عرض مشاركة واحدة
قديم 15-11-09, 02:34 AM   #2
أم الخطاب78
جُهدٌ لا يُنسى
a تفريغ الشرح للمادة ,, كل اسبوع بإذن الله حسب الجدول المخصص له

شرح جوامع الأخبار (1)
الشيخ/ عبد الكريم الخضير

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، مكتب الشيخ عبد الكريم الخضير العلمي بالتعاون مع تسجيلات الراية الإسلامية يقدم:
شرح كتاب جوامع الأخبار للعلامة عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-، لفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير -حفظه الله-.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن المناسبات الطيبة التي نرجو أن تكون مباركةً ومفيدة مثل هذه الاجتماعات في بيتٍ من بيوت الله، نتدارس كتاباً من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، التدوين في السنة تحدثنا عنه مراراً في مناسباتٍ كثيرة، وأنواع المصنفات، ومقاصد المؤلفين، ومناهج المصنفين، تُحدث عنه في مناسباتٍ كثيرة، وألفت فيه المؤلفات، فلسنا بحاجة إلى الإطالة بذكره، بعد عصر التدوين التي ألفت فيه الكتب الأصلية التي تروي الأحاديث بالأسانيد، رأى أهل العلم تيسير العلم على المتعلمين، فألفت المختصرات المجردة ليحفظها طلاب العلم في جميع أبواب الدين، فألف في العقائد، وفي العبادات والمعاملات، وفي بقية أبواب الدين كالجهاد والسير والفتن والملاحم والرقاق والاعتصام وغيرها من أبواب الدين التي تدخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) بعد أن دونت الأحاديث في الكتب المطولة المسندة وتقاصرت الهمم عن درسها فضلاً عن حفظها لجأ أهل العلم إلى تقريبه وتيسيره على المتعلمين، فألفت هذه المختصرات التي لوحظ نفعها، ولله الحمد.
وصارت جادة يسلكها المتعلمون بتوجيهٍ من شيوخهم، يبدؤون فيها بالأخصر، ثم الذي يليه مما هو أطول منه ثم الذي يليه إلى أن يتأهل الطالب لدراسة الكتب الأصلية، ولذا ألفوا في الأحكام في أحاديث الأحكام كتب كثيرة مجردة عن الأسانيد، وألفوا في أبواب خاصة أجزاء اشتملت على أحاديث مما تهم طالب العلم، ومما ألف الأحاديث الجوامع التي هي من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام-، ألف فيها جمع من أهل العلم من أبرزهم النووي -رحمه الله تعالى- في كتاب الأربعين، جوامع وقواعد لا يسعني أنا طالب العلم كل حديث قاعدة من قواعد الشريعة، والنووي قصد العدد لحديثٍ ورد في ذلك، من حفظ على أمتي أربعين حديثاً بعث يوم القيامة في زمرة الفقهاء. اعتمد على هذا الحديث وقد اتفق الحافظ على تضعيفه، إلا أنه كما نقل في مقدمة الأربعين في فضائل الأعمال والجمهور يعملون بالضعيف في فضائل الأعمال. بل نقل الاتفاق على ذلك، واتفاقه منقوظ لوجود المخالف، لكن يبقى أنه قول الجمهور بشروطٍ اشترطوها، وهو ممن يرى هذا الرأي العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال فألف هذا الكتاب رجاء أن يندرج في موعود الحديث، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمة الله عليه-، ولسنا بحاجة إلى بيان سيرته، وذكر مناقبه ومؤلفاته وتلاميذه، وشيء من أخباره؛ لأن الموضوع يطول بهذه الطريقة، الشيخ لما لم يصح عنده الحديث ويرى أن الضعيف لا يعمل به لم يعتمد العدة التي اعتمدها النووي، إنما جمع أحاديث يرى أن طلاب العلم في أمس الحاجة إليها، فجمع ما يقرب من مائة حديث هي في الحقيقة جوامع، ولذا سمى كتابه المتن: جوامع الأخبار.
وتداول بعض الناس في رسائل الجوال اسماً محرفاً لهذا الكتاب سموه (عيون الأخبار) فخشيت أن يظن بعض الطلاب أنه كتاب من كتب الأدب، وما أشبه ذلك؛ لكن الإعلانات -ولله الحمد- على الصواب.
جوامع الأخبار: يعني الأخبار الجامعة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، والجوامع جمع جامع، والأخبار جمع خبر، والمراد به الكلام المختصر، الذي يحمل من المعاني أكثر من واقعه من حيث اللفظ، هذا الكلام المختصر أو الموجز فهذا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، فالموصوف الأخبار، والصفة الجوامع، والأخبار جمع خبر، والخبر أعم من أن يكون حديثاً أو أثراً؛ لكنه هنا يراد به الحديث، فالكتاب مؤلف من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام- فإنه أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فيأتي بالمعنى المطلوب بأوجز عبارة، بما لا يستطيع أن يعبر عنه بعض الناس إلا بكلامٍ طويل حتى يفحم غيره عن مراده، هذه طريقته -عليه الصلاة والسلام- الاختصار في الكلام مع الوضوح بحيث لا يدخل في حيّز المعاياة والإلغاز، لا، كلام واضح إلا أنه مختصر، بحيث يسهل فهمه وحفظه، وعلى هذا جرى صحابته الكرام، لا يشققون الكلام، ولا يتفننون في العبارات، إنما يأتون بالمقصود بأوجز عبارة، جرى هذا سلف هذه الأمة، وأما إعجاز القرآن الذي أعيى الفصحاء، وأفحم البلغاء، فلسنا بحاجةٍ إلى بيانه.
المقصود أن عندنا أخبار جوامع، سلك مسلكه -عليه الصلاة والسلام- صحابته الكرام، فصاروا يبينون للناس ما ينبغي بيانه، وما أخذ عليهم العهد في بيانه بأوجز عبارة، وسلف الأمة كلهم على هذا، يعني من قارن بين فتاوى الصحابة بفتاوى من جاء بعدهم، وكذلك الأئمة المتقدمون وجد البون الشاسع، تجد الإمام من أئمة السلف يجيب بكلمة أو بجملة ويبسطها المتأخر في رسالة أو في جزء، وقد أوضح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في كتابه (فضل علم السلف على الخلف) هذا الباب أتم إيضاح، وبيّن أن سلف هذه الأمة لا يعنون بتشقيق الكلام، ولا توسيعه، ولا الاستطراد، إنما يعنون ببيان ما يحتاج إلى بيانه مع عدم التكلف في الكلام، ولذا يقول -رحمه الله عليه-: "من فضّل عالماً على آخر بكثرة كلامه فقد فضل الخلف على السلف" نعم، قد تدعو الحاجة إلى مزيد البسط والبيان؛ لأن المستفتي قد لا يفهم المراد بالعبارة الموجزة، وكذلك الموجه والمنصوح قد لا يتبين من خلال الكلام الوجيز، وقد يكون الكلام مرتب بمقدمات ونتائج بحيث لا تفهم النتائج إلا إذا بسطت المقدمات، كما يفعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، يبسط الكلام، ولا نقول: أن هذا استطراد لا حاجة له، بل الحاجة داعية إليه؛ لأن الناس في عصره يحتاجون إلى مثل هذا، بينما عندنا في عصرنا تجد الإنسان يتمحل ويستطرد ويشقق ويذهب يميناً وشمالاً بما لا حاجة إليه، وتكبير الكتب ونفخها سمة هذا العصر، بحيث أخرجت بعض كتب السلف بطريقةٍ تصد عن تحصيلها والإفادة منها، فعلينا بالقصد، القصد القصد، وعلى هذا يوجه طالب العلم بالعناية بكتاب الله -جل وعلا-؛ لأنه يربيه على هذه الطريقة وبسنته -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنها هي المبينة للقرآن وموضحه له، وأيضاً كلام الأئمة الموثوقين المعتمدين الراسخين في العلم المعروفين بسلامة القصد وصحة العمل ممن يقرن العلم بالعمل، ومن المتأخرين فيما نحسب -والله يتولى الجميع- مؤلف هذا الكتاب الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله تعالى-.
ونبدأ بالمقصود بعد هذه المقدمة التي نرجو أن تكون نافعة، الحال يستدعي أكثر من ذلك؛ لكن الأحاديث تسعة وتسعين حديث في مدة ستة أيام، ما أدري على أي وجهٍ تشرح هذه الأحاديث، نحن بحاجة في كل يوم إلى أن نأخذ ستة عشر حديث سبعة عشر حديث، ما أدري كيف نشرح، والله المستعان؛ لأن هذه الأحاديث جوامع، كل حديث على الأقل الأحوال يحتاج إلى يوم، أقل الأحوال يكفيه يوم، كل حديث؛ لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، نأتي بشيءٍ منه، مما نرى أن طلاب العلم بحاجة إليه، نسأل الله الإعانة والتوفيق والتسديد والعصمة من الزلل في القول والعمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ، وصدق اتباعٍ إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول العلامة المؤلف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي عليه -رحمه الله تعالى- وغفر له ولنا ولشيخنا أجمعين:
"الحمد لله، المحمود على ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العظيمة العليا، وعلى آثارها الشاملة للأولى والأخرى، وأصلي وأسلم على محمد أجمع الخلق لكل وصف حميد، وخلق رشيد، وقول سديد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه من جميع العبيد، أما بعد: فليس بعد كلام الله أصدق ولا أنفع ولا أجمع لخير الدنيا والآخرة من كلام رسول وخليله محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ هو أعلم الخلق، وأعظمهم نصحاً وإرشاداً وهداية، وأبلغهم بياناً وتأصيلاً وتفصيلاً، وأحسنهم تعليماً.
وقد أوتي -صلى الله عليه وسلم- جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، بحيث كان يتكلم بالكلام القليل لفظه، الكثيرة معانيه، مع كمال الوضوح والبيان الذي هو أعلى رتب البيان، وقد بدا لي أن أذكر جملة صالحة من أحاديثه الجوامع في المواضيع الكلية، والجوامع في جنس أو نوع أو باب من أبواب العلم، مع التكلم على مقاصدها، وما تدل عليه، على وجه يحصل به الإيضاح والبيان مع الاختصار، إذ المقام لا يقتضي البسط، فأقول: مستعيناً بالله، سائلاً منه التيسير والتسهيل.
الحديث الأول:
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))
[متفق عليه].
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة التي قرأها الشيخ هي مقدمة للمتن والشرح معاً، ولذا لما ذكر أنه بدا له أن يذكر جملةً صالحة من الأحاديث الجوامع بدا له أيضاً أن يعلق عليها، ويتكلم على مقاصدها، وما تدل عليه على وجهٍ يحصل به الإيضاح والبيان مع الاختصار، إذ المقام لا يقتضي البسط، وتعرفون أن الدروس هذه في المتن لا في الشرح، بعض المحققين يجتهد ويذكر عناوين يدخلها في أصل الكتاب، ولا شك أن هذا تصرف في كتب أهل العلم، فينبغي أن تترك كما هي، إذا رأى المحقق أو الناشر أو المعلق الحاجة داعية إلى شيء يجعله في حاشية، ولا يدخل في صلب الكتاب ما ليس منه.
الحديث الأول: حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- في النية يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدينا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) [متفق عليه].
الحديث مخرج في الصحيحين في البخاري، وهو أول حديث في الصحيح، يرويه الإمام البخاري -رحمة الله عليه- من طريق الحميدي شيخه، شيخه الحميدي عبد الله بن الزبير عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- على المنبر يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولا يروى ولا يصح إلا بهذا الطريق عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر -رضي الله عنه-، وهذا من أفراد الصحيح، كما هو معلوم، من غرائب الصحيح، ومثله: آخر حديثٍ فيه: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) هذا الحديث أيضاً من غرائب الصحيح، وهو نظير ما عندنا، فرد مطلق غريب في أربع طبقات، هذا الحديث لا يرويه، يروى بسندٍ صحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا من طريق عمر، ولا يروى عن عمر قد خطب به على المنبر إلا من طريق علقمة بن وقاص الليثي، ولا يروى عنه إلا من طريق محمد بن إبراهيم التيمي ولا يروى عنه إلا من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعنه انتشر، حتى قال بعضهم: أنه بلغ عدد من يرويه عن يحيى بن سعيد سبعمائة راوي، وإن كان الحافظ ابن حجر يشكك في هذا العدد، وأنه من بداية الطلب إلى أن ألف الفتح لم يتيسر له أكثر من مائة طريق، على كل حال هذا الحديث من الغرائب، وافتتح به الإمام البخاري صحيحه وكأنه -رحمة الله عليه- يريد أن يرد على من يرى العدد في قبول الرواية، وأن خبر الواحد غير مقبول، وهو المعروف عن المعتزلة، وتبناه بعض أهل العلم؛ لكنه قول مرذول، ضعيف جداً، وإن تظاهر قائله بالاستظلال برد عمر -رضي الله عنه- رد خبر أبي موسى في الاستئذان، حتى يشهد له من يروي الحديث معه، فعمر يحتاط للسنة -رضي الله عنه وأرضاه- وإلا ثبت في مناسباتٍ كثيرة أنه قبل خبر الواحد؛ لكن يحتاط ونرد على من أراد أن يستغل هذا الاحتياط في رد السنة، على كل حال هذا القول مشى على بعض أهل العلم كالحاكم فيما يومئ إليه كلامه، والبيهقي فيما يشعر به بعض تصرفاته، وابن العربي في عارضة الأحوذي، لما خرج الترمذي حديث البحر: ((هو الطهور ماؤه)) قال ابن العربي في شرحه: "لم يخرجه البخاري" البخاري صححه فيما نقله عنه الترمذي، قال: "لم يخرجه البخاري؛ لأنه ليس على شرطه؛ لأنه من روايةٍ واحد عن واحد" نقول: خرج أحاديث بهذه الصفة، وليس من شرطه عدم التخريج براوية واحد عن واحد أبداً، بل أول حديث وآخر حديث يشهدان برد هذه الدعوة.
هذا الحديث تلقته الأمة بالقبول، فهو مقطوع بصحته، مقطوع به، وبنوا عليه حكماً من أعظم الأحكام، وإن كان له ما يشهد له من نصوص الكتاب والسنة.
((إنما الأعمال بالنيات)) فالنية شرط لكل أو لصحة كل عملٍ شرعي، وعليها مدار القبول مع الاتباع للنبي -عليه الصلاة والسلام-، والموافقة لسنته -صلى الله عليه وسلم-، فلا يصح أي عملٍ شرعي إلا بتوافر هذين الشرطين، الشرط الثاني يدل عليه الحديث الثاني؛ لكن النية لها شأن عظيم {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [(5) سورة البينة] وفي هذا الحديث يقول: ((إنما الأعمال بالنيات)) حصر، فلا تصح الأعمال إلا بالنيات الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى، فالنية: القصد للعمل تقرباً إلى الله تعالى، ابتغاءً لوجهه، هذه هي النية، وجميع أمور الآخرة لا تصح إلا بهذا، فليحذر طالب العلم، يحذر المصلي المسلم مثلاً أن يصلي لأمرٍ من أمور الدنيا، أو لما يرى من نظر غيره إليه، أو يصوم كذلك، أو يحج كذلك؛ لكن من أعظم الأمور التي هي من مزلة الأقدام طلب العلم؛ لأن العلم الشرعي المورث للخشية من أمور الآخرة المحظة التي لا يجوز التشريف فيها، ولذا جاء في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعّر بهم النار، رجل طلب العلم وعلّم الناس عقود خمسين ستين سنة يطلب العلم، ويعلم الناس الخير، ومع ذلك هو من الثلاثة الذين هم أول من تسعّر بهم النار، ماذا صنعت يا فلان؟ تعلمت العلم وعلمته الناس، فيقال له: كذبت، تعلمت وعلمت ليقال: عالم وقد قيل، نسأل الله السلامة والعافية، فالأمر خطير، على طالب العلم أن يسعى في تصحيح النية من بداية الطلب، وإلا من تعلم لغير الله كما يقول أهل العلم مُكر به، وهذا أكثر وأعظم ما يخشى على أهل العلم وطلابه من هذا، تعلمت ليقال: عالم وقد قيل، فأنت الآن ترجو شيئاً وقد حصل، انتهى. فليكن طالب العلم على حرصٍ شديد في تصحيح هذا الأمر، وأكثر ما يسأل الطلاب، طلاب التعليم النظامي الذين دخلوا في الكليات الشرعية بنياتٍ مدخولة، إنسان أمامه مستقبل وظروف حياة، وأمور ضاغطة تنازع الإنسان في نيته الصالحة، فيحاول جاهد ثم بعد ذلك يبوء بالفشل، النية شرود، قد تحصل في وقتٍ من الأوقات ثم يطرؤ عليها ما يضعفها أو يفقدها نسأل الله السلامة والعافية، فهل من العلاج أن يترك الطالب الذي دخل بهذه النية أو يستمر على ما حفّ به الطريق من مخاوف؟
نقول: عليه أن يستمر، وليس العلاج في الترك، إنما عليه مع هذا الاستمراء المجاهدة، يجاهد نفسه في تصحيح النية، ويكثر من قراءة النصوص التي تحثّ على تحصيل العلم وثواب المتعلمين والمعلمين، ورفعة الدرجات في الدنيا والآخرة، وليستحضر أن هذه الدنيا بجميع ما فيها لا تعدل شيئاً بالنسبة للآخرة، طيب، تعلم ليقال عالم ليمدح، ليصدر في المجالس، ثم ماذا؟ ليذكره فلان وفلان، ألا يعلم هذا المسكين الذي يطرب ويفرح بذكر فلان وعلان من الملأ أنه إذا ذكر الله وحده، ذكر الله في نفسه، ذكره الله في نفسه، أين هذا من هذا لو كانت لنا عقول؟ والله أثنى عليك الشيخ فلان، أو أثنى الأمير فلان، أو الحاكم فلان، وبعدين؟ ثم ماذا؟ يعني هل مثل هذا يقارن بمثل ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه))؟ لكن نظرتنا التي هي نظرة الدون بسبب ما اقترفنا، وبسبب التخليط في المآكل والمشارب والمقاصد، التخليط والتفريط في الأوامر والنواهي أصبنا بمثل هذا، صرنا ننظر إلى الدنيا، وأنها غاية، وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، طيب جناح البعوضة ماذا يُقص لك من هذا الجناح مهما بلغت من الشرف والمال والأبهة والجاه ماذا يقص لك من هذا الجناح التي لا تزنه الدنيا كلها؟ ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، بدقيقتين فقط، في دقيقتين ركعتا الصبح خير من الدنيا وما فيها، بملياراتها بمتعها كلها، لا تزن عند الله -جل وعلا- ركعتي الفجر، فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه، ونخشى أننا في يومٍ من الأيام نعض على الأكف بل نقطع الأكف عضاً حينما تبلى السرائر، وينطبق علينا قول الله -جل وعلا-: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [(47) سورة الزمر] أنت تظن أن تعلمك وتعليمك في ميزان حسناتك ثم يكون العكس، فالعلم الشرعي ما فيه حل وسط، تقول: أخرج كفاف لا لي ولا علي، إما أن تدخل في {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [(11) سورة المجادلة] أو تكون ممن تسعر به النار، فعلينا أن نجتهد في هذا الباب، والحديث يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((إنما الأعمال بالنيات)) يعني صحة الأعمال الشرعية إنما تكون بالنيات، يعني ما الفرق بين طالب علم، طالب من طلاب الكتاب والسنة والعقيدة والشريعة وبين طبيب أو مهندس؟ هذا إما أن يكون في أعلى الدرجات أو في النار حسب مقصده وهدفه، وذاك قد يخرج كفافاً لا له ولا عليه، وقد يسيء في مهنته، وفي صنعته فيعاقب عقوبة العصاة، وقد يحسن إلى الناس، ويحسن القصد فيثاب على عمله، فهذه العلوم الدنيوية من طب وهندسة وزراعة ونجارة وصناعة كلها مما لا يبتغى به وجه الله في الأصل أمرها سهل، اطلبها للدنيا لأنها من أجلها أوجدت؛ لكن العلم؟ ينتبه الإنسان لما خلق له وهو العبادة، الهدف من وجوده في هذه الدنيا العبادة، فليحرص على أن يجعل جميع تصرفاته عبادة، نومه عبادة، إذا نوى به أن يتقرب أو يتقوى به على ما يرضي الله -جل وعلا-، أكله عبادة، شربه عبادة، مزاحه عبادة، معاشرة أهله له فيها أجر، وكل هذا بالنية الصالحة، فالنية شأنها عظيم لكنها أمرها خطير، تحتاج إلى تعاهد، فعلينا أن نعنى بها.



((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)) ليس لك إلا ما نويت، فالنية يحتاج إليها في العبادة بقصد وجه الله -جل وعلا- بها، ويقصد بالنية أيضاً ما يميّز العبادة من عبادة، وما يميز العادة من العبادة، وهكذا ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) هذه الجملة حذفها البخاري -رحمة الله عليه- في الموضع الأول من صحيحه؛ لأنه إنما أورد الحديث في الموضع الأول كالخطبة للكتاب، فإذا أورد هذه الجملة في الموضع الأول قد يظن به أنه ألف هذا الكتاب مخلصاً فيه لله -جل وعلا-؛ لأن الجملة الأولى: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) هذا هو المخلص، واقتصر على قوله: ((ومن كانت هجرته لدنياً يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) اتهاماً لنفسه -رحمة الله عليه-.




((من كانت هجرته)) الهجرة في الأصل: الترك، ترك ما نهى الله عنه، ويراد بها الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، الهجرة واجبة، حكمها باقٍ إلى قيام الساعة، ولا يجوز البقاء بين أظهر الكفار إلا لعاجز، والعاجز مستثنى بالنص، {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [(98) سورة النساء] هؤلاء مستثنون، أما من قدر على الهجرة فإنها تلزمه يهاجر إلى بلاد الإسلام، ومثل هذا قل: لو كان في بلاد بدعة ويوجد بلاد سنة، أيضاً الهجرة مطلوبة، بلاد معصية ويوجد بلاد أهل صلاح وتقوى الهجرة مطلوبة، إذا كثرت الفتن وخشي الإنسان على دينه يهاجر ويعتزل، ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن)) هذا من خشي على نفسه أن يتأثر، ولا يستطيع أن يؤثر بغيره مثل هذا ينتقل.
((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) اتحاد الشرط والجزاء معروف أنه في العربية لا يجوز، لا يجوز أن تقول: (من قام قام) و(من قعد قعد)، لا بد من اختلاف الشرط مع الجزاء؛ لأنه كيف يكون جواب الشرط هو فعله؟ فلا بد حينئذٍ من التأويل، من التقدير هنا، كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً مثلاً.


هذا الذي هجرته إلى الله ورسوله لا شك أنه هو الذي حقق الهدف الشرعي من الهجرة، أما من كانت هجرته لغير ذلك، هجرته إلى محرم الهجرة حرام، إلى مكروه الهجرة مكروه، هجرة إلى مباح هاجر من أجل مباح، انتقل من مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة أو إلى الرياض ليزاول التجارة طرق الأبواب في المدينة ما استطاع، ما رزق في التجارة، أو بحث عن زوجة ما وجد، فقيل له: تجد في مكة أو في الرياض أو في بلدٍ آخر فانتقل، هذه هجرة، هاجر من هذا البلد من أجل هذه المرأة التي يغلب على ظنه حصولها، أو هذه الدنيا التي يقال له: أن الفرص أكثر في مكة أو في الرياض فيهاجر من أجلها هل يذم أو لا يذم؟ الحديث ساقه سياق الذم، ((ومن كانت هجرته لدنياً يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) السياق سياق ذم لأنه في مقابل سياق المدح في الجملة الأولى، فهل يذم من انتقل من بلد إلى بلد طلباً للرزق أو طلباً لزوجة لأنه لم يجد؟ يذم وإلا ما يذم؟ لا يذم، بل قد يمدح إذا ترتب على طلب هذه المرأة إعفاف نفسه، والنكاح من سنن المرسلين، النكاح من سنتي، ((ومن رغب عن سنتي فليس مني)) فما وجد امرأة انتقل، هاجر إلى بلدٍ آخر ليجد امرأة يذم وإلا ما يذم؟ إنما سياق الخبر سياق الذم، لماذا؟ لأنه في حق من يظهر للناس أنه هاجر إلى الله ورسوله، وهو في الحقيقة إنما هاجر للدنيا أو هاجر لامرأة، وفي هذا القصة المعروفة مهاجر أم قيس، هاجر يظهر أنه مهاجر إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة، وقصده وهدفه من الهجرة أن يتزوج هذه المرأة، يذم في هذه الحالة.
وذكرنا مثال في مناسباتٍ كثيرة لو أن شخصاً في يوم الاثنين إذا بقي على أذان المغرب ساعة حمل التمر والقهوة والماء وما أدري إيش في كيس وذهب ليفطر في المسجد، وفل الصماط قبل أذان المغرب، والناس يتواردون مع الأذان وبعده ولما أذن قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وأكل وشرب، وحمد الله على ذلك، وهو ما صام، يعني لو هو صائم ما في إشكال؛ لكن هذا ما صام، الأكل في المسجد ما فيه شيء جائز، الأكل ما فيه إشكال؛ لكن كونه أوهم الناس بفعله أنه صائم يذم من هذه الحيثية، يذم من هذه الحيثية، يعني فات فل الصماط قبيل أذان المغرب يوم الاثنين مثلاً أو الخميس، ووضع التمر على هيئة الصوام، وكل من دخل مع باب المسجد تفضل يا أبو فلان، تفضل يا أبو فلان، بسم الله، وينتظر حتى يؤذن، ويأكل على طريقة الصوام هذا لا شك أنه يذم، وإن كان القصد في الأكل أنه مباح، وأيضاً الأكل في المسجد مباح ما في إشكال؛ لكن إذا أوهم الناس بعمله أنه يتقرب هنا يأتي الذم، وإلا فالأصل أن الهجرة من أجل الدنيا أو من أجل المرأة التي يتزوجها ما فيه إشكال، بل قد يؤجر عليه، فننتبه لمثل هذا، والله المستعان.
وعرفنا أن الحديث، حديث عمر دليل للشرط الأول مما يشترط لصحة العبادات، وهو الإخلاص، وعرفنا أن الإخلاص شأنه عظيم، ويحتاج إلى جهاد، النفس تحتاج إلى جهاد في هذا الباب، وتتفلت على صاحبها؛ لكن إذا حرص الإنسان وصدق في جهاده لنفسه يعينه الله -جل وعلا-، من صدق مع الله أعانه ووفقه، تردد في كلام بعض العلماء أنهم طلبوا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله، فهل ندخل في هذه النية نطلب العلم لغير الله، ونقول: تأتي النية فيما بعد؟ وما يدريك لعل المنية تخترم قبل أن تصح نيتك، فأنت جاهد من أول لحظة، جاهد من أول لحظة، تدخل بنية مدخولة تطلب العلم الشرعي قال الله وقال رسوله لأمرٍ من الأمور تقول: لا النية تأتي، طيب جميع العصاة على هذا الأمر، يزاولون المعاصي على نية أنهم يتوبون منها، وما يدريكم لعل المنية تخترم الواحد قبل تصحيح نيته فيهلك.




طيب الحديث الثاني.




توقيع أم الخطاب78
كيف يكون هذا الود؟ وما هي أسبابه؟ وثمراته؟

أم الخطاب78 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس