عرض مشاركة واحدة
قديم 30-01-12, 05:52 PM   #5
نور الزعبي
|طالبة في المستوى الثاني1 |
 
تاريخ التسجيل: 03-12-2010
المشاركات: 421
نور الزعبي is on a distinguished road
افتراضي

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي‏:‏ وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏:‏ أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد‏.‏

وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره‏.‏

ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة‏)‏ ‏.‏ متفق عليه ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الجماعة والإمامة/ باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم‏:‏ كتاب المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة‏.‏

‏]‏‏.‏

ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك؛ ففيه فضل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما يكفر من الذنوب‏)‏‏.‏ معطوف على ‏"‏فضل‏"‏؛ فيكون المعنى‏:‏ باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين‏:‏

الأول‏:‏ بيان فضل التوحيد‏.‏

الثاني‏:‏ بيان ما يكفره من الذنوب، لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب‏.‏

فمن فوائد التوحيد‏:‏

1- أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله - سبحانه وتعالى - ؛ وعليه، فهو يعمل سرًا وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلًا، فإنه يتصدق ويصلى، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو‏"‏‏.‏

2- أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏‏.‏

* * *

وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لم يلبسوا‏}‏، أي‏:‏ يخلطوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بظلمٍ‏}‏، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح - يعني لقمان - ‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلمٌ عظيم‏}‏‏"‏ ‏[‏‏(‏1‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب الإيمان/ باب ظلم دون ظلم، مسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب صدق الإيمان وإخلاصه‏.‏

‏]‏‏.‏

* والظلم أنواع‏:‏

1- أظلم الظلم، وهو الشرك في حق الله‏.‏

2- ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام‏.‏

3- ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك‏.‏

وإذا انتفى الظلم، حصل الأمن، لكن هل هو أمنٌ كامل‏؟‏

الجواب‏:‏ أنه إن كان الإيمان كاملًا لم يخالطه معصيةٌ؛ فالأمن أمنٌ مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمانٍ - غير كامل ـ؛ فله مطلق الأمن؛ أي‏:‏ أمن ناقص‏.‏

مثال ذلك‏:‏ مرتكب الكبيرة، أمنٌ من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وهذه الآية قالها الله تعالى حكمًا بين إبراهيم وقومه حين قال لهم‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 81،82‏]‏؛ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏، على أنه قد يقول قائلٌ‏:‏ إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏ الأنعام 83‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الأمن‏}‏، أل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏، أي‏:‏ في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛ فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم‏:‏ ‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والاهتداء بالعمل‏:‏ هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة‏.‏

فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم‏.‏

وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ‏}‏‏:‏ إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامةٌ بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة‏.‏

مناسبة الآية للترجمة‏:‏

أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك، والذي لم يشرك يكون موحدا ؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن‏.‏

* * *

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل‏)‏ أخرجاه ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب أحاديث الأنبياء/ باب قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم‏(‏، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة‏.‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من شهد أن لا اله إلا الله‏)‏، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، وهذا العلم قد يكون مكتسبًا وقد يكون غريزيًا‏.‏

فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزيٌ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏كل مولودٍ يولد على الفطرة‏)‏ ‏[‏‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم‏:‏ كتاب القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة‏.‏‏]‏‏.‏ وقد يكون مكتسبًا، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها‏.‏

ولابد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أنْ‏}‏، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأٌ، لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخفّفة يمكن حذفه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لا إله‏}‏، أي‏:‏ لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه‏:‏ هو المعبود محبةً وتعظيماُ، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إلا الله‏}‏، أي‏:‏ لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏‏.‏

أما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفيٌ شرعًا، وإذا انتفى شرعًا؛ فهو كالمنتفي وقوعًا؛ فلا قرار له، ‏{‏وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، وقوله تعالى حكايةً عن قريش‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏، وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 62‏]‏؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعًا، لا تستحق أن تسمى آلهة؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 40‏]‏‏.‏

* التوحيد عند المتكلمين‏:‏

يقولون‏:‏ إن معنى إله‏:‏ آله، والآله‏:‏ القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله‏:‏ لا قادر على الاختراع إلا الله‏.‏

والتوحيد عندهم‏:‏ أن توحد الله، فتقول‏:‏ هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشًا تقول‏:‏ لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيرًا من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله‏.‏

ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكارًا حقيقيًا، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابدًا، وقال الله - عز وجل ـ‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك‏.‏ وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع‏:‏

1- شرك أكبر‏.‏

2- شرك أصغر‏.‏

3- معصية كبيرة‏.‏

4- معصية صغيرة‏.‏

وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق‏.‏

وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏كل معصية، فهي نوع من الشرك‏"‏‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ ‏"‏ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص‏"‏، ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس‏:‏ ‏"‏إنّ اليهود يقولون‏:‏ نحن لا نوسوس في الصلاة‏.‏ قال‏:‏ فما يصنع الشيطان بقلبٍ خرب‏؟‏‏!‏‏"‏؛ فالشيطان لا يأتي ليخرّب المهدوم، ولكن يأتي ليخرّب المعمور، ولهذا لما شُكي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال‏:‏ ‏(‏وجدتم ذلك‏؟‏‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ذاك صريح الإيمان‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الإيمان/ باب الوسوسة في الإيمان‏.‏‏]‏؛ أي‏:‏ أن ذاك هو العلامة البينة على أنّ إيمانكم صريح لأنّه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من شهد أن لا إله إلا الله‏)‏، من‏:‏ شرطية، وجواب الشرط‏:‏ ‏(‏أدخله الله الجنة على ما كان من العمل‏)‏‏.‏

والشهادة‏:‏ هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏{‏نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات‏:‏ الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خالٍ من الاعتقاد بالقلب، وخالٍ من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، أي‏:‏ لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله، وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وحده لا شريك له‏}‏، وحده‏:‏ توكيد للإثبات، لا شريك له‏:‏ توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات‏.‏

ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيره من المؤمنين يلجؤون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يمنعني الله‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب المغازي/ باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم‏:‏ كتاب صلاة المسافرين/ باب صلاة الخوف‏.‏‏]‏ ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذين يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات‏.‏

وقولنا فيما يختص به حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النّافين للصفات؛ لأن النّافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله - عز وجل ـ، حيث قالوا‏:‏ يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول‏:‏ للخالق صفات تختص به، وللمخلوق صفات تختص به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنّ محمدًا‏)‏، محمد‏:‏ هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عبده‏)‏؛ أي‏:‏ ليس شريكًا مع الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ورسوله‏)‏؛ أي‏:‏ المبعوث بما أوحى إليه، فليس كاذبًا على الله‏.‏

فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبدٌ مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيئًا واحدًا، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق؛ فهو منزه معصوم منه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 21، 22‏]‏‏.‏

فهو بشر مثلنا؛ إلا أنه يوحى إليه، قال تعال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ومن قال‏:‏ إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشى في الشمس؛ فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏كنت أمد رجلي بين يديه، وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح‏)‏، فلو كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له نور؛ لم تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا، والعياذ بالله‏.‏

ومن الغلو قول البوصيري في ‏"‏البردة‏"‏ المشهورة‏:‏

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم

إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي ** فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم

فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم

قال ابن رجب وغيره‏:‏ إنه لم يترك لله شيئًا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمدًا عبدالله، بل شهد أن محمدًا فوق الله‏!‏ كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد‏؟‏‏!‏

وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا‏:‏ إن المسيح ابن الله، وقالوا‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة‏.‏

هم قالوا فوق ذلك، قالوا‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏(‏من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏ويحذركم الله نفسه‏(‏، ومسلم‏:‏ كتاب الذكر والدعاء/ باب الحث على ذكر الله تعالى‏.‏‏]‏، والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي ‏"‏المخرّف‏"‏ كلمة المصطفى قاموا جميعًا قيام رجل واحد، يقولون‏:‏ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالًا له، والصحابة رضي الله عنهم أشدّ إجلالًا منهم ومنا، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو حيٌ يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئًا، فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد‏!‏ فهؤلاء ما شهدوا أن محمدًا عبدالله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين، إن نظرنا إليهم بعين القدر؛ فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، وإن نظرنا إليهم بعين الشرع؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، واتقاهم لله، قام يصلي حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك؛ فقال‏:‏ (‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏) ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب التهجد/ باب قيام النبي ‏(‏ حتى تورم قدماه، ومسلم‏:‏ كتاب صفات المنافقين/ باب إكثار الأعمال‏.‏‏]‏، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة‏.‏

أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله - عزوجل - بأعظم شريعة إلى جميع الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاؤوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهيةً له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله - عز وجل ـ؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول‏:‏ ‏(‏أي جوار هذا يا بني عبد مناف‏؟‏‏)‏ ‏[‏ذكره ابن هشام في ‏"‏السيرة النبوية‏"‏ ‏(‏2/416‏)‏، وابن كثير في ‏"‏البداية والنهاية‏"‏‏(‏3/133‏)‏‏.‏‏]‏، فصبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانةً وأقواهم على الاتباع؛ الصحابة رضي الله عنهم، وأدوها إلى الأمة نقيّة سليمة، ولله الحمد‏.‏

ونحب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لله وفي الله؛ فحب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حبّ الله، ونقدمه على أنفسنا وأهلنا وأولادنا والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

ونحقق شهادة أن محمدًا رسول الله، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجوار حنا، فنعمل بهديه، ولا نعمل له‏.‏

أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة، فهو‏:‏

1- فعل المعاصي؛ فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة؛ لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

2- الابتداع في الدين ما ليس منه؛ لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله، لأنك تقرّبت إليه بشيء لم يشرعه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ أنا نويت التقرب إلى الله بهذا العمل الذي أبتدعه‏.‏

قيل له‏:‏ أنت أخطأت الطريق؛ فتعذر على نيتك، ولا تعذر على مخالفة الطريق متى علمت الحق‏.‏

فالمبتدعون قد يقال‏:‏ إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعلمون الحق، ولكننا نخطّئهم فيما ذهبوا إليه، أما أئمتهم الذين علموا الحق، ولكن ردّوه ليبقوا جاههم؛ ففيهم شبه بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرد إبقاءً على رئاستهم وجاههم‏.‏

أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة؛ فينقسمون إلى قسمين‏:‏

القسم الأول‏:‏ الذين جهلوا الحق، فلم يعلموا عنه شيئًا، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه، حيث ظنّوا أن ما هم عليه هو الحق؛ فهؤلاء معذورون‏.‏

القسم الثاني‏:‏ من علموا الحق، ولكنهم ردّوه تعصّبًا لأئمتهم؛ فهؤلاء لا يعذرون، وهم كمن قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن عيسى عبدالله ورسوله‏)‏، الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمدًا رسول الله، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا‏.‏

فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات‏:‏

الأولى‏:‏ أن تكون مخالفة لشريعتنا؛ فالعمل على شرعنا‏.‏

الثانية‏:‏ أن تكون موافقة لشريعتنا؛ فنحن متبعون لشريعتنا‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يكون مسكوتًا عنها في شريعتنا، وفى هذه الحال اختلف علماء الأصول‏:‏ هل نعمل بها، أو ندعها‏؟‏

والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك‏:‏

1- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏

2- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏

وقد تطرّف في عيسى طائفتان‏:‏

الأولى‏:‏ اليهود كذبوه، فقالوا‏:‏ بأنه ولد زنى، وأنّ أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعًا؛ أي‏:‏ محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقوله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏، وأما بالنسبة لحكم الله القدري؛ فقد كذبوا، وما قتلوه يقينًا، بل رفعه الله إليه، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبّه لهم وصلبوه‏.‏

الثانية‏:‏ النصارى قالوا‏:‏ إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلهًا مع الله، وكذبوا فيما قالوا‏.‏

أما عقيدتنا نحن فيه‏:‏ فنشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن أمه صديقة؛ كما أخبر الله تعالى بذلك، وأنها أحصنت فرجها، وأنّها عذراء، ولكن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له‏:‏ كن؛ فيكون‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عبدالله‏}‏، رد على النصارى‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ورسوله‏}‏، رد على اليهود‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏، أطلق الله عليه كلمة؛ لأنه خلق بالكلمة عليه السلام؛ فالحديث ليس على ظاهره؛ إذ عيسى عليه السلام ليس كلمة؛ لأنه يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وعيسى عليه السلام ليس كلمة الله؛ إذ إن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه، أما عيسى؛ فهو ذات بائنة عن الله - سبحانه -، يذهب ويجيء، ويأكل الطعام ويشرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ألقاها إلى مريم‏}‏، أي‏:‏ وجّهها إليها بقوله‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏‏.‏

ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى وهارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس، ولكن كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الآداب/ باب النهي عن التكني بأبي القاسم وما يستحب من الأسماء‏.‏‏]‏ ، فهارون أخو مريم، ليس هارون أخا موسى، بل هو آخر يسمى باسمه، وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وروح منه‏}‏، أي‏:‏ صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله؛ أي‏:‏ خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم‏.‏

وعيسى عليه السلام ليس روحًا، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏‏.‏

فبالنفخ صار جسدًا، وبالروح صار جسدًا وروحًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏منه‏"‏، هذه هي التي أضلّت النصارى، فظنوا أنه جزء من الله، فضلوا وأضلوا كثيرًا، ولكننا نقول‏:‏ إن الله قد أعمى بصائركم؛ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؛ فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام كان يأكل الطعام، وهذا شيء معروف، ومن المعلوم أيضًا أن اليهود يقولون‏:‏ إنهم صلبوه، وهل يمكن لمن كان جزءًا من الرب أن ينفصل عن الرب ويأكل ويشرب ويدّعى أنه قتل وصلب‏؟‏

وعلى هذا تكون ‏"‏من‏"‏ للابتداء، وليس للتبعيض؛ فهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏؛ فلا يمكن أن نقول‏:‏ إن الشمس والقمر والأنهار جزء من الله، وهذا لم يقل به أحد‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏منه‏"‏؛ أي‏:‏ روح صادرة من الله - عز وجل ـ وليست جزءًا من الله كما تزعم النصارى‏.‏

وأعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ العين القائمة بنفسها، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 13‏]‏، وهذا القسم مخلوق‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون شيئًا مضافًا إلى عين مخلوقة يقوم بها، مثاله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفًا؛ فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزءً أو روحًا من الله؛ إذ أنّ هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله، وهذا القسم مخلوق أيضًا‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون وصفًا غير مضاف إلى عين مخلوقة، مثال ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏، فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة؛ فهذه الصفة غير مخلوقة، وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة‏:‏ قسمان منها مخلوقان، وقسم غير مخلوق‏.‏

فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة، والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق؛ لأنه يكون من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة‏.‏

وقد اجتمع القسمان في قوله‏:‏ ‏{‏كلمته، وروح منه‏}‏؛ فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله، وعلى هذا، فتكون كلمته صفة من صفات الله‏.‏

وروح منه‏:‏ هذه أضيفت إلى عين، لأن الروح حلت في عيسى، فهي مخلوقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أدخله الله الجنة‏)‏ إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين‏:‏

الأول‏:‏ إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتمّ العمل‏.‏

الثاني‏:‏ إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل‏.‏

فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذّبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذّبه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

* * *
نور الزعبي غير متواجد حالياً