القيامة.
فهذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير وشر.
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : يعني:توفون أجور أعمالكم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر، والتوفية تقتضي أن هناك شيئًا سابقا يزاد، وهو كذلك، فإن الإنسان قد يثاب في الدنيا على عمله، ولاسيما الإحسان إلى الخلق، وقضاء حوائجهم؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ، وَما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ، وَمَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ. "الراوي : أبو هريرة - المحدث : مسلم- المصدر : صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم : 2699 .
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ:
وجمع - سبحانه - بين زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة مع أن في الثاني غُنية عن الأول ، للإشعار بأن دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين وهما : النجاة من النار "زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ" ، والتلذذ بنعيم الجنة " وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ" .
قال صلى الله عليه وسلم "إنَّ موضعَ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها واقرؤوا إن شئتُم"فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُور"الراوي : أبو هريرة- المحدث : الألباني- المصدر : صحيح الترغيب- الصفحة أو الرقم - 3767خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح.

إنَّ موضعَ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها :ليست دنياك التي أنت فيها، وليست دنياك الخاصة بك أنت، بل الدنيا من أولها إلى آخرها. إذن فالحياة هذه بالنسبة للآخرة دانية، من الدنو وهو الانحطاط.تفسير العثيمين.
أي: إنَّ مَن رأى هولَ القِيامةِ والحِسابِ والصِّراطِ والموقفِ بين يَديِ اللهِ وغيرِ ذلك من أهوالِ الموقِفِ، ثمَّ يُنَجِّيه اللهُ من ذلك كلِّه، ومن عَذابِ النَّارِ، ويُدْخِلُه الجنَّةَ؛ ويُفوزُ فِيها وَلْو بِموضِعِ قَدمٍ، أو مَوْضِعِ سَوطٍ، يعلَمُ عندَ ذلك أنَّ نَعيمَ الدُّنيا وزِينتَها كان غُرورًا، ولا قِيمةَ له، ولأنَّ زِينةَ الحياةِ الدُّنيا إنْ فَتَنتْ أحدًا ورَكَنَ إليها، ورأى أنَّه لا شَيءَ غيرُها، أو تعجَّلَها؛ فقدِ اغتَرَّ بترْكِ الأعْلى إلى الأدنى، واستبدَلَ الباقِيَ بالفاني.الدرر السنية.
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ : يعني منفعة ومتعة كالفأس والقدر والقصعة ثم تزول ولا تبقى .تصغيرا لشأن الدنيا ، وتحقيرًا لأمرِها ، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة . فالغرور إذن أن تلهيك متعة قصيرة الأجل عن متعة عالية لا أمد لانتهائها ،الحياة الدنيا متاع غرور ممن غر بالتافه القليل عن العظيم الجليل..فالدنيا ليست إلا متاعًا من شأنه أن يغرّ الإنسانَ ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف والأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة.
فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه وإنفاق الوقت فيما لا يفيد، إذ ليس للذاتها غاية تنتهَى إليها فلا يبلغ حاجة منها إلا طلب أخرى.
" لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" 186.
لَتُبْلَوُنَّ :والابتلاء: الاختبار، والله سبحانه أحيانًا يختبر بخير وأحيانًا يختبر بشر كما قال تعالى " وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً"الأنبياء:35. وكما قال تعالى عن سليمان "قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ" النمل: ٤٠. وذلك أن الإنسان دائر بين حالين إما شيء يُسَر به ويفرح به، فهذا وظيفته الشكر، وإما شيء يسوؤه ويحزنه فهذا وظيفته الصبر، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له."الراوي : صهيب بن سنان الرومي - صحيح مسلم-الصفحة أو الرقم : 2999 .
والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن في أَمْوَالِكُمْ بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق في سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضًا فيأَنْفُسِكُمْ بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وهم اليهود والنصارى وَمِنَ الذين أشركوا وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعًا أَذًى كَثِيرًا كالطعن فى دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التي أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .
وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبًا تدريجيًا ، فابتدأ بأدنى ألوان البلاء وهو الإصابة في المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة في النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهي التي تختص بالإصابة في الدين ، وقد عبر عنها بقوله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيرًا.
وإنما كانت الإصابة في الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى في ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى في دينه ...ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورًا بلينه ورفقه .
ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من " فنحاص " اليهودي أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل" ، فغَضِبَ أبو بَكْرٍ فضَرَبَ وَجْهَ فِنْحاصَ"
حسن إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح ،وقال أحمد شاكر أن إسناده جيد أوصحيح.
وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلًا وحمقًا ، وزاد العالمين حقدًا وحسدًا
ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذي يعين على التغلب على هذا البلاء فقال:وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور :
أي : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها بضبط النفس ، وقوة الاحتمال.والصبر هو حبس القلب واللسان والجوارح عما يغضب الله عز وجل.

قال أهل العلم: والصبر على ثلاثة أقسام:١ - صبر على طاعة الله، وهو أعلى الأقسام.٢ - صبر عن معصية الله، وهو دونه.٣ - وصبر على أقدار الله المؤلمة،وهو دون الإثنين الأوليين؛ لأن الإثنين الأوليين: صبر على شرع الله، والثالث صبر على قدر الله، والصبر على قدر الله يكون من المؤمن والكافر، ومن الناطق والبهيم، لكن الصبر على شرع الله لا يكون إلا من المؤمن، ثم الصبر على المأمور أعلى من الصبر عن المحظور؛ لأن الصبر عن المحظور كف فقط، والصبر على المأمور فعل؛ فهو إيجاد وعمل، ففيه نوع من الكلفة بخلاف الصبر عن فعل المحظور، فإنه ليس إلا مجرد كف، على أنه قد يكون أحيانا بالنسبة للنفس أشد من الصبر على فعل المأمور، فيسهل على بعض الناس مثلا أن يصلي، لكن يصعب عليه أن يدع ما حرم الله عليه من الأمور التي تحثه نفسه إليها حثا.صبر الصائم على الصيام، من الأول، وصبره على ألمه الذي يحصل بالجوع والعطش، من الثالث، وصبره عما حرم عليه بالصوم من الثاني، ولهذا يسمى شهر رمضان شهر الصبر؛ لأن جميع أنواع الصبر الثلاثة تحصل للصائم، ففيه -أي في الصيام- صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الأقدار.ومن الأمثلة: صبر يوسف على إلقاء إخوته إياه في البئر من الثالث، وصبره عن إجابة امرأة العزيز من الثاني، صبر عن المعصية، وصبره على الدعوة إلى الله وهو في السجن من الأول.وَتَتَّقُواْ: أي وتتقوا الله في كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .
والإشارة في قوله فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمورِ: أي من الأمور المعزومة التي تحتاج إلى عزم وإلى همة وإلى مكابدة لأنها شاقة على النفس، والعزم في الأمور من الصفات الحميدة التي وصف بها الكُمَّل من الخلق، قال تعالى " فَاصبِر كَما صَبَرَ أُولُو العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ "الأحقاف: 35.

فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمورِ:تعود إلى المذكور ضمنًا من الصبر والتقوى ، أي فإن صبركم ابتغاء وجه الله وتقواكم هذا من عزم الأمور أي مِن الأمورِ التي تَحتاج إلى هِمَّة عالية، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية. من الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد لما فيه من كمال المزية و الشرف.
فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهي أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا للفوز .
"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ"187.
الميثاق : هو العهد الموثق المؤكد . ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل أهل الكتاب ، فقد أخذ - سبحانه - العهد على الذين أوتو الكتاب بأمرين :أولهما : بيان ما في الكتاب من أحكام وأخبار .
وثانيهما : عدم كتمان كل شىء مما فى هذا الكتاب .
والمعنى : واذكر أيها المخاطب وقت أن أخذ اللهُ العهدَ المؤكدَ على أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يبينوا جميع ما فى الكتاب من أحكام وأخبار وبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم وألا يكتموا شيئًا من ذلك ، لأن كتمانهم للحق سيؤدي إلى سوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة .
والضمير فى قوله "لَتُبَيِّنُنَّهُ " يعود إلى الكتاب المشتمل على الأخبار والشرائع والأحكام والبشارات الخاصة بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل الضمير يعود إلى الميثاق ، ويكون المراد من العهد الذي وثقه الله عليهم هو تعاليمه وشرعه ونوره .
وقوله وَلاَ تَكْتُمُونَهُعطف على " لَتُبَيِّنُنَّهُ" وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيًا .
وجمع - سبحانه - بين أمرهم المؤكد بالبيان وبين نهيهم عن الكتمان مبالغة فى إيجاب ما أمروا به حتى لا يقصروا في إظهار ما في الكتاب من حقائق وحتى لا يلجأوا إلى كتمان هذه الحقائق أو تحريفها .
ولكن أهل الكتاب - ولا سيما العلماء منهم - نقضوا عهودهم مع الله - تعالى - ، وقد حكى - سبحانه - ذلك فى قوله: فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ .
النبذ : الطرح والترك والإهمال .
أي أن أهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهود الموثقة بأن يبينوا ما في الكتاب ولا يكتموا شيئا منه ، لم يكونوا أوفياء بعهودهم ، بل إنهم نبذوا ما عاهدهم الله عليه ، وطرحوه وراء ظهورهم باستهانة وعدم اعتداد .
وأخذوا في مقابل هذا النبذ والطرح والإهمال شيئا حقيرًا من متاع الدنيا وحطامها ، فبئس الفعل فعلهم .
والتعبير عنهم بقوله فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن استهانتهم بالمنبوذ ، وإعراضهم الشديد عنه بالكلية ، وإهمالهم له إهمالًا تامًا ، لأن من شأن الشىء المنبوذ أن يهمل ويترك ، كما أن من شأن الشىء الذي هو محل اهتمام أن يحرس ويجعل نصب العين .
والضمير فى قولهفَنَبَذُوهُيعود على الميثاق باعتبار أنه موضع الحديث ابتداء .ويصح أن يعود إلى الكتاب ، لأن الميثاق هو الشرائع والأحكام ، والكتاب وعاؤها ، فنبذ الكتاب نبذ للعهد .
واشتروا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً:والمراد " بالثمن القليل " أي: استبدلوا به ثمنا قليلا، أي بهذا العهد والميثاق ثمنا قليلا، وما هو الثمن القليل الذي اشتروه؟ هو إبقاء رئاستهم وجاههم وسلطانهم على قومهم؛ لأن هؤلاء الأحبار والقسيسين لو تبعوا محمدًا زالت رئاستهم ووجاهتهم وصاروا كعامة الناس، فقالوا: نكذب محمدًا ونبقى على ما كنا عليه من الرئاسة والجاه والتقديم، إذن ما هو المبيع، وما هو الثمن؟المبيع: العهد. والثمن: الجاه والرئاسة وما أشبه ذلك. ووصف الله هذا بأنه قليل؛ لأن جميع ما في الدنيا قليل . تفسير الشيح محمد صالح العثيمين.
والثمن قليل مهما كثر زهيد لا يدوم للإنسان، ولا يدوم الإنسان له، بل لابد من زواله، إما زوال الإنسان وإما زوال الثمن الذي اشتراه وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب ومقابل رضا الله – تعالى.
قوله فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ:بئس كلمة ذم . أى بئس شراؤهم هذا الشراء لاستحقاقهم به العذاب الأليم .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه .قال الشيخ العثيمين رحمه الله:يؤخذ منها - وجوب بيان العلم على أهل العلم فيبينوا العلم الذي آتاهم الله، ولم يذكر الله عز وجل الوسيلة التي يحصل بها البيان، فتكون على هذا مطلقة راجعة إلى ما تقتضيه الحال، قد يكون البيان بالقول، وقد يكون بالكتابة، وقد يكون في المجالس العامة، وقد يكون في المجالس الخاصة، على حسب الحال؛ لأن الله أطلق البيان ولم يفصل ولم يعين.ا.هـ.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال "مَن سُئلَ عَن علمٍ علمَهُ، ثمَّ كتمَهُ، أُلجِمَ يومَ القِيامةِ بلِجامٍ مِن نارٍ"الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي -الصفحة أو الرقم : 2649 - خلاصة حكم المحدث : صحيح .
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-05-25, 05:44 AM   #8
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Mo

تفسير سورة آل عمران
من آية 188إلى آية 200
" لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "188.
كان الكلام قبل هذا مع أهل الكتاب و أنه قد أخذ عليهم الميثاق بتبيين كتابهم للناس فقصروا في ذلك و تركوا العمل به و اشتروا به ثمنًا قليلا فاستحقوا العقاب من ربهم.
وهنا ذكر حالا أخرى من أحوالهم ليحذر المؤمنين منها و هو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل و التحريف للكتاب والأعمال التي يتقربون بها إلى الله على زعمهم و يرون لأنفسهم شرفا فيه و فضلا بأنهم أئمة يُقتدَى بهم و كانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب و مفسروه و هم لم يفعلوا شيئًا من ذلك و إنما فعلوا نقيضه إذ حولوه من الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام و أهواء العامة.
"أنَّ رِجَالًا مِنَ المُنَافِقِينَ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ إذَا خَرَجَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عنْه، وفَرِحُوا بمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وحَلَفُوا وأَحَبُّوا أنْ يُحْمَدُوا بما لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ"لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بما أتَوْا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بما لَمْ يَفْعَلُوا" الآيَةَ.الراوي : أبو سعيد الخدري -صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم:4567.
عمومُ المعنى: أنه تعالَى يُخاطِبُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ لا يَظُنَّ هو، ولا يَظُنَّ الذين يَفرحون بما فَعَلوه من أعمالٍ -ككِتْمان العِلم لمَن سَأَلهم كاليهودِ، والتخلُّفِ عن الغزْوِ في سَبيلِ اللهِ تعالَى كالمنافِقين، وكأعمالِ المتزيِّنين للنَّاسِ المُرائين لهم بما لم يَشرَعْه اللهُ ورَسولُه- ويُحبُّون أنْ يُثنِيَ عليهم النَّاسُ بما لم يَعملوه؛ أنَّهم سيَنجُون مِن عَذابِ الله، بلْ لهم عَذابٌ أليمٌ!
وقد دلَّ مفهومُ قَولِه تعالَى "وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا"
آل عمران: 188. على أنَّ مَن أحبَّ أنْ يُحمَدَ ويُثنى عليه بما فعَلَه من الخيرِ واتِّباعِ الحقِّ، إذا لمْ يكُن قصْدُه بذلك الرِّياءَ والسُّمْعَةَ- أنَّه غيرُ مَذمومٍ، بلْ هذا مِن الأمورِ التي جازَى بها اللهُ تعالَى خَواصَّ خَلْقِه، وسَأَلوها مِنه، كما قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ"وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ "الشعراء: 84.
والمراد ب " اللسان " القول . وفيه استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل . واجعل لي ثناء حسنًا وذكرًا جميلا في الذين يأتون بعدي إلى ما شاء الله .
من فضل الله على العبد أن يجعل ألسنة الخلق تذكره بخير .. فقد تُمدح يومًا .. المهم أن يكون المدح صدقا فيك .. وليس شرطا أن تسمع ذكرك الحسن في حياتك ربما تثني عليك الأجيال القادمة..!! فـ أينما توقفت سفينة حياتك اترك أثرًا نافعًا .. وامض وشعارك "وَاجْعَل لي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ."
فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ:
-أنَّ مَرْوَانَ، قالَ: اذْهَبْ يا رَافِعُ، لِبَوَّابِهِ، إلى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ: لَئِنْ كانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بما أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بما لَمْ يَفْعَلْ، مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقالَ ابنُ عَبَّاسٍ:ما لَكُمْ وَلِهذِه الآيَةِ؟ إنَّما أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ في أَهْلِ الكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا ابنُ عَبَّاسٍ"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ" هذِه الآيَةَ، وَتَلَا ابنُ عَبَّاسٍ"لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بما لَمْ يَفْعَلُوا"، وَقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عن شيءٍ فَكَتَمُوهُ، إيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قدْ أَرَوْهُ أَنْ قدْ أَخْبَرُوهُ بما سَأَلَهُمْ عنْه وَاسْتَحْمَدُوا بذلكَ إلَيْهِ، وَفَرِحُوا بما أَتَوْا مِن كِتْمَانِهِمْ إيَّاهُ، ما سَأَلَهُمْ عنْه."الراوي : عبدالله بن عباس -صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم :2778.
فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ :
فلا يظنون أنهم بمحل نجوة من العذاب وسلامة، بل قد استحقوه، وسيصيرون إليه، بلْ لهم عَذابٌ أليمٌ!
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الجملة هذه استئنافية، لمَّا بيَّن أنهم ليسوا بناجين من العذاب أكد هذا بقوله:وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أليم بمعنى مؤلم موجع.
فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة بعده، ولكنه سبحانه قال بعد هذه الآية:
" وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"189.
بعد قوله تعالى " فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : قال سبحانه : وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
فلا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك السماوات والأرض، فهذا الوعيد سيتحقق، فالله حين يوعد فهو - سبحانه - قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبدًا.
فإذا ما سر أعداء الدين في فورة توهم الفوز، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ"المسد:1:5.وهذه السورة قد نزلت في عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت هذه السورة دليلا من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافرا، وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفارا وآمنوا، فمن الذي كان يُدري محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن يقول "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ"المسد:1:5. من كان يدري محمدا بعد أن يقول هذا ويكون قرآنا يتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول: إنني سأصلى نارا ذات لهب فهأنذا قد آمنت، من كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص. إن الذي أخبر محمدًا يَعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبدًا، فيسجلها القرآن على نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرًا.
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله" فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قال سبحانه بعدها " وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة.وواقعة لا محالة.فجميع المخلوقات محصورة بين سماء تظل، وأرض تقل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصورًا بين مملوكين لله، فأين تذهبون؟إن لله الملك وله القدرة المطلقة ، ولا يعجزه أحدٌ.
بعد أن بيَّنَ- سبحانه - أن ملك السموات والأرض بقبضته، أشار- سبحانه - إلى ما فيهما من عبر وعظات فقال:
" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ "190.
الخلق: هو الابتداع على غير مثال سبق.
أي: إن في إيجاد السموات والأرض على هذا النحو البديع، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وبحار وزروع وأشجار ...وفي إيجاد الليل والنهار على تلك الحالة المتعاقبة، وفي اختلافهما طولا وقِصَرًا.. وفي كل ذلك لأمارات واضحة، وأدلة ساطعة، لأصحاب العقول السليمة على وحدانية الله-تبارك وتعالى- وعظيم قدرته، وباهر حكمته.
فالآية فيها حث للعباد على التفكر فيها، والتبصر بآياتها، وتدبر خلقها.وورد في هذه الآية : ويلٌ لمن قرأَها ولم يتفَكَّر فيها.
يَقولُ التَّابعيُّ عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: دَخَلتُ أنا وعُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ وهو أحَدُ التَّابِعينَ، على عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. دَخَلوا عِندَها لزيارَتِها وسُؤالِها "دخلتُ أَنا وعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ على عائشةَ فقالت لعُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ : قد آنَ لَكَ أن تزورَنا ؟ فقالَ : أقولُ يا أمَّه كما قالَ الأوَّلُ زُرْ غِبًّا تزدَدْ حبًّا قالَ فقالَت دَعونا من رطانَتِكم هذِهِ قالَ ابنُ عُمَيْرٍ أخبرينا بأعجَبِ شيءٍ رأيتِهِ من رسولِ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آله وسلَّمَ - قالَ فسَكَتَت ثمَّ قالت لمَّا كانَ ليلةٌ منَ اللَّيالي قالَ: يا عائشةُ ذريني أتعبَّدُ اللَّيلةَ لربِّي قلتُ واللَّهِ إنِّي لأحبُّ قربَكَ وأحبُّ ما سرَّكَ قالَت فقامَ فتطَهَّرَ ثمَّ قامَ يصلِّي قالَت فلَمْ يزَلْ يَبكي حتَّى بلَّ حِجرَهُ قالَت ثمَّ بَكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بلَّ لِحيتَهُ قالَت ثمَّ بَكَى فلم يزَل يَبكي حتَّى بلَّ الأرضَ فجاءَ بلالٌ يؤذنُهُ بالصَّلاةِ فلمَّا رآهُ يبكي قالَ: يا رسولَ اللَّهِ لِمَ تَبكي وقد غَفرَ اللَّهُ لَكَ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ قالَ: أفلا أَكونُ عبدًا شَكورًا لقد نَزَلَت عليَّ اللَّيلةَ آيةٌ ويلٌ لمن قرأَها ولم يتفَكَّر فيها" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..." آل عمران: 191. الآيةَ كلَّها".الراوي : عائشة أم المؤمنين -المحدث : الوادعي -المصدر : الصحيح المسند- الصفحة أو الرقم - 1627 :خلاصة حكم المحدث : حسن.
يَرْوي ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما أنَّه باتَ عندَ خالتِهِ مَيْمُونةَ بنتِ الحارِثِ أُمِّ المُؤمنينَ رَضِي اللهُ عنها، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَبِيتُ عندها في لَيلتِها:
"أنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَاسْتَيْقَظَ فَتَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ وَهو يقولُ"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"آل عمران: 190، فَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ حتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فأطَالَ فِيهِما القِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَامَ حتَّى نَفَخَ، ثُمَّ فَعَلَ ذلكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ، كُلَّ ذلكَ يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ، ثُمَّ أَوْتَرَ بثَلَاثٍ، فأذَّنَ المُؤَذِّنُ فَخَرَجَ إلى الصَّلَاةِ وَهو يقولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُورًا، وفي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ في سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ في بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِن خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِن فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتي نُورًا، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا."الراوي : عبدالله بن عباس- صحيح مسلم.
قال النووي رحمه الله :فيه استحباب قراءة هذه الآيات عند القيام من النوم " انتهى.
قال ابن كثير- رحمه الله:وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده .ا.هـ.
لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ :هذا الخلق وتدبره آيات وعلاماتٍ لأصحابِ العقولِ السَّليمةِ - التي تُدرِكُ حَقائقَ الأشياء، فتدلُّهم على أنَّ خالقَ ذلك هو الربُّ المعبودُ وحْدَه سبحانه، كما تدلُّهم على صِفاتِ الله تبارَك وتعالَى - فَلُب الشيء هو خلاصته وصفوته.
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى أنَّ الذين يَنتفعونَ بتلك الآياتِ هم أُولو الألبابِ، شرَعَ في وصْفِهم ، فقال:
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ""191.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ:أي: إنَّ أُولي الألبابِ هم الذينيستحضرون عظمته في قلوبهم ويُديمون ذِكرَ اللهِ تعالى بقلوبِهم وألْسنتِهم، وفي جميعِ أحوالِهم، في حالِ وُقوفِهم، وحالِ جُلوسِهم، وحالِ اضطجاعِهم.وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب، ويدخل في ذلك الصلاة قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب.
ثم وصفهم سبحانه وتعالى بوصف آخر فقال :وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ:يضيفون إلى هذا الذكر؛ التدبر والتفكر في هذا الكون وما فيه من بديع المخلوقات، وآيات بينات على توحيد الخالق، ليصلوا من وراء ذلك إلى الإيمان العميق، والإذعان التام، والاعتراف الكامل بوحدانية الله.وعظيم قدرته... فإن من شأن الأخيار من الناس أنهم يتفكرون في مخلوقات الله وما فيها من عجائب المصنوعات، وغرائب المبتدعات، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع- سبحانه -، فيعلموا أن لهذا الكون قادرًا مدبرًا حكيمًا، لأن عظم آثاره وأفعاله، تدل على عظم خالقها.إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول: إن وراء خلق الكون قوة خارقة. وقد عرفها العربي بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟!
وعلى هذا فينبغي لك أن تكرس جهودك على التأمل المبني على العقل، حتى يكون عندك عقل غريزي وعقل مكتسب.تفسير العثيمين.
ثم حكى- سبحانه - ثمرات ذكرهم لله وتفكرهم في خلقه فقال:رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا : أي: إنَّهم حين يَتفكَّرون في خَلْقِ السَّمواتِ والأرض، يقولون: إنَّك يا ربَّنا، لم تَخلقْ هذا الخَلْقَ عبثًا ولا لهوًا؛ فأنتَ مُنزَّهٌ عن ذلك، ولكنَّك خلقتَه لحِكمةٍ ولأمرٍ عظيمٍ، من تكليفٍ وبعْثٍ، وحسابٍ وجزاءٍ، فتُجزي كلَّ أحدٍ بما عمِله من خيرٍ أو شرٍّ.
الثناء على ذوي العقول؛ لأن الله جعل هذه الآيات نافعة لأولي العقول، وعلى هذا فينبغي لك أن تكرس جهودك على التأمل المبني على العقل، حتى يكون عندك عقل غريزي وعقل مكتسب.
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ:أي أنهم بعد أن أذعنت قلوبهم للحق، ونطقت ألسنتهم بالقول الحسن، وتفكرت عقولهم في بدائع صنع الله تفكيرًا سليمًا، استشعروا عظمة الله استشعارًا ملك عليهم جوارحهم، فتوسلوا بإيمانهم هذا وتفكرهم فرفعوا أكف الضراعة إلى الله بقولهم:يا ربنا إنك ما خلقت هذا الخلق البديع العظيم الشأن عبثا، أو عاريًا عن الحكمة، أو خاليًا من المصلحة، سُبْحانَكَ أي ننزهك تنزيها تامًّا عن كل مالا يليق بك ،قدّموا التنزيه المتضمّن لكل كمال قبل السؤال لشدّة رجائهم في الوقاية من هذا المهلك الرهيب،فَقِنا عَذابَ النَّارِ :أي أَجِرْنا من عذابِ النارفوفقنا للعمل بما يرضيك بأنْ تُوفِّقَنا للأعمالِ الصالحات، وتُجنِّبَنا بفضلِك الذُّنوبَ والسيِّئات، واصرف عنا عذاب النار برحمتك وفضلك.
"رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار"ٍ192.
والخزي: مصدر خزي يخزى بمعنى ذل وهوان بمرأى من الناس، أي مَن أدخلتَه النارَ يا رَبَّنا، فقدْ أَهنتَه وفَضحْتَه على رؤوس الأشهاد.
لَمَّا سألوا ربَّهم أن يَقيَهم عذابَ النار، أتْبعوا ذلك بما يدلُّ على عِظَمِ ذلك العقابِ وشِدَّتهوهو الخزي والفضيحة، ليكون موقع السؤال أعظم.وفي هذا .. مبالغة في تعظيم أمر العقاب بالنار، وإلحاح في طلب النجاة منها، قيل : قال أنس وقتادة معناه : إنك من تُخَلِّد في النارِ فقد أخزيته وقال سعيد بن المسيب هذه خاصة لمن لا يخرج منها.
نسأل الله الستر والعفو والعافية في الدنيا والآخرة .
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار :أي: إنَّهم إنما دخلوا النارَ بظُلمِهم، وليس للظالمِ يَومَ القيامةِ أحدٌ يُنقذُه من عذابِ اللهِ تعالى ، فيوم القيامة لا مجير لهم منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم، و " مِنْ " للدلالة على استغراق النفي، أي لا ناصر لهم أيا كان هذا الناصر، وفي ذلك إشارة إلى انفراد الله-تبارك وتعالى- بالسلطان ونفاذ الإرادة.
"رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ" 193. .
رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ :أي: إنَّهم قالوا: يا ربَّنا، إنَّنا قد سمِعْنا داعيًا يَدْعو إلى الإيمانِ، وهو الرسول محمد ، وقيل: المنادِي هو كتابُ اللَّهِ تعالى، وكلاهما صحيح ومتعيّن.
قال أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون"ربنا ربنا"حتى استجيب لهم، واختلف المتأولون في المنادِي، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما: المنادِي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المنادِي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه، ولما كانت ينادي بمنزلة يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى "إلى الإيمان.تكرار لفظ ربنا فيه استحباب الإلحاح في الدعاء، والإلحاح من أسباب إجابة الدعاء. وفيه إظهار الضراعة والخضوع لله رب العالمين .وفيه التوسل بالربوبية حال الدعاء وهو ورد كثيرا في القرآن في سياقات دعوات الأنبياء في القرآنفأكثر دعوات الأنبياء كانت بالتوسل بالربوبية ومثل ذلك قول إبراهيم عليه السلام "رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" الشعراء:83. "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ" آل عمران:38.وقول سليمان عليه السلام "قَالَرَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي"ص: 35.وقول موسى عليه السلام"فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ"القصص: 24.وقول إبراهيم عليه السلام"رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ" إبراهيم:40. " قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ "المائدة: 114. عيسى عليه السلام توسل في دعائه بالأولوهية بقوله اللهم وكذلك بالربوبية بقوله ربنا.
أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا :أي: يقولُ للنَّاسِ: آمِنوا بربِّكم، فَآمَنَّا:يلاحظ أن المتعلَق محذوف قالوا آمنا – آمنا بماذا!؟- المعنى هنا أننا آمنا بكل شيء يجب الإيمان به،من آمن بالله آمن بكل ما أخبر الله به ومنه بقية الأصول الستة، لذلك الكلمات قد يُستغنى بمُجملِها عن تفصيلِها فتفيد العموم، فحذف المتعلَق هنا يفيد عموم الإيمان بما يجب الإيمان به.الإيمان بالله عز وجل: هو الإقرار المتضمن للقبول والإذعان وليس مجرد الإقرار، ولو كان الإيمان مجرد الإقرار لكان أبو طالب مؤمنًا لأنه مقر، ولكنه لا يكون إيمانا حتى يتضمن القبول والإذعان، يعني الانقياد.
فَآمَنَّا:فاء التعقيب؛ للدَّلالةِ على المبادرةِ والسَّبقِ إلى الإيمان، أي فسارعنا إلى الاستجابةِ له، فأَقرَرْنا بالحقِّ وقبِلْناه، مُنقادِين إليه، ومُذعِنين له، وفي سرعة امتثالهم دلالة على سلامة فطرتهم، وبعدهم عن المكابرة والعناد.
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا :أي: بإيمانِنا واتِّباعِنا نبيّك، استُرْ علينا ذُنوبَنا، وتجاوزْ عن مُؤاخذتِنا بها.
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا : أي: بإيمانِنا واتِّباعِنا نبيّك، امحُ عنَّا خَطايانا؛ فالحسناتُ يُذهِبْنَ السيِّئاتِ.قال تعالى" أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ"هود: 114.
وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ : أي: اجعلْنا إذا قَبضتَ أرواحَنا إليك في عِدادِ الصَّالحين. ومعنى وفاتهم مع الأبرار: أن يموتوا على حالة البر والطاعة وأن تلازمهم تلك الحالة إلى الممات، وألا يحصل منهم ارتداد على أدبارهم، بل يستمروا على الطاعة استمرارا تامًا، وبذلك يكونون في صحبة الأبرار وفي جملتهم.
"رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ "194.
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ:أي: أعطِنا- يا ربَّنا- ما وعَدتَنا به على ألْسنةِ رُسلِك عليهم السَّلامُ، من النَّصرِ على الأعداء ، ومِن الثوابِ على الأعمالِ الصَّالحة.
فائدة: قوله عَلى رُسُلِكَ فيه مضاف محذوف أي آتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من ثواب.و "ما" موصولة أي آتنا الذي وعدتنا به أو وعدتنا إياه.
فقد وعد سبحانه بسيادة الدنيا في قوله تعالى " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ"النور: 55.
وقال سبحانه "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ "محمد:7.
ووعد بسعادة الآخرة فقال " وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ"التوبة:72.
فالمؤمنون ذوو الألباب مستمرون في التوسل بالربوبية والضراعة لله وتَرَقُّوا فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب الجزيل، والعطاء الحسن في الدنيا والآخرة.
وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ :إشارة إلى قوله تعالى "يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ"التحريم:8.
أي: لا تَفْضَحْنا بذُنوبِنا على رُؤوسِ الخلائقِ، ولا تُذِلَّنا يومَ القيامةِ.
إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ : أي نسألك يا ربنا إنجاز الوعد، فإن قلت: كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد؟وهو تعالى من لا يجوز عليه خلف الوعد. قلت: معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، والتخوف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا، فمعنى قول المرء: اللهم أنجز لي وعدك، إنما معناه:اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد.
تلك هي الدعوات الخاشعات التي حكاها- سبحانه - عن أصحاب العقول السليمة، وهم ينضرعون بها إلى خالقهم- عز وجل -فماذا كانت نتيجتها؟ نتيجتها ما ورد في الآية التالي:
"فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ"195.
فَاسْتَجَابَ : أي: أجاب الله دعاءهم، دعاء العبادة - الإيمان بالله عز وجل وهو الإقرار المتضمن للقبول والإذعان- ، ودعاء الطلب .ولم يقل فأجاب ولكن قال فاستجاب فالسين والتاء تفيد معنى التأكيد، أجاب أخص من استجاب، لأن استجاب لا تُقال إلا لمن قَبِلَ ما دُعيَ إليه. أما أجاب تُقال لمن أجاب بالقَبول أو الرفض.
عَنِ الْفَرَّاءِ ، وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرَّبَعِيِّ : أَنَّاسْتَجَابَ أَخَصُّ مِنْ أَجَابَ ، لِأَنَّ اسْتَجَابَ يُقَالُ لِمَنْ قَبِلَ مَا دُعِيَ إِلَيْهِ ، وَ أَجَابَ أَعَمُّ، فَيُقَالُ لِمَنْ أَجَابَ بِالْقَبُولِ ، وَبِالرَّدِّ.
أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ:
لا أضيع: يعني لا أهدره بل أحتسبه.وقوله" عَمَلَ عَامِلٍ " " عَمَلَ " هنا مضاف فيقتضي العموم يعني: أي عمل قل أو كثر فإن الله لا يضيعه، وهذا كقوله"فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ"7."وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍشَرًّا يَرَهُ"8.الزلزلة.
عن أمِّ سلمةَ رضِيَ اللهُ عَنها "أنَّها قالت : يا رسولَ اللَّهِ، لا نسمعُ اللَّهَ ذَكَر النِّساءَ في الهجرةِ بشيءٍ ؟ فأنزلَ اللَّهُ تعالى :فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى إلى آخرِ الآيةِ. وقالتِ الأنصارُ : هيَ أوَّلُ ظعينةٍ قدمَتْ علَينا"خلاصة حكم المحدث :أشار في المقدمة إلى صحته -الراوي : أم سلمة أم المؤمنين- المحدث :أحمد شاكر- المصدر :عمدة التفسير-الصفحة أو الرقم1/451.
"قالت يا رسولَ اللَّهِ لا أسمعُ اللَّهَ ذَكرَ النِّساءَ في الهجرَةِ فأنزلَ اللَّهُ تبارك وتعالى أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ"الراوي : أم سلمة أم المؤمنين- المحدث :الألباني-المصدر : صحيح الترمذي- الصفحة أو الرقم: 3023 - خلاصة حكم المحدث : صحيح لغيره.
شرح الحديث :لقد راعى الشَّرعُ الحكيمُ أحوالَ النَّاسِ مِن حيث النَّوعُ والقدرةُ على التَّحمُّلِ، وجعَل التَّكاليفَ أنواعًا؛ فمِنها ما يَشترِكُ فيه الجميعُ ذُكورًا وإناثًا، ومنها تكاليفُ خاصَّةً بكلِّ نوعٍ تتَناسَبُ مع طبيعةِ الخِلْقةِ، ومع ما يُناطُ بكلِّ نوعٍ مِن أعباءِ الحياةِ، دون حَيفٍ أو جَورٍ بأحَدِ النَّوعينِ، ورتَّب الأجرَ على الأعمالِ، والله يتفضَّلُ على مَن يَشاءُ مِن عبادِه.
وفي هذا الحديثِ تَسأَلُ أمُّ سلمةَ أمُّ المؤمنينَ رضِيَ اللهُ عَنها النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فتقولُ "يا رسولَ اللهِ، لا أسمَعُ اللهَ ذكَر النِّساءَ في الهجرةِ"، أي: ما تَكلَّم اللهُ في كتابِه في شأنِ النِّساءِ اللَّاتي هاجَرْن في سبيلِ اللهِ؟ فأنزل اللهُ تبارك وتعالى قولَه" أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ "آل عمران: 195، " أَنِّي لَا أُضِيعُ" أي: لا أُحبِطُ عمَلَكم أيُّها المؤمِنون، بل أُثيبكم عليه، ولا أَمحو ولا أُزيل ثوابَه وأجرَه " عَمَلَ عَامِلٍ" ، يريدُ وجهَ اللهِ وثوابَ الآخرةِ، " مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى" بل الكلُّ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ يُجازَى ويُكافَأُ بما وعَد اللهُ مِن الثَّوابِ والفضلِ، " بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ" أي: لأنَّ الذَّكرَ مِن الأنثى، والأنثى مِن الرَّجلِ، وقيل: أي: مُتعاوِنون في النُّصرةِ وإخوةٌ في الدِّينِ.
وقيل: كلُّكم مِن آدمَ وحوَّاءَ، وقيل: بمعنى بعضُكم كبَعضٍ في الثَّوابِ على الطَّاعةِ، والعِقابِ على المعصيةِ، وقيل: إنَّ الرِّجالَ والنِّساءَ في الطَّاعةِ على شكلٍ واحدٍ.
وفي الحديثِ: بيانُ فضلِ وعدلِ اللهِ سبحانه وتعالى.
الدرر السنية.
فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا :أي: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا بأن تركوا أوطانهم التي أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله.
وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ: وأُخرجوا من بيوتهم فرارًا بدينهم من ظلم الظالمين، واعتداء المعتدين،أخرجوا إما مباشرة بأن طُردوا من البلاد، أو بالتضييق عليهم حتى يخرجوا؛ لأن الإخراج من البلاد، إما أن يكون مباشرة بالطرد، وإما أن يكون بالتضييق عليه حتى يخرج.
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي تحملوا الأذى والاضطهاد في سبيل الحق الذي آمنوا به وَقَاتَلُوا أعداء الله وَقُتِلُوا وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.
هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك، وعدهم الله-تبارك وتعالى- بالأجر العظيم فقال:لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ : أي لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات، ولأسترنها عليهم حتى تُعتبر نسيًا منسيًا .
وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ :أي تجري من تحت قصورها الأنهار التي فيها العسل المصفَى، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.والجنة درجات :
"أُصِيبَ حَارِثَةُ يَومَ بَدْرٍ وهو غُلَامٌ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، قدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فإنْ يَكُنْ في الجَنَّةِ أصْبِرْ وأَحْتَسِبْ، وإنْ تَكُ الأُخْرَى تَرَى ما أصْنَعُ، فَقَالَ: ويْحَكِ ، أوَهَبِلْتِ، أوَجَنَّةٌ واحِدَةٌ هي، إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وإنَّه في جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ" الراوي : أنس بن مالك- صحيح البخاري
"مَن آمَنَ باللَّهِ وبِرَسولِهِ، وأَقامَ الصَّلاةَ، وصامَ رَمَضانَ؛ كانَ حَقًّا علَى اللَّهِ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جاهَدَ في سَبيلِ اللَّهِ أوْ جَلَسَ في أرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فيها، فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قالَ: إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ في سَبيلِ اللَّهِ، ما بيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فإنَّه أوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ -أُراهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ."الراوي : أبو هريرة- صحيح البخاري.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَن آمَن باللهِ تعالَى وأنَّه وَحْدَه المستحِقُّ بالعبادةِ، ولم يُشرِكْ بعِبادةِ ربِّه أحَدًا، وآمَنَ برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيمانًا صادقًا مِن قلْبِه، وأنَّه خاتمُ المرسَلينَ، ورسَولُ اللهِ إلى الخلْقِ كافَّةً، وأقام الصَّلواتِ الخمْسَ ، فأدَّاها بشُروطِها وأركانِها كما يَنْبغي، وصام شَهرَ رَمَضانَ إيمًانا واحتسابًا؛ استحَقَّ دُخولَ الجنَّةِ بفَضْلِ اللهِ ورَحمتِه، سَواءٌ جاهَدَ في سَبيلِ اللَّهِ إنِ استطاعَ، أوْ جَلَسَ في أرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فيها ولم يُشارِكْ في الجِهادِ؛ لأنَّ كلَّ مُسلمٍ يُعامَلُ بحَسْبِ عَمَلِه كثيرًا كان أو قَليلًا، فالتَّفاوُتُ حاصلٌ في عمَلِ الدُّنيا، وكذلك حاصلٌ في دَرَجاتِ الجنَّاتِ في الآخرةِ.
ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ: الثواب لا يكون إلا من عنده-تبارك وتعالى-، لكنه صرح به- سبحانه - تعظيمًا للثواب وتفخيمًا لشأنه. فهو سبحانه الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل.
وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ:
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عنده الجزاءُ الحسن لِمَن عمِلَ صالحًا، ممَّا لا عَينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَر على قلبِ بشَرٍ.وأضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم ، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا .
"قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ."
الراوي : أبو هريرة-صحيح البخاري .
"قالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ "فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهمْ مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ"
السجدة: 17."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري .
وقد ختم- سبحانه - الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لا يُعَدّ حسنًا بجوار ما أعده- سبحانه - في الآخرة لعباده المتقين.
"لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ"196..
قيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة .
وقيل :للجميع.تفسير القرطبي.
لَمَّا وعَد اللهُ تعالى وبشر- سبحانه - عباده المؤمنين الصادقين بالثَّوابِ العظيم، وكانوا في الدُّنيا في نهاية الفقرِ والشِّدَّة، والكفَّارُ كانوا في النِّعم، ذكَر اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ما يُسلِّيهم ويُصبِّرُهم على تلك الشِّدَّة وألا ينخدعوا بظاهرِ ما عليه الكفَّارُ من قوة وسطوة ومتاع دنيوي من تردُّدٍ على البلاد، وتنقُّلٍ فيها بأنواعِ التِّجاراتِ والمكاسبِ، بِما يجعلُهم في بَحبوحةٍ في العيش، وترَفٍ في الحياةِ، وعِزٍّ وغلبةٍ في بعضِ الأوقات.
لَا يَغُرَّنَّكَ : إظهار الأمر المضر في صورة الأمر النافع، وهو مشتق من الغِرة بكسر الغين- وهي الغَفْلَة- ويقال: رجل غِر إذا كان ينخدع لمن خادعه.
والتقلب في البلاد: التصرف فيها على جهة السيطرة والغلبة ونفوذ الإرادة.
"مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ"197. .
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ :أي: إنَّهم مُنتقِلون بعدَ مماتِهم وذَهابِ مُتعِهم، إلى الإقامةِ في نارِ جَهنَّم.
وَبِئْسَ الْمِهَادُ: أي: وبئس الفراشُ والمقرُّ هي، أي: جهنَّم.والمهد هو المكان الذي ينام فيه الطفل. ومعنى ذلك أنه يُقَلَّب فيهم في جهنم كما يشاء الله ويقدر، لأنه لا قدرة لهم على أي شيء، شأنهم في ذلك شأن الطفل، لايزال ملازمًا لفراشه ومَهْدِهِ حتى يُقلبه ويُحركه غيرُهُ.
أي: إنَّ هذا الذي عليه الكفَّارُ من قوة وسطوة ومتاع دنيوي متاع قليل مؤقت قليل كمًّا وكيفًًا زائل ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلا، ويعذبون عليه أبدًا عذاب لا نهاية له .
"لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَار" 198..
أما المتقون لربهم، المؤمنون به الذين امتَثلوا ما أمَر الله تعالى به، واجتَنبوا ما نهى عنه، - فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها،، فإنَّهم يُمتَّعون في الدارِ الآخِرةِ في جَنَّاتٍ تَجري من خلالها أنواعٌ من الأنهار، وهم ماكثونَ في هذا النَّعيمِ على الدَّوام.
فلو قدر أنهم في دار الدنيا، قد حصل لهم أي بؤس وشدة، وعناء ومشقة، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم في الآخرة، والسرور والحبور، والبهجة نزرًا يسيرًا، ومنحة في صورة محنة.

دخلَ عمرُ بنُ الخطابِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلمَ:
وإنَّه- صلى الله عليه وسلم - لَعَلَى حَصِيرٍ ما بيْنَهُ وبيْنَهُ شَيءٌ، وتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ!فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ."
الراوي : عمر بن الخطاب- صحيح البخاري.
نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ:والنُّزل: ما يُعد للنزيلِ والضيفِ لإكرامِهِ والحفاوةِ به مِنْ طَعامٍ وشرابٍ وغيرِهِمَا.
أي: إنَّ الله تعالى قدْ أعدَّ لهم تلك الجنَّاتِ مَنزلَ ضِيافةٍ دائمًا مِن كرامةِ اللهِ تعالى لهم .
أي لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها حالة، قدْ أعدَّ لهم سبحانه تلك الجنَّاتِ مَنزلَ ضِيافةٍ دائمًا على سبيل الإكرام لهم، والتشريف لمنزلتهم.
وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَار: أي: إنَّ ما عندَ اللهِ تعالى من النَّعيمِ المقيم خيٌر للطَّائعين المتقين- الذين أحْسَنوا العملَ- من متاعِ الدُّنيا القليلِ الزَّائل

"وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ"199.
لَمَّا حكَى اللهُ تعالى بعضَ مخالفاتِ أهلِ الكتابِ، مِن نبْذِ الميثاق وتَحريفِ الكتابِ وغيرِ ذلك، سِيقتْ هذه الآيةُ؛ لبيانِ أنَّ أهلَ الكتابِ ليس كلُّهم كمَن حُكيتْ مخالفاتُهم، بل منهم مَن له مَناقبُ جليلةٌ، مثل: عبد الله بن سَلَام وأصحابه.وقد بيَّن- سبحانه - هنا صفات الأخيار منهم: أي: "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وهم اليهود والنصارى لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي منهم من يؤمن إيمانًا حقًا مُنَزهًا عنِ الإشراكِ بكل مظاهره ويؤمن بما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن الكريم على لسان نبيكم محمد صلّى الله عليه وسلّم ويؤمن بحقيقة ما أُنزل إليهم من التوراة والإنجيل ولا يزالون مع هذا الإيمان العميق خَاشِعِينَ لِلَّهِ : أي خاضعين له- سبحانه - خائفين من عقابه، طالبين لرضاه، فهؤلاء الذين يؤمنون بما أَنْزَلَ اللهُ على رسولِهِ عليه الصلاة والسلام مع إيمانهم بكتبهم إنما يفعلون ذلك تعظيمًا لله وذلًا له، لا طلبًا للدنيا، أو المدح أو ما أشبه ذلك
لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا: والمراد بآيات الله هنا: الآيات الشرعية؛ أي: لا يُحرِّفون ما في كُتُبِهم، ولا يُبدِّلونه، ولا يَكتمون ما فيها من العِلم- ومِن ذلك البشارةُ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبيانُ صِفتِه للناس-؛ ليَحْصُلوا في مُقابلِ ذلك على متاعٍ دُنيويٍّ زائل، مِن منصبٍ، أو جاهٍ، أو مالٍ، وغير ذلك من أعراض الدنيا الفانية وهو قليل زائل حتى ولو بلغ قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؛ لأنه بالنسبة لما في الآخرة ليس بشيء كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم"أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ:رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا، ومَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا، والرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبيلِ اللَّهِ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا."الراوي : سهل بن سعد الساعدي- صحيح البخاري.
وفي الحَديثِ:فَضلُ الرِّباطِ في سَبيلِ اللهِ.
وفيه:بيانُ حَقارةِ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى الآخِرةِ.
وهذه الصفات توجد في اليهود ، ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس . كان عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن يَهودِ المدينةِ، وذلك قبْلَ مَبْعثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان حَبْرًا عالِمًا مِن عُلماءِ اليهودِ ويَعلَمُ مِن التَّوراةِ صِفاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأسلَمَ بعْدَ قُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ مُهاجِرًا، وأقامَ الحُجَّةَ على اليَهودِ بأنَّهم قَومٌ بُهتٌ، وشَهِد عليهم بذلك.
" بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ سَلَامٍ مَقْدَمُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ فأتَاهُ، فَقالَ: إنِّي سَائِلُكَ عن ثَلَاثٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا نَبِيٌّ؛ قالَ: ما أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ؟ ومِنْ أيِّ شَيءٍ يَنْزِعُ الوَلَدُ إلى أبِيهِ؟ ومِنْ أيِّ شَيءٍ يَنْزِعُ إلى أخْوَالِهِ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: خَبَّرَنِي بهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ، قالَ: فَقالَ عبدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلَائِكَةِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:أمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ ، وأَمَّا الشَّبَهُ في الوَلَدِ: فإنَّ الرَّجُلَ إذَا غَشِيَ المَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كانَ الشَّبَهُ له، وإذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كانَ الشَّبَهُ لَهَا. قالَ: أشْهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ ، إنْ عَلِمُوا بإسْلَامِي قَبْلَ أنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتِ اليَهُودُ، ودَخَلَ عبدُ اللَّهِ البَيْتَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ؟ قالوا: أعْلَمُنَا وابنُ أعْلَمِنَا، وأَخْيَرُنَا وابنُ أخْيَرِنَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:أفَرَأَيْتُمْ إنْ أسْلَمَ عبدُ اللَّهِ؟ قالوا: أعَاذَهُ اللَّهُ مِن ذلكَ، فَخَرَجَ عبدُ اللَّهِ إليهِم، فَقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فَقالوا: شَرُّنَا وابنُ شَرِّنَا، ووَقَعُوا فِيهِ" الراوي : أنس بن مالك- صحيح البخاري.
وفي الحَديثِ: مِن عَلاماتِ نُبوَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إخبارُه عَن بَعضِ الأُمورِ الغَيبيَّةِ.
وفيه:فَضيلةٌ ومَنقَبةٌ لعبْدِ اللهِ بنِ سلَامِ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه:أنَّ اليهودَ أهلُ كَذِبٍ وفُجورٍ، يَقولونَ ويفتَروَن على غيرِهم ما ليسَ فيه.الدرر السنية.
وأما النصارى فكثير منهم مهتدون وينقادون للحق مثل أصحمة – النجاشي - ملك الحبشة وغيره كثير ،كما قال تعالى
"
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ"المائدة :
82 . .
قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ"مَاتَ اليومَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا علَى أخِيكُمْ أصْحَمَةَ."الراوي : جابر بن عبد الله- صحيح البخاري
" عن أُمِّ سَلَمةَ -في شَأْنِ هِجرَتِهم إلى بِلادِ النَّجاشيِّ، وقد مَرَّ بَعضُ ذلك- قالتْ:فلمَّا رأتْ قُرَيشٌ ذلك اجتَمَعوا على أنْ يُرسِلوا إليه، فبعَثوا عَمرَو بنَ العاصِ، وعَبدَ اللهِ بنَ أبي رَبيعةَ، فجمَعوا هَدايا له، ولبَطارِقَتِه، فقدِموا على الملِكِ، وقالوا: إنَّ فِتْيةً منَّا سُفَهاءَ فارَقوا دِينَنا، ولم يَدخُلوا في دِينِكَ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتدَعٍ لا نَعرِفُه، ولجَؤوا إلى بِلادِكَ، فبعَثْنا إليك لتَرُدَّهم.فقالتْ بَطارِقَتُه: صدَقوا أيُّها الملِكُ. فغضِبَ، ثُمَّ قال: لا لعَمرُ اللهِ، لا أرُدُّهم إليهم حتى أُكلِّمَهم؛ قَومٌ لجَؤوا إلى بِلادي، واختاروا جِواري. فلمْ يَكُنْ شيءٌ أبغَضَ إلى عَمرٍو وابنِ أبي رَبيعةَ مِن أنْ يَسمَعَ الملِكُ كَلامَهم، فلمَّا جاءهم رسولُ النَّجاشيِّ، اجتمَعَ القَومُ، وكان الذي يُكلِّمُه جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ، فقال النَّجاشيُّ: ما هذا الدِّينُ؟ قالوا:أيُّها الملِكُ، كنَّا قَومًا على الشِّركِ؛ نَعبُدُ الأوْثانَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونُسيءُ الجِوارَ، ونَستحِلُّ المَحارمَ والدِّماءَ، فبعَثَ اللهُ إلينا نَبيًّا مِن أنفُسِنا، نَعرِفُ وَفاءَه وصِدقَه وأمانَتَه، فدَعانا إلى أنْ نَعبُدَ اللهَ وَحدَه، ونَصِلَ الرَّحِمَ، ونُحسِنَ الجِوارَ، ونُصلِّيَ، ونَصومَ.قال: فهل معكم شيءٌ ممَّا جاء به؟ -وقد دَعا أساقِفَتَه، فأمَرَهم، فنشَروا المَصاحفَ حَولَه- فقال لهم جَعفَرٌ: نعمْ، فقرَأ عليهم صَدرًا مِن سورةِ "كهيعص".فبَكى -واللهِ- النَّجاشيُّ، حتى أخضَلَ لِحيَتَه، وبكَتْ أساقِفَتُه حتى أخضَلوا مَصاحفَهم، ثُمَّ قال: إنَّ هذا الكَلامَ ليَخرُجُ مِن المِشكاةِ التي جاء بها موسى، انطَلِقوا راشدينَ، لا واللهِ، لا أرُدُّهم عليكم، ولا أنعَمُكم عَينًا. فخرَجا مِن عندِه، فقال عَمرٌو: لآتيَنَّه غَدًا بما أستأصِلُ به خَضراءَهم، فذكَرَ له ما يقولونَ في عيسى."الراوي : أبو بكر بن عبدالرحمن - المحدث : شعيب الأرناؤوط - المصدر : تخريج سير أعلام النبلاء -الصفحة أو الرقم : 1/216 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
فقال عمْرُو: لآتِيَنَّهُ غدًا بما أستأصِلُ به خَضْراءَهُم"، يَتوعَّدُهُم عمْرٌو أنْ يَتكلَّمَ مع النَّجاشيِّ مرَّةً أُخرى؛ لِيُساوِمَهُ فيهم، "فذكَرَ له ما يَقولونَ في عيسى"، فحاوَلَ أنْ يُوقِعَ بيْنَهم وبيْنَ النَّجاشيِّ في أمْرِ عيسى ابنِ مَريَمَ، وذلِكَ أنَّ النَّصارى يَعبُدونَ عيسى ابنَ مَريَمَ عليه السَّلامِ.
وفي روايةِ أحمَدَ فسَأَلَهم النَّجاشيُّ "ما تَقولونَ في عيسى ابنِ مَريَمَ؟ فقالَ له جَعفَرٌ:نقولُ فيه الَّذي جاءَ به نبيُّنا، هو عبدُ اللهِ ورسولُهُ ورُوحُهُ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَريَمَ العَذْراءِ البَتولِ،فصَدَّقَهم بما قالوا، وقالَ لهم "اذْهَبوا فأنتُم سُيومٌ بأرْضي" والسُّيوم بلُغةِ الحَبشةِ: الآمِنونَ، "مَن سبَّكَم غُرِّمَ"، بمَعْنى: مَن وقَعَ فيكم بالسِّبابِ حاكَمَهُ النَّجاشيُّ، فمِثلُ هذا باعِثٌ لهم على الاطمِئْنانِ؛ لأنَّ السِّبابَ هو أقَلُّ الأذَى الَّذي قد يقَعُ للغُرَباءِ، "فما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا ذَهَبًا، وإنِّي آذَيتُ رَجُلًا منكم"، والدَّبْرُ بلِسانِ الحَبَشةِ: الجَبَلُ، وقد رَدُّوا على قُرَيشٍ هَداياها كما جاءَ في الرِّواياتِ .الدرر السنية.
أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ :أولئك التي هذه أوصافهم الذين عدلوا عن الدنيا ولم يأخذوها بدلًا عن طاعة الله والإيمان به ؛ لَهُمْ أَجْرُهُمْ: أي: ثواب، وإضافته إلى الله "عِندَ رَبِّهِمْ" يدل على عِظَمِهِ وأنه عظيم جدًا، فإن الشيء من العظيم عظيم، ومن الكريم كثير،و فيه إشارة أنه باق؛ لأن ما عند الله يبقى، "مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ"النحل : 96. ولهذا يخلد أهل الجنة فيها أبدًا، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ: السرعة: عدم التباطؤ في الشيء، فالله تعالى سريع الحساب من وجهين:
الوجه الأول: أن الدنيا قليلة وفانية وسريعة وما هي إلا لحظات ثم تنقضي بسرعة، فاليوم الجمعة مثلا، أو السبت أو الأحد أو أحد أيام الأسبوع ما تأخذ إلا شيئًا قليلا حتى يصل الإنسان إلى نهايته ويموت، فيجد الحساب أمامه، فهذه سرعة.
والسرعة الثانية: يوم القيامة فإن الله تعالى يحاسب الخلائق كلها في نصف يوم؛ لقوله تعالى"أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا "الفرقان: ٢٤.والقيلولة إنما تكون في نصف النهار، ويلزم من هذا أن الله يحاسب الخلائق كلهم في نصف يوم حتى إن كل واحد منهم يقيل في منزله ومستقره.تفسير الشيخ العثيمين.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" 200.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا : نستشهد بقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه"إذا سمعت الله يقول:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك -يعني استمع لها- فإما خيرًا تُؤمر به، وإما شرًا تُنهى عنه".وقلنا:إن الله تعالى إذا صدَّرَ الخطاب بهذا فهو دليل على العناية به.ووجهه:أنه صدَّره النداءَ الذي يفيدُ تنبيه المخاطب.
ثم إذا كان النداء بوصف الإيمان كان دليلا على أن ما يأتي بعده من مقتضى الإيمان؛ لأنه لولا أنه من مقتضاه ما صدر الخطاب لمن يوجه إليه بلفظ الإيمان. فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا بإيمانكم افعلوا كذا وكذا، أو:لإيمانكم لا تفعلوا كذا وكذا. تفسير الشيخ العثيمين.
اصْبِرُوا: على كل ما يحتاج إلى صبر، ومعلوم أن الذي يحتاج إلى الصبر هو الذي يخالف هوى النفس؛ فالذي يخالف هواك هو الذي يحتاج إلى الصبر؛ لأنه يشق عليك تَحَمّله، فطاعة الله عز وجل ثقيلة على النفوس فاصبر عليها، والمعاصي ثقيل تركها على النفوس فاصبر على الترك، والآلام والمصائب التي تصيب الإنسان ثقيلة على النفس فاصبر عليها.فالمصائب التي تصيب الإنسان هي بنفسها مكفرة للذنوب، إذا صبر الإنسان ظفر، ولاسيما إذا قرن صبره باحتساب الأجر على الله عز وجل، إذا صبر الإنسان ظفر، ولاسيما إذا قرن صبره باحتساب الأجر على الله عز وجل،كانت العاقبة الحميدة، كانت مع التكفير زيادة حسنات.وَصَابِرُوا:المصابرة أن يجاهد المسلم نفسه مجاهدة لا تنقطع، حتى يحقق المجاهد رضا ربه عنه، بفعل الطاعة وترك المعصية، ذاكرًا قول الله تعالى "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" الحجر: 99.
وبمغالبة أَعداءَ الدِّين بالصبرِ ، حتى تَنتصِروا عليهم؛ فلا يكونوا أصْبرَ منكم.
المصابرة تكون من اثنين،"الصبر الأول"لا أحد يضادك في الشيء إنما هو شيء بينك وبين نفسك تصبر.
"
الصبر الثاني" إنسان يضادك ويثيرك ويعتدي عليك فصابره .. بمعنى غالبه بالصبر، وهذا يكون في ملاقاة الأعداء. فالعدو يصابرك وأنت تصابره، ولكن الله تعالى قد سلى عباده المؤمنين في قوله تعالى" وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا "
النساء : 104. أنت إذا جرحت تتألم وهو إذا جرح يتألم بلا شك، " وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ "النساء: ١٠٤.فرق عظيم، فالذي يرجو من الله عز وجل هذا الثواب على ما حصل له يهون عليه هذا الشيء، حتى إنه أحيانا لا يشعر به من شدة احتسابه الأجر على الله عز وجل.تفسير العثيمين.
وَرَابِطُوا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ :
المرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر؛ فهي لزوم ثغر القلب؛ لئلا يدخل منه الهوى والشيطان . فيزيله عن مملكته.
فالمرابطة: أخص المصابرة، يعني رابطوا على الطاعات، ومن ذلك ما بيَّنَهُ النبيُّ عليه الصلاة والسلام حيثُ قالَ
"أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ"
الراوي : أبو هريرة - صحيح مسلم.
إسباغ الوضوء على المكاره، يعني: في أيام البرودة، فإن الإنسان إذا أسبغ الوضوء، يعني:أتمه وأكمله دل هذا على إيمانه بالله عز وجل وعلى شدة تصديقه ورجائه لثواب الله.
فالمرابطة، هي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها فقال: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"آل عمران: 200.

تم بفضل الله الانتهاء من تفسير سورة آل عمران
اللهم اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا
التفسير مجمع من كتب التفسير وأقوال العلماء وحاولنا قدر المستطاع الإحالة لكن لتصرفنا أحيانا بالتخريج أو الاختصار غير المخل فالإحالة إجمالية قدر الطوق
وأستغفر الله من أي خطأ أو سهو
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-05-25, 05:55 AM   #9
أم أبي تراب
نفع الله بك الأمة
Home

فوائد سورة آل عمران من ١ -٩
هنا
_______________________
فوائد سورة آل عمران من ١٠ -١٧
هنا
_________________
فوائد سورة آل عمران من ١٨ -٢٥
هنا
_________________
فوائد سورة آل عمران من ٢٦ -٣٢
هنا
______________
فوائد سورة آل عمران من ٣٣ -٣٨
هنا
____________________
فوائد سورة آل عمران من ٣٩ -٤٧
هنا
_______________
فوائد سورة آل عمران من ٤٨ -٥١
هنا
______________________
فوائد سورة آل عمران من ٥٢ -٥٨
هنا
____________________
فوائد سورة آل عمران من ٥٩ -٦٨
هنا
_________________
فوائد سورة آل عمران من ٦٩ -٧٤
هنا
_________________
فوائد سورة آل عمران من ٧٥ -٨٠
هنا
___________________
فوائد سورة آل عمران من ٨١ -٩١
هنا
__________________
فوائد سورة آل عمران من ٩٢ -٩٥
هنا
_______________________
فوائد سورة آل عمران من ٩٦ -١٠١
هنا
________________________
فوائد سورة آل عمران من ١٠٢ - ١١٠
هنا
____________________
علي الزهراني

فوائد سورة آل عمران من ١١١ - ١١٧
_____________________

فوائد سورة آل عمران من ١١٨ - ١٢٩

هنا
للدكتور علي الزهراني حفظه آلله.
______________________
فوائد سورة آل عمران من ١١١ - ١١٧
هنا
__________________
فوائد سورة آل عمران من ١١٨ - ١٢٩

هنا
______________________

فوائد سورة آل عمران من ١٣٠ - ١٤٨


هنا

________________
فوائد سورة آل عمران من ١٤٩ - ١٥٥
هنا
_______________

فوائد سورة آل عمران من ١٥٦ - ١٦٨
هنا
________________


فوائد سورة آل عمران من ١٦٩ - ١٨٠

هنا
___________________________

فوائد سورة آل عمران من ١٨١ - ١٨٨

هنا
_____________________

فوائد سورة آل عمران من ١٨٩ - ١٩٥

هنا
____________

فوائد سورة آل عمران من ١٩٦ - ٢٠٠

هنا
أم أبي تراب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

(View-All Members who have read this thread in the last 30 days : 1
أم أبي تراب
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الدليل إلى المتون العلمية أمةالله المتون العلمية 58 17-01-08 10:11 PM
تفسير سورة الفاتحة ورده الياسيمن روضة القرآن وعلومه 0 10-12-07 01:34 AM


الساعة الآن 09:12 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025,Jelsoft Enterprises Ltd.
هذه المنتديات لا تتبع أي جماعة ولا حزب ولا تنظيم ولا جمعية ولا تمثل أحدا
هي لكل مسلم محب لدينه وأمته وهي على مذهب أهل السنة والجماعة ولن نقبل اي موضوع يثير الفتنة أو يخالف الشريعة
وكل رأي فيها يعبر عن وجهة نظر صاحبه فقط دون تحمل إدارة المنتدى أي مسؤلية تجاه مشاركات الأعضاء ،
غير أنَّا نسعى جاهدين إلى تصفية المنشور وجعله منضبطا بميزان الشرع المطهر .