13-11-07, 08:28 PM
|
#2
|
جُهدٌ لا يُنسى
|
الفصل الأول :من له الحق في الإذن الطبّي ..
المبحث الأول : إذن المريض .
تبين مما سبق في التمهيد أنَّ الإجراء الطبّي يحتاج قبل الشروع فيه إلى إذنٍ وموافقةٍ من المريض ويزداد هذا وضوحاً بما يلي :-
لا يخلو المريض من إحدى حالتين :
1- أن يكون أهلاً للإذن بالإجراء الطبّي .
2- أن لا تتحقّق فيه هذه الأهليّة .
فأمّا الحالة الثانية فمحلّ الكلام عنها هو المبحث الثاني من هذا الفصل .
وأمّا الأولى : فإنّ المريض متى كان قادراً على التعبير عن إرادته فإنّ الإذن في الإجراء الطبّي حقٌ متمحّض له لا يجوز لأحدٍ أن يفتات عليه فيه فليس لأحدٍ أن يجبره على الإذن ولا أن يأذن نيابةً عنه كما أنّه ليس لأحدٍ أن يعترض على إذنه بهذا الإجراء ما لم يكن هناك مبرر شرعي لذلك .
وذلك لأمور :-
1- أنَّ التداوي غير واجب كما هو قول جمهور أهل العلم وقد سبق ذلك .
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَرَضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فلمّا أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ . لا يبقى أحدٌ في البيت إلاّ لُدَّ ) (42).
فقد عاقب صلى الله عليه وسلم من داواه بعد نهيه عن ذلك والعقوبة لا تكون إلا بسبب تعدٍ وهذا يوضّح أنّ إذن المريض ضروريّ لإجراء التداوي فإذا رفض التداوي فله الحق في ذلك ويكون إجباره على التداوي تعدّياً (43).
3- أنّ إذن ولي المريض أو امتناعه عن الإذن في حال أهليّة المريض لاغٍ كإذن الأجنبيّ وامتناعه بجامع كون كلٍ منهما فاقداً للصّفة الشرعيّة التي ينبغي عليها إذنه وامتناعه(44).
ويتَّضح من جميع ما تقدم أنّ حَقّ الإذن في إجراء العمليات الطبية خاصٌّ بالمريض – إذا كان أهلاً لذلك – ومن ثمَّ فلا اعتبار لإذن أي شخص لم يعتبر الشرع إذنه ومثال ذلك إذا أذن أخ المريض بإجراء عمليّة طبيةٍ لأخيه حال أهليّة المريض وعدم موافقته فإنَّ إذنه يعتبر ساقطاً؛ لكونه غير مستندٍ على أصلٍ شرعي فالحق في هذه الحالة مختصّ بالمريض وحده (45).
ومتى انعدمت الأهليّة فإن الإذن لا يكون من حقّ المريض .
ومنع الطبيب من إجراء العمل الطبي دون إذن لا يمنع الحجر على المريض الذي يخشى انتشار مرضه فهذا أمر آخر غير العلاج .
كما أنه لا ينافي القول بوجوب التداوي في حالة الضرورة لأن معنى الوجوب إثم التارك . والله أعلم .
المبحث الثاني : إذن وليّ المريض ..
من رحمة الله تعالى أن اعتبرت الشريعةُ الإسلاميّة الولاية على الغير في حال عجز ذلك الغير عن النظر في مصالحه ولم يأذن الله بإعطائهم أموالهم حتى يؤنس منهم الرشد قال تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: من الآية6).
وكما أن على الولي حفظ المال فكذلك عليه حفظ البدن (46).
وامتداداً لهذه القاعدة فقد اشترط الفقهاء لإباحة العمل الطبّي أن يأذن ولي المريض متى كان المريض غير أهلٍ للإذن .
فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى : "ولو جاء رجلٌ بصبي ليس بابنه ولا مملوكه وليس له بولي إلى ختانٍ أو طبيب فقال : اختن هذا أو بُطّ(47) هذا الجرح له أو اقطع هذا الطرف له من قرحة به فتلف كان على عاقلة الطبيب والختان ديته وعليه رقبةٌ .." أ.هـ (48).
فنجد أنّه –رحمه الله- ضمن الطبيب والختان إذ لم يكن الإذن من الولي .
وقال ابن قدامة –رحمه الله- : "وإن ختن صبياً بغير إذن وليّه أو قطع سِلْعَةً(49) من إنسانٍ بغير إذنه أو من صبي بغير إذن وليّه فَسَرَت جِنَايتُه ضمن لأنّه قطعٌ غير مأذونٍ فيه وإن فعل ذلك الحاكم أو من له ولايةٌ عليه أو فعله من أذنا له لم يضمن لأنّه مأذون فيه شرعاً" أ.هـ (50).
وقال ابن القيم –رحمه الله- في سرايةِ الخِتَان : "فإن أذن له أن يختنه ... فإن كان بالغاً عاقلاً لم يضمنه ؛ لأنه أسقط حقه بالإذن فيه وإن كان صغيراً ضمنه ؛ لأنه لا يعتبر إذنه شرعاً" أ.هـ (51).
فتحصّل أنه متى كان المريض غير أهلٍ للإذن فإنّه لا يحل الإقدام على الإجراء الطبي إلاّ بعد إذن وليّه .
ولا خلاف بين الفقهاء أن الوليّ إنما يتصرف بما فيه الغبطة والمصلحة لموليه (52) وذلك لقوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (الاسراء: من الآية34). والمجنون في معنى الصغير (53).
وعن معقل بن يسار – رضي الله عنه – مرفوعاً : ( ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيّة يموت يوم يموت وهو غاش لرعيّته إلا حرَّم الله عليه الجنَّة ) (54).
وللقاعدة المعروفة : التصرف على الرعيَّة منوط بالمصلحة (55). فنفاذ تصرّف الولي معلَّق على المنفعة في تصرّفه فإن تضمّن منفعةً ما وجب تنفيذه وإلا رُدّ ؛ لأن الولي ناظر وتصرّفه حينئذٍ متردد بين الضرر والعبث وكلاهما ليس من النظر في شيء (56).
وعليه فمتى امتنع الوليّ عن الإذن بالإجراء الطبّي لموليه على خلاف مقتضى الحظ والغبطة فإنّ امتناعه ساقط لا عبرة به (57).
ومثال ذلك حالة الحاجة الماسّة لنقل الدم إلى مصاب في حادثةٍ أو غيرها بينما يرفض وليّه إعطاءه الدم (58).
وكذلك متى أذن الوليّ بإجراء طبّي لموليه على خلاف مقتضى الحظّ والغبطة أو بما تمحّض الضرر فيه فإنه لا عبرة بإذنه .
ومثال ذلك إذن الولي باستقطاع عضوٍ من أعضاء موليه أو التبرع به فإن إذنه لا قيمة له ؛ لأنَّ الوليّ إنما يقوم على رعاية مصالح موليه ونقل العضو منه لا ينطوى على أدنى مصلحةٍ له فيخرج عن حدود الولاية (59).
وكذلك فإن إذن الولي يسقط في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة موليه للخطر(60) كما سيأتي بيانه – إن شاء الله - .
ومما يمنع اعتبار إذن الولي انعدام أهليته ؛ فإنه إذا تقرر أنَّ المريض لا يعتد بإذنه في حال عدم أهليته فإنه ينبني على ذلك عدم اعتبار إذن الولي الفاقد للأهليّة ؛ لأنه بَدَلٌ عنه(61).
وسأستعرض ذلك في شروط الإذن في الفصل القادم .
الفصل الثاني :شروط الإذن الطبّي...
المبحث الأول : أن يصدر ممن له الحق .
وأوّل هذه الشروط أن يكون الإذنُ صادراً ممن له الحق في الإذن بالإجراء الطبي وهو المريض نفسه أو وليّه .
والمراد هنا أنّ الإذن ليكون معتبراً فإنه لابُدَّ من صدوره ممن له الحق . وعليه فإنّه لا يعتبر إذن من سوى المريض أو وليّه .
وكذلك فإن الوليّ لا يعتبر إذنه حال أهليّة المريض (62).
المبحث الثاني : أن تتحقق أهلية الآذن.
الأهليّة للأمر الصلاحيّة له يقال هو أهلٌ لكذا أي مستحقٌّ له (63).
وتستعمل الأهليّة في الاصطلاح للدلالة على صلاحيّة الإنسان لأن يكون فعله وتصرّفاته معتبرة شرعاً (64).
ولابد في الشخص الذي يأذن بالإجراء الطبّي من أن تتوفّر فيه أهليّة الإذن به حتى يحكم باعتبار إذنه ويستوي في ذلك المريض نفسه أو وليّه (65).
ويُشترط لتحقق هذه الأهليّة شرطان : هما البلوغ والعقل وهما شرطا التكليف وسأتناولهما فيما يلي :
أولاً : العقل :
ففاقده معدوم الأهليّة ؛ وذلك لأنه لا يعرف مصلحته من ضدها ولا يمكنه أن يكون على بيّنةٍ من أمره حين يأذن بالإجراء الطبي لعدم وجود القصد عنده .
وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع التكليف عنه بقوله : ( رُفِعَ القلم عن ثلاثةٍ عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يفيق ) (66).
وقد نصّ أهل العلم على أنَّ الجنون يسلب الولايات واعتبار الأقوال (67).
والمجنون إذا كان لإفاقته وقتٌ معلومٌ ولجنونه وقتٌ معلومٌ فما قاله في حال إفاقته فهو معتبر وما قال في حال جنونه لم يعتبر (68)؛ لأنه حال إفاقته ليس مجنوناً بدليل الحديث السابق .
ثانياً البلوغ :
لأنَّ الصبيَّ لا قصد له ولا فهم كما تقدَّم . وهذا يشمل الصبيّ المميّز وغير المميّز لأنّ المميّز مع كونه يفهم لكن فهمه لم يكمل .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله - : ".. بل قد تُسْقِط الشريعةُ التكليف عمّن لم تَكْمُل فيه أداة العلم والقدرة تخفيفاً عنه ؛ وضبطاً لمناط التكليف وإن كان تكليفه ممكناً كما رفع القلم عن الصبيَّ حتى يحتلم وإن كان له فهم وتمييز لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه ولأنّ العقل يظهر في الناس شيئاً فشيئاً وهم يختلفون فيه فلمّا كانت الحكمة خفيّة ومنتشرةً قُيّدت بالبلوغ" أ.هـ (69).
فبناء على ذلك فإنّه لا يعتد بإذن من لم يكن بالغاً عاقلاً وأوضح ذلك ابن القيم بقوله : "... فإن كان بالغاً عاقلاً لم يضمنه ؛ لأنه أسقط حَقّه بالإذن فيه وإن كان صغيراً ضمنه ؛ لأنّه لا يعتبر إذنه شرعاً .." أ.هـ (70).
فأشار – رحمه الله – إلى أهليّة الآذن بذكر شرطيها : العقل والبلوغ . ثمَّ فرغ على ذلك سقوط إذن الصبي وعدم اعتباره شرعاً . وهنا ينتقل حق الإذن إلى الولي وقد جاء في قرار هيئة كبار العلماء : "أنّه لا يجوز إجراء عمليّة جراحيّة إلاّ بإذن المريض البالغ العاقل سواءً كان رجلاً أم امرأة فإن لم يكن بالغاً عاقلاً فبإذن وليّه" أ.هـ (71).
المبحث الثالث : أن يكون المأذون به مشروعاً :
من شروط الإذن الطبّي أن يكون المأذون به مشروعاً فإن كان محرّماً فإنّه لا يُعتبر هذا الإذن ولا يُعتَدُّ به .
وذلك لأنَّ الشريعة إنّما أباحت للطبيب أن يُباشر جسم المريض ويعالجه لأجل جلب المصالح ودفعاً للمفاسد المتوقّع حصولها . أمّا حين يكون تحقيق هذه المصالح مُفضياً إلى مفاسد عظيمةٍ فإنَّ علّة إباحة عمل الطبيب تنتفي (72).
وكذلك فإنّه ليس للمريض الحق في أن يأذن لأحدٍ بأن يُباشر عليه شيئاً ممّا حرَّمه الله. وذلك لأن جسد الإنسان إنما هو ملك لله تعالى ؛ كما قال تعالى : {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:120) . ولا يحقّ لأحدٍ أن يتصرّف في ملكٍ بما يحرّمه مالكه .
قال ابن حزم – رحمه الله - : "فحرام على كل من أُمِر بمعصيةٍ أن يأتمر بها فإن فعل فهو فاسق عاصٍ لله تعالى وليس له بذلك عذر وكذلك الآمر في نفسه بما لم يبح الله تعالى له فهو عاصٍ لله تعالى فاسق"(73) أ.هـ .
وبناء على ذلك قرّر الفقهاء أنَّ الإذن بالإجراء الطبّي لا يعتدّ به متى كان الإجراء غير مشروعٍ .
قال ابن القيم – رحمه الله - : "فإنه لا يجوز الإقدام على قطع عضوٍ لم يأمر الله ورسوله بقطعه ولا أوجب قطعه كما لو أذن له في قطع أذنه أو أصبعه فإنه لايجوز له ذلك ولا يسقط الإثم عنه بالإذن .." (74) أ.هـ .
المبحث الرابع : أن يكون الإذن محدداً :
من شروط الإذن الطبّي أن يكون الإذن محدداً كأن يقول المريض للطبيب : أذنت لك بعلاج كذا .
فإن لم يكن الإذن محدداً بل كان مطلقاً بأن قال المريض للطبيب أذنت لك بفعل ما شئت لعلاجي . فهذا الإذن قد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أنّه إذن معتبر شرعاً ؛ لأنَّه لا فرق في الإذن على وجه الإطلاق أو على وجه التقييد ما دام أن المأذون به جائز شرعاً(75).
وقيد ذلك بعضهم بالعرف .
والذي يظهر لي هو تخريج هذه المسألة على الوكالة العامّة فإنَّ المريض لما أذن للطبيب فكأنّه وكله في علاجه (76).
وقد اختلف الفقهاء في الوكالة العامّة على قولين :
القول الأول : أن الوكالة العامة صحيحة . وقال به الحنفيّة(77) والمالكيّة(78) وهو قول عند الحنابلة (79).
القول الثاني : أنَّ الوكالة العامة غير صحيحة . وقال به الشافعيّة (80)
وهو المذهب عند الحنابلة (81).
الأدلّة :
استدلَّ أصحاب القول الأوّل وهم من صحّح الوكالة العامّة بعدّة أدلّةٍ منها:
أنَّ لفظ الوكالة العامّة لفظ عام فصحَّ فيما يتناوله كما لو قال بع مالي كله(82).
واستدلَّ أصحاب القول الثاني وهم من قرّر أنَّ الوكالة العامّة غير صحيحة بعدّة أدلّة منها :
أنَّ في هذه الوكالة غرراً عظيماً وخطراً كبيراً ؛ لأنّه تدخل فيه هبة ماله وطلاق نساءه فيعظم الضرر (83).
نوقش :
بأنَّ الموكّل اختار الوكيل اختياراً مطلقاً وأنابه مناب نفسه فهو كما لو عدد أنواع التصرفات (84).
الترجيح :
الظاهر رجحان القول الأوّل :
لأن في تصحيح الوكالة العامّة مصلحة كبيرة كما لو أراد الموكّل السفر لمدّة قد تطول فإن في مثل هذه الوكالة حفظاً لما يخشى فواته أو تأخيره .
1- أنَّ الموكّل لم يوكّل هذا إلا لكمال ثقته به .
وما سبق يمكن تطبيقه على الإذن الطبّي فإنَّ المريض لم يكن ليأذن للطبيب بالإذن العام إلا لكمال ثقته في إتقانه ونصحه له . فلا يظهر مانع من اعتبار الإذن المطلق.
المبحث الخامس : أن يكون الإذن بلفظ صريح أو شبهه :
من شروط الإذن شرطٌ يرجع إلى دلالة الإذن ، فإنَّ الإذن الطبي ينقسم من حيث دلالته إلى قسمين :
أ – الإذن الصريح : كأن يقول المريض للطبيب أذنت لك بالفحص أو إجراء عمليّة جراحية ونحو ذلك .
ب – الإذن غير الصريح : كأن يظن الطبيب أن المريض يعاني من التهاب الزائدة الدوديّة، فيأذن له المريض باستئصالها ، فإذا شرع في الجراحة يجد أن ما يعاني منه المريض وجود ورم مثلاً، وأما الزائدة فهي سليمة، فهل للطبيب استئصاله أخذاً بأنَّ المريض أذن له باستئصالها على أنها هي سبب المرض، فإذا ظهر سبب المرض غيره، فإن المريض قد أذن له باستئصاله ؟ (85) .
هذا هو الظاهر لي وذلك لأمور :
1- أنّ الغالب في المرضى عدم معرفتهم بتفاصيل الأمراض، واختلاف أعراضها، وإنما هم مطمئنون إلى تشخيص الطبيب وما يقرره .
2- أن المريض لم يأذن بإجراء العلاج أو الجراحة ، إلا لأجل طلب السلامة، وحفظ نفسه من التلف والهلاك، فإذنه بالعمل المعيّن ينبئ بإذنه في كل ما يحصل له به السلامة والحفظ (86) .
3- أنّه محسن والله تعالى يقول : {ما على المحسنين من سبيلٍ} [سورة التوبة: 91]. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن (87) .
4- أن الطبيب بين أمرين ، إما أن يجري ما ظهر له ، اعتماداً على ذلك الإذن ، أو يترك مريضه حتى يفيق من تخديره ثم يستأذنه ، ولا شك أن الأوّل أولى، فهو أدفع للمشقة عن الطبيب والمريض.
5- وقد اعتبر الفقهاء مثل هذا الإذن وعملوا به، وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية، لما سئل عن راعٍ خشي موت شيء مما يرعاه فذبحه، بقوله: " لا يلزم الراعي شيء إذا لم يكن منه تفريطٌ ولا عدوان.. فإنهم قد أحسنوا فيما فعلوا، فإن ذبحها خير من تركها حتى تموت.. وهو نظير خرق صاحب موسى السفينة لينتفع بها أهل مرقوعة فإن ذلك خير لهم من ذهابها بالكلية ..... " أ.هـ (88) . وقال ابن القيم –رحمه الله-: " لو استأجر غلاماً ، فوقعت الأكلة في طرفه ، فتيقن أنّه إذا لم يقطعه سرى إلى نفسه فمات، جاز له قطعها ولا ظمان " أ.هـ (89) .
فأنت ترى أنهم أجازوا الإقدام على مثل هذا الإتلاف، ورفعوا الضمان عن فاعله لما في هذا العمل من مصلحة ظاهرة، يظهر منها إذن صاحب الحق فيه، وأوضح من ذلك كله حديث عروة بن الجعد البارقي (( أن النبي صلى الله عليه وسصلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحيّة أو شاة ، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار ، فأتاه بشاةٍ ودينار)) (90) . فقد باع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي (91) .
6- أن المقصود من تحريم التصرّف في ملك الغير ما فيه من الإضرار به ، وهذا التصرف ليس فيه إضرار بالغير ، بل تركه هو الإضرار (92) .
ولكن مع كل ما سبق فإنّ هذا الجواز لا بد من تقييده بما يحفظ حق المريض، ولو قيد ذلك بإشهاد طبيبٍ أو أكثر من الأطباء المتخصصين ، وأخذ موافقتهم أثناء العمليّة ، فهو أولى وأبعد عن التهمة ، وأدفع لحصول التقصير من الأطباء .
المبحث السادس : أن يستمر الإذن حتى ينتهي الإجراء الطبي :
إذا أذن المريض للطبيب بعلاجه فإنه لا يخلو إما أن يرجع في إذنه، ويمتنع عن الإجراء الطبي، أو يستمر على الإذن. فإن استمرت الموافقة منه على الإجراء الطبي حتى نهايته فلا إشكال في عمل الطبيب. أما لو رجع في إذنه وامتنع عن الإجراء الطبي فإنه لا يسوغ إجباره وإكراهه بدعوى الإذن السابق.
قال محمد بن أحمد الرملي – رحمه الله - : " فإن منعه من قلعها (93) – يعني الضرس – ولم تبرأ .. لم يجبر عليه " أ.هـ (94) .
وقال منصور البهوتي – رحمه الله - : " ويصح أن يستأجر من يقلع له ضرسه .. وإن لم يبرأ الضرس ، ولكن امتنع المستأجر عن قلعه لم يجبر على قلعه ، لأنه إتلاف جزء من الآدمي محرّم في الأصل، وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضرراً . وذلك مفوّض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلاً لذلك، وصاحب الضرس أعلم بمضرته ، ونفعه ، وقدر ألمه " أ.هـ (95).
فبناء عليه فإنه يُشترط للإجراء الطبي أن تستمر موافقة المريض عليه حتى نهايته ، فإن عاد وامتنع فإنه لا يجوز إجباره .
الفصل الثالث :حالات تعذر وجود الإذن الطبي...
المبحث الأول : عدم وجود من له حق الإذن :
سبق أنه متى كان الشخص قادراً على التعبير عن إرادته ، أهلاً للإذن بالإجراء الطبي، فإن الإذن بالإجراء الطبي حق له ، لا يجوز لأحد أن يفتات عليه فيه ، وإلا انتقل الحق إلى وليه ، ولكن قد لا يكون للمريض ولي مع كونه غير أهل للإذن بالإجراء الطبي، ولبيان الحكم في مثل هذه الحالة فإنني أحتاج لتفصيل هذه المسألة إلى فرعين :
الفرع الأول :
أن يكون المريض مهدداً بالموت أو تلف عضوٍ من أعضائه إذا لم يتم إسعافه وعلاجه ، وحالته لا تسمح بالتأخير . وسأتناول هذه المسألة في المبحث الثاني من هذا الفصل .
الفرع الثاني :
أن لا يكون المريض في حالة خطرة ، بل تسمح حالته بالتأخير ، فهذا لا تخلو حالته إما أن يكون في مكان فيه حاكم شرعي يمكنه أن يقوم بالولاية عليه ، أو يقيم نائباً عنه يتولى هذا المريض ، وهنا لا بد من الرفع إلى الحاكم ليأذن بالإجراء الطبي لهذا إذ هو وليّ من لا ولي له، أو يقيم ولياً على المريض نائباً عنه إذ هذا من عمله كما سبق .
فإن كان بمكان ليس فيه حاكم شرعي ، فهنا على من علم حاله من المسلمين القيام على هذا المريض بما يجب نحوه ، وذلك لأن هذا من التعاون على البر والتقوى ، الذي جاء الشرع بالامر به قال تعالى : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة : 2]
لأنه تخليص آدمي له حرمة فكان فرضاً ، كبذل الطعام للمضطر (96) . قال ابن مفلح : " فإن لم يوجد – يعني الحاكم – فأمين يقوم به اختاره الشيخ تقي الدين " أ.هـ (97) .
المبحث الثاني : غياب من له حق الإذن :
سبق في المبحث الأول أن لا يكون للمريض ولي يمكنه أن يأذن عن المريض. وهنا أتناول ما لو كان له وليّ لكنه غائب . وأحتاج إذ تعرّضت لهذه المسألة إلى أن أفرّع الكلام فيها إلى فرعين كما يلي :
الفرع الأول :
إذا لم يكن المريض في حالة خطرة بل تسمح حالته بالتأخير لحين قدوم وليّه، وهنا لا بد من انتظار الولي، لأنه أمكن تحقيق الواجب بدون ضرر فلزم المصير إليه . ولأنّ هذا التصرف في حق الغير بغير ضرورة فلا يجوز بغير إذنه (98) .
الفرع الثاني :
أن يكون المريض مهدداً بالموت أو تلف عضوٍ من أعضائه إذا لم يتم علاجه وإسعافه ، ومن أمثلته : المصابون في الحوادث المرورية ، والتهاب الزائدة الدودية إذا بلغ إلى درجة الخوف من انفجار الزائدة (99) . فهنا يجب على الطبيب مباشرة الإجراء الطبي دون استئذان لإنقاذ المريض، ويدلّ لذلك ما يلي :
1- عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا ضرر ولا ضرار)) (100) .
ففي الحديث نهى عن الضرر، وترك تطبيب من يخشى عليه التلف، يؤدي إلى هلاكه، وهذا من الضرر، فيكون منهياً عنه (101) .
2- أن القاعدة الفقهية تنص على أن الضرورات تبيح المحظورات، (102) والخوف على النفس أو الطرف ضرورة تبيح للطبيب ترك الاستئذان .
3- أن الطبيب – ومن في حكمه – بين خيارين ، فهو إما أن يقدم على الإجراء الطبي دون أخذ الإذن ، إنقاذاً للمريض. وإما أن ينتظر مجيء الولي و حصول الإذن، والخيار الثاني يتعذر الأخذ به، لغلبة الظن بهلاكه في حالة التأخر، فلم يبق إلا الخيار الأول وهو المتفق مع أصول الشرع التي جاءت بحفظ الأنفس والحفاظ عليها (103) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " من قدر على إنجاء شخص بإطعام، أو سقي، فلم يفعل فمات ، ضمنه " أ.هـ (104) .
وقال ابن رجب في معرض كلامه عن التصرفات للغير دون إذن : " .. أن تدعو الحاجة إلى التصرف في مال الغير أو حقه ، ويتعذر استئذانه ، إما للجهل بعينه ، أو لغيبته ، ومشقة انتظاره ، فهذا التصرف مباح جائز .. " أ. هـ (105) .
المبحث الثالث : امتناع من له حق الإذن من الإذن :
سبق أن تناولت الرأي المختار في التداوي أنه غير واجب، وعليه فإن المريض متى امتنع عن الإذن لعلاجه في غير الضرورة فإن ذلك من حقه، ولا يجبر على التداوي والذي يظهر لي هو أن الفقهاء الذين لم يوجبوا التداوي لم يفرقوا بين حالة الضرورة وغيرها في الإذن بالإجراء الطبي، فالحكم عندهم واحد.
قال الشيخ منصور البهوتي : " ويكره قطع الباسور ... ومع خوف تلف بتركه بلا قطع يُباح قطعه لأنه تداوٍ ولا يحب التداوي في مرض ، ولو ظن نفعه إذ النافع في الحقيقة والضار هو الله تعالى والدواء لا ينجح بذاته " أ.هـ (106) .
فأنت ترى أنّه أباح قطع الباسور مع وجود خوف التلف إذا تُرك ، فدل على عدم وجوب التداوي ولو مع خوف التلف.
وقال الشيخ محمد الخطيب الشربيني " ويسن للمريض التداوي ... فإن قيل هلاّ وجب كأكل الميتة للمضطر وإساغة اللقمة بالخمر أجيب بأنّا لا نقطع بإفادته بخلافهما " أ.هـ (107)
فتأمل كيف لم يوجب التداوي لعدم القطع بإفادته مع اضطراره كما يظهر من المثال.
وعليه فإن المريض لا يأثم لو امتنع عن التداوي حتى مات، ولا يكون قاتلاً لنفسه، لأن ترك التداوي غير محرم ، ولأن التداوي ليس مقطوعاً بنفعه، ولا هو السبب الوحيد للشفاء، وعلى ذلك نص الفقهاء .
قال ابن عابدين : " فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى ، لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة ، وأنه منهي عنه في محكم التنـزيل ، بخلاف من امتنع عن التداوي حتى مات، إذ لا يتيقن بأنه يشفيه " أ.هـ (108) .
فقد فرق بين ترك الطعام والشراب المفضي إلى الموت ، وترك التداوي المفضي إليه بأن الطعام والشراب مقطوع بنفعهما في مستقر العادة ، بخلاف التداوي .
وهذا إذا امتنع عن علاج نفسه ، أما الولي فإنه لا يسوغ له أن يمتنع عن معالجة موليه إذ الولاية تتضمن فعل الأصلح وعدم العلاج ضرر محض فلا يكون من حق الولي .
الفصل الرابع :الإذن لغير مصلحة الآذن...
وفيه مباحث :
المبحث الأول : الإذن لإجراء التجارب .
المبحث الثاني : الإذن في حالة النشر .
المبحث الثالث : الإذن بقطع عضو للتبرّع به .
المبحث الرابع : الإذن بقطع عضو لغير التبرّع به .
وتفصيلها في أصل بحثنا ويمكن مراجعته هناك.
الفصل الخامس :أثر الإذن الطبي في الضَّمان...
وفيه مباحث :
المبحث الأول : الطبيب الذي لم يؤذن له
المبحث الثاني : الطبيب المأذون له
وفيه مطالب :
المطلب الأول : إذا تعمّد الجناية.
المطلب الثاني : إذا أخطأ أو قصّر .
المطلب الثالث : إذا تولّد من فعله المطابق للأصول العلميّة تلف نفسٍِ أو عضو.
المطلب الرابع : إذا لم يقصد بالإجراء الطبي تحقيق مصلحة مشروعة.
المبحث الثالث : المتطبب الجاهل .
المبحث الرابع : الطبيب غير النظامي (الشّعبي)
وتفصيلها في أصل بحثنا ويمكن مراجعته هناك.
وبهذا ننتهي مما أردناه من عرض موجز لهذا الموضوع وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه .
الهوامش تتبع بإذن الله
المصدر:
موقع المسلم
|
|
|