عرض مشاركة واحدة
قديم 13-02-08, 02:32 PM   #28
عطاء الخير
نفع الله بك الأمة
 
تاريخ التسجيل: 23-08-2006
المشاركات: 604
عطاء الخير is on a distinguished road
افتراضي


حين يتخلف أثر التربية الجادة
وكما أن هناك ثماراً يانعة تنتجها التربية الجادة، ففي المقابل هناك ثمار سيئة تخلفها التربية الهزيلة، وليس إدراك ثمار التربية الجادة للتطلع لها، بأحق من إدراك ثمار التربية الهزيلة حتى تتلافى وتحذر. ولستَ بحاجة إلى بذل جهد أو عناء لإدراك ذلك، فنظرة عاجلة لواقع الأمة التربوي تعطيك البرهان؛ إذ هذا الواقع لا يعدو أن يكون انعكاساً وثمرة للتربية الهزيلة. وهذه بعض النماذج التي تخلفت فيها التربية الجادة. 1 - اذهب أنت وربك فقاتلا: لقد أمر الله موسى أن يدخل ببني إسرائيل الأرض المقدسة، وأخبرهم أنه سبحانه وتعالى قد كتبها لهم، فماذا كانت النتيجة؟ { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} ( المائدة :21 -22) وكان فيهم رجلان ممن أنعم الله عليهما { قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ( المائدة: 23 )، ومع ذلك لم تنجح هذه المحاولة فأعلنوها صريحة مدوية: { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } (المائدة: 24 ) ولم يقولوا حتى: ( ربنا ) شعوراً منهم بأن القضية لا تعنيهم جملة وتفصيلاً، فهي تعني موسى وربه! أما هم فلهم شأن آخر، وغاية ما يقدمون أنهم مستعدون إن خرج القوم الجبارون أن يدخلوا الأرض المقدسة، وحتى هذا الاستعداد ربما يتخلف حين يأتي الأمر الواقع. إن هذا المستوى الهزيل الذي صار إليه بنو إسرائيل وفي ذلك الموطن ليس المسئول عنه موسى عليه السلام، ولا يمكن لمسلم أن يتجرأ فيعتقد ذلك فموسى عليه السلام لم يأل جهداً في دعوتهم والسعي لإصلاحهم، وكيف يحدث منه ذلك وهو من أولي العزم من الرسل، والضعف التربوي ليس بالضرورة من مسئولية المربي؛ فالتربية تشمل منهجاً ومربياً ومتربياً، وحين يختل أحد هذه العناصر لن تؤتي التربية ثمارها، لكن معادنهم كانت لا تستجيب لأي جهد تربوي؛ إذ كانوا قد عاشوا مرحلة من الذل والهوان والاستعباد عند فرعون وتحت سلطانه لم يستطيعوا تجاوزها، ولهذا حين وصلوا إلى هذا القدر من الهوان تبرأ موسى منهم وقال { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } (المائدة:25). 2 - تولوا إلا قليلاً منهم: ومع طائفة أخرى من بني إسرائيل، فقد سأل ملأ من بني إسرائيل نبياً لهم أن يكتب الله عليهم القتال، فأخبرهم نبي الله أنهم عرضة إن أتاهم أمر الله أن لا يستجيبوا له، فألحوا في مطلبهم، وحين كتب عليهم القتال وقع من أكثرهم ما خشيه نبيهم { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا ومالنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين } (البقرة: 246 ) وحتى أولئك الذين اجتازوا هذه المرحلة كان فيهم من لا يملك قدراً من الجدية تؤهله لأكثر منها، فحين اختار الله لهم طالوت ملكاً اعترضوا عليه، وقالوا: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } (البقرة:247)، ثم ابتلاهم الله بالنهر فكان مرحلة ثالثة فشل في اجتيازها طائفة أخرى { فشربوا منه إلا قيلاً منهم } (البقرة:249)، ثم كانت المرحلة الرابعة حين واجهوا الموقف قال بعضهم { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }(البقرة:249). إن هذه القصة كما تعكس التربية الجادة لأولئك الذين يظنون أنهم ملاقو الله، فهي تعكس تخلف أثر التربية الجادة عند النفر الذين تتابعوا في التساقط. 3 - ساعة العسرة : غزوة تبوك كانت من آخر غزواته r وكانت امتحاناً صادقاً للجادين والصادقين، ونزلت بعدها سورة براءة تفضح ما كان عليه أولئك المنافقون من طوية سيئة، ونفوس هزيلة، ومن ذلك :- 1 - أن الله وصفهم بقوله {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة } (التوبة: 42)، إنهم على أتم الاستعداد للخروج للجهاد والمشاركة حين يكون مأمون العواقب سريع النتائج:{ سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم } (الفتح:15)، ويعرض عليهم الامتحان الذي يكشف نفوسهم: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قومٍ أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } (الفتح :16 )، فالعدو شديدٌ بأسه، والقتال على الإسلام فلا غنيمة عاجلة فيه. 2 - وحين تسابق أولئك في الاعتذار واختلاق الموانع من الجهاد، جاء أحدهم مرتدياً ثوب زور من الورع والعفة، فهو يخشى أن تفتنه نساء بني الأصفر لأنه رجل لا يصبر على النساء فجاء قائلاً: { ائذن لي ولا تفتني } (التوبة: 49 )، ولئن كانت هذه الحيلة قد تنطوي على البشر، فإنها لا تخفى على من قال -عز وجل- { ألا في الفتنة سقطوا} . ويقف المسلم الجاد الذي يخشى الله أمام هذه الآية وجلاً خائفاً، وهو يرى أن مجرد الاعتذار بخوف الفتنة ليس كافياً ليدرج صاحبه ضمن أهل الورع وتوقي الزلل، فنسأل الله الوقاية من شر الهوى والمخادعة للنفس. إن هذه النماذج وإن كان أصحابها مغموصين بالنفاق وسوء الطوية أصلاً، إلا أنها أيضاً أمثلة لأولئك الذي لم ترق نفوسهم لمعالي الأمور، ولم يدركوا جديتها، وإن من لم يدرك جدية القضية قد يقع في أمثال ما وقعوا فيه. 4 - حادثة الردة: حين لحق النبي r بالرفيق الأعلى تسابقت فئام من الأعراب وحدثاء العهد بالإسلام في إعلان الردة والتمرد على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد كان في أولئك بلا شك من أسلم رغبة في الدنيا، والنفاق مستقر في قلبه، لكن كان منهم فئات ليست بالقليلة ممن قال الله فيهم: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ( الحجرات :14 ). ولقد كان أهل المدينة ومن حولها ممن قال الله فيهم: { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } ( التوبة :120) كان أولئك من الثابتين على الإسلام، والردة إنما حصلت من حدثاء العهد بالإسلام الذين لما يتلقوا التربية الكافية بعد، أو كما قال الله: { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم }( الحجرات :14 ). وتشرب ضعاف الإيمان الدعوات الخادعة بنبوة مسيلمة وطليحة والأسود، وعادت تلك الموازين الجاهلية التي لم تمحَ جذورها بعد، عادت ليسود عند أولئك منطق: (كاذب ربيعة خيرٌ من صادق مضر)، أو ليساوموا على فريضة الزكاة، ويربطوا موقفهم من الدين كله بهذه القضية. 5 - يحسبون الأحزاب لم يذهبوا: لقد كان من تمام تربية الرعيل الأول أن واجهته حوادث ومواقف بقدر ما فيها من تمحيص النخبة والارتفاع بهم فهي أداة كشفٍ للنفوس المريضة والنماذج الهزيلة، وتعريتها حين تصهر بنار الفتنة، ففي العام الخامس للهجرة النبوية كان الأمر قد بلغ عند أعداء الملة حداً لا يطاق، ليتفتق حقدهم عن مؤامرة تجمع الصفوف لاستئصال شأفة هذه البذرة الخيرة فيتحزب الأعداء ليزحفوا على المدينة بجيوش آلت على نفسها أن تبيد خضراءها وتحول تجربتها الجديدة إلى كارثة في ملف التاريخ. ويصف القرآن الكريم الحال جراء هذه المؤامرة { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } (الأحزاب: 10-11)، وحينئذ ترجف أفئدة ضعاف الإيمان وأهل النفاق ليتولد من ذلك: الشك في وعد الله ورسوله، وممارسة أسلوب التخذيل الجبان، والتسابق للاستئذان لحماية البيوت ظاهراً أما الباطن فهو الفرار والتخاذل، ولو قدر لتلك الجموع الغازية أن تجوس الديار فهم لن يترددوا في إعلان الاستجابة للفتنة وركوب الغواية { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً. وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريقٌ منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً. ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيراً } (الأحزاب: 12-14). إن ذكرنا للصور السلبية التي تعكس تخلف التربية الجادة يزيد من اقتناعنا بضرورتها، وبمدى عمق المشكلة التربوية الناتجة من جراء تخلفها.

من خوارم التربية الجادة
والآن لنفتح صفحات عاجلة من حاضرنا تنطق جميعها بفقد التربية الجادة، أو انخفاض مستوى الجدية، ولن نستطيع الاتيان على جميع هذه الصفحات، لكنها أمثلة عجلى تذكر بغيرها، وعلامات تدل على ما سواها من الأمراض التي نعاني منها، ومكمن الداء فيها هو افتقاد التربية الجادة، وقد تتداخل بعض هذه الصور، أو ترقى لتمثل وجهين لعملة واحدة، ونحن لسنا في قضية تأصيل منطقية أو جدل فلسفي، وغاية مانريده ربط القاريء بالواقع المتكرر الذي يشاهده. 1 - فمن خوارم التربية الجادة : الانشغال والمبالغة بالحديث عن المكاسب والمنجزات والأعمال والبرامج التي قدمت لخدمة دين الله، حديثاً تسوده لغة المبالغة، فيدرك القريب والبعيد أن ثمة هوة ساحقة بين هذا الحديث وبين الواقع العملي، وأن الرصيد من العمل يعجز عن الوفاء ببعض مايقال، وقد امتدت العدوى وللأسف إلى بعض المناشط الإسلامية، ولعل قراءة تقرير ختامي أو حضور حفل اختتام نشاط معين تعطينا الدلالة على وجود هذه الظاهرة. 2 - ومن خوارم التربية الجادة :لغة النقد التي يحترفها بعض الناس وتملأ مجالسه، فينتقد الأفراد والجماعات والدعاة والعلماء والكتاب والبرامج والمؤسسات الدعوية، نقداً صارخاً لايبقى على الأخضر واليابس، بل ويكون النقد هدفاً يقرأ ويسمع لأجله، فهناك من وظف نفسه لهذه المهمة، وتطوع لخدمة أعداء الدعوة بالمجان فقضى سحابة نهاره وأشرف لياليه في الطعن والنقد والتصنيف والإثارة؟ وحين تتساءل عن حاله: ماذا قدم؟ وماذا عمل؟ هل وظف جزءاً من وقته في دعوة شاب منحرف؟ أو في إنكار منكرات عامة أو خاصة؟ أو دعوة غير مسلم للإسلام؟ أو سهر على محتاج أو أرملة؟ ترى البون الشاسع بين واقعه ومقاله، إن غالب هذا الصنف لاترى له أثراً عملياً، بل لعل النقد وسيلة نفسية يتهرب بها من العمل، أليس هذا من عاجل العقوبة أن يحرم العمل حيث يعمل الناس، ويسلب بركة الانتاج حيث يتسابق إليها الناس؟ 3 - ومن خوارم التربية الجادة :كثرة الشكوى من مشكلات الواقع ومشكلات العمل الإسلامي، ومشكلات الشباب والدعوة..... إلى نهاية هذه القائمة الطويلة، وهي غالباً ماتكون شكوى صادقة لكنها تأخذ مساحة من التفكير، وينطبع أثرها على السلوك والعمل فيصبح صاحبها محطم الآمال سريع اليأس، وقد يتخيل بعض الخيرين أن هذا دليل على جدية الاهتمام ومؤشر خير، لكن الرجل الجاد الذي أخذ على عاتقه هم العمل وشعر أنه هو الهدف والمطلب الأساس، يرى أن استطراده في اجترار المشكلات وكثرة الحديث عنها لايجدي، فوق أنه يشغل عن العمل. وهذا لايعني رفض مناقشة المشكلات والسؤال عن حلولها، لكنه شيء آخر غير تلك الروح التي سيطرت على بعض الخيرين، فأصبح لايجيد إلا هذه اللغة، ولايتقن إلا هذا المنطق. 4 - ومن خوارم التربية الجادة : الانهزام أمام أي مشكلة أو تعويق أو مضايقه، والتخلي بحجة عدم فتح المجال وعدم التأييد، إلى غير ذلك من الأعذار. شاب يدرِّس في مدرسة، أو يعمل في مؤسسة، أو يَدْرس في جامعة في أي مكان على عرض العالم الإسلامي وطوله، فيحاصر نشاطه، وتوصد بعض الأبواب أمامه، فيقف مكتوف الأيدي بانتظار فتح تلك الأبواب، أو يطلب الانتقال من هذا المجال إلى مجال آخر، أي منطق يسيطر على تفكير هذا الصنف من الناس؟ وهل كان أنبياء الله أو الدعاة والمصلحون كذلك؟ بل ودعاة الطوائف وحملة المذاهب الأرضية يعانون مايعانون، ومع ذلك يبذلون مايطيقون، مع ضعف الثمرة وقلة النتاج، وسوء النية فوق ذلك كله. فلم لا تأخذ التربية على عاتقها إعداد صنف من العاملين يعملون على كافة الأحوال وسائر الظروف والأوضاع؟ إن الجيل الذي لايعمل إلا من خلال قنوات محددة، أو وسط ترحيب وعناية الآخرين ليس هو الجيل المؤهل للتغيير، ولن يرقى الجيل لذلك حتى يدرك أن من مسئوليته فتح الأبواب والبحث عن المجالات التي لاتقل مسئولية عن العمل ذاته. 5 - ومن خوارم التربية الجادة : الاكتفاء بمجرد الانتماء لركب الصحوة والمصاحبة الخيرة دون أي جهد أو مشاركة، أو الاقتصار علىحمل المشاعر المؤيدة للخير وأهله، وحضور المنتديات والدروس دون أدنى خطوة إيجابية أو مشاركة فعالة، ويتصور أن هذا غاية مايمكن تقديمه، وأن الذهاب والإياب واللقاء مع الأخيار والتفاعل مع الأنشطة الإسلامية يكفي حتى يكون منسلكاً في قطار الدعاة إلى الله. وكم يدور في مجالس المثقفين وأنصاف المتعلمين من الحديث المستفيض عن الدعوة، وعن جهود الدعاة، فليت الدعاة يصنعون كذا، وليتهم يقولون كذا، أو يتحفظون من هذا القول، ويتجنبون ذاك، وهي مقترحات جادة، وانتقادات منضبطة، لكنها تدار في هذه المجالس، والمتحدث يعبث بمسبحته، أو يهز يده، ويتوقف الأمرعند هذا الحد، دون خطوة عملية. وتأمل في الساحة الإسلامية بالله عليك لترى كم نسبة أولئك الذين لايؤهلهم للانتساب للصحوة إلا مجرد التفاعل مع بعض المناشط الإسلامية، والمشاركة في الحديث عن القضايا المطروحة في الساحة؟ أليس هذا الصنف مبعثاً على أزمة الطاقات والجفاف المدقع من العاملين الذي تعانيه المناشط الإسلامية؟ وهذا المنطق والحديث يمثل تنفيساً عن الشعور المختلج في النفس بضرورة العمل للإسلام والمشاركة، وهو تنفيس غير طبيعي فنحن أحوج مانكون إلى استجماع الطاقة لاتبديدها. 6 - ومن خوارم التربية الجادة : الحديث المستفيض عن واقع المجتمع: نقداً وذكراً لصور الانحراف وقصص الفساد، ويأخذ الحديث ساعات طوالاً، دون أن يتمخض عن توصيات عملية، أو مقترحات فعالة توضع موضع التنفيذ، ويكفي أن تبدأ موضوعاً أو تشير إلى جانب من الجوانب الاجتماعية، ليتتابع الجميع في عرض الصور والمواقف والشواهد، وهو حديث يسيطر على كثير من مجالس الأخيار، ويستولي على أوقات ثمينة لهم، ويظن أصحابه أنه حديث إيجابي. لكن تفكيراً متأنياً يقودنا إلى الاقتناع أنه ليس ثمة فائدة عملية من وراء ذلك الحديث، بل هناك نتائج سلبية، ليس أقلها خروج الجميع من مثل هذه المجالس بقدر من الإحباط، وسيطرة عبارة ( هلك الناس ) على تفكيرهم ومقالهم، وهذا الشعور اليائس له دور بارز في تبديد كل طاقة للعمل، وتفتيت كل حماسة للإنتاج، وهذا ليس دعوة لإلغاء الحديث في انتقاد الواقع فهو أمر مطلوب ونوع من الإنكار، لكنه حين يكون حديثاً فقط فهو لايزيد على امتصاص الحماسة والتنفيس عن معاناة نحن أحوج إلى استثمارها في عمل منتج. 7 - ومن خوارم الجدية : الحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والصحوة من الأعداء في الداخل والخارج، حديث المتشائم، حديث من يقول لسان حاله رويداً (فالسيل لن تسده بعباءتك) (لست وكيلاً لآدم على ذريته) (لكم دينكم ولي دين)، إلى آخر تلك القائمة الطويلة من المعاذير، بل الاعتراضات على أوامر الله. إن الحديث عن الأعداء وتآمرهم مطلب، وإن الشعور بالمعركة أمر له أهميته، لكن هذا شيء آخر غير حديث هذا الصنف الذي لايتبعه جهد ولا عمل. أما حين يكون ذلك الحديث للمدارسة، وشحذ الهمم، وكشف الألاعيب، ووضوح سبيل المجرمين، فهذا جزء من الواجب. 8 - ومن خوارم الجدية: تدافع المسؤوليات والأدوار، وإلقاء التبعات على الآخرين، قد يسوغ هذا السلوك لموظف في شركة أو عامل بناء يتمنى الخلاص من العمل ليتولاه غيره ويلقي التبعة على سواه، أما الذين يدركون قيمة العمل إذ هو مطلب لهم فنجاحه يهمهم، ومساهمتهم يعتبرون أنها فرصة سانحة يعد التخلف عنها تفويتاً دون مقابل، أولئك لهم شأن آخر وحال مغايرة. نعم فتدافع الفتيا مثلاً أمرٌ مشروع، وتدافع الإمارة كان من هدي السلف، لكن ذلك في حدود من يتولى الأمر فلان أم فلان، أما بعد ذلك فلابد من البت وقطع الأمر، ولم نر أن ولاية للمسلمين عطلت، أو أن مستفتياً لم يجد من يفتيه. 9 - ومن خوارم الجدية: التواضع المصطنع، وهو نموذج يتكرر كثيراً، وإجابة تسبق طلبك في أحايين ليست بالقليلة سوف تسمع: (لاأستطيع، لاأقدر، الله المستعان، ومتى كنا أهلاً لذلك، هناك من هو خير مني... ) عبارات نسمعها من طائفة من الناس حين يدعون للخير، ويطلب منهم مشاركة في أمور الدعوة. إن التواضع خلق شرعي، ومقت النفس وذمها هدي راتب من هدي السلف لايسوغ الإخلال به، لكن أن يكون عائقاً عن العمل، ومثبطاً عن المشاركة فهذا شيء آخر، لقد كان من السلف من يتصدى لنشر العلم وللفتيا وللقضاء وللدعوة ولإنكار المنكر، مع كل هذا المقت لأنفسهم واستشعار أنها دون ماينبغي أن تكون عليه، ومهما أوتي المرء فلن يكون أكثر منهم مقتاً لنفسه، وحتى أولئك الذين تركوا عملاً أو ميداناً من الميادين شغله غيرهم. إن هناك طائفة يدفعهم شعور صادق، وإحساس بالقصور فعلاً - مع أن هذا ليس عذراً - لكن ثمة فئةٌ ليست بالقليلة لو كانوا واقعيين مع أنفسهم لوجدوا أن العذر الحقيقي العجز والكسل لاغير، وشاهد ذلك أنهم يرون العاملين في ميادين كثيرة دونهم في جميع المعايير، وتسمع منهم الانتقاد كثيراً والحديث عن الأخطاء، ولو كان أولئك جادين فعلاً، لدفعهم الانتقاد إلى الشعور بالحاجة، ومن ثم العمل بعد ذلك، لكن حين يعرف السبب يبطل العجب. أليس هذا الصنف من التواضع المصطنع ثمرةٌ سيئة لتخلف التربية الجادة؟ وما الفرق بين أن يسابق المرء لقيام الليل وصيام النفل، أو يسابق لميادين الدعوة إلى الله والمشاركة فيها؟ إنك تُدهش حين تتأمل واقع الأمة المرير، وحاجتها لكل طاقات أبنائها على اختلاف مستوياتهم وقدراتهم، وترى في المقابل واقع ذلك الصنف من الناس الذي يتخلى عن العمل، ويمتنع عن المشاركة بحجة أنه ليس أهلاً، ولن تستطيع تفسير هذه الظاهرة، أو حل هذا اللغز إلا أنه فقد الجدية. 10- ومن خوارم الجدية: سوء التعامل مع الوقت، والحديث عن أهمية الوقت وضرورة استغلاله أصبح أمراً يدركه الجميع ويتحدث عنه الكثير، لكن كيف يقضي كثير من المنتسبين لجيل الصحوة أوقاتهم؟ إن الاعتذار بضيق الوقت يسبق كل تكليف، ويتقدم كل طلب للمشاركة أو دعوة للعمل، وهو ديباجة تقدم بين يدي المحاضرة، وفي مقدمة الكتاب، وبداية الدرس. لكن ضيَّق الوقت هذا يمكن أن يجد فرصة بكل سهولة لحضور وليمة تستغرق ساعات طويلة، ويستطيع أن يقابل عدداً من الأصدقاء والزملاء في جلسات منوعة، لايجمعها إلا أنها على غير نتيجة أو عمل ذي بال. أليس الأولى أن تعكس الصورة فيُعتذر عن هذه ويُستجاب لتلك؟ وهو مع ذلك يجد وقتاً واسعاً لكتابة بحث ترقية، أو تقديم رسالة علمية! أو مهمة رسمية تتطلب منه سفراً قد يطول وينأى، ولسنا نعترض على هذه المجالات، أو نحسد هؤلاء في أرزاقهم، لكن من يستطيع أن يجد لها وقتاً يستطيع لما سواها إذا كان جاداً. ولعل من مقاييس اعتناء المرء بوقته كيفية قضائه لوقت الراحة والإجازة، ذلك أن العناية باستثمارها والحرص على استغلالها يحل كثيراً من المشكلات التي نعرضها حول ضيق الوقت واستثماره. إن الرجل الجاد يدرك قيمة الوقت والتفرغ، ومن ثم فله نظرة أخرى لأوقات الراحة والإجازة، في حين يتعامل معها غيره بصورة أكثر إهمالاً وفوضى. وليست هذه دعوة إلى إرهاق النفس وهضمها حقوقها، لكن ومع أن لنفس الإنسان حقاً عليه فلايعني ذلك أن تضيع أوقاته النفيسة هدراً، فإذا كانت الإجازة للراحة، وحين تنتهي فهو منشغل بهموم عمله الرسمي وأمور منزله وأولاده، ووقته ضيق عن المشاركة أكثر في ميادين الدعوة، فمتى يجد الوقت المناسب ياترى؟ الإجابة باختصار وبصراحة حين يكون جاداً يستطيع أن يجد الوقت المناسب. 11- ومن خوارم الجدية: الإغراق في قيل وقال؛ إذ تختار النفس هذا المسلك حين تنصرف عن الاهتمامات العالية الطموحة، فيسيطر ذلك على حديث المرء في الحديث عن الناس، وتقييمهم - والغالب في ذلك مجانبة العدل - والحديث عن أمور الدنيا، وآخر أخبار الناس، إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي لا توصف بأصدق من قوله صلى الله عليه وسلم :" إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"( )
عطاء الخير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس