سر رفع السموات بغير عمد ترونها
قال الله عز وجل:﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾(يوسف: 105) . ومن أعظم هذه الآياتالتي تدل على عظمة الله وجلاله وأن ما أنزله من الوحي هو الحق، رفع السموات بعَمَد غير مرئية ؛ وذلك قوله تعالى:﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾(الرعد: 2)، ﴿ وَلَكِّنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(الرعد: 1).
والعَمَد هي الدعائم ؛ وهو اسم جمع عند الأكثرين ، ويدل على الكثرة . والمفرد : عِماد . أو : عَمود . وقرأ أبو حيوة ، ويحيى بن وثاب :﴿عُمُدٍ ﴾ ، بضمتين ، جمع : عِماد ؛ كشهاب وشهب . أو جمع : عَمود ؛ كرسول ورسل . ويجمعان في القلة على : أعمدة .. واختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى:﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ على قولين:
أحدهما:أنها مرفوعة بغيرعمد مرئية . قاله قتادة ، ومجاهد ، وإياس بن معاوية ، وغيرهم . قالوا : وذلك دليل على وجود الصانع الحكيم ، تعالى شأنه . والثاني : أنها مرفوعة بعمد ؛ ولكنها لا تُرَى . قال ابن عباس رضي الله عنهما :« يقول : ترونها بغير عمد . ويقال : بعمد لا ترونها ».
وجمهور المفسرين على أن السموات لا عمد لها ألبتة . ولو كان لها عمد ، لاحتاجت تلك العمد إلى عمد ، ويتسلسل الأمر . قالوا : فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية ، بدليل قوله تعالى :﴿وََيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾(الحج: 65) ، ونحو هذا من الآيات .
وقد انبنى على هذا الخلاف بينهم خلاف آخر في موضع جملة ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ من الإعراب، فذكروافيها ثلاثة أقوال :
الأول : أنها استئنافية ، جيء بها للاستشهاد على كون السموات مرفوعة بغير عمد ؛ كأنه قيل : ما الدليل على ذلك ؟ فقيل : رؤيتكم لها بغير عمد . قالوا : فهو كقولك : أنا بلا سيف ، ولا رمح تراني . فالضمير في﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ للعمد .
والثاني : أنها حالية من السموات . أي : رفعها مرئيَّةً لكم بغير عمد . فالضمير في﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ للسموات .
والثالث : أنها صفة للعمد . أي : بغير عمد مرئية . فالضمير للعمد ،واستدل لذلك بقراءة أبي بن كعب :﴿ تَرَوْنَهُ ﴾، بعوْد الضمير مذكرًا على لفظ :عمد .
فعلى تقدير الاستئنافية والحالية تكون السموات مرفوعة بغير عمد . وأما على تقدير الوصفية فيحتمل توجُّه النفي إلى الصفة والموصوف ، فيكون حكم السموات كحكمها في التقدير الأول والثاني ؛ لأنها لو كان لها عمد ، لكانت مرئية . ويحتمل توجه النفي إلى الصفة دون الموصوف ، فيفيد أن للسموات عَمَدًا ؛ لكنها غير مرئية . وهذا القول هو الصواب ، وبيانه :
أولاً- أن نفي الذات الموصوفة بأداة من أدوات النفيقد يكون نفيًا للصفة دون الذات، وقد يكون نفيًا للذات والصفة معًا ؛ فمن الأول قوله تعالى:﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾(الأنبياء:8). أي : بل هم جسد يأكلونه. فالنفي هنا هو للصفة دون الذات.
ومن الثاني قوله تعالى :﴿لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ﴾(البقرة:273). أي: لا سؤال لهم أصلاً، فلا يحصل منهم إلحاف ؛ وهو نفي للذات والصفة معًا . ويسمَّى هذا النوع عند أهل البديع :« نَفْيُ الشيء بإيجابه ». وعبارة ابن رشيق في تفسيره:« أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء ، وباطنه نفيه بأن ينفى ما هو من سببه؛ كوصفه، وهو المنفي في الباطن ». وقال غيره :« أن ينفى الشيءُ مقيدًا، والمراد نفيه مطلقًا مبالغة في النفي، وتأكيدًا له ».
ثانيًا-لفظ ﴿غَيْر ﴾موضوع- في الأصل- للمغايرة ، وهو مستلزم للنفي ، ومعناه عند الجمهور ؛ كمعنى ﴿لَا ﴾ النافية ؛ إلا أن بينهما فرقًا من وجهين : أحدهما : أن ﴿غَيْر ﴾ اسم . و﴿لَا ﴾ أداة ( حرف ) . والثاني : أن ﴿غَيْر ﴾ معناها : المغايرة بين الشيئين . و﴿لَا ﴾ معناها : النفي المجرد .
ويتضح لك هذا الفرق بينهما أنك إذا قلت :«أخذت فلانًا بذنبٍ » ، فـ﴿ذنب ﴾ هو الذي أخذته به . وإذا قلت :«أخذته بلا ذنب» ، فـ﴿ لا ذنب ﴾ هو الذي أخذته به ، وهو بمنزلة ﴿ ذنب ﴾ في الإثبات .
فإذا قلت :«أخذته بغير ذنب» ، فـ﴿غَيْر ﴾ هو الذي أخذته به ، و﴿ ذَنْب ﴾ لم تأخذه به ؛ لأنلفظ ﴿غَيْر ﴾ مسلوب منه ما أضيف إليه . وما أضيف إليه هنا هو ﴿ ذَنْبٌ ﴾ ، فهو المسلوب منه .
ومثل ذلك قوله تعالى :﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾(آل عمران: 112) . فـ﴿غَيْر ﴾ هو الذي قتلوا به . وأما ﴿ حَق ﴾ فلم يقتلوا به ؛ وإنما أضيفلفظ﴿غَيْر ﴾إليه ؛ لأنه اسم مبهم ، لا يفهم معناه إلا بالإضافة . ولما كان مدلول ﴿غَيْر ﴾ المغايرة ، كان معنى ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ : بباطل .
ثالثًا-النفي بـ﴿غَيْرٍ ﴾ يرد في اللغة على أوجه ؛ منها:
أن يكون متناولاً للذات ، إذا كان غير موصوف ؛ كقوله تعالى :﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾(آل عمران: 112) . وقوله تعالى :﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾(الحج: 40) .فإذا كانت الذات موصوفة ، كان النفي بـ﴿غَيْر ﴾ واقعًا على الصفة دون الذات ؛ كما في قوله تعالى :﴿ رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾(الرعد:2). فالمنفي بـ﴿غَيْر ﴾ هنا هو الرؤية ، لا العمد . وعليه تكون السموات مرفوعة بعمد لا تُرَى . وهذا ما أثبته العلم الحديث .. فتأمل ذلك ، فإنه من الأسرار الدقيقة في البيان القرآني المعجز !!!
فريق النقاء