07-09-09, 02:22 AM | #11 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
8- للصائم فرحتان؟! بالصومِ يفرحُ المؤمنون حين تحينُ ساعةُ الإفطار، فيضعُ المؤمنُ التمرةَ في فيه لتُسكِتَ تلك الجوعةَ الثائرةَ في البطن، إنها لحظةٌ من لحظات التلذذ بالأكلِ، بعد مدةٍ من الامتناع عنه، والله يثيبُنا على ذلك، بل يعدُّه نبينا صلى الله عليه وسلم من الفرحِ المحمود، الذي يفرحُ به المؤمن، فما أعظم مِنَّة الله وفضلَه، حتى الأكلةُ التي ينتهي بها الصوم، وتختم بها العبادة، هي محبوبةٌ عند الله!! نعم؛ لأن الصائم قد ترك شهواتِه في النهار تقربًا إلى الله، وطاعة له، وبادرَ إليها بالليل تقرُّبًا إلى الله، وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر به، فهو مطيعٌ في الحالين، مطيعٌ حين يُمسك، ومطيعٌ حين يأكل، ولهذا جاء في الأثر ((إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد))([1])، حيث تلتقي الطاعتان طاعةُ الإمساك وطاعةُ الأكل. ثم الفرحةُ الثانيةُ العظيمة، حين يلقَى العبدُ ربَّه، في ذلك اليومِ العصيبِ، الذي تشيبُ لهوله الولدان؛ فيرى آثارَ الصيامِ ظاهرةً، وبركاتِه منتشرةً، فيُدخلُه الصيام من باب الريان، ويشفعُ له عند المليك الديان، فيفرح المؤمن بلقاءِ الله حين يرى عظيمَ الثواب، ووافر الجزاء، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [سورة يونس 10/58]. ([1]) رواه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والطبراني في الدعاء، قال في الزوائد: إسناده صحيح، وقال الحافظ ابن حجر: هذا ، أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير، وأخرجه الحاكم في المستدرك. |
07-09-09, 02:23 AM | #12 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
9- لعلكم تتقون.
التقوى خيرُ الزادِ، وخيرُ اللباس، وصيةُ الله للأولين والآخرين، وهي العُدَّةُ في الشدائد، والعون في الملمات، ومهبطُ الروح والطمأنينة، ومتنزل الصبرِ والسكينة. ورمضانُ شهرُ التقوى، وقد صرَّح الله بالحكمة من فرض الصيامِ بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [سورة البقرة 2/183]. والتقوى هي: أن تعملَ بطاعةِ الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله، وإنما تكون بالعلم النافع، والعمل الصالح. فإذا خرجت من رمضان، وقد فزت بالتقوى، فبالله عليك ماذا بقي من الخير ما حُزته؟! ومن البركات ما حصلتها؟! ولن يهلك من كانت التقوى زادَه، والله جل وعلا يقول {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72)} [سورة مريم 19/72]، ويقول {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17)} [سورة الليل 92/14-17]. أيها الإخوة، أما والله لو جلست أتحدث عن فضائل هذا الشهر وخيراته، وأسراره وبركاته، إلى بزوغ الفجر، ثم إلى مغيب شمسِ يومٍ آخر، ما وفيت فضائلَ الصومِ وشهرِه حقَّه، وكيف أوفي فضائلَ عملٍ أضافه الكريم إلى نفسه؟! وبركاتِ شهر نزل فيه أعظم حجج الله على خلقه؟ وفيه ليلة لا يماثلها ألف شهر؟! والمحروم من حرم خيره، والسعيد من كفته الإشارة إلى فضله، ورضي بإضافة الجزاء إلى ربه، وشمر عن ساعد الجد لينجو بنفسه، ويزرع في يومه ما يلقاه غدًا في قبره، وبين يدي ربه. اللهم إن في قلوبنا تفرقًا وشعثًا لا يَلمُّه إلا الإقبال عليك، وفي قلوبنا وحشةً لا يزيلها إلا الأنسُ بك في الخلوات، وفي قلوبنا حزَنًا لا يُذهبه إلا السرورُ بمعرفتك، وصدقُ معاملتك، وفي قلوبنا قلقًا لا يُسكِنُه إلا الاجتماعُ عليك، والفرارُ منك إليك، وفي قلوبنا نيرانَ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضا بأمرك ونهيك وقضائك، ومعانقةُ الصبر على ذلك إلى وقت لقائك، وفي قلوبنا فاقةً لا يسدُّها إلا محبتُك والإنابةُ إليك، ودوامُ ذكرك، وصدقُ الإخلاصِ لك، فاللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، حتى نلقاك بقلوب سليمة منيبة. اللهم يا من عم جوده البر والفاجر، وفاض عطاؤه على المؤمن والكافر، ووسعت رحمته كل شيء، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، وقيوم السموات والأرض ومن فيهن، نسألك رحمة ترفع بها درجتنا، ومغفرة تمحو بها ذنوبنا، اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من عتقائك من النيران، فقد أسرتنا الذنوب، واستوحشت منا القلوب، واستولت علينا زخارف الدنيا، فشغلتنا عن الدار الآخرة. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد أن تنصر المستضعفين، وأن تدفع الكرب والضيق عن إخواننا المظلومين، وأن تشدد وطأتك على المعتدين الباغين، إنك أنت القوي العزيز. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم... وكتبه عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الحصين التعديل الأخير تم بواسطة إشراف الأقسام العامة ; 07-09-09 الساعة 05:58 AM |
07-09-09, 02:26 AM | #13 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
التعديل الأخير تم بواسطة إشراف الأقسام العامة ; 07-09-09 الساعة 05:59 AM |
07-09-09, 02:31 AM | #14 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
محاضرة صوتية
محاضرة
أجود ما يكون في رمضان للاستماع : [rplayer]http://www.t-elm.net/almoshref/upload/Ramadan.mp3[/rplayer] للحفظ :[بالضغط بالزر الأيمن] |
07-09-09, 04:26 AM | #15 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
فقه الصيام د.عبدالسلام بن إبراهيم الحصين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فقه الصيام على مرتبتين: الأولى: معرفة حكمه وأسراره، وتحقيق مقاصده وأهدافه، وحصول نتائجه وحلول بركاته. الثانية: معرفة أحكامه، وما يجب فيه وما يحرم. وشهر رمضان منحة إلهية كريمة مباركة؛ لما أودع فيه من عبادة الصوم، ولما فيه من الخيرات الكثيرات، والمنح والهبات. والصيام عبادة من أجل العبادات، ويدل على ذلك إضافة الله هذه العبادة إليه، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))( متفق عليه)، وفي رواية: ((لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به))( رواه البخاري عن أبي هريرة)، وفي رواية: ((كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي))(متفق عليه). |
07-09-09, 04:30 AM | #16 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
أما المرتبة الأولى، وهي معرفة حكمه وأسراره؛ فإن أعظم حكمة في هذا الشهر الكريم المبارك أن يحصل للنفس غذاء روحاني يعينها على المبادرة إلى فعل الطاعات، والثبات على دين الله جل وعلا، ولهذا جعل الله التقوى أول حكمة في آيات الصيام، وآخرها.
وهذا إنما يكون بأمرين: أحدهما: تفريغ ، والثاني: تعبئة. أما التفريغ، فهو الإمساك عن الأكل والشرب، فإنه يعين على التفكر والتأمل، ويصون القلب عن وساوس الشيطان؛ لضيق مجاري الدم بقلة الأكل، إلا أن هذا الصيام لا بد أن يكون معه ستة أمور من جنسه، فيها تفريغ، وهي: الأول: صيام القلب عن الشك والريبة، والشرك، وسيء الأخلاق، فيطمأن قلبه بالله جل وعلا، فلا يشك ولا يرتاب، ويتعلق بالله فلا ينظر إلى غيره، ويتطلع لأحد سواه، ويطهر قلبه من الغل والحسد والبغضاء. الثاني: صيام العين: إن الصائم تصوم عينه فيغض بصره ويكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل(انظر: إحياء علوم الدين1/233) قال صلى الله عليه وسلم: ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله، فمن تركها خوفًا من الله آتاه الله عز وجل إيمانًا يجد حلاوته في قلبه))(رواه الحاكم في المستدرك (4/346، رقم 7875) من حديث حذيفة، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه الطبراني ر(10/173، رقم 10362) من حديث عبد الله بن مسعود). ألم تر أن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [سورة طـه 20/131]، فالصائم يمسك عينه عن هذا النظر الذي يملأ القلب بزينة الحياة الدنيا والتعلق بها، ويشغل الجوارح بطلبها، فإذا صامت عينه عن ذلك فرغ قلبه من التعلق بزخارف تتحول وتتبدل، ووجه نظره إلى ما هو خير وأبقى، واستعد لاستقبال ما يرد عليه من كلام الله وهداه، وذكره والانشغال به. الثالث: صوم اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت عما فيه مضرة، أو ما لا منفعة فيه، وقد قال سفيان: "الغيبة تفسد الصوم" رواه بشر بن الحارث عنه، وروى ليث عن مجاهد: "خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب"(إحياء علوم الدين (1/234))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم))(متفق عليه من حديث أبي هريرة)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الصيام من الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث))(رواه البخاري (1770))، وقال أيضًا: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) (رواه البخاري من حديث أبي هريرة). الرابع: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه؛ لأن كل ما حرُم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت}، وقال عز وجل: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت}، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)} [سورة النساء 4/140](انظر: إحياء علوم الدين (1/235)). والسمع بريد القلب، فمن حفظ سمعه فقد حفظ قلبه وروحه من أن يصل إليها ما يفسدها، وقد ورد أن ((الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع))، والألحان شراب الأرواح التي تسكر بها، وتطرب لها، وتنشغل بها عن سماع كلام الله والاستفادة منه. الخامس: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الأكل الحرام وقت الإفطار، فلا معنى للصوم -وهو الكف عن الطعام الحلال- ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرا ويهدم مصرا، فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته، لا بنوعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهًا، والحرام سم مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله(انظر: إحياء علوم الدين (1/235)). السادس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار، بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغضُ إلى الله عز وجل من بطن ملئ من حلال، وكيف يُستفاد من الصوم قهرُ عدوِّ الله وكسرِ الشهوة إذا تداركَ الصائمُ عند فطره ما فاته ضَحوةَ نهارِه؟!! وربما يزيد عليه في ألوان الطعام، حتى جرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر، ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى؛ لتقوى النفس على التقوى، وإذا فرغت المعدة من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها، ثم أُطعمت من اللذات وأشبعت، زادت لذتها وتضاعفت قوتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها، فلهذا ترى من بعض الناس في رمضان زيادة في الشر، وبعدًا عن الخير، وتفننًا في أنواع المعاصي؛ لما يفعلونه في ليلهم من ملأ البطون، وتلبية دواعي الشهوات، فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً، فلم ينتفع بصومه، بل إن من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه، وليبق لليله شيئًا من الضعف والجوع، حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء، ومن ملأ بطنه بأصواع من الطعام فهو عن ملكوت الله محجوب، وقد أوسع للشيطان مجراه، وفتح له الأبواب (انظر: إحياء علوم الدين (1/235)). والمتأمل في عبادة الاعتكاف يجدها تعين الصائم على هذه الأمور كلها. ثم بعد هذا التفريغ تكون الروح جاهزة لاستقبال ما يرد عليها من النور الإلهي، والفيض الرباني، فتشتاق بسببه إلى فعل الخيرات، وتنشغل به عن المحرمات. فأول ذلك: الصلاة، وهي الصلة بين العبد وربه، وشهر رمضان شهر القيام، فالنفوس تتعلق فيه بالصلاة، وتقبل عليها، وتمتلئ المساجد بالمصلين. والصلاة لا تكون غذاء للروح حتى يخشع صاحبها فيها ويخضع، ويستحضر قلبه، وجميع جوارحه فيحضرها ذليلة بين يدي الله، فينكشف له في هذه الحال من عظمة الله وكبريائه، وقوته وجلاله، ما يصغر معه كل كبير في الدنيا، فينطق قلبه بالتكبير والتحميد والتسبيح والتهليل قبل أن ينطق لسانه، قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}. الثاني: قراءة القرآن، وهو الروح الذي أنزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، فلا حياة لأرواح بني آدم إلا به، فهو غذاؤها ودواؤها، وهو حياتها ونظامها، قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82)} [سورة الإسراء 17/82]، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة 2/185]. الثالث: مداومة الذكر، من التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار؛ فإن الله مع عبده إذا ذكره، وهو يطرد الشيطان، ويحيي القلب ويغنيه، ويحط السيئات، ويزيل الوحشة بين العبد وربه، قال سليمان الخواص رحمه الله: "الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد, فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم, فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا"(نقله عنه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/52)). الرابع: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقًا مضطربًا بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدرى أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين، وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها، فقد روي عن الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون، فقال: "إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته"؛ أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك، وعن الأحنف بن قيس أنه قيل له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك!! فقال: "إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه"(انظر: إحياء علوم الدين (1/235- 236)). وقيل لأبي مسلم الخولاني: ما حملك على الصيام وأنت مسافر؟! قال: "إن الخيل لا تجري الغايات وهن بُدَُّن(قال في القاموس: ككُتُب، ورُكَّع. هذا إذا أردت الجمع، أما المصدر فهو: بَدْنًا، وبَدانًا، وبَدانَةً)، إنما تجري وهن ضُمَّرٌ، ألا وإن أيامنا باقية جائية لها نعمل"(سير أعلام النبلاء (4/10)). |
07-09-09, 04:50 AM | #17 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
وأما المرتبة الثانية؛ فهي: معرفة أحكام الصيام التي يلزم المسلم معرفتها ليكون صومه صحيحًا وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا نذكر أهم هذه الأحكام، فنقول: المسألة الأولى: ثبوت الشهر. يثبت دخول شهر رمضان بأحد أمرين: الأول: رؤية هلال رمضان، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر، وفي لفظ: ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) متفق عليه من حديث أبي هريرة. المسألة الثانية: الصيام قبل الشهر بيوم أو يومين. لا يجوز صيام يومي ثمان وعشرين وتسع وعشرين؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومًا فليصمه)). المسألة الثالثة: من يجب عليه الصوم؟ يجب الصوم على المسلم البالغ العاقل المقيم القادر السالم من الموانع. فالمسلم يخرج الكافر؛ فلا يصح منه الصوم، حتى يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا أسلم وجب عليه الصوم وصح منه، وليس عليه قضاء ما تركه أثناء كفره؛ لأن الإسلام يجب ما كان قبله. والبالغ هو الذي وصل سن البلوغ، وهو نبات شعر العانة حول القبل، أو إنزال المني باحتلام أو غيره، أو بلوغ خمس عشرة سنة، والمرأة تزيد أمرًا رابعًا، وهو الحيض، فمتى حاضت فقد بلغت، وجرى عليها قلم التكليف ولو لم تبلغ عشر سنين، وبهذا يخرج الصغير الذي لم يبلغ فلا يجب في حقه الصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يفيق)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم، لكن يبنغي لوليه أن يأمره بالصوم إذا أطاقه تمرينًا له على الطاعة ليألفها بعد بلوغه اقتداء بالسلف الصالح، فقد كان الصحابة يصومون أولادهم وهم صغار، ويذهبون إلى المسجد فيجعلون لهم اللعبة من العِهن –وهو الصوف أو نحوه-، فإذا بكوا من فقد الطعام أعطوهم اللعبة يتلهون بها. والعاقل يخرج المجنون والمعتوه ممن لا يتجاوز عقله العمري سن الطفل، فلا يجب عليه الصوم، لكن المعتوه ينبغي حثه على الصوم وعدم التساهل معه فيه، ومثل المجنون الكبير الهرم، الذي بلغ الهذيان وسقط تمييزه، فلا يجب عليه الصيام ولا الإطعام؛ لسقوط التكليف عنه بزوال تمييزه، فأشبه الصبي قبل التمييز، فإن كان أحيانًا يهذي وأحيانا يميز، وجب عليه الصوم في حال تمييزه دون حال هذيانه. والمقيم يخرج المسافر، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. والقادر يخرج العاجز؛ كالكبير الذي لا يطيق الصوم، أو المريض الذي لا يرجى برؤه، فلا يجب عليه الصيام؛ لأنه لا يستطيعه، وقد قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقال: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}، لكن يجب عليه بدل الصيام الإطعام عن كل يوم مسكينًا؛ لما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}، قال: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكينًا. وله في الإطعام ثلاث طرق: الأولى: أن يصنع طعامًا فيدعو إليه المساكين بعدد الأيام التي أفطرها، وهكذا فعل أنس حين كبر، فكان يطعم كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا. لكن هل يكفي وجبة واحدة؟ أو لا بد من وجبتين مشبعتين؟ ذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد من وجبتين مشبعتين(انظر: أحكام وفتاوى الزكاة والصدقات الصادر عن بيت الزكاة الكويتي (185)). وظاهر صنيع الصحابة أنه يكفي وجبة واحدة مشبعة؛ فقد روى الدارقطني والبيهقي عن أنس أنه ضعف عن الصوم عامًا فصنع جفنة من طعام، ثم دعا بثلاثين مسكينًا فأشبعهم. الثانية: أن يخرج مد بر، أو نصف صاع من غيره، والصاع يساوي كيلوين ونصف تقريبًا(انظر: أحكام القرآن للقرطبي (3/148)). وذهب بعض العلماء إلى وجوب صاع. الثالثة: أن يخرج قيمة الإطعام، بما يكفي مسكينًا، وذلك بالنظر إلى ما وجب عليه من المد، أو نصف الصاع، أو الصاع، على الخلاف فيه(انظر: المصدر السابق). والسالم من الموانع يخرج من وجد فيه مانع؛ كالحائض والنفساء والمريض، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله. المسألة الرابعة: النية. يشترط لصحة الصوم تبييت النية من الليل؛ لما روت حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له))، رواه الخمسة ومالك. والنية أن يقصد صيام النهار غدًا من رمضان، وفي أي وقت وقعت النية أجزأت، ويجوز أن يأكل بعدها ويشرب ويفعل ما يشاء، وأما اعتقاد بعضهم أنه إذا نوى الإمساك فلا يجوز له أن يأكل أو يشرب فليس بصحيح؛ لأن الإمساك إنما يكون في وقته المحدود كما سيأتي بيانه، والنية المقصود بها تعيين نوع هذا الإمساك، فلا يلزم أن يصحبها الإمساك نفسه. وبعض الناس يوسوس في النية، ويظن أنه لا بد أن يتحدث بها، ويحمله هذا الوسواس على فعل أمور منكرة، والنية أمرها يسير؛ فمعناها أن يستقر في قلبه أنه سيصوم غدًا من رمضان فقط. وعلى هذا فلو دخل عليه الفجر، وهو لا يعلم أن غدًا من رمضان، ثم علم لم يجزئه الصوم؛ لأنه لم يبيت النية من الليل. وأما صوم النفل فيجوز بنية من النهار قبل الزوال إذا كان لم يأكل شيئًا؛ لما في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذا يوم، فقال: ((هل عندكم من شيء؟)) قلنا: لا، قال: ((فإني إذا صائم؟)). المسألة الخامسة: السحور. عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تسحروا؛ فإن في السحور بركة)) متفق عليه. البركة هي نزول الخير الإلهي في الشيء، وثبوته فيه، والزيادةُ في الخير والأجر، وفي كل ما يحتاجه العبد من منافع الدنيا والآخرة. والسَّحور إنما يكون وقت السحر، قبيل أذان الفجر. وإن من أعظم بركات السَّحور الاستجابةَ لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)} [سورة الأحزاب 33/71]. ومن بركاته أنه شعارُ المسلمين؛ فإن أهل الكتاب لا يتسحرون، وقد صح عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ((فصْلُ ما بينَ صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتاب أَكْلةُ السَّحَرِ)). ومن بركاته حصولُ الخيريةِ، والمحافظةُ عليها، فعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر)) رواه أحمد، وفي إسناده سليمان بن أبي عثمان, قال أبو حاتم : مجهول. ومن بركاته التقويةُ على طاعة الله، والإعانةُ على العبادةِ، والزيادةُ في النشاط، والرغبةُ في فعل الطاعة مرةً أخرى. ومن بركاته أن الله وملائكته يُصلُّون على المتسحرين(رواه ابن حبان، والطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني). ومن بركاته أنه في وقتٍ تتنزلُ فيه الرحمات، وينزِلُ الربُّ جلَّ وعلا فيه، مناديًا عباده هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له؟ المسألة السادسة: الإفطار. عن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم)) متفق عليه، وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) متفق عليه، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل: إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرًا))، رواه أحمد والترمذي. ويكون الإفطار على رطب، فإن لم يجد فعلى تمر، فإن لم يجد فعلى ماء؛ لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء. رواه أحمد وأبو دواد والترمذي والحاكم. ومعنى حسا حسوات من ماء: أي تجرع جرعة بعد جرعة. ويستحب أن يقول عند الإفطار: ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله(رواه أبو داود والدارقطني والحاكم)، ويدعو بما شاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد))(رواه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والطبراني في الدعاء، قال في الزوائد: إسناده صحيح، وقال الحافظ ابن حجر: هذا حديث حسن، أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير، وأخرجه الحاكم في المستدرك). المسألة السابعة: الإمساك عن المفطرات. الصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ لقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}. وهذه المفطرات على نوعين: الأول: ما دل على كونه مفطرًا الكتاب والسنة وإجماع الأمة. الثاني: ما دل على كونه مفطرًا القياس. أما الأول؛ فإن المفطرات التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع هي: 1- الأكل والشرب؛ لقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، فمن أكل أو شرب متعمدًا مختارًا ذاكرًا لصومه فقد فسد صومه؛ وهو آثم بذلك، ويجب عليه القضاء عند جمهور أهل العلم(قال في المغني (4/365): "لا نعلم في ذلك خلافًا")؛ لأن الصوم كان ثابتًا في الذمة فلا تبرأ منه إلا بأدائه، ولم يؤده فيبقى على ما كان عليه، وعليه التوبة والاستغفار، ومن أهل العلم من يرى أنه لا قضاء عليه؛ لأن الصيام في رمضان عبادة مؤقتة بوقت فإذا تركها فقد فات وقتها، وإنما يجب القضاء على من ترك بعذر، وهذا ليس معذورًا، ولا يعني هذا التسهيل عليه، بل هذا فيه عِظَمُ جُرْمِ ما فعل، وأنه لا ينفع فيه القضاء. 2- الجماع؛ لقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}، فأباح الجماع في الليل فقط، فدل على تحريمه بالنهار، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه: ((يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))، فمن جامع أهله في نهار رمضان فسد صومه، ووجب عليه الإمساك، ويقضي مكان هذا اليوم يومًا آخر، ويجب عليه أيضًا الكفارة بصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فيطعم ستين مسكينًا؛ لما في صحيح البخاري وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: ((وَلِمَ؟)) قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: ((فَأَعْتِقْ رَقَبَةً))، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي، قَالَ: ((فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ))، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: ((فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا))، قَالَ: لَا أَجِدُ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: ((أَيْنَ السَّائِلُ؟)) قَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: ((تَصَدَّقْ بِهَذَا)) قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ!! فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، قَالَ: ((فَأَنْتُمْ إِذًا))، وأما المرأة فإن كانت مطاوعة له فيجب عليها مثل ما يجب عليه، وأما إن كانت مكرهة، ولم تستطع منعه فلا شيء عليها، وإنما عليها القضاء؛ لفساد صومها بالجماع. 3- الحيض والنفاس؛ ففي الصحيحين عن عائشة قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، ولما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم))، فمتى رأت الدم في نهار رمضان فسد صومها، ولو كان قبل غروب الشمس بقليل. 4- التقيؤ عمدًا، وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض))(رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وابن حبان وابن خزيمة والحاكم، وفيه كلام كثير.). 5- الحجامة؛ لما روى أحمد وأبو داود عن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، وقد وقع نزاع في الإفطار بها؛ لما روى البخاري وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم. ولهذا فالأولى ترك الحجامة في نهار رمضان. 6- دخول الماء إلى الجوف عن طريق الأنف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا))، رواه أحمد، وأصحاب السنن والحاكم. وأما الثاني، وهو ما ثبت بالقياس؛ فهو كثير، نذكر منه ما تمس الحاجة إليه، وهو: 1- ما كان في معنى الأكل والشرب، مما يستغني به البدن عن الأكل والشرب، كالإبر المغذية، التي يكتفى بها عن الأكل والشرب، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم المعاصرين؛ لما في المغذي من معنى الأكل والشرب تمامًا، وأنه يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب. 2- حقن الدم في العروق؛ لأن الدم هو غاية الغذاء بالطعام والشراب، ويرى بعض العلماء أنه لا يفطر(انظر: ندوة روية إسلامية لبعض المشاكل الطبية، الدار البيضاء، نقلا عن فقه النوازل (2/300)). 3- بخاخ الربو، وفيه خلاف بين المعاصرين. 4- التخدير العام، وفيه خلاف بين المعاصرين. 5- الإبر العلاجية التي تكون في الوريد، فيها خلاف بين المعاصرين، فمنهم من يرى أنها غير مفطرة؛ لأنها ليست بغذاء، ولا يحصل بها للجسم استغناء عن الطعام والشراب، ومنهم من يرى أنها مفطرة؛ لأن الدواء مما يقوم به البدن ويصلح، والمقصود بالصوم هو الإمساك عما به قوام البدن. 6- الإبر العلاجية التي تكون في العضل، جمهور المعاصرين على أنها غير مفطرة؛ لأنه لا يصل منها إلى المعدة شيء، ويرى بعض العلماء أنها مفطرة؛ لأن العضل فيه عروق دقيقة توصل الدواء إلى المعدة. 7- التدخين، وقد اتفق العلماء المعاصرين على ذلك؛ لأنه محرم، ولأنه يحدث به للجسم ما يغنيه عن الطعام والشراب. 8- خروج المني دفقًا بلذة بتقبيل أو لمس أو استمناء، أو غير ذلك، وهذا ثبت التفطير به أخذًا من قوله في الحديث: ((يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))، وأعلى درجات الشهوة هي خروج المني، وأما التقبيل واللمس والمباشرة بدون إنزال فلا يفطر، وإن خرج منه مذي؛ لما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه، وفي صحيح مسلم أن عمر بن أبي سلمة سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سل هذه))، يعني أم سلمة، فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك، لكن من كان يخشى على نفسه الوقوع في المحذور يجب عليه الكف عن ذلك؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرم فعله، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المضمضة والاستنشاق خوفًا من تسرب الماء إلى الجوف، وكذا الاحتلام والإنزال بالتفكر المجرد لا يفطر؛ لأنه لا عمل له في ذلك، وإنما خرج بدون قصد منه ولا اختيار، ولأن الله عفا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم. 9- إخراج الدم بالفصد والتبرع؛ قياسًا على خروجه بالحجامة والحيض والنفاس؛ لأن خروج الدم من البدن فيه إضعاف البدن، ولهذا يحث المتبرع على أن يكون مفطرًا، ويعطى بعد التبرع مجموعة من السوائل؛ كالعصير؛ لتعويض النقص الحاصل بسبب فقد كميات من الدم. المسألة الثامنة: شروط الفطر بالمفطرات السابقة. يشترط لأن تكون الأمور السابقة مفطرة أن يفعلها الصائم عالمًا ذاكرًا مختارًا، ما عدا الحيض والنفاس؛ فإن وجوده مفسد للصوم مطلقًا. الشرط الأول: العلم؛ أي أن يعلم أن هذا الفعل يفطر به الصائم؛ فإن كان جاهلا لم يفطر؛ لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، والجهل على نوعين: الأول: جهل بالحكم الشرعي، فلا يعلم أن هذا مفطر، كمن يشرب القهوة يظن أنها غير مفطرة، ولا بد من إمكانية صدق دعواه أنه جاهل، وإلا فلو بان من حاله عدم الجهل، ولم يتصور من مثله الجهل لم يقبل منه ذلك، الثاني: جهل بالوقت، مثل أن يظن أن الفجر لم يطلع، فيأكل، ويكون قد طلع، أو يظن أن الشمس غربت، فيأكل، وهي لم تغرب، فلا شيء عليه؛ لما في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} عمدت إلى عقالين؛ أحدهما أسود والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت، فقال: ((إن وسادك إذن لعريض؛ إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل))، فقد أكل عدي بعد طلوع الفجر ولم يمسك حتى تبين الخيطان، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء؛ لأنه كان جاهلا بالحكم، وفي صحيح البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم، ثم طلعت الشمس، ولم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء. الشرط الثاني: الذكر، أي أن يفعل المفطر وهو متذكر أنه صائم، فلو نسي أنه صائم فأكل أو شرب، أو جامع فلا شيء عليه؛ للآية السابقة، ولما في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه))، ومتى تذكر وجب الإمساك، ويجب على من حضر أن ينبهه؛ لقوله تعالى: {وتعاونوا على ا لبر والتقوى}. الشرط الثالث: الاختيار؛ أي متناولا للمفطر باختياره وإرادته، وعلى هذا فلا فطر على من دخل إليه شيء بغير إرادته؛ كأن يرش الماء في وجهه فيدخل إلى جوفه بدون قصد منه ولا اختيار، أو يخرج إلى فمه شيء من القلس ثم يدخل بدون إرادة منه واختيار، أو يكرهه أحد بتهديد يضره فيخاف على نفسه أو ولده أو ماله، فيفطر فلا شيء عليه، ويتم صومه عند زوال الإكراه؛ لأن الله تعالى قال: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}؛ فإذا رفع الله حكم الكفر عمن أكره عليه فما دونه أولى، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)). المسألة التاسعة: الأعذار المبيحة للفطر. من رحمة الله تعالى بعباده أن خفف عنهم عند وجود ما يشق عليهم في أداء العبادات، وقد ذكر الله ذلك نصًا في كتابه فقال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر}، وهم كما يلي: أولا: المريض ممن يرجو زوال مرضه، إذا كان الصوم يؤخر برءه، أو يشق عليه الصوم مع وجود المرض، أو لا بد له من تناول دواء يتوزع على ساعات اليوم بحيث لا يمكن نقله إلى الليل، فيسن له الفطر أخذًا برخصة الله تعالى؛ فإن كان الصوم يضره، بحيث يحدث فيه علة ربما تدوم معه، أو تؤدي إلى موته، أو تحدث له مريضًا جديدًا، أو نحو ذلك من أنواع الضرر حرم عليه الصوم؛ لأنه يوقع نفسه في الهلكة، وقد قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}. ثانيًا: المسافر سفرًا يباح له فيه القصر، فإذا كان عليه فيه مشقة سن له الفطر؛ أخذًا برخصة الله تعالى، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من البر الصيام في السفر))، وإن كان لا يشق عليه فإنه مخير بين الفطر والصوم؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام وهو مسافر، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومون ويفطرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، ولم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. ويجوز له الفطر ولو كان سفره وسط النهار، بعد أن بدأ يومه بالصوم؛ لدخوله تحت عموم الآية. ثالثًا: المرأة الحامل أو المرضع، إذا خافت على نفسها، أو على ولدها، جاز لها الفطر، وتقضي مكان الأيام التي أفطرتها، وأما الإطعام فقد اختلف فيه، فأوجبه بعض أهل العلم على المرأة إذا خافت على ولدها. المسألة العاشرة: من مات وعليه صوم. من وجب عليه صوم من رمضان، إما لكونه مسافرًا، أو مريضًا، ثم لم يقض حتى مات، فلا يخلو من حالين: الأول: ألا يتمكن من صيامها؛ لاتصال المرض، أو السفر، أو لغير ذلك من الأعذار، فليس عليه شيء؛ لأنه معذور في هذا الترك، ولم توجد حالة صالحة لثبوت حكم الصيام في حقه. الثاني: أن يتمكن من الصيام، ولكنه يفرط ويقصر ويسوف حتى فجأه الأجل؛ فإنه يشرع لوليه أن يصوم عنه؛ لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وعليه صوم صام عنه وليه))، وهذا يشمل كل صوم واجب، ولو صام شخص غريب عنه أجزأ أيضًا؛ لأن المقصود أن يصام عنه، وأولى الناس به هم أقرباؤه، ، فإن لم يصم عنه أحد أطعم عن كل يوم مسكينًا من تركته، أو من متبرع. التعديل الأخير تم بواسطة إشراف الأقسام العامة ; 07-09-09 الساعة 04:56 AM |
07-09-09, 05:04 AM | #18 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
|
07-09-09, 05:06 AM | #19 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
الصوم وغذاء الروح الحمد لله خلق الكون بقدرته من العدم، وأضاء الكون بنوره فأشرقت له الظلم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فإن عبادة الصوم سر من الإسرار الإلهية، وحكمة بديعة من حكم التشريع، فلا عجب أن كان الركن الرابع من أركان الإسلام، والركن هو الجانب القوي الذي يبنى عليه الشيء، فالإسلام مبني على عبادة الصيام. ما هو السر في الصيام حتى كان ركنًا من الأركان، وعبادة من العبادات التي يحبها الله، ويكثر من التقرب بها رسل الله وأنبياؤه وأولياؤه؟ لماذا كان النبي صلى الله عليه يتغير في رمضان؟ ويزداد في التقرب إلى الله وفعل الطاعات؟ ما الذي أحدثه الصوم فيه؟ وهل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يخالط قلبه محبة غير الله يتأثر بالصيام إلى هذا الحد، فيحدث له هذا النشاط العجيب، غير المعتاد؟ ولماذا كان الصوم جنة؟ ولماذا رائحة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟ ولماذا لما قال أحد أصحاب رسول الله له: يا رسول الله مرني بعمل، قال: ((عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له))([1]). لماذا كان للصائمين باب يقال له الريان، لا يدخل منه أحد غيرهم؟ لماذا كان الصوم لله، وهو يجزي به؟ هل هذا كله لأجل الإمساك فقط عن المفطرات من الأكل والشرب والشهوة؟ أيمكن لنا أن نفوز بفوائد الصيام بمجرد أن نفعل ذلك؟ كلا... إن هناك غذاء يحدثه الصوم في شهر رمضان، غذاء يخالف غذاء البدن، غذاء تحيى به الأرواح، وتصلح به الأمة، وتستقيم به الأحوال. فما هي العلاقة بين الإمساك عن المفطرات من الطعام والشراب والشهوة، وبين بناء النفس، وغذاء الروح؟ ما هو هذا الغذاء, وما آثاره؟ لو نظرنا في حال النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، كيف كان يواصل الصيام، ولا يكتفي بالصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ولما نهى أصحابه عن الوصال رحمة بهم، وخوفًا عليهم ألا يطيقوا القيام بالأعمال مع مواصلة الصيام، فقالوا له: إنك تواصل، قال لهم: ((وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟!! إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ))([2]). فقَوْله: ((يُطْعِمنِي وَيَسْقِينِ)) أَيْ يَشْغَلُنِي بِالتَّفَكُّرِ فِي عَظَمَته، وَالتَّمَلِّي بِمُشَاهَدَتِهِ، وَالتَّغَذِّي بِمَعَارِفِهِ، وَقُرَّة الْعَيْن بِمَحَبَّتِهِ، وَالِاسْتِغْرَاق فِي مُنَاجَاته، وَالْإِقْبَال عَلَيْهِ عَنْ الطَّعَام وَالشَّرَاب، وهَذَا الْغِذَاءُ أَعْظَم مِنْ غِذَاء الْأَجْسَاد, وَمَنْ لَهُ أَدْنَى ذَوْقٍ وَتَجْرِبَةٍ يَعْلَمُ اِسْتِغْنَاءَ الْجِسْم بِغِذَاءِ الْقَلْب وَالرُّوح عَنْ كَثِير مِنْ الْغِذَاء الْجُسْمَانِيِّ وَلَا سِيَّمَا الْفَرَح الْمَسْرُور بِمَطْلُوبِهِ , الَّذِي قَرَّتْ عَيْنه بِمَحْبُوبِهِ([3]). فهل تعجبون بعد ذلك إذا كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان يدارسه جبريل القرآن، ويقوم من الليل قيامًا لا يطيقه أحد، يفعل ذلك كله، وهو ممسك عن الطعام والشراب، فبدنه محروم من غذائه، لكن روحه تتغذى تغذية تقويه على فعل الطاعات، والجود بأنواع الخيرات. ولقد كان من أصحابه من يواصل، ويفعل مع ذلك جميع العبادات، ويقوم بأداء سائر الحقوق، فهذا عبد الله بن الزبير يواصل خمسة عشر يومًا([4])، وهو الذي كان مضرب المثل في القيام، والجهاد في سبيل الله. لقد أحدث الصوم له غذاء استغنى به عن غذاء البدن. ([1]) رواه: رواه النسائي (4/165، رقم 2220- 2223) قال في الفتح (4/104): بإسناد صحيح، وابن حبان في صحيحه (8/211، 213، رقم 3425، 3426)؛ وابن خزيمة (3/194، رقم 1893)؛ والحاكم في المستدرك (1/582، رقم 1533) عن أبي أمامة، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ([2]) رواه البخاري وغيره. ([3]) انظر: فتح الباري (4/208). ([4]) انظر: المصنف (2/496)؛ فتح الباري (4/204). التعديل الأخير تم بواسطة إشراف الأقسام العامة ; 07-09-09 الساعة 05:56 AM |
07-09-09, 05:07 AM | #20 |
|تواصي بالحق والصبر|
تاريخ التسجيل:
19-09-2006
المشاركات: 926
|
ما هي الروح؟
الروح جسم مخلوق نورانى علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم([1]). وقد جعلها اللَّهُ فِي الْأَجْسَامِ, فَأَحْيَاهَا بِها, وَعَلَّمَهَا وَأَقْدَرَهَا, وَبَنَى عَلَيْهَا الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةَ, وَالْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ([2]). فالمشاعر والأحاسيس، والحب والبغض، والإرادة والقصد، والأخلاق والطبائع كلها متعلقة بالروح. وهذه الروح تسمى نفسًا، وقد سماها الله في كتابه كذلك، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} [سورة الزمر 39/42]. وقد أضاف الله هذه الروح إليه إضافة تشريف، فقال {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9)} [سورة السجدة 32/7-9] وهذه النفس لها أحوال وأحكام، ولها غذاء وليس غذاء الأرواح من جنس غذاء البدن، بل إن غذاء البدن إذا زاد عن حده أفسد الروح وأمرضها، وأدخل عليها من الفساد ما يكون فيه هلاكها. وغذاؤها بالعلم النافع، وبالعمل به، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ))([3]). فالنبي صلى الله عليه وسلم "شبه العلم والهدى الذي جاء به بالغيث، لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد،.. وشبه القلوب بالأراضي التي وقع عليها المطر لأنها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته"([4]). وعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ، حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ)) قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الْعِلْمَ))([5]). ومن غذاء الروح الرائحة الطيبة؛ ولهذا حبب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا الطيب؛ لأن النفس ترتاح إلى الروائح الطيبة، ولها أثر في زيادة قوة البدن، ودفع التعب والكسل. "وفي الطيب من الخاصية أن الملائكة تحبه، والشياطين تنفر عنه، وأحب شيء إلى الشياطين الرائحة المنتنة الكريهة، فالأرواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة، والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة، وكل روح تميل إلى ما يناسبها؛ فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات"([6]) وإذا تغذت الروح بالعلم النافع، والعمل الصالح، فإن ذلك قد تظهر آثاره على البدن في الدنيا قبل الآخرة، فهذا نافع القارىء كان إذا تكلم يُشم من فيه رائحة المسك، فقيل له: كلما قعدت تتطيب؟!! فقال: ما أمس طيبًا، ولا أقربه، ولكن رأيت النبي في المنام وهو يقرأ في فمي، فمن ذلك الوقت يشم من فِيِّ هذه الرائحة([7]). وهذا عبد الله بن غالب لما قتل في المعركة ودفن أصابوا من قبره رائحة المسك، قال: فرآه رجل من إخوانه في منامه، فقال: يا أبا فراس! ما صنعت؟ قال: خيرَ الصنيع، قال: إلام صرت؟ قال: إلى الجنة، قال: بم؟! قال: بحسن اليقين، وطول التهجد، وظمأ الهواجر، قال: فما هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك؟! قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ، قال قلت: أوصني، قال: اكسب لنفسك خيرًا، لا تخرج عنك الليالي والأيام عُطلًا؛ فأنى رأيت الأبرار نالوا البر بالبر([8]). حتى إن الناس فتنوا في قبره، فبعث إليه من سواه بالأرض([9]). وإذا تغذت الروح بالأمور الخبيثة، وأعرضت عما فيه سعادتها وفلاحها، وتركت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد يظهر على البدن أثر ذلك، فذكر مسعدة في كتابه في الرؤيا عن ربيع بن الرقاشي قال أتاني رجلان فقعدا إلي فاغتابا رجلا فنهيتهما، فأتاني أحدهما بعدُ، فقال: إني رأيت في المنام كأن زنجيًا أتاني بطبق عليه جنبُ خنزير، لم أر لحمًا قطُّ أسمنَ منه، فقال لي: كل، فقلت: آكل لحم خنزير؟؟!! فتهددني، فأكلت، فأصبحت وقد تغيَّر فمي، فلم يزل يجد الريح في فمه شهرين([10]). وقال القيرواني: أخبرني شيخ من أهل الفضل، قال: أخبرني فقيه، قال: كان عندنا رجل يكثر الصوم ويسرده، ولكنه كان يؤخر الفطر، فرأى في المنام كأن أسودين آخذين بضبعيه وثيابه إلى تنور محمى ليلقياه، قال: فقلت لهما: على ماذا؟! فقالا: على خلافك لسنة رسول الله، فإنه أمر بتعجيل الفطر وأنت تؤخره، قال فأصبح وجهه قد اسود من وهج النار فكان يمشي متبرقعًا في الناس([11]) فإذا داومت الروح على فعل الخيرات، ولم تزل مشتغلة بالطاعات فإن مستقرها بين يدي الله إذا فارقت البدن، فتحييه بالتحية الطيبة، عن جابر بن عبد الله قال: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: ((يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟)) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: ((أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟)) قَالَ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ، قَالَ وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا..} الْآيَةَ([12])، وقال ابن القيم: "حدثني القاضي نور الدين بن الصائغ قال: كانت لي خالة، وكانت من الصالحات العابدات، قال: عدتها في مرض موتها، فقالت لي: الروح إذا قدمت على الله ووقفت بين يديه ما تكون تحيتها وقولها له؟ قال: فعظُمت علي مسألتها، وفكَّرتُ فيها، ثم قُلت: تقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، قال: فلما توفيت رأيتها في المنام فقالت لي: جزاك الله خيرًا، لقد دُهشت فما أدري ما أقوله ثم ذكرت تلك الكلمة التي قلت لي فقلتها"([13]). ([1]) الروح لابن القيم (1/178). ([2]) أحكام القرآن لابن العربي (3/214). ([3]) رواه البخاري كتاب العلم، باب فضل من علِم وعلَّم، ومسلم ([4]) مفتاح دار السعادة (1/60). ([5]) متفق عليه. ([6]) زاد المعاد (4/257). وانظر: مقدمة ابن خلدون (302) حيث ذكر أثر فساد الهواء على الروح. ([7]) الروح (1/190). ([8]) حلية الأولياء (6/248). ([9]) انظر: شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور (157). ([10]) الروح (1/190). ([11]) الروح (1/191). ([12]) رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، وقال: " غريب من هذا الوجه، ورواه ابن ماجه في المقدمة، وفي كتاب الجهاد. وقال في الزوائد: إسناده ضعيف، وابن حبان في صحيحه، (15/490، رقم 7022)، والحاكم في المستدرك (3/224، رقم 4914)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ([13]) الروح (1/188). |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
(View-All) Members who have read this thread in the last 30 days : 0 | |
There are no names to display. |
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
انواع عرض الموضوع | |
|
|