الحديث الثاني والعشرون: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الماء طهور لا ينجسه شيء)) [رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي].
نعم، في حديث أبي سعيد، هذا الحديث الذي يدل على أن الأصل في الماء من أي مصدرٍ كان سواء نبع من الأرض، أو نزل من السماء فإنه على الأصل، الأصل فيه أنه طهور، لا ينجسه شيء، وجاء الاستثناء من حديث أبي سعيد وحديث أبي أمامة: ((إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه لنجاسة تحدث فيه)) لكن هذه الزيادة ضعيفة باتفاق الحفاظ؛ لكن أهل العلم أجمعوا على أن الماء المتغير بالنجاسة أنه نجس، يبقى الحديث على عمومه، إلا ما استثني، ودليل الاستثناء الإجماع، وإلا فالزيادة ضعيفة، والإجماع عند أهل العلم لا بد أن يكون له مستند، ولو لم نقف على هذا المستند، ومنهم من يقوي هذه الزيادة المتفق على ضعفها بالإجماع، كما يقوي الترمذي الأخبار والأحاديث بالعمل، بعمل أهل العلم، وعليه العمل عند أهل العلم.
على كل حال المسألة متفق عليها بين أهل العلم، لم يخالف أحد في أن الماء إذا تغير بنجاسة أنه نجس، سواء كان التغير في اللون أو الطعم أو الريح؛ لأن المستعمل لهذا الماء المتغير مستعمل لنجاسة، إن الماء طهور لا ينجسه شيء، وهذا الحديث عمومه يقتضي أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير، قلّ أو أكثر، عمومه يقتضي أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قلَّ أو كثُر، هذا العموم وهو استدلال بالمنطوق إلا أنه بالعموم معارض بمفهوم حديث ابن عمر، حديث القلتين: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)) مفهومه أنه إذا لم يبلغ القلتين فإنه يحمل الخبث، فعندنا تعارض بين منطوقٍ عام ومفهومٍ خاص، فإذا نظرنا إلى النصين من حيث العموم والخصوص لا شك أن الخاص مقدم على العام، وهذا أمر متفق عليه؛ لكن إذا نظرنا إليهما من باب المنطوق والمفهوم، لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم، ولذا اختلف أهل العلم في التفريق بين القليل والكثير، هل نفرق بين القليل والكثير بناءً على حديث ابن عمر في القلتين أو لا نفرق عملاً بإطلاق حديث أبي سعيد؟ لأن في كل حديثٍ جهة قوة وجهة ضعف، عموم الحديث ضعف، وكونه منطوق قوة، وفي حديث القلتين منطوقه أو مفهومه فيه ضعف، وخصوصه فيه قوة، إذا جاء عندنا تعارض في مثل هذا فهل نقدم المنطوق على المفهوم ونلغي المفهوم ويكون حديث ابن عمر لا مفهوم له لأنه معارض لمنطوق حديث أبي سعيد؟ أو نلغي العموم نقصر عموم حديث أبي سعيد على بعض أفراده لمعارضته بالخاص من مفهوم حديث ابن عمر؟ والمسألة من المضايق، لا بد من أن ننتبه لمثل هذا، الآن لما يختلف الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد يفرقون بين القليل والكثير، مالك لا يفرق، ما عنده مالك، طاهر وطهور واحد، طاهر ونجس، طاهر يشرب، طاهر يتوضأ به، وإلا نجس، والفارق عنده التغير، الثلاثة عندهم لا، قد يكون الماء لم يتغير لكنه لقلته لكونه أقل من القلتين عند الشافعية والحنابلة أو لكونه أقل من عشرة في عشرة غدير كما يقول محمد بن الحسن، أو حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر عند الحنفية تفاصيل معروفة، لكن هم في عداد من يفرق بين الكثير والقليل، فالثلاثة في جهة، ومذهب مالك في جهة، الآن إذا نظرنا إلى مذهب مالك رجح قوله بأي شيء؟ بالعمل بمنطوق حديث أبي سعيد، وهذا المنطوق مقدم على المفهوم، لكن أولئك رجحوا مذهبهم بخصوص حديث ابن عمر المأخوذ من المفهوم على عموم حديث أبي سعيد، المسألة لا بد من فهمها يا إخوان، هؤلاء أئمة كبار، يعني الإنسان سهل عليه قال شيخ الإسلام ما في واسطة، طاهر ونجس، ولا يوجد في النصوص ما يدل على أن هناك واسطة، يعني من السهل أن نقول مثل هذا الكلام؛ لكن إذا فهمنا وجهات نظر الأئمة، أئمة كبار فحول، وكل مذهب فيه وجه قوة، فلا بد من فهم، شيخ الإسلام -رحمه الله- تعالى يرجح مذهب مالك، ويصحح حديث القلتين؛ لكنه يعمل بمنطوقه ولا يعمل بمفهومه؛ لأن مفهومه معارض بمنطوق حديث أبي سعيد، من جهةٍ أخرى من قال بالقول الآخر قال: عندنا مفهوم يخصِص؛ لأن التخصيص يكون بأدنى شيء، التخصيص ما هو مثل النسخ رفع كلي للحكم، هذا رفع جزئي، والتخصيص يكون بالعقل أحياناً، أحياناً التخصيص يكون لمجرد استرواح لرفع التعارض بين النصوص يقال: هذا عام وهذا خاص، فالأئمة الثلاثة رجحوا مذهبهم بأن عموم حديث أبي سعيد مخصوص بمفهوم حديث ابن عمر؛ لكن لو أتينا للنظائر وجدنا أن أهل العلم يلغون المفهوم إذا عورض بمنطوق، فمثلاً {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ}[(80) سورة التوبة]مفهومه أنه لو استغفر واحد وسبعين غفر لهم؟ لكن هذا المفهوم معارض بقوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [(48) سورة النساء]لو استغفرت ألف مرة، فألغينا المفهوم لأنه عورض بالمنطوق، ما قلنا: إن عموم {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [(48) سورة النساء] مخصوص بمفهوم{إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [(80) سورة التوبة] فألغينا المفهوم، وهذه نظيرتها تماماً {لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً}[(130) سورة آل عمران] يعني لو كانت نسبة الربا عشرة بالمائة عشرين بالمائة خمسين بالمائة، ما صارت أضعاف، مفهوم هذه الآية أن الربا إذا لم يصل إلى الأضعاف فإنه يكون حلالاً، لكن النصوص كلها التي جاءت في الباب تدل على أن الربا قليله وكثيره حرام، فألغي مفهوم هذه الآية بمنطوق النصوص الأخرى، ولا شك أن المفهوم معتبر عند جمهور العلماء؛ لكن يبقى أنه إذا لم يعارض بمنطوقٍ أقوى منه، ومثلما ذكرنا أن النصين بينهما عموم وخصوص، باعتبار المنطوق والمفهوم بينما أيضاً وجه قوة للنص الآخر من حيثيةٍ أخرى، فما الراجح من القولين؟ يعني إذا نظرنا إلى النظائر التي ذكرناها رجحنا رأي مالك، وأن المنطوق أقوى من المفهوم، رجحنا رأي مالك بآية {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [(80) سورة التوبة] وآية {أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [(130) سورة آل عمران] كلها نظيرة مع الإمام مالك، أيضاً القول بالتفريق بين القليل والكثير، أولاً: حديث القلتين الكلام فيه كثير جداً؛ من حيث الثبوت، حتى حكم عليه أهل العلم بالاضطراب في سنده ومتنه؛ لكن على القول بصحته وهو مصحح عند جمع من أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية يصححه، ابن حجر يصححه، لكن شيخ الإسلام يصححه ويعمل بمنطوقه دون مفهومه؛ لأن المفهوم معارض، طيب القول بالتفريق الذي يراه الأئمة الثلاثة لزم عليه من الحرج والضيق في كثيرٍ من المسائل بحيث صار بعض المسائل لا يمكن تصورها يعني في باب المياه مثلاً مسائل معقدة جداً، يعني أهل العلم أصحاب النظرة الواسعة يقولون: أن الشرع لا يأتي بمثل هذه المسائل، فيها شيء من التعقيد، طيب لو جئنا بمثال، هذا المثال ذكره النووي في المجموع، يقول: هذا برميل يسع قلتين، ومملوء يعني على اصطلاحهم كثير وإلا قليل؟ كثير، وقع فيه نجاسة، وما غيرت شيء من لونه وطعمه ولا ريحه، جئنا بدلو وغرفنا منه بحيث ينقص عن القلتين، وش يقول لك النووي والشافعية؟ يقولون: أن الذي في جوف الدلو طاهر وإلا نجس؟ طاهر لأنه أكثر من قلتين، قلتين فأكثر، لكن الذي يتساقط منه، الذي صار فيه بعد أن نقص عن القلتين، يقول أهل العلم: هل يأتي الشرع بمثل هذا؟ تأتي بدلو تغرف من ماء طاهر عندك فيكون ما في جوفه طاهر، وما يتساقط منه من برى نجس؟ ولذا الغزالي في الإحياء تمنى أن لو كان مذهب الشافعي مثل مذهب الإمام مالك، على شان يتخلصون من هذه القضايا، وهذه المسائل المشكلة، وما الذي دعا الغزالي وهو بالنسبة للشافعية إمام من أئمتهم، ما الذي دعاه أن يتمنى؟ التزامه بتقليد المذهب، وإلا شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- قال: ما علينا من المذهب، رجح ما يرجحه الدليل من وجهة نظره، وما يعتقده، وما يدين الله به ولا عليه، فلا شك أنه نشأ عن التفريق بين الطاهر والطهور، مسائل يعني لا يستوعبها كثير من طلاب العلم، ولا يأتي شرع سمته اليسر والسهولة وعدم الشدة والوضوح لا يأتي بمثل هذه الصورة، وعلى كل حال يبقى مذاهب الأئمة محترمة، والأئمة محل تقدير، ويعترف لهم بالفضل، وأما بالنسبة للترجيح فالإنسان يرجح ما يدين الله به -جل وعلا-، فأنت وقعت هذه النجاسة لا ترى لها أثر إن الماء طهور لا ينجسه شيء، حديث: ((إن الماء طهور)) يعرف بحديث؟ بئر بضاعة، وبئر بضاعة جاء فيها أنها بئر يلقى فيها النتن، ولحوم الكلاب، الحيض، نجاسات، لكنها لم تتغير، فإذا وقعت نجاسة يسيرة بمثل هذا الماء ولا أثرت فيه إن الماء طهور لا ينجسه شيء، ولماذا نضيق على أنفسنا؟ نعم إذا شككت أو تورعت هذا شيء ثاني؛ لكن يبقى أنك ما تمنع الناس وتضيق عليهم؛ لأن الاحتياط في مثل هذا لا يمكن، ما يمكن الاحتياط، شخص ما عنده إلا هذا الماء الذي في البرميل، ووقع فيه نجاسة، كيف تحتاط؟ وافترض المسألة في شخص ما عنده إلا هو، إما أن يتوضأ في هذا الماء الذي هو طاهر عند مالك، أو يعدل إلى التيمم، وعنده واجد من الماء، الآن من كون الشخص عنده هذا الماء المشكوك فيه، والمختلف فيه، وعنده ماء ثاني يمكن أن يتوضأ به، هذا يتورع لا بأس؛ لكن إذا كانت المسألة بين أن يعدل إلى التيمم وواجب للماء هنا لا بد من حسم الموضوع، ولا يرد في مثل هذا احتياط ولا ورع، الورع والاحتياط فيما إذا وجد غيره، الماء طهور لا ينجسه شيء، هذا الأصل في الماء، فإذا كان عندك ماء هذا وصفه، باقي على خلقته، غير متغير، وشككت فيه هل وقع فيه نجاسة أو لم تقع؟ فتبني على الأصل، أن الأصل فيه الطهارة، إن الماء طهور لا ينجسه شيء.
|