تفسير سورة البقرة
|
تفسير سورة البقرة فضل سورة البقرة فيها أعظم آية في القرآن: • سورة البقرة فيها أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي قال تعالى: " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ "البقرة: 255. • وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ"اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ"البقرة:255. قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ."الراوي: أبي بن كعب - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم. لِيَهْنِكَ العِلمُ أبا المُنذرِ، أيْ:لِيَكُنِ العلمُ هنيئًا لك تَهنَّأ به، والقَصدُ الدُّعاءُ لَه بتَيسيرِ العِلمِ والرُّسوخِ فيهِ. في الحَديثِ: مَنقُبَةٌ عَظيمَةٌ لأُبيِّ بنِ كَعبٍ رَضي اللهُ عنه. وفيه: مَشروعيَّةُ مَدحِ الإنسانِ في وَجهِهِ إذا كان فيه مصلحةٌ، ولم يُخَفْ عليه إعجابٌ ونحوُه. وَفيهِ أيضًا: تَبجيلُ العالِمِ فُضلاءَ أصحابِهِ.الدرر. "مَنْ قرأَ آيةً الكُرسِيِّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ ، لمْ يمنعْهُ من دُخُولِ الجنةَ إلَّا أنْ يمُوتَ"الراوي : أبو أمامة الباهلي - المحدث : الألباني - المصدر :صحيح الجامع. وهي حافظة وكافية من الشياطين• حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال "وَكَّلَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحِفْظِ زَكاةِ رَمَضانَ، فأتانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ فأخَذْتُهُ، فَقُلتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَصَّ الحَدِيثَ، فقالَ: إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزالَ معكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شيطانٌ حتَّى تُصْبِحَ، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: صَدَقَكَ وهو كَذُوبٌ، ذاكَ شيطانٌ.الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري- المصدر : صحيح البخاري. • وحديث أبي مسعود - رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم"مَن قَرَأَ بالآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ."الراوي : أبو مسعود عقبة بن عمرو - صحيح البخاري."كَفَتاه"، أي: حَفِظَتاه مِنَ الشَّرِّ ووقَتَاه مِنَ المكروهِ ."إنَّ اللَّهَ كتبَ كتابًا قبلَ أن يخلُقَ السَّماواتِ والأرضَ بألفي عامٍ أنزلَ منهُ آيتينِ ختمَ بِهما سورةَ البقرةِ ولا يقرآنِ في دارٍ ثلاثَ ليالٍ فيقربُها شيطانٌ"الراوي : النعمان بن بشير - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي .حديث أبي هريرة رضي الله عنه"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ" لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ".صحيح مسلم." لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ"فليسَ فيها أحياءٌ يَذكُرُونَ اللهَ ويَقرَؤُون القُرآنَ، بلْ هي خاويةٌ ساكِنةٌ تشفع للعبد يوم لا ينفع مال ولابنون: • حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ"اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ. قالَ مُعاوِيَةُ: بَلَغَنِي أنَّ البَطَلَةَ: السَّحَرَةُ"صحيح مسلم. الشرح: قِراءَةُ القُرآنِ فيها الخَيرُ والبَرَكةُ لمَنْ يَقرَأ؛ فهو حبْلُ اللهِ المَوصولُ، وفيه النَّجاةُ يومَ القيامةِ، والحَصانةُ من كَيْدِ السَّحرةِ في الدُّنيا، وخاصَّةً سُورَةَ البقَرةِ وآلِ عِمرانَ. وفي هذا الحَديثِ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "اقرؤوا القرآنَ"، أي: اغتنِموا قِراءتَه، وداوموا عليها؛ "فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ"، أي: يتمثَّل يومَ القيامةِ بصورةٍ يراها النَّاسُ، كما يجعل اللهُ لأعمالِ العِبادِ صورةً ووزنًا؛ لِتُوضَعَ في المِيزَانِ، "شافعًا لأصحابِهِ"، أي: يَشْفَعُ لِقَارِئِيهِ، الَّذين يَقرؤونه مُتَدَبِّرِينَ له، عامِلين بما فيه، وكرَّرَ "اقرؤوا"؛ حثًّا على قراءةِ سُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ، وتأكيدًا لِخُصُوصِيَّتِهَا في الشَّفاعةِ،"الزَّهْرَاوَيْنِ"، أي:المُنِيرَتَيْنِ،....، "البقرةَ، وآلَ عِمرانَ"، أي:خُصوصًا البقرةَ، وآلَ عِمرانَ؛ "فإنَّهما تَأْتِيَانِ"، أي: تَحْضُرانِ، أو تتصوَّرانِ بثَوابِهما الَّذي اسْتَحَقَّهُ التَّالي والقارئُ العاملُ بهما، والإتيانُ هنا مَحمولٌ على الحَقيقةِ ولكن كيفَ يشاءُ اللهُ تعالى"، "كأنَّهما "غَمامتانِ"، أي: سَحابتانِ، تُظِلَّانِ صاحبَهما عن حَرِّ الموقِفِ، وإنَّما سُمِّيَ غَمامًا لأنَّه يَغُمُّ السَّماءَ، أي: يَستُرُها، "أو غَيايتان"، الغَيايةُ: كُلُّ ما أَظَلَّ الإنسانَ فَوْقَ رأسِهِ، من سحابةٍ، وغيرِها، "أو كأنَّهما فِرْقانِ"، أي: طائفتان، وجماعتان، "مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ" وهي جماعةُ الطَّيرِ الباسِطةُ أجنحَتَهَا، والمرادُ أنَّهما يَقيانِ قارِئَهما من حَرِّ الموقِفِ، وكَرْبِ يومِ القيامةِ، "تُحاجَّانِ عن أصحابِهِمَا"، أي: تُدافِعانِ الجحيمَ والزَّبانيَةَ، أو تُخاصمانِ الرَّبَّ، أو تُجادلان عنهم بالشَّفاعةِ، أو عِنْدَ السُّؤالِ، إذا لم يَنْطِقِ اللِّسانُ، وأَطْبَقَتِ الشَّفَتَانِ، وضاعتِ الحُجَجُ. وقولُهُ "اقْرَؤُوا سورةَ البقرةِ"، تخصيصٌ بَعْدَ تخصيصٍ؛ فإنَّه عمَّم أولًا بالقُرآنِ كلِّه، ثم خصَّصَ الزَّهراوين، ثم خصَّ البقرةَ؛ دَلالةً على عِظَمِ شأنِها، وكبيرِ فضلِها؛"فإنَّ أَخْذَها"، أي: المواظَبَةَ على تِلاوتِها، والتَّدبُّرَ في معانيها، والعَمَلَ بما فيها، "بَرَكَةٌ"، أي:زِيادةٌ، ونَماءٌ، وَمَنْفَعَةٌ عظيمةٌ لِقارئِهَا، "وَتَرْكَهَا حَسْرةٌ"، أي: تلهُّفٌ وتأسُّفٌ على ما فاتَ مِنَ الثَّوابِ، "ولا يَسْتَطِيعُهَا"، أي: لا يَقْدِرُ على تَحْصِيلِهَا، وَعَدَمُ الاستِطاعةِ عِبارةٌ عَنِ الخِذْلانِ، وعدمِ التَّوفيقِ لِتِلاوتِها،"البَطَلَةُ"، أي: أنَّهم لا يستطيعون دَفْعَها، واختراقَ تَحْصِينِهَا لِمَنْ قَرَأَهَا، أو حَفِظَهَا؛ فهي حِصْنٌ لقارئها وحافِظِهَا مِنَ السِّحْرِ. وفي الحَديثِ:الحثُّ على قِراءَةِ القُرآنِ، وفَضيلةُ سُورَةِ البقَرةِ وآلِ عِمرانَ، وعظم سورة البقرة خُصوصًا.الدرر السنية. "لكلِّ شيءٍ سِنَامٌ ، إنَّ سِنَامَ القرآنِ سورةُ البقرةِ . . ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب- الصفحة أو الرقم: 1461 -خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره. تفسير سورة البقرة الم (1) "الم" هذه الحروف المقطعة:قال الشعبي وجماعة :الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وهي سر القرآن . تفسير البغوي. فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان لمعانيها وبناء على ذلك اختلفت أقوال العلماء في بيان معانيها،القول الراجح:أنه لا يمكن القطع بمعانيها لعدم ورود نص يبين معنى هذه الحروف المقطعة لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، وإنها من قبيل المتشابه قال تعالى"هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"آل عمران :7. فهي سر الله في القرآن وهي من المتشابه، الذي انفرد الله بعلمه ولا يجوز أن يُتَكلم فيه، ولكن نؤمن بها ونقرأها كما جاءت. ثم إن العلم بمعانيها لا يفيدنا بشيء ولا يتوقف على العلم بها إقامة العبادة لله وإنها اختبار وامتحان للخلف، فالأولى السكوت عن معانيها كما هو صنيع السلف الصالح .طريق الإسلام. "ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ " "ذلك الكتاب" أَي: هذا الكتاب يعنى: القرآن. "لَا رَيْبَ فِيهِ"والمعنى - إن هذا الكتاب لا يعتريه ريب في كونه من عند الله، ولا في هدايته وإرشاده، ولا في أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتي بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة - وإلى هذا أشار بقوله"وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ"وارتياب كثير من الناس فيه، إنما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنت عنادا واستكبارا واتباعا للهوى أو تقليدًا لسواهم. "هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ.فالمتقى هو الذي يقي نفسه مما يضرها، وهو الذي يتقي عذاب الله بطاعته، وجماع التقوى أن يمتثل العبد الأوامر، ويجتنب النواهي. وفى تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالةٌ على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم وقد قال " وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى"فصلت: 44. "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال، الأول: عمل قلبي وهو الإيمان- بالغيب-، والثاني: عمل بدني، وهو الصلاة والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، والثالث: عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله،واجبًا أو مندوبًا.يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة امتثالًا واحتسابًا ،وما ندبهم إليه من غير ذلك احتسابًا. وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها. "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ "الغيب ما غاب عن الحواس، وكل شيء مستور فهو غيب، كالجنة، والنار، والحشر والنشروَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لا يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ"الغَيْبِ" فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَبِمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ. لو أشرق نور اليقين في قلب المؤمن لرأى الآخرة أقرب من أن يرحل إليها، ولرأى بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها.من لم يُرد الحقَّ حُرِمه، تأمَّل"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ"البقرة: 6... فبعدما كفَروه حُرموا هدايته. "ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما:اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا."الراوي : أبو هريرة -صحيح البخاري.كلُّ امرِئٍ في ظلِّ صَدقتِهِ، حتَّى يُفصَلَ بينَ النَّاسِ أو قالَ يُحكَمَ بينَ النَّاسِ ."الراوي : عقبة بن عامر -المحدث : الوادعي - المصدر : الصحيح المسند-الصفحة أو الرقم: 943- خلاصة حكم المحدث : صحيح. "كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُقْضَى بين الناسِ . قال يزيد . فكَانَ أبُو مرثدٍ لا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إلَّا تَصَدَّقَ فيهِ بِشيءٍ ، و لَوْ كَعْكَةً أوْ بَصَلَةً"الراوي : عقبة بن عامر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم: 872- خلاصة حكم المحدث : صحيح. "إنَّ الصَّدقةَ لتُطفيءُ عَن أهلِها حرَّ القبورِ ، وإنَّما يَستَظلُّ المؤمِنُ يومَ القيامةِ في ظلِّ صدقتِهِ"الراوي : عقبة بن عامر - المحدث : الألباني - المصدر: صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم: 873 - خلاصة حكم المحدث : حسن.أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: قالَ اللَّهُ: أنْفِقْ يا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ"الراوي : أبو هريرة - المصدر : صحيح البخاري . "مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، ...."الراوي : أبو هريرة- صحيح مسلم. والصدقة لا تنقص المال، بل تزيده وتبارك فيه؛ فعن أبي هريرة –صلى الله عليه وسلم- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال"مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَال"رواه مسلم. عن أبي هُرَيْرةَ ، أنَّهُ قالَ : يا رسولَ اللَّهِ ، أيُّ الصَّدَقةِ أفضلُ ؟ قالَ" جُهْدُ المقلِّ ، وابدأ بِمن تعولُ"الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني -المصدر : صحيح أبي داود."جُهْدُ المُقِلِّ"، والجُهدُ الوُسْعُ والطَّاقةُ، أو المشقَّةُ والغايةُ، والمُقِلُّ: الفقيرُ الَّذي معَه شيءٌ قليلٌ مِن المالِ، أي: إنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ هو الَّذي يتَصدَّقُ به الفقيرُ قليلُ المالِ على قدْرِ طاقتِه ووُسْعِه مع مَشقَّةِ ذلك عليه، وإنَّما كانت صدَقةُ المقِلِّ أفضلَ مِن صدَقةِ الغنيِّ؛ لأنَّ الفقيرَ يتصدَّقُ بما هو مُحتاجٌ إليه، بخِلافِ الغنيِّ؛ فإنَّه يتَصدَّق بفُضولِ مالِه."وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" "وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ"يعني القرآن، "وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" يعني به التوراة والإنجيل، وما تقدم من كتب الأنبياء، بخلاف ما فعلته اليهود والنصارى، في إيمانهم ببعضها دون جميعها."وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" الدار الآخرة هي دار الجزاء على الأعمال - والإيمان بها يتضمن الإيمان بكل ما ورد فيها بالنصوص المتواترة كالحساب والميزان والصراط، والجنة والنار. واليقين: هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال، فمن يشهد الزور أو يشرب الخمر أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح في الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم تظهر آثاره في الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرفا لها في أعمالها. "أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ""وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ""والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم, وما عدا تلك السبيل, فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك. |
تفسير سورة البقرة من آية 6 إلى آية 16 خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ".7.هؤلاء قد تمكن الكفر منهم حتى كأن قلوبَهم مختومٌ عليها بحجاب لا يدخلها غير ما فيها، وكأن أسماعَهم مختومٌ عليها كذلك، فلا تسمع وعده الحق، وكأن أبصارَهم قد غشيها غطاء فهى لا تدرك آيات الله الدالة على الإيمان،ومن ثم لا يرجى تغيير حالهم ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم. ولذلك استحقوا أن ينالهم العذاب الشديد العظيم،وهو عذاب النار، وسخط الجبار المستمر الدائم.. ذكر سبحانه أوّلًا من أخلص دينه لله ووافق سرّه علنه وفعله قوله،ثم ثنى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرًا وباطنًا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعًا وتمويهًا وتدليسًا وفيهم نزل قوله"إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"النساء:142. وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر:"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ"8. النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار وهو المقصود في هذه الآيات، وعمليوهو من أكبر الذنوب. يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يظهرون الإيمان فيقولون: إننا آمنا بالله وبيوم القيامة، وليسوا بصادقين في قولهم.واليوم الآخر - هو من وقت الحشر إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار."وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ " لأن الإيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. "يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"9. والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع،يظنون بجهلهم وضلالهم أنهم يخادعون الله،أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم،وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ، إذ يتوهمون أنه غير مطلع على خفاياهم، مع أنه يعلم السر والنجوى، وهم في الواقع يخدعون أنفسهم لأن ضررَ عملِهم لا حقٌ بهم، عاجلًا وآجلًا، ولأن من يخدع غيره ويحسبه جاهلًا- وهو ليس كذلك- إنما يخدع نفسه. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ".10.والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات، والزنا، ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها، من مرض الشهوات. والمعافى من عوفي من هذين المرضين، فحصل له اليقين والإيمان، والصبر عن كل معصية. . فبعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع، وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم، ومرضًا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدًا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلوّ شأنه يومًا بعد يوم. آفة الكافرين في كفرهم موزعة بين أجهزة ثلاثة في كيانهم، هى القلب، والسمع، والبصر.. فقلوبهم مغلقة عن الخير، وأسماعهم نابية عن الحق، وأبصارهم كليلة عن الهدى. أما المنافقون فإن آفة نفاقهم في القلوب وحدها، حيث قد سمعوا الحق ووعوه، وأبصروا الهدى واستيقنوه، ولكن حين ينفذ هذا كله إلى موطن الإيمان من قلوبهم، يصادف قلوبًا مريضة، لا تقبل الحق والخير، وإن قبلتهما فإنها سرعان ما تلفظهما، كما يلفظ المحموم طيب الطعام. "فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا"فزادهم بجانب الحسد والحقد على أهل الإيمان مع فساد العقيدة ،زادهم ضعفًا عن الانتصار للحق، وعجزًا عن الاقتدار على الاستقامة والامتثال.فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى" وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى"مريم76. "وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ"أي بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم لم يصدّقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم، وقد جعل العذاب جزاء الكذب. "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ"12/11". أي: إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين. "قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ"فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح، قلبًا للحقائق، وجمعًا بين فعل الباطل واعتقاده حقا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية، مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه.حصر للإصلاح في جانبهم - فيضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قَلَبَ اللهُ عليهم دعواهم بقوله: "أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ " كم هي مصيبة الأمة عندما يظن المفسد نفسه مصلحًا.نسأل الله البصيرة والسداد لكل إصلاح وبِر. فإنه لا أعظم فسادًا ممن كفر بآيات الله، وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه، ووالى المحاربين لله ورسوله، وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح، فهل بعد هذا الفساد فساد؟.وهكذا شأن المفسدين في كل زمان يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه. فالإصلاح في الأرض, أن تعمر بطاعة الله والإيمان به, لهذا خلق الله الخلق،وأسكنهم الأرض, وأدر علهيم الأرزاق, ليستعينوا بها على طاعته وعبادته. فإذا عمل فيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد, وإخرابا لها عما خلقت له. "وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ" أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس، أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان، قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟وَالسَّفِيه هُوَ الْجَاهِل الضَّعِيف الرَّأْي الْقَلِيل الْمَعْرِفَة بِمَوَاضِع الْمَصَالِح وَالْمَضَارّ، يعنون - قبَّحَهُم اللهُ - الصحابة رضي الله عنهم، بزعمهم أن سَفَهَهُم- أي الصحابة- أوجب لهم الإيمان، وتَرْكالأوطان، ومعاداة الكفار، والعقل عندهم – أي عند المنافقين-يقتضي ضد ذلك، فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحُجَى والنُّهَى. فَرَدَّ اللهُ ذلك عليهم، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة، لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه، وسعيه فيما يضرها، وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحُجا، معرفة الإنسان بمصالح نفسه، والسعي فيما ينفعه، وفيدفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على الصحابة والمؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال الفارغة. "أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ" يعني : ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل ، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى ، والبعد عن الهدى. "وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ"14. هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، أي وإذا رأى المنافقون المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا كذبًا وبهتانًا: آمنا كإيمانكم وصدَّقْنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم، لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالَنا وأولادَنا ونساءَنا من أيديهم ونطَّلع على أسرارهم. "اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ15". أي الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم ،وسمى هذا الجزاء استهزاء للمشاكلة في اللفظ كما سمى جزاء السيئة سيئة، وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثةويزيدهم في عتوهم وكفرهم، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورًا ظاهرًا, فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع. "أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ""16. أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات "اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى " أي: رغبوا في الضلالة، رغبة المشتري بالسلعة، التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة. وهذا من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وبئس الصفقة صفقتهم وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل الأمور عن عاليها ؟" فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة. أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة، إذ هم أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح. وإن من كانت هذه حالهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإن التاجر إن فاته الربح في صفقة فربما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودًا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال.تفسير المراغي. |
من آية 17 إلى آية 22 "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ "17" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ "18. أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارًا، أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده مُعَدَّة, بل هي خارجة عنه، فَلَمَّا أَضَاءَتْ النَّارُ مَا حَوْلَهُ ، وَنَظَر الْمَحَلّ الَّذِي هُوَ فِيهِ., وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار،وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب الله بنوره،فذهب عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة،فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم, فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم،وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم وغم وعذاب،وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار وبئس القرار.فلهذا قال تعالى عنهم"صُمٌّ" أي: عن سماع الخير" بُكْمٌ"أي عن النطق به، " عُمْيٌ" عن رؤية الحق، "فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعًا منهم.ثم قال تعالى" أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ"يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة، " فِيهِ ظُلُمَاتٌ" ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر، " وَرَعْدٌ" وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، " وَبَرْقٌ" وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب." كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ" البرق في تلك الظلمات " مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا" أي: وقفوا.فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده،جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء.ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ"أي: الحسية، ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، " إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.تفسير السعدي."يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"22/21.العبادة:خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود.خضوع مبني على الإخلاص والاتباع أي لكي يقبل العمل لابد أن يكون خالصًا لله صوابًا أي على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعد أن ذكر سبحانه أصناف الخلق وبيّن أن منهم المهتدين، والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك - دعا الناس إلى دين التوحيد الحق وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فإن فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى.ثم عَدَّد بعضَ نعمِهِ المتظهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر،فمن أهم مقاصد القرآن التعريفُ بالله سبحانه وتعالى، ومن طرق القرآن في التعريف بالله تعالى ذِكر نِعم الله على خلقه وما أعطاهم،فالقرآن يخاطب العقول والفِطَر والقلوب السليمة،فمن نهج القرآن التربية العقلية التي تتعامل مع البرهان،ليتذكر أولوا الألباب ، فمن نعم الله وآياته على عبادِهِ أن خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب،الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية. ثم خلق الأرض مستقرا ومهادا لينتفعوا بخيراتها ويستخرجوا معادِنَها ونباتَها،"الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا" أي هو الذي مهدّ لكم الأرض وجعلها صالحة للافتراش والإقامة فيها.ثم بنى لهم السماء التي زينها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدي بها الساري في الليل المظلم، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً". أي وهو الذي كوّن السماء بنظام متماسك كنظام البناء، وسوّى أجرامَها على ما نُشاهد وأمسكها وجعل الجاذبية، حتى لا تقع على الأرض ولا يصطدم بعضها ببعض، حتى يأتي اليوم الموعود. وهنا برهان آخر على البعث أعظم من خلق الإنسان وهو خلق الكون. "وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ".أي وهو الذي أنزل من السماء مطرًا يسقى به الزرع، ويغذّى به النبات، فأخرج به ثمرا مختلفًا ألوانها وأشكالها نأكل منه وننتفع به."فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا" الأنداد هم الذين خضع الناس لهم وقصدوهم في قضاء حاجاتهم.عن عبد الله بن مسعود قال :سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قالَ"أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ ....".صحيح البخاري.والنِّدُّ هو المثيلُ والنَّظيرُ.أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر أي:لا تجعلوا لله نظراء وأشباها من المخلوقين،فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون، مرزوقون مدبرون، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره. "وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"أي وإنكم لتعلمون بطلان ذلك وأن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق، والتدبير، ولا في العبادة. وإنكم إذا سُئِلتم من رزقكم من السموات والأرض ومن يدبر الأمر؟ تقولون: الله، فلم إذا تدْعُونَ غيرَه، وتستشفعون به؟ "أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه كانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بالعَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فقالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وإنَّا نَتَوَسَّلُ إليكَ بعَمِّ نَبِيِّنَا فاسْقِنَا، قالَ: فيُسْقَوْنَ."الراوي : أنس بن مالك : صحيح البخاري ." قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ"يونس :31. ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع؟ ومن أين جاءكم أن التقرب إلى الله يكون بغير ما شرعه الله حتى قلتم معتذرينعن أنفسكم وقائلين "ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى"الزمر:3. أي: لترفع حوائجنا للّه، وتشفع لنا عنده، وإلا، فنحن نعلم أنها، لا تَخْلق، ولا تَرزق، ولا تملك من الأمرِ شيئًا. أي: فهؤلاء، قد تركوا ما أمر اللّه به من الإخلاص، وتجرأوا على أعظم المحرمات، وهو الشرك، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء، الملك العظيم، بالملوك، وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم السقيم، أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء، وشفعاء، ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم، ويستعطفونهم عليهم، ويمهدون لهم الأمر في ذلك، أن اللّه تعالى كذلك. وهذا القياس من أفسد الأقيسة، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق، مع ثبوت الفرق العظيم، عقلا ونقلا وفطرة، فإن الملوك، إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم، لأنهم لا يعلمون أحوالهم. فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة، فيحتاج من يعطفهم عليه ويسترحمه لهمويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء، ويخافون منهم، فيقضون حوائج من توسطوا لهم، مراعاة لهم، ومداراة لخواطرهم، وهم أيضا فقراء، قد يمنعون لما يخشون من الفقر. وأما الرب تعالى، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها، الذي لا يحتاج من يخبره بأحوال رعيته وعباده، وهو تعالى أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، لا يحتاج إلى أحد من خلقه يجعله راحما لعباده، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم، وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته، وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم، وهو الغني، الذي له الغنى التام المطلق، الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلا منهم ما سأل وتمنى، لم ينقصوا من غناه شيئا، ولم ينقصوا مما عنده، إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط. شبهة والرد عليها:هل يجوز التوسل بجاه أحد من المخلوقين أو طلب الدعاء منه ؟ فكان عمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يُقدِّمُ العباسَ بنَ عبدِ المطَّلِبِ عمَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليَدعُوَ للناسِ، ويقولُ: اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نطلبُ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَدْعوَ؛ لِيكونَ وَسيلةً لنا إليك؛ لِمَا له مِن فَضْلٍ عندَك، فتَسْتجيبُ وتَسْقِينا، وبعدَ مَوتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإنَّا نَتوسَّلُ إليك بِعَمِّ نَبيِّنا، أي: بدُعائِه واستِسقائِه، فَاسْقِنا، وأَنزِلْ علينا المطَرَ، وكان إذا فَعَلَ عمَرُ ذلك أنْزَلَ اللهُ تعالَى المطَرَ عليهم بِاستِسقاءِ العبَّاسِ رَضيَ اللهُ عنه. وهذا ليس مِن التَّوسُّلِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بالرَّجُلِ الصالحِ بذاتِه وبِجاهِه وبحَقِّه، بلْ هو التَّوسُّلُ بدُعائِه وتَضرُّعِه واستِغاثتِه به سُبحانه وتعالَى. والحاصل: أن التوسل إلى الله تعالى بدعاء من ترجى فيه إجابة الدعاء لصلاحه لا بأس به؛ فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم ؛ وكذلك عمر رضي الله عنه توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، فلا بأس إذا رأيت رجلاً صالحاً حرياً بالإجابة لكون طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه حلالاً وكونه معروفًا بالعبادة والتقوى ، لا بأس أن تسأله أن يدعو الله لك بما تحب ، بشرط أن لا يحصل في ذلك غرور لهذا الشخص الذي طلب منه الدعاء ، فإن حصل منه غرور بذلك فإنه لا يحل لك أن تقتله وتهلكه بهذا الطلب منه؛ لأن ذلك يضره. الإسلام سؤال وجواب. قد يقول قائل: طلب الدعاء من الغير ، ربما يحرم صاحبه من أن يكون من السبعين ألفا ، كما هو حال الذين يسترقون ؛ وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في وصف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"هُمُ الذِينَ لاَ يَستَرقُونَ وَلاَ يَكتَوُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ" رواه البخاري :3410- ومسلم :220. فيقال في جوابه : إن هذا القياس لا يصح. طلب المسلم الدعاء من أخيه المسلم : جائز لا حرج فيه ؛ للأدلة المتكاثرة الواردة في الكتاب والسنة النبوية ، وهي تدل على جواز طلب الدعاء من الآخرين ، خاصة إذا كان طلب الدعاء ممن هو مشهور بالخير والصلاح . ومن الأدلة على ذلك : 1- قول الله عز وجل عن إخوة يوسف " قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ" يوسف/97. 2- حديث أويس القرني الطويل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر " .. فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ " فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ : اسْتَغْفِرْ لِي ... رواه مسلم :رقم/2542 . سؤال المسلم الدعاء من أخيه المسلم جائز مشروع، ففي صحيح مسلم: عن صفوان بن عبد الله بن صفوان -وكان زوجًا للدرداء-قال: قدمت الشام، فأتيت أبا الدرداء في منزله، فلم أجده ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم. قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول"دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل". قال: فخرجت إلى السوق، فلقيت أبا الدرداء فقال لي مثل ذلك يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والتحقيق في المسألة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى :1/191: ومن قال لغيره من الناس: ادع لي - أو لنا - وقصد أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضًا بأمره، وبفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير فهو مقتدٍ بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤتم به ليس هذا من السؤال المرجوح، وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك، بل هذا من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله ورسوله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله. فإذًا ينبغي للمسلم أن يطلب الدعاء من أخيه المسلم على هذا الوجه، وهو قصد نفع المسؤول بالتسبب في ما يحصل من خير الدعاء لإخوانه، كما فعلت أم الدرداء، وفعله أبو الدرداء، وهذا هو توجيه الحديث السابق، فإنما طلب النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء من عمر ليحصل له من الخير نظير ما يحصل له من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الأجر. وأما من طلب الدعاء من غيره لينتفع هو فقط بذلك الدعاء، فإنه وإن كان قد فعل جائزًا لكنه خلاف الأولى. والله أعلم. إسلام ويب. وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء" 24/261 : "طلب الدعاء مباح ....، وتركه ... والاستغناء عن الناس وقيامه بهما لنفسه أحسن".الإسلام سؤال وجواب. |
من آية 23 إلى 25 "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 23. وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال "وَإِنْ كُنْتُمْ "معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, وأنتم المعروفون بالخطابة والشعر، وتحبير القول، ورصف الكلام، ونظم الشعر، ومحمد النبي الأمي الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم جاءكم بهذا القرآن من عند الله بعد أربعين سنة قضاها بين أظهركم، لا تستطيعون أن تذكروا له زَلَّة ولا كذبة على أحد منكم صَغُر أو كبر. "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا"وفي وصف الرسولبالعبودية في هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافِهِ صلى الله عليه وسلم، قيامه بالعبودية، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.وهي عبودية تشريف. كما شرفه ووصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ "الإسراء:1.وفي مقام الإنزال، فقال"تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ" الفرقان:1. أنواع العبودية: العبودية العامة : فهذه لا يخرج عنها مخلوق وتسمى عبودية القهر فالخلق كلهم بهذا المعنى عبيد لله يجري فيهم حكمه ، و ينفذ فيهم قضاؤه ، لا يملك أحد لنفسه ضرًا ولا نفعًا إلا بإذن ربه ومالكه المتصرف فيه . وهذه العبودية هي التي جاءت في مثل قوله تعالى "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا" مريم/93، وهذه العبودية لا تقتضي فضلاً ولا تشريفًا.فمن أعرض عن العبودية الخاصة فهو مأسور مقهور بالعبودية العامة فلا يخرج عنها بحال من الأحوال . فالخلق كلهم عبيد لله فمن لم يعبد الله باختياره فهو عبد له بالقهر والتذليل والغلبة . العبودية الخاصة: عبودية المحبة والانقياد والطاعة التي يشرف بها العبد ويعظم ،وهي التي وردت في مثل قول الله تعالى "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ"الشورى/19، وقوله "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا"الفرقان/63 ، وهذه العبودية خاصة بالمؤمنين الذين يطيعون الله تعالى ، لا يشاركهم فيها الكفار الذين خرجوا عن شرع الله تعالى وأمره ونهيه ، والناس يتفاوتون في هذه العبودية تفاوتًا عظيمًا ؛ فكلما كان العبد محبًّا لله متبعًا لأوامره منقادًا لشرعه كان أكثر عبودية. "فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ"بعد أن ذكر سبحانه أن الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: مُتَّقُون يهتدون بهديه، وجاحِدون معانِدون عن سماع حججه وبراهينه، ومُذَبذبونبين ذلك - طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أن القرآن معجزته - أن يتعرفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعي، أو هو من عند نفسه كما يدّعون. ها هو صلى الله عليه وسلم بشر مثلكم، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم، لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون، فأتوا بسورة من مثله، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم من دون الله ، فإن هذا أمر يسير عليكم، خاصة وأنتم أهل الفصاحة والخطابة، والعداوة العظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن جئتم بسورة من مثله، فهو كما زعمتم، وبرهان على صدقكم. "فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ28." "فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا" وهذه حُجَّة قويةٌ ودليلٌ عقليٌّ وتحدي لعلهم يرجعون ،وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز،وَلَنْ تَفْعَلُوا على التأبيد وعَبْر كل العصور حتى قيام الساعة. وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا"الإسراء: 88.وكيف يقدر المخلوق من تراب، أن يكون كلامُه ككلامِ ربِ العالمين؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل، الذي له الكمال المطلق، والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان، ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق. "فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ"اتقوا النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة مبلغها، وقودها الناس والحجارة، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب،قال ابن عباس يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهابًا. وقيل جميع الحجارة وفيه دليل على عظم تلك النار وقوتها. والمراد بالحجارة هاهنا: هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت، أجارنا الله وإياكم منها. قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله تعالى"وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" قال: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا، يعدها للكافرين. رواه ابن جرير، وهذا لفظه. وابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه وقال: على شرط الشيخين. النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها.نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم. "أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ"وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.وفي قوله"أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافًا للمعتزلة. نسأل الله العافية والهداية، والتوفيق إلى صراطه المستقيم، وأن يُجيرنا من النار وحرِّها ووقودها، إنه سميع مجيب. "وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" 25. تبدأ جنة الآخرة بجنة الدنيا وهي جنة الذكر و الطاعة.وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. يقرن القرآن دائمًا بين الإيمان و العمل الصالح كلما ذكر العمل و الجزاء. فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل و لا يثمر. و لا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان .لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على نهج القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال"وَبَشِّرِ" أي: يا أيها الرسول ومن قام مقامه- بشر" الَّذِينَ آمَنُوا "بقلوبهم " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " بجوارحهم، فصدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته. سارعُوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضُها كعرضِ السماءِ والأرض، فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعتْ ولا خَطرَ على قلبِ بشرٍ. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال"قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ" صحيح البخاري. وأشجار الجنة دائمة العطاء،فهي ليست كأشجار الدنيا تعطي في وقت دون وقت، وفصل دون فصل، بل هي دائمة الإثمار والظلال "مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النارُ"الرعد: 35. مِن المبَشِّرَاتِ ما كان يذْكُرُه النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأُمَّتِه مِن نَعيمِ الجنَّةِ وما أعدَّه اللهُ للصَّالحينَ منهم، وفي هذا تَثبيتٌ لأُمَّتِه إذا عرفوا ما سيَجِدونه عندَ الله مِن الرَّحمَةِ والكَرَامَة لِمَن خاف اللهَ واتَّقاهَ وعَمِل الصالحاتِ. وهذا الحَديثُ هو مِن الأحاديثِ القُدُسيَّةِ التي يَرويها النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ عن رَبِّ العزَّةِ تَبارَك وتعالَى، وفيه يقولُ"قال اللهُ تبارَك وتعالى: أعدَدْتُ"، أي: خلقْتُ وهيَّأْتُ في الجنَّةِ "لعبادِي الصَّالحينَ"، أي: للعبادِ الذي يَعلمون الصَّالحاتِ، ويَسْعَون في الخيرِ، والإضافَةُ في قوله: لعبادِي؛ للتشريفِ، أي: المخلصِينَ منهم بتِلك الأعمالِ، "ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سَمِعَت"، أي: ما لم تَرَه عيْنٌ ولم تسمعْ به وبوصْفِه أُذنٌ في الدُّنيا، وتَنكيرُ "عيْن" و"أُذُن"في سِياقِ النَّفيِ يُفيدُ الشُّمولَ، أي: يكونُ في الجنَّةِ ما لم تَرَه أيُّ عيْنٍ مِن الأعيُنِ، ولم تسمَعْ به وبِوصفِه أيُّ أُذنٍ مِن الآذَانِ، "ولا خَطَر على قلب بشَرٍ"، أي: ولم يَمُرَّ على عقل أحدٍ ما يشبِهُه أو يتصوَّرُه من النَّعيمِ، فكلُّ شيءٍ تخيَّله عقلٌ أو قلبٌ من نعيمِ الجنَّةِ؛ ففِيها أفضلُ مما تخيَّله. الدرر السنية.فبشرهم "أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ" أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة، والظل المديد، والأغصان والأفنان وبذلك، صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم فيها ساكنها." تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " والمراد بها هنا دار الخلود في الحياة الآخرة أعدها الله للمتقين كما أعدّ النار للكافرين، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما." كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ" أي: هذا من جنسه، وعلى وصفه،كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها.وقوله" وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا" أي إن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته ويختلف في طعمه ولذته. ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال" وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ "أي ولهم في الجنات أزواج تطهرن غاية التطهر، فليس فيهنّ ما يعبن عليه من خبث جسدى مما عليه النساء في الدنيا كالحيض والنفاس، أو نفسي كالكيد والمكر وسائر مساوى الأخلاق. لَقيتُ إبراهيمَ ليلةَ أُسْريَ بي فقالَ : يا محمَّدُ ، أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ وأخبِرْهُم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ عذبةُ الماءِ ، وأنَّها قيعانٌ ، وأنَّ غِراسَها سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ"الراوي : عبدالله بن مسعود -المحدث : الألباني -المصدر :صحيح الترمذي-الصفحة أو الرقم: 3462 -خلاصة حكم المحدث : حسنوصحبة الأزواج في الآخرة من الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله، ولا نبحث فيما وراء ذلك، فأطوار الآخرة أعلى مما في حياتنا الدنيا، فهي سالمة من المنغّصات في الطعام والشراب والمباشرة الزوجية، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون، قالوا فما بال الطعام، قال جشاء ورشح كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النّفس ». "فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ"الواقعه :89. " فـ" لهم " رَوْحٌ" أي: راحة وطمأنينة، وسرور وبهجة، ونعيم القلب والروح. " وَرَيْحَانٌ" وهو اسم جامع لكل لذة بدنية، من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما، وقيل: الريحان هو الطيب المعروف، فيكون تعبيرًا بنوع الشيء عن جنسه العام. " وَجَنَّتُ نَعِيمٍ " جامعة للأمرين كليهما، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيبشر المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة، التي تكاد تطير منها الأرواح من الفرح والسرور. كما قال تعالى" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أن لَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ"فصلت : 30. وقد أول قوله تبارك تعالى" لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ" يونس : 64. أن هذه البشارة المذكورة، هي البشرى في الحياة الدنيا. تفسير الشيخ السعديرحمه الله . "وَهُمْ فِيها خالِدُونَ" الخلود لغة: المكث الطويل ، ويراد به في لسان الشرع الدوام الأبدى أي وهم لا يخرجون منها ولا هي تفنى وتزول، بل هي حياة أبدية لا تنتهى. ففي هذه الآية الكريمة, ذُكِرَ المبشِّر والمبشَّر, والمبشَّرُ به, والسببالموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب.وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها، فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم.تفسير السعدي. |
من آية 26 إلى 34 ـ قال جل وعلا " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ"26 البقرة . لمَّا ضَرَبَ اللهُ تَعَالى الأَمْثَالَ السَّابِقَةَ – في الربع الأول- للنَّاسِ قَالَ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ اللهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هذِهِ الأَمثالَ.في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة.وَ "مَا" هَاهُنَا لِلتَّقْلِيلِ يقول تعالى" إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا" أي: أيَّ مثل كان لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق. هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ للدنيا؛ إذ الْبَعُوضَةُ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، فَإِذَا سَمِنَتْ مَاتَتْ ، وَكَذَلِكَ مَثَلُ هَؤُلَاءِالْقَوْمِ الَّذِينَ ضُرِبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ، إِذَا امْتَلَؤُوا مِنَ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَلَا "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ"الأنعام:44. قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ، يَعْنِي قَوْلَهُ"مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا"الْبَقَرَةِ: 17.وَقَوْلُهُ "أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ" الْبَقَرَةِ: 18، قَالَ الْمُنَافِقُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ، فكأن في هذا, جوابًا لمن أنكر ضَرْب مثل هذه الأمثال ، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. "إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها" أي إن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنه هو الخالق لكل شيء جليلًا كان أو حقيرًا، وذلك ليس بمطعن في القرآن، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثّل له، فالعظيم يمثّل له بالعظيم، والحقير يمثل له بالحقير، "وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ" وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره-التعزير: النصرة مع التعظيم.- والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها."فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ" أي فالمؤمنون يقولون ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهي تقرير الحق والأخذ به، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه. "وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا" الذين كفروا هم اليهود والمشركون وكانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحُجَّة وحصحص الحقُّ، ويقولون ماذا أراد الله بهذه الأمثال الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا وانصرفوا "وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا". الكهف 54. ثم أجاب عن سؤالهم بقوله: "يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا" أي إن من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها. ومن المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجلّه في ذلك الأمثال كما قال"وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ" العنكبوت : 43.والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق. وقد جعل الله المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر كما قالتعالى "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ" سبأ: 13.إشارة إلى أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أكثر نفعًا وأجَلّ فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين. إن الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإن قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا ثم أكمل الجواب وزاد في البيان فقال: "وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ" إِلَّا: أداة حصر "الْفاسِقِينَ" مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء.نيابة عن الفتحةِ لأنه جمع مذكر سالم.فسقوا ، فأضلهم الله على فسقهم.فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ عَنْ قِشْرِهَا : اِنْفَصَلَتْ عَنْهُ. فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش ، والمراد من الآية الفاسق الكافر. أي وما يضلّ بضرب المثل إلا الذين خرجوا عن سنة الله في خلقه وعما هداهم إليه بالعقل والمشاعر والكتب المنزلة على من أوتوها. وفي هذا إيماء إلى أن علّة إضلالهم ما كانوا عليه من الخروج عن طاعة الله ، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة. فقد انصرفت أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثَلِ به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه. ثم زاد في ذم الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم فقال: "الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" سبأ : 27. "الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ" وهذا يعم العهد الذي بينهم وبين الله ، والذي بينهم وبين عبادِه الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامرَهُ ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق. فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض. فـ"فَأُولَئِكَ "أي: من هذه صفته"هُمُ الْخَاسِرُونَ "في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى"إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ "فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه. أن كل إنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح. وجه سبحانه الخطاب في هاتين الآيتين إلى أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمَثَلِ بعد أن وصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وجاء به على طريق هذا استفهام بمعنى الإنكار والتوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر، وهي النعم المتظاهرة الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة.، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله،الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم،ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابهوالخسار مراتب متعددة متفاوتة: قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم. كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ "28" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"29. "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"29. وخلق لهم ما في الأرض جميعًا ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتى وطرق مختلفة، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر. "وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ"30. هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك, وأن الله مستخلفه في الأرض.يخلف الجن الذين كانوا خلقوا قبل البشر. " خَلِيفَةً "أي : قوما يَخْلُفُ بعضُهم بعضًا قرنًا بعد قرنٍ وجيلًا بعد جيلٍ ، كما قال تعالى " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ" الأنعام:165. " قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيهابالمعاصي . ويسفك الدماء بغير حق أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاهد على الغائب وإلا فَهُم ما كانوا يعلمون الغيب. وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا "قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ"أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ،لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة, أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك, إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياتُه للخلقِ, ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره, وليظهر ما كَمُنَ في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوَّهُ مِن ولِّيهِ, وحِزْبَه مِن حربه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه, واتصف به, فهذه حِكَم عظيمة, يكفي بعضها في ذلك. " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"31. ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام, فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض, أراد الله تعالى, أن يبين لهم من فضل آدم, ما يعرفون به فضله, وكمال حكمة الله وعلمه فـ "عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " أي: أسماء الأشياء, وما هو مسمى بها، فعلَّمَه الاسم والمسمى, أي: الألفاظ والمعاني, حتى المكبر من الأسماء كالقصعة، والمصغر كالقصيعة. "ثُمَّ عَرَضَهُمْ " أي: عرض المسميات " عَلَى الْمَلَائِكَةِ " امتحانا لهم, هل يعرفونها أم لا؟. " فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " في قولكم وظنكم, أنكم أفضل من هذا الخليفة. "قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"32. " قَالُوا سُبْحَانَكَ " أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك, ومخالفة أمرك. " لَا عِلْمَ لَنَا " بوجه من الوجوه " إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا " إياه, فضلا منك وجودا، " إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " العليم الذي أحاط علما بكل شيء, فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق, ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئا إلا لحكمة: ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به، فأقَرُّوا, واعترفوا بعلم الله وحكمته, وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم; وتعليمه إياهم ما لا يعلمون. "قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ"33. فحينئذ قال الله" يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ " أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة؛ فعجزوا عنها، " فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ"تبين للملائكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة، " قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " وهو ما غاب عنا; فلم نشاهده، فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى، " وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ " أي: تظهرون " وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ " "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ"34. ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم; إكراما له وتعظيما; وعبودية لله تعالى، فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود، " إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى " امتنع عن السجود; واستكبر عن أمر الله وعلى آدم، قال" أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا "الإسراء:61. وهذا الإباء منه والاستكبار; نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره. وفي هذه الآيات من العبر والآيات; إثبات الكلام لله تعالى; وأنه لم يزل متكلما; يقول ما شاء; ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه; التسليم; واتهام عقله; والإقرار لله بالحكمة، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا، وتنبيههم على ما لم يعلموه. وفيه فضيلة العلم من وجوه: منها: أن الله تعرف لملائكته؛ بعلمه وحكمته ، ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم؛ وأنه أفضل صفة تكون في العبد، ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم; إكراما له؛ لما بان فضل علمه، ومنها: أن الامتحان للغير؛ إذا عجزوا عما امتحنوا به؛ ثم عرفه صاحب الفضيلة؛ فهو أكمل مما عرفه ابتداء، ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن; وبيان فضل آدم؛ وأفضال الله عليه؛ وعداوة إبليس له؛ إلى غير ذلك من العبر. |
من آية 35 إلى آية 39 لما خلق الله آدم وفضله، أتم نعمته عليه، بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها، ويستأنس بها، وأمرهما بسكنى الجنة، والأكل منها رغدا، أي: واسعًا هنيئًا، "حَيْثُ شِئْتُمَا" أي: من أصناف الثمار والفواكه، وقال الله له"إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَاوَلَا تَضْحَى"طه : 118.أي لا تصيبك الشمس بحرها.فضمن له استمرار الطعام والشراب، والكِسوة، والماء، وعدم التعب والنصب."وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ"نوع من أنواع شجر الجنة، الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء أو لحكمة غير معلومة لنا"فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ"دل على أن النهي للتحريم، لأنه رتب عليه الظلم. "فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا " فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه، حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه " وَقَاسَمَهُمَا"الأعراف:21. أقسم لهما باللّه " إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ" الأعراف:21.أي: من جملة الناصحين حيث قلت لكما ما قلت، فاغترا بذلك، وغلبت الشهوة في تلك الحال على العقل. فاغترا به وأطاعاه، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد، وأُهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة. "وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" الهبوط قد يكون من مكان أعلى إلى مكان أسفل. وقد يكون الهبوط معنويا. بأن تقول هذا الإنسان هبط في نظري منذ فعل كذا. هو لم يهبط من مكان أعلى إلى مكان أسفل،ولكنه هبط في قيمته. وسواء كان الهبوط ماديا أو معنويا. فإنه حدث ليباشر آدم مهمته على الأرض.. والعداوة بين الإيمان والكفر مستمرة. وهكذا بعد معصية آدم. هبط هو وحواء من الجنة ليمارسا حياتهما على الأرض.. وقوله تعالى "اهْبِطُوا"معناه أن آدم وحواء وإبليس هبطوا إلى الأرض بعد أن تمت التجربة الإيمانية. أي: آدم وذريته، أعداء لإبليس وذريته، ومن المعلوم أن العدو، يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق، وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا، تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ "فاطر: 6.ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض، فقال"وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ " أي: مسكن وقرار،"وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" انقضاء آجالكم، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها، وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة، مؤقتة عارضة، ليست مسكنًا حقيقيًا، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار، ولا تعمر للاستقرار. وبهذا حذر الله آدم وذريته من أن يتخذوا من الحياة هدفًا لأن متاعها قليل، وأمدها قصير. "فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"37. أي إن الله تعالى ألهمه كلمات فعمل بها فأناب إليه .أي أخذها آدم بالقبول والعمل بها حين علمها. وهذه الكلمات هي" قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"الأعراف : 23 . فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته. "فَتَابَ عَلَيْهِ"أي أذن الله له في التوبة ووفقه لها ليتوب ويرجع إليه. قال القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا ـ فقيل معنى: ثم تاب عليهم ـ أي وفقهم للتوبة ليتوبوا، وقيل: المعنى تاب عليهم، أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا. فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله تعالى، توبة قبلها وهي أن يوفقه للتوبة ويمن عليه بها، وهذه تعرف بحصولها ووقوعها من العبد، فإذا ألهم الله العبد التوبة فقد تاب عليه أولا، فإذا تاب العبد أتبع ذلك توبة أخرى من الله عليه يمن ويتفضل بها وهي قبوله لتلك التوبة وعفوه عن الزلة وإقالته العثرة، يقول ابن القيم رحمه الله: وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من الله سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا وإلهاما فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابة، قال تعالى" وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "التوبة:118ـ فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا ومقتضيًا لتوبتهم فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم والحكم ينتفي لانتفاء علته، وهذا القدر من سر اسميه الأول والآخر، فهو المعد وهو الممد ومنه السبب والمسبب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: وأعوذ بك منك، والعبد تواب والله تواب فتوبة العبد: رجوعه إلى سيده بعد الإباق، وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق، وقبول وإمداد.انتهى.إسلام ويب. وقال الشيخ العثيمين في دليل التوبتين: فقوله تعالى"ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ " أي وفقهم للتوبة، وقوله تعالى"لِيَتُوبُواْ"أي يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى"وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" الشورى:25. الإسلام سؤال وجواب. وقال الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: هذا بيان لكمال كرم الله تعالى وسعة جوده وتمام لطفه، بقبول التوبة الصادرة من عباده حين يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها، ويعزمون على أن لا يعاودوها، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن الله يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهلاك، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية. " وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ " ويمحوها، ويمحو أثرها من العيوب، وما اقتضته من العقوبات، ويعود التائب عنده كريمًا، كأنه ما عمل سوءًا قط، ويحبه ويوفقه لما يقربه إليه. ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصة عند نقصهما، وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله، ختم هذه الآية بقوله" وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ".ا.هـ . "إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" التَّوَّابُ :فالتواب في حق الله تعالى هو الذي يتوب على عبده، أي يعود عليه بألطافه، ويوفقه إلى التوبة، وييسرها له، ثم يقبلها منه. فهو التواب الذي ييسر أسباب التوبة لعباده مرة بعد مرة بما يظهر لهم من آياته.. الرَّحِيمُ: على وزن فعيل بمعنى فاعل، أي راحم، وبناء فعيل للمبالغة عالم وعليم، وقادر وقدير. والمعنى أنه المثيب على العمل فلا يضيع لعاملٍ عملاً، ولا يهدر لساع سعياً، وينيله بفضل رحمته من الثواب أضعاف عمله. واقترن اسم " الرَّحِيمُ"مع " التَّوَّاب "لأن التوبة بقسميها، سواء كانت التوفيق للتوبة، أو قبولها، فإن ذلك كله من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، لأن بقاءهم على الذنب من غير توبة سبب للعقوبة. فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة بل أمهلهم ليتمكنوا من التوبة . قال أبو السعود في اقتران الاسمين "وفي الجمع بين الوصفين وعد بليغ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران ". ومثله قال القاسمي. "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.38""وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ"39. "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا"كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده ، كما تقول لرجل : قم قم . وقيل: كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكمًا غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة ؛ وبالثاني إتيان الهدى . فكرر الإهباط، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله" فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى" أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرتين، الأولى للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، وتعَاد واستقرار في الأرض إلى حين للتمتع بخيراتها، والثانية لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين: فريق يهتدى بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسله، وأولئك هم الفائزون ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا ، وفريق سار في طريق الضلال وكذّب بالآيات، وأولئك جزاؤهم جهنم خالدين فيها أبدًا. تفسير المراغي. ما هو الخوف وما هو الحزن؟ الخوف أن تتوقع شرا مقبلا لا قدرة لك على دفعه فتخاف منه.. والحزن أن يفوتك شيء تحبه وتتمناه. أي إن المهتدين بهدى الله لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، فإن من سلك سبيل الهدى سهل عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضى ربه، ويوجب مثوبته، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأحسن عزاء عما فقده، فمثله مثل التاجر الذي يكدّ ويسعى وتنسيه لذة الربح آلام التعب. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا :والتكذيب كفر سواء كان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول، أو مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: جزاؤهم الخلود في النار بسبب جحودهم بها وإنكارهم إياها اتباعا لوسوسة الشيطان، وهذا مقابل قوله قبل " فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ". |
من آية 40 إلى آية 44 يا بَنِي إِسْرائِيلَ :وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال أبو الفرج الجوزي.والخطاب مع فرق بني إسرائيل, الذين بالمدينة وما حولها, ويدخل فيهم من أتى من بعدهم .تفسير السعدي وتقديره : يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا . يا ابن الشجاع ، بارز الأبطال ، يا ابن العالم ، اطلب العلم ، ونحو ذلك.تفسير ابن كثير. وعندما ينادي الله تعالى قوم موسى بقوله: يا بني إسرائيل. فإنه يريد أن يذكرهم بمنزلة إسرائيل عند الله. ما واجهه من بلاء. وما تحمله في حياته. فاذكروا ما وصاكم به حين حضرته الوفاة.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"البقرة: 133. ثم يأتي بعد ذلك قول يعقوب.. واقرأ قوله تعالى"يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ"البقرة: 132. اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ:وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه.تفسير السعدي. وفي هذا إشارة إلى أنهم نسوها، ولم تعين الآية هذه النعمة- وقيل- أراد بها نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمانا طويلا. وهذه المكرمة التي أوتوها، والنعمة التي اختصّوا بها وكانوا مفضلين على الأمم والشعوب تقتضي ذكرها وشكرها، ومن شكرها الإيمان بكل نبي يرسله الله لهداية البشر، لكنهم جعلوا هذه النعمة حُجة للإعراض عن النبي صلى الله عليه وسلم، والازدراء به، زعما منهم أن فضل الله محصور فيهم، فلا يبعث الله نبيًّا إلا منهم. "وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ " العهد أمر موثق بين العبد وربه. وهو ما عهده إليهم من الإيمان به, وبرسله وإقامة شرعه. والهدف من هذا العهد. ألا يكتموا ما ورد عن الإسلام في التوراة. وألا يخفوا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جاءت بها.. والله سبحانه وتعالى قد أعطى صفات رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة وفي الإنجيل.. واقرأ قوله تعالى"وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين"البقرة:89. "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" المائدة:12. "أُوفِ بِعَهْدِكُمْ" وهو المجازاة على ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار.... "وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ " ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده, وهو الرهبة منه تعالى, وخشيته وحده, فإن مَنْ خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه. "وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ "41. ثم أمرهم بالأمر الخاص, الذي لا يتم إيمانهم, ولا يصح إلا به فقال"وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ " وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالإيمان به, واتباعه, ويستلزم ذلك, الإيمان بمن أنزل عليه، وذكر الداعي لإيمانهم به، فقال"أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ"أي: موافقًا له لا مخالفًا ولا مناقضًا، فأنتم أولى من آمن به وصدق به, لكونكم أهل الكتب والعلم. وأيضا فإن في قوله "مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ"إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به, عاد ذلك عليكم, بتكذيب ما معكم, لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم. وأيضا, فإن في الكتب التي بأيدكم, صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به، فإن لم تؤمنوا به, كذبتم ببعض ما أنزل إليكم, ومن كذب ببعض ما أنزل إليه, فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسول, فقد كذب الرسل جميعهم. فلما أمرهم بالإيمان به, نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال " وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" أي: بالرسول والقرآن. وفي قوله" أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" أبلغ من قوله:ولا تكفروا به، لأنهم إذا كانوا أول كافر به, كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به, عكس ما ينبغي منهم, وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدِهم. ثم ذكر المانع لهم من الإيمان, وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية، فقال" وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًاقَلِيلًا" وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل, التي يتوهمون انقطاعها, إن آمنوا بالله ورسوله, فاشتروها بآيات الله واستحبوها, وآثروها. وسمى هذا البدل قليلا لأن صاحبه يخسر رضوان الله وتحل به عقوبته في الدنيا والآخرة، ويخسر عزّ الحق، ويخسر عقله لإعراضه عن واضح البراهين وبيّن الآيات. فمتاع الدنيا مهما كثر فهو خداع وقليل وزائل "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيل "النساء: 77. " وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُور"الحديد : 20. "وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ "بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة. فأمرهم أن يتقوا الله وحده، إذ بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، وإليه المصير. "وَإِيَّايَ" أي: لا غيري " فَاتَّقُونِ " فإنكم إذا اتقيتم الله وحده, أوجبت لكم تقواه, تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل, فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم. "وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ "42. أي ولا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يتميزا، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه، فالنهى الأوّل عن التغيير، والنهى الثاني عن الكتمان. بعد أن حذر الحق سبحانه وتعالى اليهود من أن يبيعوا دينهم بثمن قليل وهو المال أو النفوذ الدنيوي. قال تعالى"وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ" في التوراة نصوص لم يحرفها اليهود.. ونصوص محرفة. فمن ما حُرِّف في التوراة كل ما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه.. وأنه النبي الخاتم.. حرفها اليهود. " وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ "43. بعد أن دعا بني إسرائيل إلى الإيمان أمرهم بصالح العمل على الوجه المقبول عند الله، فأمرهم بإقامة الصلاة أي: ظاهرًا وباطنًا لتطهر نفوسهم كما أمرهم بإيتاء الزكاة التي هي مظهر شكر الله على نعمه،والزكاة فيها فيها تطهير للنفوس من أدرانها ، وتنمية للمال.سمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي. "وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ "وعبر عن الصلاة بالركوع ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا، إذ لا ركوع فيها. فسبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى أن صلاتهم لن تقبل منهم إلا أن يكون فيها ركوع. وصلاة اليهود ليس فيها ركوع.. وإن كان فيها سجود، فإنه سبحانه وتعالى يلفتهم إلى ضرورة وجوب الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ "44. الخطاب هنا لبني إسرائيلذاك أن اليهود كانوا يدّعون الإيمان بكتابهم والعمل به والمحافظة عليه وتلاوته، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، إذ حق تلاوته هو الإيمان به على الوجه الذي يرضاه الله تعالى، ولكن الأحبار والرهبان وكانوا الآمرين الناهين لا يذكرون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إذا عارض شهواتهم. ولابد أن ننبه إلى أنه إذا كانت هذه الآيات قد نزلت في اليهود. فليس معناها أنها تنطبق عليهم وحدهم. بل هي تنطبق على أهل الكتاب جميعا وعلى أي شخص يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا. وغير المؤمنين. فالعبرة ليست بخصوص السبب. ولكن العبرة بعموم السبب. لقد كان اليهود يبشرون بمجيء رسول جديد. ويعلنون أنهم سيؤمنون به. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن من قومهم كفروا به. لأنهم كانوا يريدون أن تكون السطوة لهم. بأن يأتي الرسول الجديد منهم. فلما جاء من العرب.. عرفوا أن سطوتهم ستزول وأن سيادتهم الاقتصادية ستنتهي. فكفروا بالرسول وبرسالته. عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش ـ وكان من أصحاب بدر ـ وقال :كانَ لَنا جارٌ من يَهودَ في بَني عبدِ الأشهلِ قالَ : فخرجَ علَينا يومًا من بيتِهِ قبلَ مبعثِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ بيسيرٍ فوقفَ علَى مجلسِ عبدِ الأشهلِ . قالَ سلمةُ : وأَنا يومئذٍ أحدثُ مَن فيهِ سنًّا عليَّ بردةٌ مضطجعًا فيها بفناءِ أَهْلي فذَكَرَ البعثَ والقيامةَ والحسابَ والميزانَ والجنَّةَ والنَّارَ فقالَ ذلِكَ لقومٍ أَهْلِ شركٍ أصحابِ أوثانٍ لا يرَونَ أنَّ بعثًا كائنٌ بعدَ الموتِ . فقالوا لَهُ : ويحَكَ يا فلانُ ! ترَى هذا كائنًا أنَّ النَّاسَ يُبعَثونَ بعدَ موتِهِم إلى دارٍ فيها جنَّةٌ وَنارٌ يُجزَونَ فيها بأعمالِهِم ؟ قالَ : نعم والَّذي يُحلَفُ بِهِ .لودَّ أنَّ لَهُ بحظِّهِمن تلكَ النَّارِ أعظمَ تنُّورٍ في الدُّنيا يحمُّونَهُ ثمَّ يدخِلونَهُ إيَّاهُ فيطبقُ بِهِ عليهِ وأن ينجوَ من تلكَ النَّارِ غدًا. قالوا لَهُ ويحَكَ وما آيةُ ذلِكَ قالَ نبيٌّ يُبعَثُ من نحوِ هذِهِ البلادِ وأشارَ بيدِهِ نحوَ مَكَّةَ واليمنِ قالوا ومتَى تراهُ قالَ فنظرَ إليَّ وأَنا أحدثِهِم سنًّا فقالَ إن يستنفدَ هذا الغلامُ عمرَهُ يدرِكْهُ قالَ سلمةُ فواللَّهِ ما ذَهَبَ اللَّيلُ والنَّهارُ حتَّى بعثَ اللَّهُ تعالى رسولَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ وَهوَ حيٌّ بينَ أظهرِنا فآمنَّا بِهِ وَكَفرَ بِهِ بغيًا وحسدًا فقُلنا ويلَكَ يا فلانُ ألستَ بالَّذي قلتَ لَنا فيهِ ما قلتَ قالَ بلَى وليسَ بِهِ"الراوي : سلمة بن سلامة بن وقش - المحدث :الوادعي- المصدر : صحيح دلائل النبوة .رواه أحمد . وحسنه الشيخ مقبل ـ رحمه الله ـ في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين / مجلد رقم : 5 / 407 .يَوَدّ : أي : يَوَدُّ الذي رأى هذه النار . بحظه : أي : بنصيبه . "وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ" والمراد من النسيان هنا الترك، لأن من شأن الإنسان ألا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، وعبر به عنه للمبالغة في عدم المبالاة والغفلة عما ينبغي أن يفعله، أي إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البرّ ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم؟ ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التوبيخ والتأنيب الذي ليس بعده زيادة لمستزيد. "وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ" ومع أنهم متأكدون من صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال كتبهم إلا أنهم لا يؤمنون. ولو كان عندهم ذرة من العقل لآمنوا بما يأمرهم به كتابهم الذي يتلونه. ولكنهم لا يحكمون عقولهم، وإنما يريدون علوا في الأرض. والآية كما قلنا لا تنطبق على اليهود وحدهم. بل على كل من يسلك هذا السلوك. |
من آية 45 إلى آية 52 "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" 45.بعد أن بيَّن سبحانه وتعالى أن الإيمان قدوة. وبعد أن لفتنا إلى أن التوراة تطالب اليهود. بأن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام. يطلب الله سبحانه وتعالى الاستعانة بالصبر والصلاة. ومعنى الاستعانة بالصبر أن هناك أحداثا شاقة ستقع. وأن المسألة لن تكون سهلة. بل تحتاج إلى جهد. فالصبر معناه حمل النفس على أمر صعب. وهم ماداموا قد تعودوا على شراء آيات الله بثمن قليل.. لأنهم قلبوا الصفقة. فجعلوا آيات الله ثمنا لمتاع الدنيا. واشتروا بها متاعهم وملذاتهم. وبعد أن تعودوا على الربا وغيره من وسائل الكسب الحرام. لابد أن يستعينوا بالصبر إذا أرادوا العودة إلى طريق الإيمان. أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها, والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور, ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان, وتنهى عن الفحشاء والمنكر, يستعان بها على كل أمر من الأمور "وَإِنَّهَا"أي: الصلاة "لَكَبِيرَةٌ"أي: شاقة "إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ"الخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته, وسكونه لله تعالى, وانكساره بين يديه, ذلا وافتقارا, وإيمانا به وبلقائه. فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع, وخشية الله, ورجاء ما عنده يوجب له فعلها, منشرحا صدره لترقبه للثواب, وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك, فإنه لا داعي له يدعوه إليها, وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه. "الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ" 46. قال ابن جرير ، رحمه الله : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنا ،والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى إني ظننت أني ملاق حسابيه وقوله : فظنوا أنهم مواقعوها قال ابن زيد في قوله" الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ "البقرة:46.قال: لأنهم لم يعاينوا, فكان ظنهم يقينا, وليس ظنا في شك. "أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى أمر يقيني. فمادمت قد جئت إلى الدنيا مخلوقا من الله فأنت لا محالة سترجع إليه. وهذا اليوم يجب أن نحتاط له. حيطة كبرى. وأن نترقبه. لأنه يوم عظيم.قال تعالى" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ" الحج:1. " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" 47. كرر تذكيرهم بالنعم لكمال غفلتهم عما يجب عليهم من شكرها،فضلهم بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان, فإن لكل زمان عالما. قال مجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك ، فجر لهم الحجر ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأنجاهم من عبودية آل فرعون . وقال أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل ، وأنزل عليهم الكتب . قلت : وهذا كقول موسى عليه السلام لهم"وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ"المائدة : 20 يعني في زمانهم . بما جعل فيهم من الأنبياء وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء، لكن به الشرف للأبناء. " وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ" 48. يذكرهم بهذا اليوم. وهو يوم القيامة الذي لا ينفع الإنسان فيه إلا عمله. لما ذكرهم اللهتعالى بنعمه أولًا ،عطف على ذلك التحذير من حلول نقمه بهم يوم القيامة فقال" وَاتَّقُوا يَوْمًا "يعني يوم القيامة " لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا"أي : لا يغني أحد عن أحد " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ " كما قال" وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"الأنعام : 164.ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين " عَنْ نَفْسٍ"ولو كانت من العشيرة الأقربين "شَيْئًا"لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه. "وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ"الشفاعة هي التوسط للغير بجلب منفعةٍ مشروعةٍ له، أو دفع مضرة عنه. معنى الشفاعة في الشرع : طلب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم – أو غيره – من الله في الدار الآخرة حصول منفعة لأحد من الخلق. ولا يقبل الله منها شفاعة شافع, فيترك لها ما لزمها من حق. "وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ " أي ولا يؤخذ منها فداء إن هي استطاعت أن تأتى بذلك. " وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ" أي لا يمنعون من العذاب. والخلاصة - إن ذلك يوم تتقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا من دفع المكروه عن النفس بالفداء أو بشفاعة الشافعين، عند الأمراء والسلاطين، أو بأنصار ينصرونها بالحق والباطل على سواها، وتضمحلّ فيه جميع الوسائل إلا ما كان من إخلاص في العمل قبل حلول الأجل، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله. " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ"49. فصل في هذه الآية نعمة مما أنعم به على هذا الشعب ." " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يعني نجينا أسلافَكم وأجدادَكم فتُعَد مِنَّة عليهم لأنهم نجوا بنجاتهم. الإنعام على أمة إنعام شامل لأفرادِها سواء منهم من أصابه ذلك ومن لم يصبه. " يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ" أي يكلفونكم ما يسوءكم ويذلكم من العذابثم فصل هذا العذاب بقوله: " يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ" أي يقتلون الذكور ويستبقون البنات إذلالا لكم حتى ينقرض شعبكم من البلاد. فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة، فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم. " وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ" أي وفي ذلكم العذاب والتنجية منه امتحان عظيم من ربكم كما قال تعالى"وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ"الأنبياء:35. فالبلاء يكون بمعنى النعمة وبمعنى الشدة فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر وعلى الشدة بالصبر. وقوله" مِنْ رَبِّكُمْ" أي من جهته تعالى بتسليطهم عليكم، وبعث موسى وتوفيقه لخلاصكم. فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره. " وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ" 50. أي واذكروا من نعمتنا عليكم نعمة فرق البحر بكم وجعلنا لكم فيه طرقا تسلكونها حين فراركم من فرعون وجنده. فقد خرج موسى وقومه وهم شرذمة قليلة خائفة فارة من بطش فرعون، وعرف فرعون بخروجهم فخرج وراءهم على رأس جيش عظيم العدد والعُدة . وعندما جاء قوم فرعون بعددهم الضخم يقاومون قوم موسى وتراءى الجمعان أي أنهم رأوهم رؤية العين قال قوم موسى إنا لمدركون "فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ " الشعراء: 61." قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ"62." فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ"63. أي: الجبل الْعَظِيمِ فدخله موسى وقومه. " وَإِذْ فَرَقْنَا" الفرق: الفصل بين الشيئين. فأمامهم البحر ووراءهم فرعون وجنوده. ولكن حين تخرج الأحداث من نطاق الأسباب إلى قدرة رب الأسباب فهي لا تخضع لأسباب الكون. "فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ" كلمة نجَّى-وردت في آية 49- وكلمة أنجى -وردت في آية 50-بينهما فرق كبير. كلمة نَجَّى تكون وقت نزول العذاب. وكلمة أنجى يمنع عنهم العذاب. "وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ" أي تشاهدون مصارعَهم وهلاكَم عِيانًا. والفائدة من قوله"وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" بيان تمام النعمة، فإن هلاك العدوّ نعمة، ومشاهدة هلاكه نعمة أخرى فيها سرور. " وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ"51. أي واذكروا نعمة أخرى كفرتم بها وظلمتم أنفسكم، ذاك أنهم بعد أن اجتازوا البحر سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم، فواعده ربه أن يعطيه التوراة وكان الوعد يشمل أربعين ليلة لذلك ، فاستبطئوه واتخذوا عجلًا من ذهب، له خوار فعبدوه وظلموا أنفسهم بإشراكهم. وفي ذكر هذا تعجيب من حالهم، فإن مواعدة الله موسى بإنزال التوراة إليه نعمة وفضيلة لبني إسرائيل قابلوها بأقبح أنواع الكفر والجهل. " ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"52. الله سبحانه وتعالى يمن على بني إسرائيل مرة أخرى.. مع أنهم ارتكبوا ذنبا من ذنوب القمة.. ومع ذلك عفا الله عنهم لأنه يريد أن يستبقي عنصر الخير للناس.. يريد أن يعلم خلقه أنه رب رحيم. يفتح أبواب التوبة للواحد بعد الآخر.. لتمحو خلايا الشر في النفس البشرية. إن الإنسان حين يذنب ذنبا ينفلت من قضية الإيمان.. ولو لم تشرع التوبة والعفو من الله لزاد الناس في معاصيهم وغرقوا فيها.. لأنه إذا لم تكن هناك توبة وكان الذنب الواحد يؤدي إلى النار.. والعقاب سينال الإنسان فإنه يتمادى في المعصية. وهذا ما لا يريده الله سبحانه وتعالى لعباده |
من آية 53 إلى آية 61 " وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"53. " وَإِذْ "اسم للوقت الماضي . و " وَإِذْ"اسم للوقت المستقبل "آتَيْنَا" أعطينا . الله سبحانه وتعالى يذكر بني إسرائيل هنا، أنه بعد أن أراهم من المعجزات الكثير. ونجاهم من آل فرعون وشق لهم البحر كان لابد أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا لا يشوبه أي نوع من التردد، ذلك لأنهم رأوا وشهدوا.. وكانت شهادتهم عين يقين. أي شهدوا بأعينهم ماذا حدث. ولكن هل استطاعت هذه المشاهدة أن تمحو من قلوبهم النفاق والكفر؟. لا، لقد ظلوا معاندين طوال تاريخهم. لم يأخذوا أي شيء بسهولة.فذكرهم بمزيد نعمه عليهم لعلهم يهتدوا. أي واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع ليعدّكم للاسترشاد بها حتى لا تقعوا في وثنية أخرى، ولكنهم لم يصبروا ،فقبل استكمال الميعاد –الأربعون ليلة- عبدوا العجل من بعد ذهاب موسى للقاء ربه وقبل رجوعه لهم بالتوراة. " الْكِتَابَ" يعني التوراة. "وَالْفُرْقَانَ" وهو ما يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال. قال الكسائي"الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة، يعني: الكتاب المفرق بين الحلال والحرام" " لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" وكأنه قال: واذكروا أيضًا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها. " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"54. بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبيّن في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختم الآية بذكر العفو عنهم. "إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ "لا يقع الظلم على الله سبحانه وتعالى ولكن عليهم. لماذا؟.. لأنهم آمنوا بالله أو لم يؤمنوا. سيظل هو الله القوي القادر العزيز. لن يُنْقِصَ إِيمانُ أحدٍ أو عدم إيمانه من مُلك الله شيئا. ثم يأتوا يوم القيامة فيعذبهم. فكأن الظلم وقع عليهم. " فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ " " فَتُوبُوا " التوبة هي أصل المغفرة، وقد كان من الممكن أن يأخذهم الله بهذا الذنب ويهلكهم كما حدث للأمم السابقة.. أما وقد شرع الله لهم أن يتوبوا. فهذا فضل من الله وعفو. "إِلَى بَارِئِكُمْ" أي فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم وميّز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة، وفي قوله إلى بارئكم- إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل، إذ تركوا عبادة البارئ وعبدوا أغبى الحيوانات وهو البقر. " فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" يعني ليقتل البريء منكم المجرم. لما عبد قوم موسى العجل وسُقِطَ في أيديهم- أي ندموا على عبادة العجل ، تقول العرب لكل نادم على أمر : قد سُقِطَ في يديه ،- ورأوا أنهم قد ضلوا ، وأرادوا التوبة ، قالوا " لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " سورة الأعراف/149، فجعل الله لهم امتحانا شديدًا لقبول توبتهم ، وذلك بأن يقتلوا أنفسهم ، فيُغِير بعضهم على بعض ، ويتقاتلوا بينهم حتى يأتي أمر الله بالكفّ. جاء في تفسير ابن كثير : " قال قتادة : أمر القوم بشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ، حتى بلغ الله فيهم نقمته ، فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك عنهم القتل ، فجعل لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة" ...الإسلام سؤال وجواب .كونه يقدم نفسه ليُقتل فهذا اعتراف منه بأن العجل الذي كان يعبده باطل.. وهو بذلك يعيد نفسه التي تمردت على منهج الله إلى العبادة الصحيحة.. وهذا أقسى أنواع الكَفَّارة.. وهو أن يقتل نفسه إثباتا لإيمانه.. بأنه لا إله إلا الله وندمًا على ما فعل وإعلانًا لذلك.. فكأن القتل هنا شهادة صادقة للعودة إلى الإيمان. " ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ " أي ما ذكر من التوبة والقتل أنفع لكم عند الله من العصيان والإصرار على الذنوب لما فيه من العذاب، إذ أن القتل يطهركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا للثواب. "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ "55." فَتَابَ عَلَيْكُمْ" أي ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم. " إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "أي إنه هو الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويقبلها منهم، فالتواب في حق الله تعالى هو الذي يتوب على عبده، أي يعود عليه بألطافه، ويوفقه إلى التوبة، وييسرها له، ثم يقبلها منه. وَيَذْكُرُ ابْنُ الْقَيِّمِ أنَّ تَوْبَةَ العَبْدِ إِلى رَبِّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ الله عَلَيْهِ قَبْلَهَا وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنَ الله: سَابِقَةٍ وَلاَحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ العَبْدُ فَتَابَ الله عَلَيْهِ ثَانِيًا قَبُولاً وَإِثَابَةً، قَالَ تَعَالَى"وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"التوبة: 118، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جعَلَتْهُم تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضًى لِتَوْبَتِهِم. وهو الرّحيم بمن ينيب إليه ويرجع، ولو لا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام. و لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم اخْتَارَ مُوسَى منهم سَبْعِينَ رَجُلا من خيارهم، ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه، قالوا: يا موسى، أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً قال تعالى" وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُأَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُالْغَافِرِينَ"الأعراف:155. بعد أن تاب الله على قوم موسى بعد عبادتهم للعجل ، عادوا مرة أخرى إلى عنادهم وماديتهم. فهم كانوا يريدون إلها ماديا.. إلها يرونه ولكن الإله من عظمته أنه غيب لا تدركه الأبصار. فقفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرًا وطغيانًا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله جهرًا وأصل الجهر الظهور ،أي عِيانًا حتى يؤمنوا به، أي رؤية واضحة يدركونها بحواسهم. فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين. أي ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت. "ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" 56. أولئك الذين أصابتهم الصاعقة من قومه.. فقد ماتوا ثم بعثوا لعلهم يشكرون. "وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"57. ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المنّ والسلوى عليهم مدة أربعين سنة. إذ كنتم في الصحراء وليس فيها ظل تحتمون به من حرارة الشمس القاسية.. وليس فيها مكان تستظلون فيه، لأنه لا ماء ولا نبات في الصحراء.. فظلل الله سبحانه وتعالى عليكم بالغمام.. أي جاء الغمام رحمة من الله سبحانه وتعالى.. ثم بعد ذلك جاء المن والسلوى. والمن نقط حمراء تتجمع على أوراق الشجر بين الفجر وطلوع الشمس.. وهي موجودة حتى الآن في العراق.. وفي الصباح الباكر يأتي الناس بالملاءات البيضاء ويفرشونها تحت الشجر.. ثم يهزون الشجر بعنف فتسقط القطرات الموجودة على ورق الشجر فوق الملاءات.. فيجمعونها وتصبح من أشهى أنواع الحلويات. فيها طعم القشدة وحلاوة عسل النحل.. وهي نوع من الحلوى اللذيذة المغذية سهلة الهضم سريعة الامتصاص في الجسم. والله سبحانه وتعالى جعله بالنسبة لهم وقود حياتِهم.. وهم في الصحراء يعطيهم الطاقة. أما السلوى فهي طير من السماء ويقال أنه السمان.. يأتيهم في جماعات كبيرة لا يعرفون مصدرها.. ويبقى على الأرض حتى يمسكوا به ويذبحوه ويأكلوه. فالله تبارك وتعالى قد رزقهم بهذا الرزق الطيب من غمام يقيهم حرارة الشمس، ومَنّ يعطيهم وقود الحركة. وسَلْوَى كغذاء لهم، وكل هذا يأتيهم من السماء دونما تعب منهم. " كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " أمر إباحة وإرشاد وامتنان. أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين, فلم يشكروا هذه النعمة, واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب. "وَمَا ظَلَمُونَا" يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين, كما لا تنفعه طاعات الطائعين، "وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" فيعود ضرره عليهم.أي فكفروا تلك النعم الجزيلة، وما عاد ضرر ذلك إلا عليهم باستيجابهم عذابي وانقطاع ذلك الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة ولا مشقة. وفي هذا إيماء إلى أن كل ما يأمر الله به عبادَه فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع عليهم. أمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا, ويحصل لهم فيها الرزق الرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل, وهو دخول الباب " سُجَّدًا"أي: خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا" حِطَّةٌ "أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته. " وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ"58. أي : ادخلوا بابَ القريةِ؛ والقريةُ قيل: هي بيتُ الْمَقْدِسِ، وقيل غيرُ ذلك، مُنْحَنِينَ كهيئةِ مَن يريدُ السُّجودَ؛ خُضوعًا للهِ تعالى وشكرًا. وقيل: إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله شكرا على ما أنعم عليكم، إذ أخرجكم من التيه، ونصركم على عدوكم، وأعادكم إلى ما تحبون، وقولوا نسألك ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وخطايانا التي من أهمها كفران النعم. "نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ"بسؤالكم المغفرة. "وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ"بأعمالهم, أي: جزاءً عاجلًا وآجلا. يغفر خطايا من هو عاص ، وسيزيد في إحسان من هو محسن ولم يعص الل " فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"59. "قيلَ لِبَنِي إسْرائِيلَ"ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولوا حِطَّةٌ"البقرة: 58.فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ علَى أسْتاهِهِمْ، فَبَدَّلُوا، وقالوا: حِطَّةٌ، حَبَّةٌ في شَعَرَةٍ"الراوي : أبو هريرة /صحيح البخاري. فَبدَّل هؤلاءِ اليهودُ الظَّالِمون ما أُمِروا به، ودخَلوا يَزحَفُونَ على مؤَخِّراتِهم، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعرَةٍ، وهذا كلامٌ مُهمَلٌ لا معْنى له، وغرَضُهم فيه مُخالَفةُ ما أُمِروا به مِنَ الكلامِ المستلزِمِ لِلاستِغفارِ وطلَبِ حِطَّةِ العُقوبةِ عنهم، فلمَّا عَصَوْا، عاقَبَهمُ اللهُ بالرِّجْزِ؛ وهو العذابُ الأليمُ. وفي الحَديثِ: التَّحذيرُ مِن اتِّباعِ سُنَّةِ بَني إسرائيلَ في مُخالَفةِ أمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والخروجِ عن طاعتِه. لم يعين الكتاب هذا الرجز فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون، وقد ابتلى الله بني إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم، فأصيبوا بالطاعون كثيرا، وسلّط عليهم أعداؤهم، وقوله بما كانوا يفسقون: أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينِهم. "وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ"60.ذكر سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها، ذاك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم ظمأ من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم فأجاب دعوته. "وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ" أي طلب لهم السّقيا من الله تعالى بأن يسعفهم بماء يكفيهم حاجاتهم في هذه الصحراء المحرقة. "فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ "إما حجر مخصوص معلوم عنده, وإما اسم جنس، " فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًاوقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة،قيل كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها،، والأسباط ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب."قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ"منهم "مَشْرَبَهُمْ"أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال"كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ"أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب، " وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" والعثي: أَشَدُّ الْفَسَادِ، أي ولا تنشروا فسادَكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه. " وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"61. وإذ قال أسلافُكم من قبل إعناتا لموسى وبطرا بما هم فيه، لن نصبر على أن يكون طعامنا الذي لا يتغير أبدًا هو المنّ والسلوى. أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها. "لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ"وهو المنُّ والسلوى. أي: جنس من الطعام, وإن كان أنواعًا, لكنها لا تتغير. "فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا"أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، " وَقِثَّائِهَا"وهو الخيار "وَفُومِهَا"أي: ثومها، والعدس والبصل معروف. " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ "فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العَيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع . " اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ " أمرهم موسى أن ينزلوا من التيه ويسكنوا مصرَ من الأمصار إن كانوا يريدون ما سألوه، لأن هذه الأرض التي كتب الله عليهم أن يقيموا فيها إلى أجل محدود ليس من شأنها أن تنبت هذه البقول، والله تعالى لم يقضِ عليهم بالبقاء فيها إلا لضعف عزائمهم وخور هممِهم عن أن يغالبوا من سواهم من أهل الأمصار، فهم الذين قضوا على أنفسهم بأكل هذا الطعام الواحد، ولا سبيل للخلاص مما كرهوا إلا بالإقدام على محاربة من يليهم من سكان الأرض الموعودة، والله كفيل بنصرهم، فليطلبوا ما فيه الفوز والفلاح لهم. "وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" أي إن الله عاقبهم على كفران تلك النعم بالذل الذي يهوّن على النفس قبول الضيم والاستكانة والخضوع في القول والعمل، وتظهر آثار ذلك في البدن، فالذليل يستخذي ويسكن إذا طاف بخياله يد تمتد إليه، أو قوة قاهرة تريد أن تستذلّه وتقهره، وترى الذل والصغار يبدو في أوضاع أعضائه وعلى ظاهر وجهه. "وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ" أي واستحقوا غضب الله بما حلّ بهم من البلاء والنقم في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة. "ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ" أي إن ما حلّ بهم من ضروب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب الإلهي، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له، وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون. "وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ" ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك،فهم قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق: أي بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق لشبهة تعنّ له، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك. وفي قوله: بغير الحق مع أن قتل النبيين لا يكون بحق أبدًا ، فلا يوجد حق يسوغ قتل نبي ، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم ولا متأولين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم. فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنهم أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين؟ فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعًا. "ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ" أي إن كفرهم بآيات الله وجرأتهم على النبيين بالقتل، إنما كانا بسبب عصيانهم وتعديهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدى حدوده مرّة ضعف ذلك السلطان الديني في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد، إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه. |
من آية 62 إلى 70 " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"62.لما بين الله سبحانه وتعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحل بهم من النكال ، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع ، فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ؛ كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه.تفسير ابن كثير. وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة, لأن الصابئين, الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة, واليهود والنصارى, والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر, وصدقوا رسلهم, فإن لهم الأجر العظيم والأمن, ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر, فهو بضد هذه الحال, فعليه الخوف والحزن. والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف, من حيث هم, لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد, فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم. لما ذكر بني إسرائيل وذمهم, وذكر معاصيهم وقبائحهم, ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذِكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها, ليتضح الحق, ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين. تفسير السعدي. " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"63. يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسلِهِ ، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق للعمل بما في التوراة رفع الجبل على رؤوسهم ليُقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأعراف: 171. الطور هو الجبل ، كما فسره بآية الأعراف.تفسير ابن كثير. " وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ" وكانت هذه الآية بعد أخذ الميثاق لكي يأخذوا ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد، لأن رؤية ذلك مما يقوّى الإيمان ويحرّك الشعور والوجدان ثمّ بين الميثاق فقال: " خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ" أي وقلنا لهم خذوا الكتاب وهو التوراة بجدّ وعزيمة، ومواظبة على العمل بما فيه. " وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ" أي وادّارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، كما أُثر عن علي أنه قال: يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"تتقون- عذاب الله وسخطه, أو لتكونوا من أهل التقوى.تفسير السعدي.والمراغي. المواظبة على العمل تطبع في النفس سجيّة المراقبة لله، وبها تصير تقية نقية من أدران الرذائل راضية مرضية عند ربها. " ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ"64. أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادّكر. " فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ" أي فلولا لطف الله بكم وإمهاله إياكم إذ لم يعاملكم بما تستحقون، لكنتم من الهالكين. ولولا ذلك لخسرتم سعادتي الدنيا والآخرة. " وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ"65. " وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ "أي لقد عرفتم ومعنى ذلك أن القصة عندهم معروفة.. وكأنها من قصص التراث التي يتناقلونها. " الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ "اليهود أمروا بقطع الأعمال الدنيوية يوم السبت ، والتفرغ للعمل الأخروي يوم السبت والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم، وإضعافًا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادّخاره، وأباح لهم العمل في ستة الأيام الأخرى. وأراد الحق تبارك وتعالى أن يبتليهم في هذا اليوم والابتلاء هو امتحانهم فقد كانوا يعيشون على البحر وعملهم كان صيد السمك. وكان الابتلاء في هذا اليوم حيث حرم الله عليهم فيه العمل وجعل الحيتان التي يصطادونها تأتي إليهم وقد بدت أشرعتها وكانوا يبحثون عنها طوال الأسبوع وربما لا يجدونها.. وفي يوم السبت جاءتهم ظاهرة على سطح الماء تسعى إليهم لتفتنهم.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى"وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْۚ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"الأعراف: 163. وَاسْأَلْهُمْ أي: اسأل بني إسرائيل عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي: كثيرة طافية على وجه البحر. وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي: إذا ذهب يوم السبت لا تَأْتِيهِمْ أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم اللّه، ولما عرضهم للبلاء والشر، فتحيلوا على الصيد، فكانوا يحفرون لها حُفَرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق معظمهم اعتدوا وتجرؤوا، وأعلنوا بذلك. وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم. وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا كأنهم يقولون: لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم اللّه، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه، إما بهلاك أو عذاب شديد. فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: لنعذر فيهم. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم. وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي. "فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ" ذهب جمهور العلماء إلى أنهم مُسخت صورهم فصارت صور القردة، وروى أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، أي : إنهم مسخوا مسخًا نفسيًا فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها . قال ابن كثير: والصحيح أن المسخ معنوي كما قال مجاهد لا صوري كما قال غيره. "قِرَدَةً خاسِئِينَ "صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء . " فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" 66. وجعل الله هذه العقوبة – وهي المسخ- "نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا" زجرًا وعقابا قويًّا وعبرة، لمن حضرها من الأمم, وبلغه خبرها, ممن هو في وقتهم. "وَمَا خَلْفَهَا "أي: من بعدهم, فتقوم على العباد حجة الله, وليرتدعوا عن معاصيه. "وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات. لأن المتقي يتّعظ بها ويتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداءَها . "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" 67. أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلًا, وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله, حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل: اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره, وعدم الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض, فقالوا"أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا" أي قالوا: أتجعلنا موضع سخرية وتهزأ بنا؟ نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة فقال نبي الله"أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ"فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه, وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل،استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه, فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه, والرحمة لعباده. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِي قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ"68 . فلما قال لهم موسى ذلك, علموا أن ذلك صدق فقالوا "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِي" أي سله لأجلنا أن يكشف لنا عن الصفات المميزة لها. أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم . ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم بالسؤال عن صفاتها، فضيق عليهم ، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم. " قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ "أي لا كبيرة ولا صغيرة، والفارض المسنة التي لا تلد، والبكر الصغيرة التي لم تلد. " عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ" وسطبين السنين . "فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ"أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال. واتركوا التشديد والتعنت. أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه، ولا يخفى ما في هذا من التحذير والتنبيه على ترك التعنت، وكان يجب عليهم الاكتفاء به والمبادرة إلى الامتثال، لكنهم أبوا إلا تنطّعا واستقصاء فأعادوا الطلب. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ"69. أي سله لأجلنا أن يبين لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضًا تعنت آخر منهم بعد الأول . "إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا "أي: شديدة الصفار. "تَسُرُّ النَّاظِرِينَ" الناظرين إليها إليها يعجبهم حسنها وصفاء لونها. "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ"70. سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان . لكثرتها ، فميز لنا هذه البقرة وصفها بوصف أكثر تحديدًا ،وإنا إن شاء الله لمهتدون إليها ، استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد . |
من آية 71 إلى آية 80 "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ"70. سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان . لكثرتها ، فميز لنا هذه البقرة وصفها بوصف أكثر تحديدًا ،وإنا إن شاء الله لمهتدون إليها ، استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد . "قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ" 71. "لَّا ذَلُولٌ "البقرة الذلول هي البقرة المروضة الممرنة تؤدي مهمتها بلا تعب.. تماما مثل الخيل المروضة التي لا تتعب راكبها لأنها تم ترويضها. "تُثِيرُ الْأَرْضَ " تثير غبار الأرض في غير العمل مرحًا ونشاطًا، أي لم تستخدم في حراثة الأرض أو فلاحتها. "وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ" أي لم تستخدم في إدارة السواقي لسقي الزرع. "مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا" أي لا شيء فيها ، أي خالية من العيوب لا أذنها مثقوبة. ولا فيها أي علامة من العلامات التي يميز الناس أبقارهم بها.. ولا رجلها عرجاء، خالية من البقع والألوان غير اللون الأصفر الفاقع. والمتأمل في وصف البقرة كما جاء في الآيات يرى الصعوبة والتشدد في اختيار أوصافها،فهم شددوا على أنفسهم بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم .ولم يجد بنو إسرائيل إلا بقرة واحدة تنطبق عليها هذه المواصفات فقالوا " قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ " أي إنك الآن أظهرت حقيقة ما أمرنا به بعد ذكر هذه المميزات التي ذكرتها لنا. وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة. "فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " فذبحوا البقرة التي وصفت بتلك الصفات. قال الضحاك ، عن ابن عباس : كادوا ألا يفعلوا ، ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها . " وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" 72 "وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا " هذا أول القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة، أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلا, وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله. أي تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، وكل واحد يدرأ عن نفسه ويدّعى البراءة ويتهم سواه. " وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" أي مُظْهِر القاتل الذي يكتم قيامه بالقتل ويخفيه. فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، " فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"73. " فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ "يعني القتيل. "بِبَعْضِهَا " أي ببعض البقرة، وإنما أمرهم موسى عليه السلام بالضرب ولم يضرب بنفسه نفيا للتهمة، كيلا ينسب إلى السحر والشعوذة. فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, أي: بعضو منها, إما معين, أو أي عضو منها, فليس في تعيينه فائدة, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء الله الموتى، فكما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات ، " وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"أي لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها، وتطيعون الله فيما يأمركم به. فتنزجرون عن ما يضركم. "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"74. "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم " أي: اشتدت وغلظت, فلم تؤثر فيها الموعظة. " مِّن بَعْدِ ذَلِكَ" أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها. " فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ " وصف قسوتها بأنها كَالْحِجَارَةِ التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أُذيب في النار, ذاب بخلاف الأحجار. " أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " أَو : بمعنى " بل "أي: إنها أشد قساوة الأحجار، ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: "وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" بل هي أي قلوبهم أشد من الحجارة غلظة؛ لأن من الحجارة ما يتسع وينفرج حتى تنصبَّ منه المياه صبًا، فتصير أنهارًا جاريةً، ومن الحجارة ما يتصدع فينشق، فتخرج منه العيون والينابيع، ومن الحجارة ما يسقط من أعالي الجبال مِن خشية الله تعالى وتعظيمه. "وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها. "أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"75. "أَفَتَطْمَعُونَ" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم هذا استفهام فيه معنى الإنكار.الطمع: تعلق النفس بشيء مطلوب تعلقًا قويًّا، فإذا اشتد فهو طمع، وإذا ضعف كان رجاء ورغبة. لما بيّن سبحانه أن قلوبهم صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرّؤ على بارئها محجوبة بالرين كثيفة الطبع بحيث إنها أشد قسوة من الحجارة تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم . فقد كان النبي ﷺ وأصحابه شديدى الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه . أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ: تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به. "وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ" يعني التوراة. " ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ " يغيرون ما فيها من الأحكام.فيضعون له معاني ما أرادها الله, ليوهموا الناس أنها من عند الله, وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله, فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟! " مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ " أي من بعد ما علموه وفهموه وعرفوه. " وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين. "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"76 . "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا" أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد ﷺ قال المنافقون منهم: إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به. "وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ" قال أبو جعفر: يعني أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم. "قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ " أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يجىء مصدقا لما معهم ،وأنه حق وقوله صدق. " لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ "كي يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم- فالمحاجة هي أن كل طرف يأتي بحجته. " أَفَلَا تَعْقِلُونَ"أي: أفلا يكون لكم عقل، فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض. " أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ " 77. فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم، وزعموا أنهم بإسرارهم لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين، فإن الله يعلم سرهم وعلنهم. " وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ"78. " وَمِنْهُمْ"أي: من أهل الكتاب "أُمِّيُّونَ "أي: عوام، ليسوا من أهل العلم، " لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ": عن ابن عباس ، في قوله تعالى" إِلَّا أَمَانِيَّ "يقول : إلا قولًا يقولونه بأفواههم كذبًا .وقيل:والأماني واحدها أمنية وهي التلاوةأي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط – تلاوة لفظية فقط دون التلاوة الحكمية-.أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرهما في العمل، وهذا على حدّ قوله تعالى "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ".الجمعة:5. "وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ " أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظنّ من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبني على البرهان القاطع الذي لا شكّ فيه. فذكر في هذه الآيات علماءَهم، وعوامَّهم، ومنافقيهم، ومن لم ينافق منهم، فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال، والعوام مقلدون لهم، لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين. " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ"79. والويل : الهلاك والدمار ، وهي كلمة مشهورة في اللغة . " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ" عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : هم أحبار اليهود . وكذا قال سعيد ، عن قتادة : هم اليهود .توعد تعالى أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي في التوراة فغيّروها.المحرفين للكتاب . " فَوَيْلٌ"أي هلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون لعوامّهم: هذا المحرّف من عند الله في التوراة. " لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " أي ليأخذوا لأنفسهم عرضا من عرض الدنيا؛ في مقابلة هذا المحرّف ثمنا وهي الأموال التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها. والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس, فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم, ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق, بل بأبطل الباطل, وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال " فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ" أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرّف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي. وكرر الويل تغليظًا لفعلهم .وقد جنى اليهود الكاتبون ثلاث جنايات: تغيير صفة النبي ﷺ، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة. " وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" 80.ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهؤلاء يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم. المسّ واللمس بمعنى واحد، والمراد بالنار نار الآخرة، والمعدودة: المحصورة القليلة. يقول تعالى إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم ، من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله" قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ" قل لهم أيها الرسول " أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا" أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار ! أم أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقّا؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده. أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع . " أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلّغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح. وخلاصة هذا - إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين: إما اتخاذ عهد من الله، وإما افتراء وتقوّل عليه، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه. |
من آية 81 إلى 86 أي ليس الأمر كما ذكرتم، بل تمسّكم النار وتمسّ غيركم دهرًا طويلًا، فكل من أحاطت به خطيئاته وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه واسترسل في شهواته، وأصبح سجين آثامه، فجزاؤه النار خالدا فيها أبدا لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب. أي وأما الذين صدّقوا الله ورسله، وآمنوا باليوم الآخر وعملوا صالحالأعمال فأدّوا الواجبات، وانتهوا عن المعاصي فأولئك جديرون بدخول الجنة جزاء وفاقا على إخباتهم لربهم وإنابتهم إليه وإخلاصهم له في السرّ والعلن. وفي هذا دليل على أن دخول الجنة منوط بالإيمان الصحيح والعمل الصالح معا، "قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، قالَ: "قُلْ:آمَنْتُباللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ"صحيح مسلم.والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله، وصاحبه مخلد في النار، وبعض العلماء حمل السيئة على معناها العام، وقال إن الخلود هنا المكث الطويل بمقدار ما يشاء الله، فالعاصى مرتكب الكبائر يمكث فيها ردحا من الزمان ثم يخرج منها متى أراد الله تعالى، وإذا أحدث المرء لكل سيئة توبة نصوحا، وإقلاعا صحيحا عن الذنب فلا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات، روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذُكر في قوله تعالى "كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ"المطففين:14. "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ" 82. "وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" 83. ذكّر سبحانه في الآيات السابقة بني إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل بما أنعم الله به على آبائهم من النعم كتفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من الغرق وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ثم ما كان يحصل إثر كل نعمة من مخالفة، فحلول عقوبة، فتوبة من الذنب بعد ذلك. الميثاق: العهد الشديد المؤكد، وهو قسمان: عهد خلقة وفطرة، وعهد نبوة ورسالة وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم،.وفي هذه الآية ذكّرهم بأهمّ ما أمر به أسلافهم من عبادات ومعاملات، ثم ما كان منهم من إهمالها وترك اتباعها، ثم بين هذا الميثاق فقال: إِحْسانًا :معناه زيادة على المفروض. لأنك قد تؤدي الشيء بالقدر المفروض منك.. فالذي يؤدي الصلاة مثلا بقدر الغرض يكون قد أدى.. أما الذي يصلي النوافل ويقوم الليل يكون قد دخل في مجال الإحسان.. أي عطاؤه أكثر من المفروض.. والله تبارك وتعالى يقول"إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم"الذاريات: 15-19."لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره،وبهذا أمر جميع خلقه، هذا أمر بعبادة الله وحده, ونهى عن الشرك به، وهذا أصل الدين, فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها, فهذا حق الله تعالى على عباده. مفهوم العبادة العام ، هي التذلل لله عز وجل محبة وتعظيمًا، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، على الوجه الذي جاءت به شرائعه.قاله :الشيخ العثيمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي " اسم جامع لكل ما يجبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالخوف، والخشية، والتوكل، والصلاة، والزكاة، والصيام، وغير ذلك من شرائع الإسلام". وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا :أي ووصيناهم بالوالدين إحسانًا، بِرًا بهما وعطفًا عليهما ونزولًا عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر الله تعالى. أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين, أو عدم الإحسان والإساءة، لأن الواجب الإحسان, والأمر بالشيء نهي عن ضده. وَذِي الْقُرْبى : والقربى : بمعنى الأرحام. والأرحامُ: هم كلُّ مَن تَربِطُك بهم رَحِمٌ أو قَرابةٌ مِن جِهةِ الأبِ أو الأمِّ، وقد حثَّ القرآنُ الكريمُ على صِلَتِهم، وحَذَّر أشَدَّ التَّحذيرِ مِن قَطْعِهم، قال تعالى" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ "محمد 22.فقطع الرحم من الفساد في الأرض. فالإحسان إلى اليتيم بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع، والكتاب والسنة مليئان بالوصية به، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم"أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وقالَ بإصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى".الراوي : سهل بن سعد الساعدي-صحيح البخاري." وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ" واليتيم هو من فقد أباه وهو طفل لم يبلغ مبلغ الرجال.. هذا في الإنسان.. أما في الحيوان فإن اليتيم من فقد أم وقدم اليتيم على المسكين، لأن هذا يمكنه أن يسعي بنفسه للحصول على قوته، بخلاف الأول فإن الصغر مانع له من ذلك. وَالْمَساكِينِ: المسكين هو الذي يملك ما لا يكفيه. والإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم ومواساتهم حين البأساء والضراء، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم:قال"السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ، كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوِ القائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهارَ."الراوي : أبو هريرة –صحيح البخاري.وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا: أمر الله أولا بالإحسان بكل صوره المتاحة لأقوام مخصوصين، وهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين، إذ لا يمكن الشخص أن يحسن به إلى الناس جميعا، لأنه لا يسع كل الأ "إنكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم ، ولكن يَسَعهم منكم بَسْطُ الوجهِ ، وحُسْنُ الخُلُقِ ."الراوي : أبو هريرة -المحدث : الألباني -المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم- 2661 خلاصة حكم المحدث : حسن لغيرهومن ثم اكتفى في حقوق سائر أفرادها بحسن العشرة والقول الجميل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع لهم في الدين والدنيا. أي: كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف.وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنا ، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل ، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي . ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمعين من ذلك ، وهو الصلاة والزكاة. " أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه. وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ؛ إذَاكَثُرَالخَبَثُ." الراوي : زينب أم المؤمنين/ صحيح البخاري.وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: لأن الصلاة هي التي تصلح النفوس وتنقيها من أدران الرذائل، وتحليها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله والخشوع لعظمته وسلطانه. ثم الزكاة لما فيها من مجاهدة النفس و إصلاح شئون المجتمع. فالصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد. " ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ"أ ي ثم كان من أمركم أن توليتم عن العمل بالميثاق ورفضتموه وأنتم في حال الإعراض عنه وعدم الاهتمام بشأنه وفي قوله"وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" مبالغة في الترك المستفاد من التولي، لأن الإنسان قد يتولى عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويؤدى ما يجب له، فليس كل من تولّى عن شيء يكون معرضًا عنه. إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ: أخرج بعض من كانوا في عهد موسى عليه السلام ممن أقام اليهودية على وجهها، ومن كان في عصر التنزيل أو بعده وأسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه من المخلصين المحافظين على الحق بقدر الطاقة، وفائدة ذكره عدم بخس العاملين حقهم، والإشادة بذكرهم، والإشارة إلى أن وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعمّ البلاء، وقد جرت سنة الله بأن بقاء الأمة عزيزة مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأس، إنما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة والدأب على العمل الذي به تستحق العزّ والشرف. " وإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ"84. "ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"85. "أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ "86 ذكّر الله بني إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك. أي وإذ أخذنا عليكم العهد: لا يريق بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم وأوطانهم، وقد جعل غير الرجل كأنه نفسه، ودمه كأنه دمه إذا اتصل به دينا أو نسبًا، إشارة إلى وحدة الأمة وتضامنها، وأن ما يصيب واحدًا منها فكأنما يصيب الأمةجمعاء، فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم، فالروح الذي يحيا به والدم الذي ينبض في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم، لا فرق بينهم في الشريعة التي وحّدت بينهما في المصالح العامة، وهذا ما يومئ إليه الحديث"تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى."الراوي : النعمان بن بشير/صحيح البخاري.وفي هذه الآيات ذكّرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، إرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم. "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ."عن أنس بن مالك/صحيح البخاري. وهذا الفعل المذكور في هذه الآية, فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين, وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود, بنو قريظة, وبنو النضير, وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة. فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود, فيقتل اليهودي اليهودي, ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها, وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا. والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض, ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم, وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين, أي وكانوا إذا أسر بعض العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم واتفقوا على فداء الأسرى، يفدي كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه، ثم يعتذرون عن هذا بأن الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب المقدس، فإن كانوا مؤمنين حقّا بما يقولون، فلم قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك؟ أفليس هذا إلا لعبا واستهزاء بالدين؟ فأنكر الله عليهم ذلك فقال" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ " وهو فداء الأسير " وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ " وهو القتل والإخراج. وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان، قال تعالى" فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا "بخزي عاجل في هذه الحياة، وعذاب آجل في الآخرة وقد وقع ذلك فأخزاهم الله, وسلط رسولَه عليهم, فقتل من قتل, وسبى من سبى منهم, وأجلى من أجلى. " وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ " وعذاب شديد وعظيم آجل في الآخرة . ثم زاد في الوعيد والتهديد والزجر الشديد فقال" وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب, والإيمان ببعضه فقال" أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ "أي أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة، فقدّموا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الأخرى، بما أهملوا من الشرائع، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءهمكالانتصار للحليف المشرك، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإياه رابطة الدين والنسب، وإخراج أهله من دياره ابتغاء مرضات هذا الحليف المشرك. توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار, فاختاروا النار على العار، فلهذا قال" فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ " يوم القيامة بل هو باق على شدته, ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات، " وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " لأن أعمالهم قد سجلت عليهم الشقاء، وأحاطت بهم الخطايا من كل جانب، فسدّت عليهم باب الرحمة، وقطعت عنهم الفيض الإلهي، فلا يجدون شافعًا ينصرهم، ولا وليّا يدفع عنهم ما حلّ بهم من النكال والوبال في جهنم وبئس القرار. |
من آية 87 إلى 96 " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ "87. جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن تأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن أمر ربهم، ويحرفون ما جاءهم من الشرائع بضروب من التأويل، وينسون ما أنذروا به من قبل،قال تعالى"أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ"الحديد:16. من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسو القلوب، وقد كان الشعب اليهودي أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر ما يسوّغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها، ولكن كانوا يطيعون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم، ويعصون رسلهم، فمنهم من كذّبوه، ومنهم من قتلوه. يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى, وآتاه التوراة, ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة, إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليه السلام، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر، " وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " أي: قواه الله بروح القدس. قال أكثر المفسرين: إنه جبريل عليه السلام, وقيل: إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده. ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها, لما أتوكم " بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ" عن الإيمان بهم، " فَفَرِيقًا "منهم " كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ" أي فبعضا من هؤلاء الرسل تكذبون كعيسى ومحمد عليهما السلام، وبعضا تقتلون كزكريا ويحيى عليهما السلام، فلا عجب بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمد ﷺ، فإن العناد والجحود من طبعكم، وسجية عُرفت عنكم، ولا غرابة في صدور ما صدر منكم. فقدمتم الهوى على الهدى, وآثرتم الدنيا على الآخرة، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى. " وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ"88. أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه ،وقالوا قلوبنا مغطاة بأغشية خلقية مانعة من تفهم ما جئت به. وهذا كذب منهم، فلهذا قال تعالى" بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ" ليس الأمر كما يدّعون، بل قلوبهم خلقت مستعدة بحسب الفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق، لكن الله لعنهم بأن أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين، فهم يؤمنون إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وتحريف بعضه الآخر أو ترك العمل به، والذي آمنوا به كان قولا باللسان تكذبه الأعمال إذ لم يكن للإيمان سلطان على قلوبهم، فيكون هو المحرّك لإرادتهم، وإنما يحركها الهوى والشهوة. "وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ "89. "بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ "90. وَلَمَّا جاءَهُمْ: أي جاء لليهود . كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: أي القرآن الكريم. مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ: أي مصدق لما جاء في التوراة . فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ: واللعن الطرد من رحمة الله. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: بئس ونعم: فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم، لا يتصرفان تصرف الأفعال، معناه: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق. وقيل: الاشتراء هاهنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي حين اختاروا الكفر. أي: ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد الرسول الكريم وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة، وقد علموا به، وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب، استنصروا بهذا النبي، ويقولون إن كتابه سينصر التوحيد الذي جاء به موسى، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها.، وتوعدوهم بخروجه، وأنهم يقاتلون المشركين معه، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا، كفروا به. بغيًا وحسدًا، حسدوا العرب على أن بعث الله محمدا ﷺ من بينهم فحملهم ذلك على الكفر به جحودا وعنادا، فكتب الله عليهم الطرد والإبعاد من رحمته، لجحودهم بالحق بعد أن تبين لهم.، فلعنهم الله، واستحقوا غضب الله عليهم غضبًا بعد غضب، قال ابن عباس : فالغضب على الغضب ، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم .فغضب الله عليهم لكثرة كفرهم وتوالي شكهم وشركهم. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ: أي ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فما يصيبهم من الخزي والنكال وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأما في الآخرة فبخلودهم في جهنم وبئس المصير.فبئس الحال حالهم, وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " أي: وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله، وهو القرآن استكبروا وعتوا، وقالوا نحن دائبون على الإيمان بما أنزل على أنبياء بني إسرائيل كالتوراة وغيرها. وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ : أي يكفرون بما بعده أو بما سواه من الكتب رغم أنه مصدقًا لما معهم من كتب، وهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل .والواجب الإيمان بما أنزل الله مطلقًا، سواء أنزل عليهم، أو على غيرهم، وهذا هو الإيمان النافع، الإيمان بما أنزل الله على جميع رسل الله. وأما التفريق بين الرسل والكتب، وزعم الإيمان ببعضها دون بعض، فهذا ليس بإيمان، بل هو الكفر . " قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " أي قل لهم إلزاما للحجة بعد ما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه: إن كنتم صادقين حقا في اتباعكم ما أنزل الله على أنبيائكم، فلم قتلتموهم؟ وليس في دينكم الأمر بالقتل، بل فيه شديد العقاب على القتل مطلقًا، فضلا عن قتل الأنبياء، فما هذا منكم إلا تناقض بين الأقوال والأفعال. وقد نسب القتل إليهم والقاتل أسلافهم لما تقدم غير مرة من أن مثل هذا يقصد به بيان وحدة الأمة وتكافلها، وأنها في الطبائع والأخلاق المشتركة كالشخص الواحد، فما يصيبها من حسنة أو سيئة، فإنما مصدره الأخلاق الغالبة عليها، فما حدث منهم كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع فيها الآخرون الأولين: إما بالعمل بها، وإما بترك الإنكار لها فالحجة تقوم على الحاضرين بأن أسلافهم الغابرين قتلوا الأنبياء فأقروهم على ذلك ولم يعدوه خروجًا من الدين، ولا رفضًا للشريعة، وفاعل الكفر ومجيزه سواء. " ولَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ".92. بِالْبَيِّناتِ:أي الآيات والدلائل التي تدل على صدق النبي موسى عليه السلام ، والمعجزات التي تؤيد نبوّته كالعصا واليد، ..... أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك، فهذا ظلم ووضع للشىء في غير موضعه اللائق به، وأي ظلم أعظم من الإشراك بالله بعبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا؟. " وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "93. أخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق للعمل بما في التوراة رفع الجبل على رؤوسهم ليُقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأعراف: 171. قد سبق شرح مثل هذا من قبل سوى أنه قال هناك"خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ" أي وادّارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، كما أُثر عن علي أنه قال: يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. وهنا قال"خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا" أي استجيبوا وأطيعوا. أي: سماع قبول وطاعة واستجابة، ومعنى اسمعوا أطيعوا ، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط ، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه. قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا: أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه، لكنهم لم يعملوا به وخالفوه، وليس المراد أنهم نطقوا بقولهم "سَمِعْنا وَعَصَيْنا" بل كانوا بمثابة من قال ذلك- أي قالوا بلسان حالهم. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ : أي صار حبّ العجل نافذًا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه، وقوله: بكفرهم أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل ، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف. " قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أي قل توبيخًا لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين الذين يقتدون بهم، ويحتذون حذوهم في كل ما يأتون وما يذرون: إن كنتم مؤمنين بالتوراة حقا، فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، فهذه دعوى لا تقبل منكم، بل يجب القطع بعدم وجودها، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان. وقد سيقت هاتان الآيتان ردّا على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي ﷺ، وزعموا أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها، فهي حجة عليهم تشرح طبيعة الإيمان وأثره في المؤمن. ثم أمر رسوله أن يتحداهم في ادعائهم صادق الإيمان وكامل اليقين فقال: " قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"94. أي إن صدق قولكم، وَصحَّتْ دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وفي أنكم شعب الله المختار، وأن النار لن تمسكم إلا أيامًا معدودات، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. وقد روى عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تمنى الموت عند القتال معبّرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الاخرة. "دَنَا المُشْرِكُونَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ، قالَ: يقولُ عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ الأنْصَارِيُّ: يا رَسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ما يَحْمِلُكَ علَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ قالَ: لا وَاللَّهِ يا رَسولَ اللهِ، إلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِن أَهْلِهَا، قالَ: فإنَّكَ مِن أَهْلِهَا، فأخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِن قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ منهنَّ، ثُمَّ قالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حتَّى آكُلَ تَمَرَاتي هذِه إنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قالَ: فَرَمَى بما كانَ معهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حتَّى قُتِلَ."صحيح مسلم. " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ "95. أي ولن يقع منهم هذا التمني بحال، لأنهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي والذنوب التي يستحقون بها العقوبة كتحريف التوراة، والكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع البشارة به في كتابهم. لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة، فالموت أكره شيء إليهم, وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب. والعرب تسند الفعل إلى الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، ويجعلون المراد بها الشخص. "وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" أي والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها. ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد. "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ "96. اللام لام القسم والنون تأكيد للقسم، تقديره: والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود..أي أحرص الناس على طول العمر ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة وطول العمر، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة ؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم . وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم، إذ أن المشركين لا يؤمنون ببعث ولا يعرفون إلا هذه الحياة، فحرصهم عليها ليس بالغريب، أما من يؤمن بكتاب ويقرّ بالجزاء فمن حقه ألا يكون شديد الحرص عليها. " يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ" وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع بما عنده من العلم . تحية المجوس فيما بينهم يقولون عش ألف سنة ، يقول الله تعالى: اليهود أحرص على الحياة من المجوس الذين يقولون ذلك. " وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ" وما يحذرون واقع بهم لا محالة ، حتى وهم أحرص الناس على طول العمر. أي وما بقاؤه في هذه الدنيا بمنجيه ولا بمبعده من العذاب المعدّ له، فإن العمر مهما طال فهو مُنْتَهٍ لا محالة. |
من آية 97 إلى 101 " قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ"97. " مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ "98. ثم ساق القرآن بعد ذلك لونًا عجيبًا من ألوان اليهود وهو مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - فقال - تعالى " قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ . . . "أي قل لهم أيها النبي حاكيًا لهم عن الله: من كان عدوّا لجبريل . فإن من أحوال جبريل أنه نزّل القرآن على قلبك،قل لهم: مَن عادى جبريلَ عليه السَّلام، فليعلمْ أنه هو الذي نزَل بالقرآن على قلبِك، وجبريل لا يَنزل بالأمر من تِلقاء نفْسه، وإنَّما ينزل بأمْر الله تعالى، وهذا يَعني أنَّهم بقولهم ذلك يُعادُون الله تعالى في الحقيقة؛ أمَّا جبريل فهو رسولٌ محضٌ أي فهو عدو لوحى الله الذي يشمل التوراة وغيرها. فهاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقا من رذائل اليهود وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله، لا يأكل مما يأكلون، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته؟ لقد سمعوا أن جبريل- عليه السلام- ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم يحسدونه على النبوة، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل- أيضا- وهذه حماقة وجهالة منهم، لأن جبريل- عليه السلام- نزل بالخير لهم في دينهم وفي دنياهم. ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلاها لا تفرق بين الخير والشر. "مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" أي هو موافق للكتب التي تقدمته فيما يدعو إليه من توحيد الله والسير على السنن القويم. "وَهُدىً" أي أنزله الله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان. "وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ" أي إنه بشرى لمن آمن به، فليس لكم أن تتركوها لأجل أن جبريل جاء منذرا بخراب بيت المقدس، لأنه إنما أنذر المفسدين. " مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ "98. وهكذا أعطى الله سبحانه وتعالى الحُكْم.. فقال إن العداوة للرسل.. مثل العداوة للملائكة.. مثل العداوة لجبريل وميكائيل.. مثل العداوة لله. ولقد جاء الحق سبحانه وتعالى بالملائكة ككل.. ثم ذكر جبريل وميكائيل بالاسم. ومعنى الآيتين الكريمتين، قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيدا لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة، وقل لهم كذلك من كان معاديا لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله، فقد كفر وباء بغضب من الله، ومن غضب الله عليه، فجزاؤه الخزي وسوء المصير. - سَمِعَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ، بقُدُومِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهْوَ في أرْضٍ يَخْتَرِفُ، فأتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: إنِّي سَائِلُكَ عن ثَلَاثٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا نَبِيٌّ: فَما أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وما أوَّلُ طَعَامِ أهْلِ الجَنَّةِ؟ وما يَنْزِعُ الوَلَدُ إلى أبِيهِ أوْ إلى أُمِّهِ؟ قالَ: أخْبَرَنِي بهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا قالَ: جِبْرِيلُ؟: قالَ: نَعَمْ، قالَ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلَائِكَةِ، فَقَرَأَ هذِه الآيَةَ"مَن كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإنَّه نَزَّلَهُ علَى قَلْبِكَ بإذْنِ اللَّهِ" أمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وإذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ نَزَعَ الوَلَدَ، وإذَا سَبَقَ مَاءُ المَرْأَةِ نَزَعَتْ، قالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وإنَّهُمْ إنْ يَعْلَمُوا بإسْلَامِي قَبْلَ أنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي، فَجَاءَتِ اليَهُودُ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رَجُلٍ عبدُ اللَّهِ فِيكُمْ. قالوا: خَيْرُنَا وابنُ خَيْرِنَا، وسَيِّدُنَا وابنُ سَيِّدِنَا، قالَ: أرَأَيْتُمْ إنْ أسْلَمَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ. فَقالوا: أعَاذَهُ اللَّهُ مِن ذلكَ، فَخَرَجَ عبدُ اللَّهِ فَقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فَقالوا: شَرُّنَا وابنُ شَرِّنَا، وانْتَقَصُوهُ، قالَ: فَهذا الذي كُنْتُ أخَافُ يا رَسولَ اللَّهِ." الراوي: أنس بن مالك /صحيح البخاري. كان عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن يَهودِ المدينةِ، وذلك قبْلَ مَبْعثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان حَبْرًا عالِمًا مِن عُلماءِ اليهودِ ويَعلَمُ مِن التَّوراةِ صِفاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ عبْدَ اللهِ بنَ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه لَمَّا عَلِمَ بقُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ بعْدَ الهِجرةِ إليها، جاءَه؛ لِيتأكَّدَ مِن كَونِه هو النَّبيَّ المُبشَّرَ به مِن عِندِ ربِّ العالَمينَ، فقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّه سَيَسْألُه ثَلاثةَ أسئلةٍ لا يَعلَمُها إلَّا نَبيٌّ، وهذا يدُلُّ على عَظيمِ عِلمِ عَبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ بالتَّوراةِ الحقيقيَّةِ قبْلَ أنْ تُحرَّفَ، حيث عَلِمَ منها أنَّ هذه الأسئلةَ لا يَعلَمُ الإجابةَ عنْها إلَّا نَبيٌّ حقٌّ، فسَأَلَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أوَّلِ العَلاماتِ الكُبرى ليومِ القِيامةِ الدَّالَّةِ على اقترابِ وُقوعِها، وعن أوَّلِ طَعامٍ يَأكُلُه أهْلُ الجنَّةِ حِين يَدخُلونها، وما الَّذي يَجعَلُ الولدَ يُشبِهُ أباهُ؟ وما الَّذي يَجعَلُه يُشبِهُ أخوالَه؟ فأعْلَمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ قدْ أخبَرَه بإجابةِ هذه الأسئلةِ قبْلَ ذلك، فقال له عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ: جِبريلُ ذاك عدُوُّ اليَهودِ مِنَ الملائكةِ؛ وهذا مِن الأشياءِ الواهيةِ التي كانوا يتَعلَّلونَ بها لعَدَمِ إيمانِهم، وزَعَموا أنَّه يَنزِلُ بالحرْبِ والقِتالِ، وهلْ كان جِبريلُ عليه السَّلامُ إلَّا مَأمورًا مِن عِندِ ربِّ العالَمينَ؟! وأجابَهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أسئلتِه، فبَيَّن أنَّ أوَّلَ أشراطِ السَّاعةِ وعَلاماتِها الكُبرى: نارٌ تَحشُرُ النَّاسَ مِنَ المشرِقِ إلى المغرِبِ، وهذا هو الحشْرُ الأوَّلُ قبْلَ قِيامِ السَّاعةِ، تُسلَّطُ النَّارُ على النَّاسِ فَيَهرَبونَ منها، ثُمَّ يَموتونَ، ثُمَّ يُحشَرونَ إلى المحشَرِ، وقد جاءَ في صَحيحِ مسلمٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال"وَآخِرُ ذلك نارٌ تَخرجُ مِنَ اليمَنِ تَطرُدُ النَّاسَ إلى مَحشَرِهم"، وفي رِوايةٍ عندَ مُسلمٍ"نارٌ تَخرجُ مِن قَعْرِ عدَنٍ تُرَحِّلُ النَّاسَ"، وكَونُها تَخرُجُ مِن قَعْرِ عَدَنٍ لا يُنافي حَشْرَها النَّاسَ مِنَ المَشرِقِ إلى المغرِبِ؛ وذلك أنَّ ابتداءَ خُروجِها مِن قَعْرِ عَدَنٍ، فإذا خرَجَتِ انتشرَتْ في الأرضِ كلِّها، والمرادُ بقولِه"تَحشُرُ النَّاسَ مِنَ المشرقِ إلى المغربِ" إرادةُ تَعميمِ الحَشْرِ لا خُصوصُ المشرِقِ والمغرِبِ، أو أنَّها بعْدَ الانتشارِ أوَّلَ ما تَحشُرُ تَحشُرُ أهلَ المشرِقِ. ثمَّ أخْبَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أوَّلَ طَعامٍ يَأكُلُه أهلُ الجنَّةِ بعْدَ دُخولِها: هو زِيادةُ كَبِدِ الحُوتِ، وهي القِطعةُ المنفرِدةُ المتعلِّقةُ بالكَبدِ، وهي أطيَبُها وأهنأُ الأطعمةِ. وأمَّا الشَّبَهُ في الوَلدِ فأخْبَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الرَّجلَ إذا جامَعَ المرأةَ، فسَبَقَها ماؤُه؛ كان الشَّبَهُ له، وإذا سَبَقَ ماؤُها كان الشَّبهُ لها ولأخوالِه؛ وذلك أنَّ لكلٍّ مِن الرَّجلِ والمرأةِ ماءً مُختلفًا في الصِّفاتِ والخصائصِ، فإذا سَبَقَ أحدُهما غَلَبَت صِفاتُه وخَصائصُه، فجاء منه الشَّبهُ، فلمَّا سَمِعَ ذلك عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه، شَهِدَ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَسولُ اللهِ حقًّا، ونَبيُّ اللهِ صِدقًا. ثُمَّ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ اليهودَ قَومٌ بُهتٌ، كذَّابونَ مُمارونَ لا يَرجِعونَ إلى الحقِّ، إنْ عَلِموا بإسلامِه قبْلَ أنْ يَسأَلَهم عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كَذَبوا عليه ووَصَفوه بما لَيس فيه، فلمَّا جاءتِ اليَهودُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دخَلَ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه البيتَ حتَّى لا يَرَوه، فسَأَلَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رجُلٍ فيكم عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ؟ وما مَكانتُه عِندَكم مِن حيثُ العِلمُ والمنزلةُ؟ فقالوا مادِحِين: هو أعلَمُنا وابنُ أعلَمِنا، وأخْيرُنا وابنُ أخْيَرِنا! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَفرأَيْتم -أخْبروني- إنْ أسلَمَ عَبدُ اللهِ؛ فهل تُسلِمونَ؟ قالوا: أعاذَهُ اللهُ مِن ذلك، فخرَجَ عبدُ اللهِ مِنَ البيتِ إليهم، فقال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ! وعلى الفورِ غَيَّروا كَلامَهم فيه وبدَّلوا رَأْيَهم إلى عكْسِ ما ذَكَروا! فقالوا ذامِّين: هو شَرُّنا وابنُ شرِّنا ووَقَعوا فيه بأنْ قالوا فيه ما لَيسَ مِن صِفاتِه كَذِبًا وزُورًا، ألَا قاتَلَ اللهُ اليهودَ! وفي الحَديثِ: مِن عَلاماتِ نُبوَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إخبارُه عَن بَعضِ الأُمورِ الغَيبيَّةِ. وفيه: فَضيلةٌ ومَنقَبةٌ لعبْدِ اللهِ بنِ سلَامِ رَضيَ اللهُ عنه. وفيه: أنَّ اليهودَ أهلُ كَذِبٍ وفُجورٍ، يَقولونَ ويفتَروَن على غيرِهم ما ليسَ فيه.الدرر. "وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ"90. أي: قد أنزلنا إليك- يا محمَّد- فيما أُوحي إليك من القُرآن، آياتٍ هي دلائل واضحة، دالَّةٍ على صِدق نبوَّتك. أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات، دالاّت على نبوّتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب اللّه من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع اللّه في كتابه الذي أنزله على نبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه، ولم يدعها إلى هلاكها الحسدُ والبغيُ. أي: قد أنزلنا إليك- يا محمَّد- فيما أُوحي إليك من القُرآن، آياتٍ هي دلائل واضحة، دالَّةٍ على صِدق نبوَّتك. " وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ " أي: هذه الآيات البيِّنات قد بلَغتْ من الوضوح والدَّلالة على الحقِّ، مَبلَغًا عظيمًا، ووصلتْ إلى حال لا يَجحدها ويمتنع من قَبولها إلَّا مَن خرَج عن دائرة الإيمان، والالتزام بشريعة الرَّحمن. " أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ"100. بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أن الدين الإسلامي، وكتابه القرآن فيه من الآيات الواضحة ما يجعل الإيمان به لا يحتاج إلا إلى وقفة مع العقل مما يجعل موقف العداء الذي يقفه اليهود من الإسلام منافيا لكل العهود التي أخذت عليهم، منافيا للإيمان الفطري، ومنافيا لأنهم عاهدوا الله ألا يكتموا ما جاء في التوراة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنافيا لعهدهم أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنافيا لما طلب منهم موسى أن يؤمنوا بالإسلام عندما يأتي الرسول، مصداقا لقوله تعالى"وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين"آل عمران: 81. وهكذا نعرف أن موسى عليه السلام الذي أُخذ عليه الميثاق قد أبلغه إلى بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل كانوا يعرفون هذا الميثاق جيداً عند بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عندهم أوصاف دقيقة للرسول عليه الصلاة والسلام.. ولكنهم نقضوه كما نقضوا كثيرا من المواثيق.. منها عهدهم بعدم العمل في السبت، وكيف تحايلوا على أمر الله بأن صنعوا مصايد للأسماك تدخل فيها ولا تستطيع الخروج وهذا تحايل على أمر الله، ثم كان ميثاقهم في الإيمان بالله إلها واحداً أحدا، ثم عبدوا العجل.. وكان قولهم لموسى عليه السلام بعد أن أمرهم الله بدخول واد فيه زرع.. لأنهم أرادوا أن يأكلوا من نبات الأرض بدلا من المن والسلوى التي كانت تأتيهم من السماء. حتى عندما رفع الله تبارك وتعالى جبل الطور فوقهم ودخل في قلوبهم الرعب وظنوا أنه واقع عليهم،"وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ".. وبمجرد ابتعادهم عن جبل الطور نقضوا الميثاق. ثم نقضوا عهدهم وميثاقهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة تفصيلها في كتب السيرة. " بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ "ما السبب في نبذ العهود ونقضها؟ السبب أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانهم لصدقوا الله وأوفوا بالعهود. " وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"101. أي: ولَمَّا أتى اليهودَ رسولٌ مرسَلٌ من قِبل الله عزَّ وجلَّ، وهو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وقد جاءهم بصفته الموافقة لِما في التوراة من صِفاته وإثبات رِسالته، والتي يزعمون أنَّهم متمسِّكون وملتزمون بما فيها. " نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" أي: ترَك طائفةٌ من اليهود أصحابِ التوراة، العملَ بالتوراة التي أنزلها الله تعالى عليهم، بالدُّخول في دِين محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ترَكوا ذلك متجاهلين، وكأنَّهم لا يعلمون ما في التوراة من البشارة بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وذِكر صِفاته، والأمر باتِّباعه. وليس المراد أنهم نبذوا الكتاب جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به واتباعه، ولا شك أن ترك بعضه كترك كله، إذ أنه يذهب لتكذيب الوحي ويفتح الباب لترك الباقي. وهذا الجحود لم يكن بضائر للنبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ ولا لدعوته فقد قبلها واهتدى بها كثير من اليهود ومن غيرهم. وقد جعل تركهم إياها وإنكارهم لها إلقاء لها وراء الظهر، لأن من يلقى الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكره. |
من آية 102 إلى 110 <b>" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"102.مُناسبة الآية لِمَا قبلها: مَن ترَك ما يَنفعُه مع إمكانيةِ الانتفاعِ به، فإنَّه يُبتُلى بالاشتغال بما يضرُّه، فكذلك هؤلاء اليهودُ؛ فلَمَّا ذكَر الله تعالى أنَّهم نبَذوا كتابَ الله، ذكَر اشتغالَهم بما يضرُّهم. فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل. كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ" أي: أي واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة تجاهلًا منهم بما هم به عالمون اتَّبعوا ما تختلقُه الشياطينُ وتتقوَّلُه، من السِّحر على عهد سليمان، وتَنسُبه إليه، حيث أخرجت الشياطين للناس السِّحر، وزعَموا كذبًا أنَّ سليمان عليه السَّلام كان يستعمله، وأنه حصَل له به المُلك العظيم. " وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ " أي: إنَّ سليمانَ عليه السَّلام بريءٌ من تُهمة السِّحر التي أَلْصَقَها به اليهود، فلم يكُن كافرًا يمارس السِّحر، أو يُعلِّمه للآخرين؛ وذلك لأنَّ السِّحر كُفر، بل الذين كفروا بسبب السِّحر في الحقيقة هم الشياطين الذين يُعلِّمونه للناس؛ إضلالًا لهم ، إذ كونه نبيّا ينافى كونه ساحرًا، فالسحر خداع وتمويه، والأنبياء مبرءون من ذلك. ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودوّنوه وعلموه الناس هم الذين كفروا. " وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ" أي: واتَّبع اليهود أيضًا السِّحرَ، الذي أُنزل على الملَكين: هاروت وماروت، في بابل من أرضِ العِراق. وكذلك اتبع اليهودُ السحرَ الذي أُنزل على الملَكين هاروت وماروت ، الكائنين بأرض " بابل " ، من أرض العراق ، أنزل عليهما السحر ؛ امتحانًا وابتلاءً من الله لعباده ، فيعلمانهم السحر . فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس ، والإضلال ، ونسبته ، وترويجه ، إلى مَن برَّأه الله منه ، وهو سليمان عليه السلام ، وتعليم الملكين امتحانًا مع نصحهما : لئلا يكون لهم حجة . فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تُعلِّمه الشياطين ، والسحر الذي يعلمه الملكان ، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين ، وأقبلوا على علم الشياطين ، وكل يصبو إلى ما يناسبه . قال ابن كثير – رحمه الله : وقد روي في قصة " هاروت وماروت " عن جماعة من التابعين ، كمجاهد ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وأبي العالية ، والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين ، من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن : إجمال القصة من غير بسط ، ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن ، على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال . تفسير ابن كثير " 1 / 360 . " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ". أي: وما يعلِّم هذانِ الملَكانِ السِّحرَ لأحدٍ من الناس، حتى يَنصحاه فيقولَا له: إنَّما نحن هنا لتعليم السِّحر؛ اختبارًا وابتلاءً لبني آدم، فلا تَكفُرْ بالله؛ بسبب تعلُّم السِّحر وممارسته. ثم ذكر مفاسد السحر فقال " فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ" أي: فيتعلَّم الناسُ السِّحرَ من المَلَكينِ بما يَتصرَّفون به تصرُّفاتٍ مذمومةً، من أعظمِها التفريقُ بين الزَّوجين، مع ما بينهما من المودَّة والرَّحمة. "وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ" أي: وما هؤلاء المتعلِّمون السِّحرَ من الملَكيْن، وفاعِلو تلك الأفعال القَبيحة، بضارِّين بذلِك أحدًا من الخَلْق، إلَّا بإذن الله تعالى الكوني، أي: بقُدرته ومشيئته سبحانه . "وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ." أي: إنَّ السِّحرَ الذي يتعلَّمه هؤلاء المشتغِلون به ضررٌ محضٌ عليهم في الدنيا، ليس فيه نفْعٌ مطلقًا . "وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ" أي: قد علِم أولئك اليهودُ أنَّ مَن استبدل السِّحرَ بكتاب الله تعالى ومتابعةِ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، أنَّه ليس له في الآخِرة حظٌّ ولا نصيبٌ من الجَنَّة . "وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ". أي: ولبئس البديلُ السِّحرُ الذي تعلَّموه، بديلًا عن كِتاب الله تعالى، ومتابعة رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام، لو كانوا يَعلمون أنَّهم إنَّما باعُوا أنفسَهم، وحظَّهم من الآخِرة بما يَضرُّهم في الدُّنيا أيضًا، ولا ينفعهم . "وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"103. أي: إنَّهم لو اختاروا الإيمانَ والتقوى بدلَ السِّحرِ، لكان اللهُ يثيبُهم على ذلك ما هو خيرٌ لهم ممَّا طلبوه في الدُّنيا لو كانوا يَعلمون، فيَحصُل لهم في الدنيا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير، الذي هو جَلْب المنفعة ودفْع المضرَّة، ما هو أعظمُ ممَّا يُحصِّلونه بالسِّحر من خير الدُّنيا، مع ما يُدَّخَرُ لهم من الثَّواب في الآخِرة. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ "104. كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين" رَاعِنَا" راعِنا من المراعاة، وهي المبالغة في الرعي بمعنى حفظ الغير، وإمهاله، وتدبير أموره، وتدارك مصالحه، وكان المؤمنون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حدثهم بحديث راعنا يا رسول الله، أى: راقبنا وانظرنا حتى نفهم كلامك ونحفظه، فيقصدون بها معنى صحيحًا، فتلقف اليهود هذه الكلمة لموافقتها كلمة سيئة عندهم، وأخذوا يلوون بها ألسنتهم، ويقولون " رَاعِنَا" يا أبا القاسم، يظهرون أنهم يريدون طلب المراعاة والانتظار، وهم في الحقيقة يريدون بها معنى فاسدًا والإساءة إليه صلّى الله عليه وسلّم إذ أن هذه الكلمة عبرية كانوا يتسابون بها يقصدون جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة التي هي الحمق والخفة، فنهى الله- تعالى- المسلمين عن استعمال هذه الكلمة حتى لا يتخذها اليهود وسيلة إلى إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والتنقيص من شأنه. فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدًا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا تحتمل إلا الحسن, وعدم الفحش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن . " وَقُولُوا انْظُرْنَا " فكلمة " انْظُرْنَا " كافية يحصل بها المقصود من غير محذور ، وتفيد معنى الإنظار والإمهال لحفظ ما تلقيه علينا وفهمه ، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين. "وَاسْمَعُوا " لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى واستجابة، ففيه الأدب والطاعة. "وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ" الكافرون هنا هم اليهود، وفي التعبير به إيماء إلى أن ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه صلى الله عليه وسلم كفر لا شكّ فيه، لأن من يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرّير، فقد أنكر نبوّته وأنه موحى إليه من قبل ربه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحق العذاب الأليم، لذا توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع. " ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"105. مَا يَوَدُّ :أي: ما يحب، إذ الود محبة الشيء مع تمنيه. وفي التعبير بقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ دون ما يود أهل الكتاب تنبيه إلى أنهم قد كفروا بكتبهم، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها لصدقوا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم الذي أمرتهم كتبهم بتصديقه واتباعه. وعطف عليهم المشركين ليدل على أن عبدة الأصنام- أيضا- يضاهون كفرة أهل الكتاب، في كراهة نزول أي خير على المؤمنين، وأن الجميع يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله عن طريق نبيه صلّى الله عليه وسلّم من دين قويم، وقرآن كريم، وهداية عظمى، وأخوة شاملة، وأمن بعد خوف، وقوة بعد ضعف. مِنْ خَيْرٍ :والخير: النعمة والفضل، والمراد به في الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحى الصادق، والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والحجة البالغة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع. وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم، وكراهتهم أن تكون النبوة في رجل عربي ليس منهم. والمشركون كرهوا ذلك- أيضًا- لأن في انتشار الإسلام، وفي تنزيل الوحى على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يخيب آمالهم في إبطال الدعوة الإسلامية، وإضعاف شوكتها والنصر على أتباعها. "وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ". أي إن حسد الحاسد يدل على أنه ساخط على ربه معترض عليه، لأنه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يصيره سخط الساخطين، ولا يحوّل مجاري نعمته حسد الحاسدين، فهو يختصّ من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنّة وكل عباده غارق في بحار نعمته، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدًا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربه . وقوله تعالى" وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " تذييل لما سبق أى كل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده- تعالى- يتفضل به عليهم، وفي ذلك إشعار للحاسدين بأن يقلعوا عن حسدهم، وتعريض باليهود وغيرهم ممن حسدوا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم على أن آتاه الله النبوة، فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إنى أصطفي للنبوة من أشاء من عبادي وهي لا تدرك بالأماني، ولكني أهبها لمن هو أهل لها. "ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 106. النسخ في اللغة الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل: أي أزالته،النسخ شرعًا: هو النقل, فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه.وبتعبير آخر النسخ هو : بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته، بمقتضى النص الذي تقرر به أولًا، لقد استنكر اليهود أن يبدل الله آية بآية، أو حكما بحكم، وقالوا: ألا ترون إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا من شأن الأنبياء وما هذا القرآن إلا من كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا.ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التي أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون جواب، بل أنزل الله- تعالى- آيات كريمة لدحضها وإزالتها من الصدور، ليزداد المؤمنون إيمانا، وكان اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة, فإنكارهم له كفر وهوى محض. أَوْ نُنْسِها : والإنساء: أي: أو ما نُزِلْه من الآيات؛ فنَمْحُه من قلبِ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه رضي الله عنهم. وحكمة النسخ: أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شرع حكم في وقت كانت الحاجة إليه ماسة، ثم زالت الحاجة فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته للعباد، وما مثل ذلك إلا مثل الطبيب الذي يغير الأغذية والأدوية باختلاف الأزمنة والأمزجة، والأنبياء صلوات الله عليهم هم مصلحو النفوس، يغيرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقية، التي هي للنفوس بمثابة العقاقير والأدوية للأبدان، فما يكون منها مصلحة في وقت قد يكون مفسدة في وقت آخر. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها: أي نأتِ بخيرٍ من الذي نسخناه أو محوناه من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أو بمثله في خيريَّته ووجوه نفْعه. وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ، والمراد غيره من المؤمنين الذين ربما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك تثبيتًا لهم وتقوية لإيمانهم، ببيان أن القادر على كل شيء لا يستنكر عليه نسخ الأحكام، لأنها مما تتناولها قدرته، ثم أقام دليلًا آخر فقال: " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"107. فإذا كان مالكًا لكم, متصرفًا فيكم, تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه. أي إن الله تعالى له ملك السموات والأرض وهما تحت قبضته والعباد أهل ملكه وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام، ويقدر ما شاء منها بحكمته سبحانه . يمحو ما يشاء ويثبت ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام. فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية, فما له والاعتراض؟ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ : الولي هو من يواليك ويحبك.. والنصير هو الذي عنده القدرة على أن ينصرك وقد يكون النصير غير الولي.. الحق تبارك وتعالى يقول أنا لكم وليٌّ ونصير أي محب وأنصركم على من يعاديكم. فهو سبحانه ولي عباده, ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم, وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم, أن يشرع لهم من الأحكام, ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم. ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ, عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده, وإيصالهم إلى مصالحهم, من حيث لا يشعرون بلطفه. " أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ"108. ثم ينقل الحق جل جلاله المسلمين بعد أن بين لهم أنه وليهم ونصيرهم.. ينقلهم إلى سلوك أهل الكتاب من اليهود مع رسلهم حتى يتفادوا مثل هذا السلوك فيقول جل جلاله" أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ"والمراد بذلك, أسئلة التعنت والاعتراض, كما قال تعالى"يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً "النساء:153. فبعد أن رأوا المعجزات وشق الله البحر لهم، وعبروا البحر وهم يشاهدون المعجزة فلم تكن خافية عنهم، بل كانت ظاهرة لهم واضحة، دالة دلالة دامغة على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى عظيم قدراته.. ورغم هذا فإن اليهود قالوا لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.. أي لم تكفهم هذه المعجزات.. وكأنما كانوا بماديتهم يريدون أن يروا في حياتهم الدنيوية من لا تدركه الأبصار.. وبمجرد أن عبروا البحر أرادوا أن يجعل لهم موسى صنمًا يعبدونه وعبدوا العجل رغم كل الآيات التي شاهدوها. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ: أي: مَن أخذ الكفر عِوضًا عن الإيمان. فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ: الضلال؟.. هو أن تسلك سبيلًا لا يؤدي بك إلى غايتك.. و سَوَاءَ السَّبِيلِ :السواء هو الوسط ، فقد حادَ عن وسَط الطريق، وانحرَف إلى جوانبه التي تُفضِي به إلى طُرق الهلاك.فيشبهه بالطريق الذي أطرافه وعرة لا تصلح للسير.. ولذلك فإن السير في وسط الطريق يبعدك عن المتاعب والصعوبات. ويريد الله من المؤمنين به أن يسيروا في الطريق الممهد المستقيم ، في وسط الطريق فهم فيه لن يضلوا يمينًا ولا يسارًا بل يسيروا على الطريق المستقيم طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وطريق الإيمان دائما ممهد لا يقودهم إلى الكفر. " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"109. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا: أي: إنَّ كثيرًا من اليهود والنَّصارى يتمنَّون بكلِّ قلوبهم أن يرتدَّ المؤمنون عن دِينهم، فيَكفروا . انظر دقة التعبير القرآني في قوله تعالى" كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ".. فكأن بعضهم فقط ولو كَثر ؛ هم الذين كانوا يحاولون رد المؤمنين عن دينهم وقد سعَوا في ذلك، وأعمَلوا المكايد، كما قال تعالى" وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "آل عمران: 72. وقال سبحانه عن المنافقين"وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً " النساء: 89. حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ: أي: إنَّ تلك الأمنيةَ الصادرة عن كثيرٍ من أهل الكتاب؛ سببُها الحسدُ المتمكِّن والمتأصِّل في نفوسهم، للمؤمنين على ما آتاهم اللهُ تعالى من فَضلِه، بالهداية إلى دِينه القويمِ، والحسد هو تمني زوال النعمة عمن تكره.،وهذا الحسَد إنَّما صدَر منهم بعدَ أن تبيَّن لهم الحقُّ المبِين، أي بعد ما تأكدوا من التوراة ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم. " فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فَاعْفُوا :يقال عفت الريح الأثر أي مسحته وأزالته.. فالإنسان حين يمشي على الرمال تترك قدمه أثرا فتأتي الريح وتعفو الأثر أي تزيله.. ولذلك فإن العفو أن تمحو من نفسك أثر أي إساءة وكأنه لم يحدث شيء. وَاصْفَحُوا :والصفح يعني طي صفحات هذا الموضوع لا تجعله في بالك ولا تجعله يشغلك. فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره. وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر، فكأنه يقول لهم: لا تغرّنّكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فأنتم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، وأهل الحق مؤيدون بعناية الله، ولهم العزة ما ثبتوا عليه. حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ: حتى يأتي نصر الله لكم بمعونته وتأييده. وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بني النضير من المدينة بعد أن غدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين بعد أن عفا عنهم وصفح مرات كثيرات. ثم أكد الوعد السابق بالنصرة بقوله: "إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" أي فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، ويثبتكم بما أنتم عليه من الحق فتتغلبوا على من يناوئكم ويظهر لكم العدوان اغترارا بكثرته، واعتزازا بقوته"وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ". الحج:40. ثم ذكر سبحانه بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدوا به فقال: " وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"110. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: لما في الصلاة من توثيق عرى الإيمان، وإعلاء الهمة، ورفعة النفس بمناجاة الله، وتأليف قلوب المؤمنين حين الاجتماع لأدائها، وتعارفهم في المساجد، وبهذا ينمو الإيمان، وتقوى الثقة بالله، وتتنزه النفس أن تأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتكون أقوى نفاذا في الحق، فتكون جديرة بالنصر وَآتُوا الزَّكاةَ :لما في الزكاة من توكيد الصلة بين الأغنياء والفقراء، فتتحقق وحدة الأمة وتكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تألم له باقي الأعضاء بالحمى والسهر. وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، إلى أن المال شقيق الروح، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله سهل عليه بذل نفسه في سبيل الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته. وبعد أن أبان أن الصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا أردف هذا ببيان أنهما من أسباب السعادة في الآخرة أيضا فقال: "وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ" أي وما تعملوا من خير تجدوا جزاءه عند ربكم يوم توفى كل نفس جزاء عملها بالقسطاس المستقيم. ونحو الآية قوله"فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ". ونسب الوجود إلى العمل والذي يوجد هو جزاؤه، لما للعمل من أثر في نفس العامل، فكأن الجزاء بمثابة العمل نفسه. ثم ختم الآية بما يحثّ المرء على الإحسان في العمل فقال: "إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" فهو عالم بجميع أعمالكم كثيرها وقليلها، لا تخفى عليه خافية من أمركم، خيرا كانت أو شرّا وهو مجازيكم عليها. ولا يخفى ما في هذا من الترغيب والترهيب. </b> |
من آية: 111 إلى 118 "وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارَى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"111. بعد أن بين لنا الله تبارك وتعالى كذب اليهود وطالبهم بالدليل الشرعي على ما قالوه من أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى جاء بحقيقة القضية ليخبرنا جل جلاله من الذي سيدخل الجنة.. فقال"بَلى" وعندما تقرأ"بَلى" اعلم أنها حرف جواب ولابد أن يسبقها كلام ونفي. فساعة يقول لك إنسان ليس لي عليك دين.. إذا قلت له نعم فقد صدَّقْتَ أنه ليس عليه دين.. ولكن إذا قلت بلى فذلك يعني أن عليه دينا وأنه كاذب فيما قاله.. إذن بلى تأتي جوابًا لتثبيت نفي ما تقدم.أي: قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم, وهذا مجرد أماني غير مقبولةإلا بحُجة وبرهان ،لذا أمر الله- تعالى- نبيه بهذا "قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ "أي قل يا محمد- لهؤلاء الزاعمين أن الجنة لهم خاصة من دون الناس، هاتوا حُجتكم على خلوص الجنة لكم، إن كنتم صادقين في دعواكم، لأنه لما كانت دعواهم الاختصاص بدخول الجنة لا تثبت إلا بوحي من الله وليس لمجرد التمني، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يطالبهم بالدليل من كتبهم على صحة دعواهم، وهذه المطالبة من قبيل التعجيز لأن كتبَهم خالية مما يدل على صحتها. هذا، ويؤخذ من الآية الكريمة بطلان التقليد في أمور الدين، وهو قبول قول الغير مجردًا من الدليل، فلا ينبغي للإنسان أن يقرر حكمًا في الدين إلا أن يسنده إلى دليل، كما أنه لا يقبل من غيره قولا إلا أن يكون مؤيدا بدليل. "بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"112. هم قالوا"لَن يَدْخُلَ الجنةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى".. عندما يقول الله لهم بلى فمعنى ذلك أن هذا الكلام غير صحيح.. وأنه سيدخلها غير هؤلاء.. وليس معنى أنه سيدخلها غير اليهود والنصارى.. أن كل يهودي وكل نصراني سيدخل الجنة.. لأن الله سبحانه وتعالى قد حكم حينما جاء الإسلام بأن الذي لا يسلم لا يدخل الجنة.. واقرأ قوله جل جلاله"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخَاسِرِينَ"آل عمران: 85. لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى.. أنه لن يدخلها اليهود ولا النصارى.. لأن القرآن أزلي.. ما معنى أزلي؟.. أي أنه يعالج القضايا منذ بداية الخلق وحتى يوم القيامة.. فالقرآن كلام الله تبارك وتعالى.. فلو أنه قال لن يدخل الجنة إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان في هذا تجاوزٌ.. لأن هناك من آمن بموسى وقت رسالته وعاصره واتبعه وحَسُن دينه وماتَ قبل أن يُدرك محمدًا عليه الصلاة والسلام.. فهل هذا لا يدخل الجنة ويجازَى بحسن عمله.. وهناك من النصارى من آمن بعيسى وقت حياته.. وعاصره ونفذ تعاليمه ومنهجه ثم مات قبل أن يُبْعَثَ محمدٌ عليه الصلاة والسلام.. أهذا لن يدخل الجنة؟.. لا،بل يدخل الجنة وتكون منزلته حسب عمله ويجازى بأحسن الجزاء.. ولكن بعد أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم وجاء الإسلام ونزل القرآن، فكل من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة.. بل ولن يراها.. ولذلك جاء كلام الله دقيقًا لم يظلم أحدًا من خلقه. إذن فقوله تعالى"بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ".. أي لا يدخل الجنة إلا من أسلم وجهه لله وهو محسن.. فقد يسلم واحد وجهه لله ويكون منافقًا يظهر غير ما يُبطن.. نقول إن المنافقين لم يكونوا محسنين ولكنهم كانوا مسيئين. لأن لهم شخصيتين شخصية مؤمنة أمام الناس وشخصية كافرة في الحقيقة أو في قلوبهم. قوله تعالى"مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ"أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ المراد به اتجه إليه، وأذعن لأمره، وأخلص له العبادة، وأصل معناه الاستسلام والخضوع. وخص الله- تعالى- الوجه دون سائر الجوارح بذلك، لأنه أكرم الأعضاء وأعظمها حُرْمَة، فإذا خضع الوجه الذي هو أكرم أعضاء الجسد فغيره من أجزاء الجسد أكثر خضوعا. "وَهُوَ مُحْسِنٌ" أى: مطابق للصواب وهو ما جاء به الشرع الشريف. الصَّلاة من أَجلِّ وأعظمِ العباداتِ التي يتقرَّبُ فيها العبدُ إلى اللهِ تعالى، وكلَّما ازدادَ تَواضُعُ العبدِ وخشوعُه زادَ قُربًا مِن الله، ووضْعُ الوجهِ والأنف في الأرض قمَّةُ التَّواضُع والتَّذلُل، وهنا يكون الدُّعاء من قلبٍ خاشع، ومُتواضِع لله فيكون أقربَ لاستجابةِ الدُّعاء. بعد أن بين الله سبحانه وتعالى جزاء الذين يخربون مساجد الله ويهدمونها.. ويمنعون أن يذكر فيها اسمه والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة أراد أن يذكرنا بأن تنفيذ هذا على مستوى تام وكامل عملية مستحيلة لأن الأرض كلها مساجد. قال صلى الله عليه وسلم" وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ..."صحيح البخاري." فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" أي: إنَّ للمسلمِ وجهَه لله تعالى مُحسِنًا، ثوابَه على ذلك عند الله عزَّ وجلَّ" إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا " الكهف:30.فهم أهل الجَنَّة وحْدهم، آمِنون؛ فلا خوفَ عليهم ممَّا يستقبلونه من أمور الآخِرة، وهم في سُرور دائم؛ فلا يَحزنون على ما فاتهم من أمور الدُّنيا، فحصَل لهم المرغوب، ونجَوْا من المرهوب.والآية ترشد إلى أن الإيمان الخالص لا يكفي وحده للنجاة، بل لا بد أن يقرن بإحسان العمل. "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ"113. أي: ضلَّل وكفَّر بعضُهم بعضًا، فادَّعى أهلُ كلِّ دِينٍ منهم، أنَّ دِين الآخَر باطل، ليس فيه شيءٌ من الحقِّ مطلقًا. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ :أي: والحال أنَّ هؤلاء المدَّعين من اليهود والنصارى، يَقرؤون كتُبَهم ويعلمون ما فيها من الحقِّ، فيقرأ اليهود التوراة، ويقرأ النَّصارى الإنجيل، وكِلا الكِتابينِ شاهدانِ عليهما؛ فهما يقولان بخِلاف ما يقولون؛ فالإنجيل يَتضمَّن صِدقَ موسى وتقريرَ التوراة، والتَّوراة تتضمَّن التبشيرَ بعيسى وصِحَّة نبوَّته، وكِلاهما يتضمَّنان صِدقَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فكيف يدَّعي كلٌّ منهما أنه ليس في دِين الآخر شيءٌ من الحقِّ مطلقًا. " كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ "أي الذين لا يعلمون دينا ولا يعلمون إلها ولا يعلمون أي شيء قالوا مثل هذا القول الذي لم يبن على برهان، فقال الجهلة من عبدة الأوثان لأهل كل كتاب: لستم على شيء ، فاشترك اليهود والنصارى وهم أهلُ كتاب، مع أهلِ الجَهالة في المقالة نفْسها. " فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" فكل فرقة تضلل الفرقة الأخرى, ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل,أي: إنَّ الحَكَم العدل سبحانه وتعالى، يتوعَّد هؤلاءِ المختلِفين- القائِلِ بعضُهم لبعض: لستُم على شيء من الحقِّ- بأن يقضيَ ويَفصِل بينهم في الآخرة ، وأنَّه سيَجزي كلَّ مبطل على باطله؛ فإنَّه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع الأنبياء والمرسلين, وامتثل أوامر ربه, واجتنب نواهيه, ومن عداهم, فهو هالك. "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"114. فالحق جل جلاله بعد أن بين لنا موقف اليهود والنصارى والمشركين من بعضهم البعض ومن الإسلام، وكيف أن هذه الطوائف الثلاث تواجه الإسلام بعداء ويواجه بعضها البعض باتهامات.. فكل طائفة منها تتهم الأخرى أنها على باطل.. أراد أن يحذرهم تبارك وتعالى من الحرب ضد الإسلام ومحاربة هذا الدين فقال" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا" وَمَنْ: الاستفهام هنا للإنكار ويفيد النفي. أَظْلَمُ: والظلم: الاعتداء على حق الغير، بالتصرف فيه بما لا يرضَى به، ويُطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه، والمعنيان واضحان هنا.وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه, فبمفهوم المخالفة: لا أعظم إيمانًا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية, وقد زكى الله سبحانه تعالى مَنْ يعمر مساجد الله "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"التوبة:18. يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: وذكر اسم الله كناية عما يؤدَى فيها من العبادات، إذ لا تكاد عبادة تخلو من ذكر اسمه- تعالى. أي: لا أحد أظلم وأشد جُرمًا, ممن منع مساجد الله, عن ذكر الله فيها, وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات. وَسَعَى : أي: اجتهد وبذل وسعه " فِي خَرَابِهَا " الخراب الحسي والخراب المعنوي، فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها, وتقذيرها،والخراب المعنوي: منع الذاكرين لله منها، وهذا عام, لكل من اتصف بهذه الصفة, فيدخل في ذلك أصحاب الفيل, وقريش, حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية, والنصارى حين أخربوا بيت المقدس, وغيرهم من أنواع الظلمة, الساعين في خرابها, محادة لله, ومشاقة، فجازاهم الله, بأن منعهم دخولها شرعًا وقدرًا, إلا خائفين ذليلين, فلما أخافوا عباد الله, أخافهم الله، فالمشركون الذين صدوا رسوله, لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرًا, حتى أذن الله له في فتح مكة، ومنع المشركين من قربان بيته, فقال تعالى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا " وأصحاب الفيل, قد ذكر الله ما جرى عليهم، والنصارى, سلط الله عليهم المؤمنين, فأجلوهم عنه. وهكذا كل من اتصف بوصفهم, فلا بد أن يناله قسطه, وهذا من الآيات العظيمة, أخبر بها الباري قبل وقوعها, فوقعت كما أخبر. واستدل العلماء بالآية الكريمة, على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد. " لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ "أى: لهم في الدنيا هوان وذلة بسبب ظلمهم وبغيهم " وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " ولهم في الآخرة عذاب عظيم يخلدون معه في النار. وليس هناك أشقى ممنيعيش دنياه في هوان وذلة، ثم ينتقل إلى أخراه فيجد مصيره العذاب الأليم الذي لا يموت فيه ولا يحيا. "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"115. وكأن الآية تومي، إلى أن سعى أولئك الظالمين في منع المساجد من ذكره- تعالى- وتخريبها، لا يمنع من أداء العبادة لله- تعالى-: لأن له المشرق والمغرب وما بينهما، فأينما حل الإنسان وتحرى القبلة المأمور بالتوجه إليها فهناك جهة الله المطلوب منه استقبالها اللام في قوله " وَلِلَّهِ" تفيد معنى الملك. الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ :مكان شروق الشمس وغروبها، والمراد بهما هنا جميع جهات الأرض. أي: إنَّ لله تبارك وتعالى مُلكَ الجِهة التي تطلُع منها الشَّمس، ومُلك الجِهة التي تَغيب منها، وله مُلك جميع ما بينهما من الجِهات والمخلوقات. " إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"وذيلت الآية بقوله "إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ" لإفادة سعة ملكه أو سعة تيسيره على عباده في أمر الدين. أى: إن الله يسع خلقه جميعًا برحمته وتيسيره وجوده وهو عليم بأعمالهم لا يخفى عليه عمل عامل أينما كان وكيفما كان. ثم حكى القرآن بعض الأقاويل الباطلة التي افتراها أصحاب القلوب المريضة فقال تعالى: "وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ"116. "وَقَالُوا " أي: اليهود والنصارى والمشركون, وكل من قال ذلك.فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله. قول المشركين"أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى البنات على البنين"الصافات: 151-153. وقول اليهود "وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله"التوبة: 30. وقول النصارى"وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله"التوبة: 30. وَلَدًا :والولد: يطلق على الذكر والأنثى، والواحد والجمع. سُبْحانَهُ: أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله، فسبحان من له الكمال المطلق, من جميع الوجوه, الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه. ،قال تعالى في سورة الإخلاص:قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ* ومع رده لقولهم, أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال: "بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ"أي: جميعهم ملكه وعبيده, يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك, وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره، فإذا كانوا كلهم عبيده, مفتقرين إليه, وهو غني عنهم, فكيف يكون منهم أحد, يكون له ولدا, والولد لا بد أن يكون من جنس والده, لأنه جزء منه. والله تعالى المالك القاهر, وأنتم المملوكون المقهورون, وهو الغني وأنتم الفقراء، فكيف مع هذا, يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه. والقنوت نوعان: قنوت عام: وهو قنوت الخلق كلهم, تحت تدبير الخالق، وخاص: وهو قنوت العبادة. فالنوع الأول كما في هذه الآية، والنوع الثاني: كما في قوله تعالى"وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ"البقرة:238. "بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ "117. بعد أن بين الله تبارك وتعالى أن قولهم اتخذ الله ولدا هو افتراء على الله أظهر لنا مزيد براهين على تنزيهه وقدرته فقال: "بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أى: خالقهما ومنشئهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق ولا اقتداء. وبلا آلة ولا مادة، وبديع صفة مشبهة من أبدع، والذي ابتدعهما من غير أصل ولا مثال هو الله- تعالى-. وخص السموات والأرض بالإبداع، لأنهما أعظم ما يشاهد من المخلوقات. " وَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" أي: إنَّه سبحانه إذا أراد شيئًا، فحسبُه أن يقول له: كن، فيكون ذلك الشيء على وَفقِ ما يُريد الله تبارك وتعالى، فلا يستعصى عليه, ولا يمتنع منه. "كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشيء كن فيكون. "وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"118. " وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ "أي: قالمُشرِكو العرب وغيرهم: هلَّا أَوحى الله عزَّ وجلَّ إلينا كما أَوحى إلى رُسله؟ أو يكلِّمنا بتصديق رسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؟ أو تأتينا معجزةٌ دالَّة على صِدق ما جاء به؟ وهذا الطَّلب قد صدَر منهم على سبيل التعنُّت والعِناد، وكأن كل المعجزات التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها القرآن الكريم لم تكن كافية لإقناعهم، مع أن القرآن كلام معجز وقد أتى به رسول أمي ، جاء القرآن ليتحدى في أحداث المستقبل وفي أسرار النفس البشرية، وكان ذلك يكفيهم لو أنهم استخدموا عقولهم ولكنهم أرادوا العناد كلما جاءتهم آية كذبوا بها وطلبوا آية أخرى. وإلَّا فقد جاءتْهم آيات كثيرة دالَّة على صِدق بِعثة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومنها القرآن الكريم. ومما في القرآن من أخبار عن المستقبل والتي وقعت كما أخبر بها الرب عز وجل: انتصار الروم على الفرس / انتصار المسلمين في معركة " بدر " /وموت أبي لهب على الكفر/..... *انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم من قبَلهم أول الأمر . قال تعالى " غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ ..." الروم/ 2 – 4 إلى قوله"وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" الروم/ 6. وكلمة " بِضع " في اللغة تدل على ما بين ثلاث وتسع ، وقد جاء انتصار الروم على الفرس بعد سبع سنين من نزول الآية . وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله " وهذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووجدت في زمان من أخبرهم اللّه بها من المسلمين والمشركين ، "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ " أن ما وعد اللّه به حق فلذلك يوجد فريق منهم يكذبون بوعد الله، ويكذبون آياته " انتهى من " تفسير السعدي " ص 636. *انتصار المسلمين في معركة بدر: قال تعالى " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ " القمر/ 45 . قال القرطبي – رحمه الله " وهذا مِن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر " انتهى من " تفسير القرطبي " 17 / 146. *موت أبي لهب على الكفر: قال تعالى" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ " المسد/ 1-3 وفي هذه الآيات إخبارٌ من الله تعالى أن عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا لهب سيموت على الكفر ولن يدخل في الإسلام ، وهو أمر غيبي أوحاه الله لنبيِّه عليه الصلاة والسلام ، وكان بإمكان أبي لهب أن يعلن إسلامه ليكذِّب هذا الخبر – ولو في الظاهر – لكنه لم يفعل ، رغم أن السورة نزلت قبل وفاة أبي لهب بعشر سنوات ، هذه السورة تقرر أن أبا لهب سوف يذهب إلى النار ، أي بمعنى آخر : أن أبا لهب لن يدخل الإسلام ، عشر سنوات كانت لديه الفرصة أن يكذب القرآن بدقيقة واحدة ! ولكن لأن الكلام هذا ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه وحي ممن يعلم الغيب ويعلم أن أبا لهب لن يسلم. وقد أحدثت هذه الآيات وقعًا عظيمًا على بعض الكفار الذين أرادوا البحث في القرآن عن أخطاء ليشككوا المسلمين بكتاب ربِّهم تعالى ، فأبهرتهم هذه الآية - من ضمن آيات كثيرة – فما كان من هذا الراغب بالتشكيك بالقرآن إلا أن يُعلن إسلامه ويصير من الدعاة للإسلام ،وهو الدكتور " جاري ميلر ".وخلال عشر سنوات كاملة كل ما كان على أبي لهب أن يفعله هو أن يأتي أمام الناس ويقول " محمد يقول إني لن أسلم وسوف أدخل النار ولكني أعلن الآن أني أريد أن أدخل في الاسلام وأصبح مسلمًا ، لكنَّ أبا لهب لم يفعل ذلك تماما ، رغم أن كل أفعاله كانت هي مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكنه لم يخالفه في هذا الأمر ؛ لأن الكلام هذا ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه وحي ممن يعلم الغيب ويعلم أن أبا لهب لن يسلم. لَوْلا: كلمة لحضّ الفاعل على الفعل وطلبه منه. كما قال تعالى"وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ "الأنعام: 124. أي: قولهم ذلِك مطابقٌ لقول مَن قَبلهم من الأُمم السابقة من اليَهود والنصارى وغيرِهم. أي ومثل هذه الأسئلة التي يراد بها التعنت لإجلاء الحقيقة، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية، فقد قال اليهود لموسى"أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً"، و"لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ" إلى نحو ذلك، وقالت النصارى "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ"المائدة:112. فهذه أقوال صدرت عنهم للتشهي واتباع الهوى تعنّتا وعنادًا لا للوصول إلى كشف غامض وجلاء حقيقة كما قال تعالى "وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ". الأنعام:7. ثم ذكر السبب في اتحاد مقالهم ومقال من سبقهم فقال: "تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" أي تماثلت قلوب هؤلاء وقلوب من قبلهم في العمى والقسوة والعناد، والألسنة ترجمان القلوب، والقلب إذا استحكم فيه الكفر والعمى لا يجري على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدي، وتعلّات لا تفيد. تفسير المراغي. " قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" أي: قد أَظهَرْنا ووضَّحنا العلاماتِ الدالَّاتِ على صِدق الرُّسل عليهم السَّلام- ومنهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- بما لا يُحتاج معها إلى سؤالٍ آخَر، ولكنْ ذلك لِمَن كان اليقين من خِصالهم الدَّائمة؛ فهم يَتثبَّتون ويستوثقون، ويطلُبون معرفةَ حقائق الأشياء إلى درجة اليقين.فقد بينا للناس الآيات بما لا يدع مجالًا للريب لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان. |
من آية 119 إلى 123 " إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ"119. فقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة ، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته . يحذرهم من كتمان هذا ، وكتمان ما أنعم به عليهم ، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ، من النعم الدنيوية والدينية ، ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم . ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه ، والحيدة عن موافقته ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. تفسير ابن كثير.يُخاطب الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، مؤكِّدًا له بأنَّه قد أرسله بالحقِّ، فبِعثتُه حقٌّ، وما جاء به من عند الله عزَّ وجلَّ حقٌّ، وقد أرسله تعالى لعموم المكلَّفين من الإنس والجن، والحال أنَّه مبشِّر مَن أطاعه بنيل السَّعادة في الدنيا والآخِرة، ومحذِّر ومُخوِّف مَن عصاه بالشَّقاوة في الدُّنيا والآخِرة. بَشِيرًا : أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية، نَذِيرًا : لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي. " وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ" أي: لست مسئولًا عنهم,فليس عليك هدايتهم ولا حسابهم ، إنما عليك البلاغ, وعلينا الحساب. " وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" 120. يُخبر اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّ أهلَ الكتاب من اليهود والنَّصارى لن يرضَوْا عنه حتى يترُكَ دِينَ الإسلام ويَعتنِقَ دِينَهم. " حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله "" حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" حيث أفرد المِلة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" الكافرون:6. " قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى "هم يرَوْن أنَّهم على هُدًى، فأعْلَمه الله تعالى بما يردُّ به على هذا الزَّعم، وهو أنَّ الهُدَى الحقيقيَّ هو هدى الله، الذِي جاء به مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ. وأما ما أنتم عليه, فهو الهوى بدليل قوله تعالى: "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ"إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أن ملة اليهود وملة النصارى أهواء بشرية. والأهواء جمع هوى.. والهوى هو ما تريده النفس باطلًا بعيدًا عن الحق. فقد حرَّفُوا في التوارة والإنجيل بما يناسب أهواءَهم وباطلَهم، فأصبحت ملتُهم قائمةً على الهوى والتحريف وليس بالحق الذي جاء به الله تعالى. فهذا فيه النهي العظيم, عن اتباع أهواء اليهود والنصارى, والتشبه بهم فيما يختص به دينهم، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك، لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب.تفسير السعدي. " بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ "لذا خاطَب اللهُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وأمَّتُه تبعٌ له- محذِّرًا من اتِّباع أهواء أهل الكِتاب، من بعد أنْ آتاه اللهُ من العِلم الذي يدلُّه على الحقِّ، هذا الخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام. المراد به أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتباع رسول الله الذين سيأتون من بعده، وهم الذين يمكن أن تميل قلوبهم إلى اليهود والنصارى.. أما الرسول فقد عصمه الله من أن يتبعهم. "ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ". الإنسان إذا اتبع غير شريعة الله ، فلا أحد يحفظه من الله ولا أحد ينصره من دونه حتى لو كثر في الظاهر ناصروه؛ لأن النصر الحقيقي والولاية تكون باتباع هدى الله - تبارك وتعالى- كما دلت عليه هذه الآية. فإنَّه إنْ فعَل ذلك واتَّبع أهواءَهم، فلن يجدَ حِينها أيَّ أحدٍ يتولَّاه، فيَجلِب له خيرًا، أو أيَّ أَحدٍ ينصُره، فيَدفع عنه شرًّا. " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" 121. ثم أخْبَر تعالى أنَّ مَن اتَّبع كتابه حقَّ الاتِّباع مِن أهل الكِتاب- ومِن اتِّباعه أنَّه لا يُحرِّفه ولا يبدِّل شيئًا ممَّا فيه- فإنَّه يعدُّ مؤمنًا به حقَّ الإيمان، والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله, ويحرمون حرامه, ويعملون بمحكمه, ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب, الذين عرفوا نعمة الله وشكروها, وآمنوا بكل الرسل, ولم يفرقوا بين أحد منهم. فهؤلاء, هم المؤمنون حقًا. وسيؤدِّي به ذلك الاتِّباعُ إلى الإيمان بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ في كتبهم تَصديقًا به، وذِكرًا لصفاته صلَّى الله عليه وسلَّمَ. "وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" وأمَّا مَن يكفُر بكتابه منهم- ومِن كُفره به تحريفُه وتبديلُه، وجحْدُ ما ثبَت فيه من نبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- فأولئك هم الخاسِرون. " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" 122. ثمَّ خاطَب الله تعالى بني إسرائيل وذكَّرهم بنِعمه التي أسْبَغها عليهم، ويعني بها النِّعمَ التي أنعم بها على آبائهم، وأنَّه فضَّلهم على سائرِ الأمم من أهل زَمانهم.موسوعة التفسير/ سورة البقرة/ الدرر السنية. " وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ" 123. ثم بعد أنْ ذكَّرهم بنِعمه وفَضْله عليهم، حذَّرهم وخوَّفهم بأن يتقوا عذاب يوم القيامة، الذي لا تَقضي فيه نفْسٌ عن نفس حقًّا وجَب عليها، ولا يُقبل منها فِداء، ولا تُفيدها شفاعةٌ إذا كانت كافِرة، ولا أحَد يُنقذهم من عذابِ الله تعالى. |
من آية 124إلى127 "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ".124. بعد أن حاجّ اللهُ سبحانه أهلَ الكتابِ وبيّن كفرهم بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة كتبهم به، ذكر هنا الأساس الذي بنى عليه الإسلام والنسب الذي يمتّ به ويحترمه أهل الكتاب ومشركو العرب، وهو ملة إبراهيم ونسبه، فلا فضل إذًا لليهود على العرب بأنهم يمتون بالنسب إلى إبراهيم ودين إبراهيم، إذ النسب واحد والملة واحدة. ابْتَلَى :اختبر.الابتلاء هو الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر. وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ:الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: واذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، و"إِذِ"منصوب بـ"اذكر" مقدَّرًا.إِذْ إذ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بفعل اذكر المحذوف وهو في محل نصب مبنية على السكون في محل نصب مفعولٌ بِهِ ، وكُسرَ حرف الذال لتفادي التقاء ساكنين ، حيث حرف الذال ساكن وما بعدَهُساكن أيضًا. خالد عثمان السبت. وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي ، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية : أب رحيم . قال السهيلي : وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ.إسلام ويب. رَبُّهُ: مرفوعة لأنها فاعل .وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه, وأمر أمره به. وذلك هو " الكلمات"التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا. يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إمامًا للناسِ يُقتدَى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ" أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون مِلَّة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي. "بِكَلِمَاتٍ" قال ابن جرير الطبري"أرجح الآراء في المراد بهذه الكلمات، أنها الأوامر التي كلفه الله بها، فأتى بها - إبراهيم عليه السلام - على أتم وجه.ا.هـ. كلمات الله نوعان: كلمات قدرية كونية ، وهي: ما يُكَوِّن به الكائنات. كلمات شرعية دينية:وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي أمره ونهيه وخبره.الكلمات في هذه الآية هي كلمات شرعية والمعنى أن الله ابتلاه بتكاليف معينة أي بشرائع من أمر ونهي، فقام بها على الوجه المطلوب، وهذا هو المشهور وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري، -رحمه الله- في هذه الآية، "فَأَتَمَّهُنَّ" أى أتى بهن – أي أتى بهذه الكلمات- على الوجه الأكمل، وأداهنَّ أداء تامًا يليق- به- عليه السلام- ولذا مدحه اللهُ بقولِهِ"وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى" النجم: 37. وجيء بالفاء في فَأَتَمَّهُنَّ للدلالة على الفور والامتثال. وذلك من شدة العزم، وقوة اليقين. "قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا" "إِمَامًا"هو الذي يأتمُّ به الناس، فيتبعونه، ويأخذون عنه، من أَمَّ، وأصله: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدِّين.مقاييس اللغة لابن فارس :1/21. فأتم – إبراهيم عليه السلام - ما ابتلاه الله به، وأكمله ووفاه، فشكر الله له ذلك، ولم يزل الله شكورًا فقال"إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا" أي: يقتدون بك في الهُدَى. أي قال إني جاعلك للناس رسولًا يؤتمّ بك، ويقتدَى بهداكَ إلى يومِ القيامةِ، فدعا الناس إلى الحنيفية السمحة وهي الإيمان بالله وتوحيده والبراءة من الشرك، وما زال هذا جاريًا في ذريته، فلم ينقطع منها دين التوحيد، ولأجل هذا وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم. "قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي"فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته، لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضًا من إمامته، ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية. " قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " عَهْدِي : قال السدي "نبوتي"، وقيل: الإمامة ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالمًا من ولدك .ودل مفهوم الآية، أن غير الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها.أي قال أجبتك إلى ما طلبت، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدي بالإمامة لا يناله الظالمون، فأخبره أنه كائن في ذريته ظلمة لا ينالوا عهده، ولا ينبغي أن يولوا شيئًا من أمره وإن كان من ذرية خليله إذ هم لا يصلحون أن يكونوا أئمة وقدوة للناس. والدليل على أنه أجيب إلى طَلَبِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت"وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ"سورة العنكبوت:27.فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه. "وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ125." " وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا" معطوف على قوله- تعالى-"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ" ثم ذكر تعالى، نموذجًا باقيًا دالًّا على إمامة إبراهيم، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركنًا من أركان الإسلام، حاطًّا للذنوب والآثام. وفيه من آثار الخليل وذريته، ما عُرف به إمامته. " الْبَيْتَ" والبيت المقصود به الكعبة. " مَثابَةً لِلنَّاسِ" إما أن يكون المراد أنه محلاً للثواب، أو أنهم يثوبون إليه فيكون ذلك موافقًا لما جاء أو روي عن ابن عباس : لا يقضون منه وطرًا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه، بمعنى أنهم لا يكتفون بزيارة واحدة إليه، بل كلما أتوا إليه ورجعوا إلى أهليهم تاقت نفوسهم إليه ثانية. وابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد جعل ذلك من خصائص مكة، وهذا شيء مشاهد. ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددت إليه كلَّ عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، في قوله"فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ "إبراهيم:37. " وَأَمْنًا" وجعلناه أمنا لاحترام الناس له وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه، حتى كان يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له بسوء ونحو الآية قوله في سورة العنكبوت"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ"العنكبوت:67. أي جعلنا لهم حرمًا يأمنون فيه على دمائهم وأموالهم، على حين أن غيرهم تُشَنّ عليهم الغارات، فيُقْتَلون ويُؤْسَرون وتُسْبَى نساؤهم وذراريهم، وتُنْهب أموالهم .يعني العرب ، يسبي بعضهم بعضًا ، وأهل مكة آمنون. " وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" يحتمل أن يكون المراد بذلك، المقام المعروف الذي قد جعل الآن، مقابل باب الكعبة، فمقام إبراهيم: هو الحَجَر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار. وأن المراد بهذا، ركعتا الطواف، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم، وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردًا مضافًا، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر، وغير ذلك من أفعال الحج. " وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى"بفتح الميم اسم المكان الذي قام إبراهيم فيه ليرفع القواعد من البيت ويوجد فيه الحجر الذي وقف إبراهيم عليه وهو يرفع القواعد. ولكن لماذا أمرنا الله بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ لأنهم كانوا يتحرجون عن الصلاة فيه.. فالذي يصلي خلف المقام يكون الحجر بينه وبين الكعبة.. وكان المسلمون يتحرجون أن يكون بينهم وبين الكعبة شيء فيخلون من الصلاة ذلك المكان الذي فيه مقام إبراهيم.. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ وسؤال عمر ينبع من الحرص على عدم الصلاة وبينه وبين الكعبة عائق وهم لا يريدون ذلك ولما رأى عمر مكانا في البيت ليس فيه صلاة يصنع فجوة بين المصلين أراد أن تعم الصلاة على البيت.. فنزلت الآية الكريمة. قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، وافَقْتُ رَبِّي في ثَلَاثٍ: فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" صحيح البخاري. وهذا الحَديثُ مِن أجَلِّ مَناقِبِ عُمَرَ بن الخطَّاب رَضيَ اللهُ عنه وفضائِلِه، وفيه يقولُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه"وافقْتُ ربِّي في ثلاثٍ" وما أحسَنَ عبارَتَه وألْطَفَها! حيثُ راعَى فيها حُسْنَ الأدبِ؛ فَلَم يَقُلْ: وافَقَني ربِّي في ثلاثٍ؛ لأنَّ الآياتِ إنَّما نَزَلَت مُوافِقةً لرَأْيِه واجتِهادِه. الأُولى: أنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه قال: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى؟ فنزَلَتْ" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى"البقرة: 125، أي: فاتَّخِذوا أيُّها الناسُ مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصلًّى تُصَلُّون عِندَه؛ عِبادةً منكم للهِ تَعالى، وتَكرمةً لإبراهيمَ عليه السَّلامُ مِن اللهِ سبحانَه، وذلك عَقِبَ الانتهاءِ مِن الطَّوافِ بالكَعبةِ؛ فيَكون المَقامُ بيْنَ البَيتِ وبيْنَ المُصلِّي، ومَقامُ إبراهيمَ هو مَوضِعُ قيامِه، وهو الحَجَرُ الَّذي كان يَقِفُ عليه إبراهيمُ عليه السَّلامُ عندَ بِنائِه لِلكَعبةِ، وفيه أثَرُ قَدَمِه عليه السَّلامُ، ومَكانُه مَعروفٌ الآنَ إلى جانبِ الكعبةِ.الدرر. "وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" أي: أوْحَيْنا إليهم بوصيةٍ مؤكَّدة، أمرناهما فيها بتطهير بيت الله تعالى من الشِّرك، والكُفر والأوثان، ومِن الرِّجس والنَّجاسات، وأنْ يَبْنِياه بِنيَّةٍ خالصةٍ لله عزَّ وجلَّ. ." بَيْتِيَ" هَذِهِ إضافَةُ تَشْرِيفٍ، لا أنَّ مَكانًا مَحَلٌّ لِلَّهِ تَعالى، ولَكِنْ لَمّا أمَرَ بِبِنائِهِ وتَطْهِيرِهِ وإيفادِ النّاسِ مِن كُلِّ فَجٍّ إلَيْهِ، صارَ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصاصٌ، فَحَسُنَتْ إضافَتُهُ إلى اللَّهِ بِذَلِكَ، وصارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ"ناقَةُ اللَّهِ"الأعراف : 73 . ليكون "لِلطَّائِفِينَ" فيه "وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" أي: المصلين، قدم الطواف، لاختصاصه بالمسجد الحرام ، ثم الاعتكاف، لأن من شرطه المسجد مطلقًا، ثم الصلاة، مع أنها أفضل، لهذا المعنى. وفي الآية إيماء إلى أن إبراهيم كان مأمورًا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل على معرفة الطريق التي كانوا يؤدونها بها. " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"126. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ:أي: واذكُروا دعوة إبراهيم عليه السَّلام بحلول الأمْن الدَّائم للبلد الأمين: مكَّةَ. أي قال: رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة، وهذا دعاء منهلذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش ،أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد. عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال:قال صلى الله عليه وسلم"إنَّ إبْراهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ودَعا لَها، وحَرَّمْتُ المَدِينَةَ كما حَرَّمَ إبْراهِيمُ مَكَّةَ، ودَعَوْتُ لها في مُدِّها وصاعِها مِثْلَ ما دَعا إبْراهِيمُ عليه السَّلامُ لِمَكَّةَ."الراوي : عبد الله بن زيد - المحدث : البخاري- المصدر : صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 2129-خلاصة حكم المحدث : صحيح. وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ حرَّمَ مكَّةَ بِتَحريمِ اللهِ، ودَعا لَها، ومعْنى تَحريمِها: أنْ يَأمَنَ فيها كلُّ شَيءٍ على نفْسِه، حتَّى الحيوانُ فلا يُصادُ، وحتَّى الشَّجرُ فلا يُقطَعُ، إلَّا ما يَزرَعُه الآدميُّ بنفْسِه، وألَّا يُحدِثَ فيها إنسانٌ حَدَثًا يُخالِفُ دِينَ اللهِ، أو جُرمًا، أو ظُلمًا، أو يَقترِفَ حَدًّا. وأخذ العلماء من هذه الآية أن من دخل مكة وقد ارتكب حدًا فإنه لا يقام عليه الحد بمكة، وإنما يخرج من الحرم ثم يقام عليه الحد، أو يُلجأ إلى الخروج ثم يقام عليه الحد، وكان الرجل في الجاهلية يلقى قاتل أبيه وأخيه، فلا يحرك ساكنًا حتى يخرج من الحرم. وأما من فعل الجريمة في الحرم كأن يزني في الحرم، أو يسرق، أو يقتل، فيقام عليه الحد في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فالذي يزني في الحرم يقام عليه الحد، والذي يزني في مكة أو يقتل أو يسرق، تقطع يده في مكة، ويجلد في مكة أو يرجم، ويقتل في مكة؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم.وهذا بخلاف الذي يأتي إليه من الخارج وقد فعل جناية خارج مكة ثم دخل مكة، فهذا لجأ إلى مكة عائذًا، فهو مُعظم للحرم، فيخرج من الحرم ثم يقام عليه الحد.تفسير سورة البقرة للشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ: أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو مشاهد، وقد جاء في سورة القصص"أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ"القصص:57. مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ :ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين، تأدبًا مع الله، إذ كان دعاؤه الأول، فيه الإطلاق، فجاء الجواب فيه مقيدًا بغير الظالم. "قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" فلما دعا لهم بالرزق، وقيده بالمؤمن، وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر، والعاصي والطائع، قال تعالى"وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا " أي: أرزقهم كلهم، مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر، فيتمتع فيها قليلا "ثُمَّ أَضْطَرُّهُ"أي: أُلْجِئَهُ وأُخرجه مُكْرَهًا " إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" يسوقهم إلى عذاب النار سوقًا اضطراريًّا لا اختيار لهم فيه. "وإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " 127. بعد أن ذكّر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطني هذا البلد الحرام واستجابته تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تُجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهلُه، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيتَهُ للطائفين والعاكفين والركّع السجود، تنبيهًا لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة. انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدّعِي أنها على مِلة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش. " يَرْفَعُ "فعل مضارع، والمضارع للحاضر، أو للمستقبل، ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال، كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم " رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل، في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس، واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء، حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما، حتى يحصل فيه النفع العميم. وتصدير الدعاء بندائِهِ - سبحانه - باسم الرب المضاف إلى ضميرها مظهر من مظاهر خضوعهما، وإجلالهما لمقامِهِ، والخضوع له - سبحانه -، وإجلال مقامِهِ من أسنى الآداب التي تجعل الدعاء مستجاب . "إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "أي ربنا أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالِنا. وفي الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأدّاها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك - فعليه أن يتضرّع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبًا ولا يضيع سعيه سُدى، كما أنه لا ينبغي أن يجزم بأن عبادته متقبّلة، ولولا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة. قال صلى الله عليه وسلم " ............فَجَاءَ فَوَافَقَ إسْمَاعِيلَ مِن ورَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا له، فَقالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ له بَيْتًا، قالَ: أَطِعْ رَبَّكَ، قالَ: إنَّه قدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عليه، قالَ: إذَنْ أَفْعَلَ، أَوْ كما قالَ: قالَ فَقَاما فَجَعَلَ إبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويقولَانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ"البقرة: 127. قالَ: حتَّى ارْتَفَعَ البِنَاءُ، وضَعُفَ الشَّيْخُ عن نَقْلِ الحِجَارَةِ، فَقَامَ علَى حَجَرِ المَقَامِ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويقولَانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ"البقرة: 127. الراوي : عبدالله بن عباس -صحيح البخاري. وضَعُفَ الشَّيْخُ عن نَقْلِ الحِجَارَةِ : شَرَعا في البِناءِ حَتَّى رَفَعا الأُسُسَ الَّتي يَقومُ عليها البَيْتُ. فَجَعَلَ إسْماعيلُ عليه السَّلامُ يَأْتي بالحِجارةِ، وإبْراهيمُ عليه السَّلامُ يَبْني، حَتَّى إذا ارْتَفعَ البِناءُ وعَلا وأصْبَحَ لا تَطولُه يَدُه، جاءَ بِهذا الحَجَرِ، فَقامَ ووَقَفَ عليه إبراهيمُ عليه السَّلامُ، وإسْماعيلُ عليه السَّلامُ يُناوِلُه الحِجارةَ، وهُما يَقولانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" |
من آية 128إلى 129 " رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "128. أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل, في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس، واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء، حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما، حتى يحصل فيه النفع العميم.دعوا لأنفسهما، وذريتهما بالإسلام، الذي حقيقته، خضوع القلب، وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح. أي ربنا واجعلنا مخلصين لك في الاعتقاد بألَّا نتوجه بقلبنا إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك لا اتباع الهوى ولا إرضاء الشهوة. " وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ " أي واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة، وقد أجاب الله دعاءهما وجعل في ذريتهما الأمة الإسلامية وبعث فيها خاتم النبيين. ومما سلف تعلم أن المراد بالإسلام الانقياد والخضوع لخالق السموات والأرض، وليس المراد منه الأمة الإسلامية خاصة حتى يكون كل من يولد فيها ويلقب بهذا اللقب ينطبق عليه اسم الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم صلوات الله عليه. "وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا " يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها, كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك: التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج, تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما, يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل الصالح، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى التوبة قالا" وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" وقيل لقد طلبا من الله تبارك وتعالى التوبة والرحمة لذريتهما. هذا منهما إرشاد لذريتهم، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله. " إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" أي إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم لحسن العمل وقبول ذلك منهم، الرّحيم بالتائبين المنجّى لهم من عذابك وسخطك.فأنت وحْدَك سبحانك التوَّاب؛ بتوفيقِ عبدك للتوبة أولًا، وقَبولها منه ثانيًا، وأنت وحْدَك الرَّحِيم؛ فتختصُّ برحمتك عبادَك المؤمنين. الفرق بين التوبة والاستغفار: التوبة: تتضمن أمرًا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا ، فالندم على الماضي والإقلاع عن الذنب في الحاضر والعزم على عدم العودة في المستقبل . والاستغفار : طلب المغفرة ، وأصله : ستر العبد فلا ينفضح ، ووقايته من شر الذنب فلا يًعاقب عليه ، فمغفرة الله لعبده تتضمن أمرين : ستره فلا يفضحه ، ووقايته أثر معصيته فلا يؤاخذ عليها ، وبهذا يعلم أن بين الاستغفار والتوبة فرقًا ، فقد يستغفر العبد ولم يتب كما هو حال كثير من الناس ، لكن التوبة تتضمن الاستغفار من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ختمُ الأعمال الصالحة بالاستغفار: قال تعالى في آيات الحجِّ" ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "البقرة : 199، والمراد بالإفاضة هنا أي إلى منى يوم العاشر من ذي الحجة ، حيث يقوم الحاجُّ بإكمال أعمال حجهم التي هي خاتمة أعماله . قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية مبينًا أنَّ الحكمة من ذلك ليكون جابرًا لما حصل من العبد من نقص، ولما وقع منه من خلل أو تقصير : فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذِكْرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنَّة الجسيمة، وهكذا ينبغي للعبد كلَّما فرغ من عبادة أن يستغفرَ الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمَن يرى أنَّه قد أكملَ العبادةَ ومَنَّ بها على ربِّه، وجعلت له محلاًّ ومنزلةً رفيعة، فهذا حقيق بالمقت ورد العمل كما أنَّ الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر. اهـ. من توضأ فأحسن الوضوءَ ثم قال : أشهد أن لا إله َ الا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه . اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فُتحت له ثمانيةُ أبوابِ الجنةِ، يدخل من أيّها شاءَ" الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي . والحكمة من الاستغفار بعد الوضوء، أشار إليها ابن قاسم الحنبلي في حاشيته على الروض المربع: ...... والتوابون جمع تواب، صيغة مبالغة وهو كثير التوبة، والمتطهر الذي لا ذنب له،لما كان الوضوء طهارة الظاهر، ناسب ذكر طهارة الباطن بالتوحيد والتوبة، وهما أعظم المطهرات، وإذا اجتمع له الطهوران، صلح للدخول على الله، والوقوف بين يديه، ومناجاته.انتهى. وقد ثبت في صحيح مسلم: "كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذَا انْصَرَفَ مِن صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ. قالَ الوَلِيدُ: فَقُلتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: كيفَ الاسْتِغْفَارُ؟قالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ."الراوي : ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - صحيح مسلم. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ختم مجالسه بالاستغفار: كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ ، يقولُ : بآخِرٍ إذا أرادَ أن يقومَ منَ المَجلسِ : سُبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ ، أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا أنتَ ، أستَغفِرُكَ وأَتوبُ إليكَ فقالَ رَجلٌ : يا رسولَ اللَّهِ ، إنَّكَ لَتقولُ قولًا ما كُنتَ تقولُهُ فيما مَضى . قالَ : كفَّارةٌ لما يَكونُ في المَجلسِ" .الراوي : أبو برزة الأسلمي نضلة بن عبيد - المحدث : الوادعي. بل لقد ختم عليه الصلاة والسلام حياتَه العامرةَ بتحقيق العبودية وكمال الطاعة بالاستغفار، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مُسنِدٌ إليها ظهرَه يقول : " كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يتعَوَّذُ بِهَؤلاءِ الكلِماتِ أذهبِ البأسَ ربَّ النَّاسِ واشفِ أنتَ الشَّافي لا شفاءَ إلَّا شفاؤُكَ شفاءً لا يغادِرُ سَقمًا فلمَّا ثقُلَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في مَرضِهِ الَّذي ماتَ فيهِ أخَذتُ بيدِهِ فجعَلتُ أمسَحُهُ وأقولُها فنَزَعَ يدَهُ مِن يدي ثمَّ قالَ اللَّهُمَّ اغفِر لي وألحِقني بالرَّفيقِ الأعلَى قالَت فَكانَ هذا آخرَ ما سَمِعْتُ مِن كلامِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ " الراوي : عائشة أم المؤمنين - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه. قال صلى الله عليه وسلم "طوبَى لِمَن وجَدَ في صَحيفَتِه استِغفارًا كثيرًا"الراوي : عبدالله بن بسر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه. فحري بالمؤمن أن يُلازم الاستغفار وأن يكثر منه ، ولا سيما في ختام الطاعات جبرا لما فيه من نقص ، وتتميما لطاعته وعبادته ، وليفوز بثواب المستغفرين وكريم مآبهم ، ونسأل اللهَ - جلَّ وعلا - أن يجعلنا من عباده التوابين الأوّابين المستغفرين ، وأن يتوب علينا إنَّه هو التواب الرحيم الشيخ عبد الرزاق البدر. "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" 129. دعاء إبراهيم عليه السلام الله سبحانه وتعالى ليتم نعمته على ذريته ويزيد رحمته على عباده.. بأن يرسل لهم رسولًا يبلغهم منهج السماء حتى لا تحدث فترة ظلام في الأرض تنتشر فيها المعصية والفساد والكفر ويعبد الناس فيها الأصنام كما حدث قبل إبراهيم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ:أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام ربَّهما، بأنْ يبعث رسولًا من ذُريتهما، أي: من العرَب.وَهَذِهِ دَعْوَة إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل لِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة. قال تعالى"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"الجمعة:2. استجاب الله تعالى دُعاءَهما، فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ يَعْرِفُونَ وَجْهه وَنَسَبه ، ويكونوا أعزّ به، وأقرب لإجابة دعوته، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانه وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوّة النبي. يُخْرِجهُمْ مِنْ الظُّلُمَات إلَى النُّور ، وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاط الْعَزِيز الْحَمِيد .فرسولنا الكريم هو استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبشرى عيسى عليه السلام . قال تعالى " وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ" الصف: 6. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ: أي يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من الآيات التي تنزلها سبحانك عليه، لفظًا، وحفظًا، وتحفيظًا. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ: .. يجب أن نعرف أن هناك فرقا بين التلاوة وبين التعليم. فالتلاوة هي أن تقرأ القرآن، أما التعليم فهو أن تعرف معنى الآيات وما جاءت به لتطبقه وتعرف من أين جاءت.. وإذا كان الكتاب هو القرآن الكريم فإن الحكمة هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال الحق سبحانه وتعالى فيها في خطابه لزوجات النبي"واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة"الأحزاب: 34. وقوله تعالى"وَيُزَكِّيهِمْ" ويطهرهم ويقودهم إلى طريق الخير وتمام الإيمان. وقوله جل جلاله" إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" أي العزيز الذي لا يغلب لجبروته وقوته الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك. فالعزيز من أسماء الله تعالى الحسنى، والعزّة التي هي صفة لله لها ثلاث معان: عزة القوة والامتناع ، فممتنع أن يناله أحد من المخلوقات لقوته سبحانه . وعزة القهر ؛ أي قَهَرَ جميع الموجودات ،وعزة الغلبة ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته. ،. وكلها لله تعالى على أتم وجه وأكمله. الْحَكِيمُ :الذي لا يصدر منه الشيء إلا بحكمة بالغة.فلا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. معنى الحِكْمَة اصطلاحًا: قال أبو إسماعيل الهروي: الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه. منازل السائرين: للهروي :ص 78. وقال ابن القيِّم: الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي. مدارج السالكين: لابن القيم :2/449. فحكمة الله من الغيبيات وقد تكون ظاهرة في بعض الأشياء إلا أنها تغيب عنا في أشياء أخر ونحن مأمورون أن نؤمن بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى ومن أسمائه الحكيم، ومن صفاته الحكمة فما من شئ خلقه إلا لحكمة وما من عطاء يعطيه إلا لحكمة وما من منع منعه إلا لحكمة وما من تأخير مصلحة ظاهرة أو تفويتها إلا لحكمة وما من تعجيل شر ظاهر إلا لحكمة. وقد ختم إبراهيم دعواته بالثناء على ربه، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه. وقد أجاب الله دعاءه وجعل منهم أمة كانت خير الأمم، سادت العالم وملكت المشارق والمغارب ردحا من الزمان، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق بلائهم، وعظيم سياستهم للشعوب التي انضوت تحت لوائهم، بما لم تجارهم فيه أرقى الأمم مدنية في عصرنا، عصر الرقي والحضارة. قال تعالى" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ "110. |
من آية 130إلى 136 "وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ"130. ما ملة إبراهيم؟ إنها عبادة الله وحده لا شريك له . بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهنّ، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة، فصدَعَ بما أُمر، أردَفَ ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذلّ نفسه واحتقرها. "وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ " رغب في الشيء: أحبه وأراده ، ورغب عن كذا أي كرهه وأعرض عنه وصَدَّ عنه ، سَفِهَ نَفْسَهُ: أذلّها واحتقرها، والذين يصدُّون عن ملة إبراهيم ويرفضونها هؤلاء هم السفهاء الجهلة، فلا يرغب عنها إلا سفيه يُعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته. لذلك قال عنهم الله سبحانه وتعالى"إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ".. دليل على ضعف الرأي وعدم التفرقة بين النافع والضار.. فعندما يكون هناك من ورثوا مالًا وهم غير ناضجي العقل لا يتفق عقلهم مع سنهم نسميهم السفهاء.. والسفيه هو من لم ينضج رأيه ولذلك تُنقل قوامته على ماله إلى ولي أو وصي؛ لأنه بِسَفَهِهِ غيرُ قادر على أن ينفق المال فيما ينفع. وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ: أي اخترناه وأصل الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وهي خالصه.أي ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ : وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة.وَالصَّالِح مِنْ بَنِي آدَم هُوَ الْمُؤَدِّي حُقُوق اللَّه عَلَيْهِ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره عَنْ إبْرَاهِيم خَلِيله أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا لَهُ صَفِيّ , وَفِي الْآخِرَة وَلِيّ , وَإِنَّهُ وَارِد مَوَارِد أَوْلِيَائِهِ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ ، المشهود لهم بالخير والصلاح الذين لهم أعلى الدرجات. " إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"131. ثم بين الله تعالى كمال استقامة إبراهيم التي رفعته إلى المنازل العليا،إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ : أي: أمَر الله تعالى خليلَه إبراهيمَ عليه السَّلام حين اصطفاه، بأن يُخلص دِينَه وتوحيدَه له سبحانه، وينقادَ إليه بكل ذلٍّ وخضوعٍ ومَحبَّة، فأجاب إبراهيمُ إلى ذلك على الفوروقالأَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي:استجاب إخلاصًا وتوحيدًا, ومحبة, وإنابة لله فكان التوحيد لله نعته. فأجاب إبراهيم إلى ذلك شرعًا وقدرًا .فلم يَدْعُ معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه. فإرادة الله تعالى تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إرادة كونية قدرية، وهي التي بمعنى المشيئة، وضابط هذا القسم أمران : 1. أنها لابد أن تقع. 2. أنها قد تكون مما يحبه الله تعالى، وقد تكون مما لا يحبه الله. ومثال هذا القسم: قوله تعالى عن نوح عليه السلام"وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"هود:34. القسم الثاني : إرادة دينية شرعية : وهي التي بمعنى المحبة . وضابط هذا القسم أمران أيضًا: 1. أنها قد تقع وقد لا تقع. 2. أنها لا تكون إلا مما يحبه الله تعالى ويرضاه. "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"132. وبعد أن بين الله- تعالى- أن إبراهيم- عليه السلام- كان كاملا في نفسه، أتبع ذلك ببيان أنه كان- أيضًا- يعمل على تكميل غيره، ودعوته إلى توحيد الله تعالى. فوصى إبراهيم بنيه باتباع ملته،وجعلها كلمة باقية في عقبه, وتوارثت فيهم, حتى وصلت ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام فوصى بها بنيه.ويعقوب كذلك أوصى بنيه باتباعها، فقال كل منهما لأبنائه: "يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ " أي: اختاره وتخيره لكم, رحمة بكم, وإحسانًا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا بأخلاقه, فاثبتوا على الإسلام. واستقيموا على أمره حتى يدرككم الموت وأنتم مقيمون على هذا الدين الحنيف. "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه."الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم. فإنَّ الكَريمَ قدْ أجْرى سُنَّتَه بكَرَمِه أنَّه مَن عاشَ على شَيءٍ ماتَ عليه، ومَن ماتَ على شَيءٍ بُعِثَ عليه،والحاج يبعث ملبيًّا ، هل يتعدى الحكم هذا إلى غيره مثلا من مات مصليًّا أو من مات مثلًا في الراتبة؟ الشيخ العثيمين : والله يرجى له ذلك لكن ما نجزم بهذا الشيء،لأن القياس في العبادات أو في الثواب فيه نظر.ومَن ماتَ على شَيءٍ بُعِثَ عليه :يعني من التوحيد والإخلاص ولا يلزم منه أنه إذا مات مصليا فإنه يبعث مصليًا وإذا مات طالب علم فإنه يبعث طالب علم لكن يرجى ذلك إن شاء الله. العثيمين. " فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ "أي فحافظوا على الإسلام لله ولا تفارقوه بُرهة واحدة، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم. وفي هذا النهى إيماء إلى أنّ من كان منحرفًا عن الجادّة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الدين، خيفة أن يموت وهو على غير هدى، فالمرء مهدّد في كل آن بالموت. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني وفي هذا حثٌّ على دَوامِ عَملِ الصَّالحاتِ والخيراتِ؛ فإنَّه لا يَدْري أحدٌ متَى يموتُ. ثم أكد أمر الوصية وزاده تقريرًا، وأقام الْحُجَّةَ على أهلِ الكتابِ فوجَّهَ إليهمُ الخطابَ وقالَ: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"133. ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال تعالى منكرا عليهم" أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ " أي: هل كنتم يا معشرَ اليهود، المكَذِّبين بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، شهودًا حاضرين -يريد ما كنتم شهداء حضورًا. -حين أتتْ أباكم يعقوبَ عليه السَّلام مقدِّماتُ الموت فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به" مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي " ؟ فأجابوه بما قرت به عينُه فقالوا"نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا "أي: أجاب أبناءُ يعقوبَ عليه السَّلام أباهم بأنَّهم يعبُدون معبودَه ومعبودَ آبائه- وهم: جَدُّه إبراهيم، وعمُّه إسماعيل - والعرب تُسمِّي العمَّ أبًا كما تُسمِّي الخالةَ أمًّا ، وأبوه إسحاق- وهو الذي لا مَعبودَبحقٍّ سواه، لا يُشرِكون به في عبادته أحدًا من دونه. فلا نشرك به شيئًا, ولا نعدل به أحدًا، " وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " أي: مُستسلِمون ومنقادون لأمْره، خاضِعون لعبادتِه . فجمعوا بين التوحيد والعمل. ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم لم يُوجَدُوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.تفسير السعدي. "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " 134. ثم حذر الله- تعالى- أهل الكتاب من ترك طاعته اتكالًا على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين . تِلْكَ إشارة إلى إبراهيم وبنيه، أي أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر، ولا تُسألون يوم القيامة عن أعمالهم في الدنيا فلا يقال لكم على وجه المحاسبة لم عملوا كذا وإنما ستُسألون عن أعمالكم وحدها فأصلحوها وحسنوها، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي هو دعوة إبراهيم- عليه السلام- وعلى دينه وملته. "وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "135. دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم, زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال. أي وقالت اليهود: لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها، لأن نبيهم موسى أفضل الأنبياء، وكتابهم أفضل الكتب، ودينهم خير الأديان، ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: لا يتقبل الله إلا النصرانية لأن الهداية خاصة بها، إذ عيسى أفضل الأنبياء وكتابهم أجلّ الكتب، ودينهم خير الأديان، وقد كفروا بموسى والتوراة ومحمد والقرآن، ولو صحّ ما تقولون: لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، وأنتم جميعًا متفقون على أنه سيد المهتدين وإمامهم" هُودًا أَوْ نَصَارَى: أَوْ: للتنويع، ومن ثمّ ردّ الله عليهم بقوله" قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" أي قل يا محمد : بل نتبع ملة إبراهيم ، حَنِيفًا: أي: مائلًا عن الدِّين الباطل إلى الدِّين الحقِّ، أي: مسلمًا مستقيمًا، وأصل الحنف: الميل. وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:أي ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم.وفي هذا تعريض بأهل الكتاب وبيان بطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم لقولهم عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. وبعد أن أمر الله نبيّه أن يدعو الناس إلى اتباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال: " قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" 136. أي قولوا آمنا بالله ، وبماأنزل إلينا بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلًا ،وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملًا، ونص على أعيان من الرسل :إبراهيم عليه السلام وابناه: إسماعيل وإسحاق ، ويعقوب ابن إسحاق ، والأسباط: وسبط الرجل ولد ولده، والأسباط: هم حفدة يعقوب وذراري أبنائه الاثنى عشر، والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى: يعني يؤمنوا بالمعجزات المؤيدة له والتوراةغير المحرفة. وَعِيسَى: يعني يؤمنوا بالمعجزات المؤيدة له والإنجيل غير المحرف. وأَجْمَلَ ذكرَ بقية الأنبياء بقوله" وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ " دخل فيها كل النبييبن لأنه ما أوتوا من وحي هو إيتاء . يلاحظ أنهذه الآية فيها إنزالوإيتاء ، الإنزال يأتي من السماء ويستعمل للكتب ، أما الإيتاء فهو يستعمل للكتب وغيرها مثل إعطاء النبوة أو الملك أو المعجزات أو غيرها من العطايا الإلهية. .وبالعودة إلى قصة موسى بالقرآن عمومًا نجد أن حُجَجَ موسى - عليه السلام - لم تكن في الكتاب وإنما جاءه الكتاب بعدما أوتي المعجزات ، وللعلم فإنه لم يرد في القرآن كلمة "أُنْزِلَ" مطلقًا لموسى في القرآن كله وإنما استعملت كلمة "أُوتِي" لموسى. أما بالنسبة للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء في القرآن "وَلَقَدْآتَيْنَاكَسَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ"الحجر: 87 . وجاء أيضًا "وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَاأُنزِلَ إِلَيْكَ"البقرة : 4 . د.فاضل السامرائي بتصرف. وقال سليمان بن حبيب : إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ، ولا نعمل بما فيهما .تفسير ابن كثير. "مِنْ رَبِّهِمْ " إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده, أن ينزل عليهم الكتب, ويرسل إليهم الرسل, فلا تقتضي ربوبيته, تركهم سُدى ولا هَمْلًا. والرسل كلهم على منهاج واحد في الدعوة إلى توحيد الله، والعمل بطاعته ، والرسل لا يدعون إلا إلى الخير, ولا ينهون إلا عن كل شر، وكل واحد منهم, يصدق الآخر, ويشهد له بالحق, من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله ، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم ، بل يؤمنوا بهم كلهم ، وبنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة لرب العالمين، فلا نكذّب أحدًا منهم فيما ادّعاه ودعا إليه في عصره، بل نصدق بذلك تصديقًا جمليًا ولا يضيرنا تحريف بعض وضياع بعض، فإن التصديق التفصيلي إنما يكون لما أنزل إلينا فحسب. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ."صحيح البخاري. رَسولُ اللهِ مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو خاتَمُ الأنْبياءِ والمُرسَلينَ، صَلَواتُ اللهِ عليهم أجمَعينَ، بعَثَه اللهُ سُبحانَه ليُتِمَّ به البِناءَ الإيمانيَّ، والهَدْيَ الرَّبَّانيَّ؛ فبِه اكتمَلَ للإنْسانيَّةِ النُّورُ الَّذي يُضيءُ لها طَريقَ السَّعادةِ، واكتمَلَتْ مَكارِمُ الأخْلاقِ ودَعائِمُ الحَقِّ والعَدلِ، وخُتِمتْ به النُّبوَّةُ. فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنِّسبةِ إلى الأنْبياءِ السَّابِقينَ كاللَّبِنةِ المُتَمِّمةِ لذلك البِناءِ؛ لأنَّ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَمالَ الشَّرائِعِ السَّابِقةِ، وليس مَعنى هذا أنَّ الأدْيانَ السَّابِقةَ كانت ناقِصةً، وإنَّما المُرادُ أنَّه وإنْ كانت كُلُّ شَريعةٍ كامِلةً بالنِّسبةِ إلى عَصرِها مبشرة به عليه الصلاة والسلام، فإنَّ الشَّريعةَ المُحَمَّديَّةَ هي الشَّريعةُ الأكمَلُ والأتَمُّ الناسخة لما سبق ، وكَونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمَ النَّبيِّينَ، أي: لا نَبيَّ بعْدَه. الدرر السنية بتصرف. عن أبي هريرة قال:كانَ أهْلُ الكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بالعِبْرَانِيَّةِ، ويُفَسِّرُونَهَا بالعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ، وقُولوا: "آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا"البقرة: 136. الآيَةَ.صحيح البخاري. أَنزَلَ اللهُ سُبحانَه وتعالَى القُرآنَ حاكِمًا على ما سبَقَه مِن كُتبٍ وشَرائعَ؛ فشَريعتُه وأحْكامُه قاضيةٌ على كلِّ ما سبَقَه مِن شَرائعَ، وقدْ طالَت أيْدي التَّحْريفِ ما سبَقَه مِن كتُبٍ سَماويَّةٍ، فحرَّفَ اليَهودُ التَّوراةَ، وحرَّفَ النَّصارى الإنْجيلَ وزادوا التَّوْراةَ تَحريفًا. وفي هذا الحَديثِ يُحذِّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه مِن الاغْتِرارِ بما يَرْويه أهلُ الكِتابِ مِن كتُبِهم، فيُخبِرُ أبو هُرَيْرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ اليَهودَ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانوا يَقرَؤونَ التَّوْراةَ بالعِبْرانيَّةِ، يَعني اللُّغةَ العِبْريَّةَ، وهي لُغةُ اليَهودِ، ويُفسِّرونَها ويُتَرجِمونَها لأهلِ الإسْلامِ بالعَربيَّةِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"لا تُصدِّقوا أهلَ الكِتابِ ولا تُكَذِّبوهم"، وهذا فيما لا يُعرَفُ صِدقُه مِن كَذِبِه؛ وذلك لأنَّ اللهَ تعالَى أمَرَنا أنْ نؤمِنَ بما أنزَلَ إلينا منَ القُرآنِ، وما أنزَلَ إليهم مِن الكِتابِ، إلَّا أنَّه لا سَبيلَ لنا إلى أنْ نَعلَمَ صَحيحَ ما يَحْكونَه عن تلك الكتُبِ مِن سَقيمِه إذا لم يَرِدْ في شَريعَتِنا ما يوَضِّحُ صِدْقَه مِن كَذِبِه، فنتَوقَّفُ؛ فلا نُصدِّقُهم؛ لئلَّا نَكونَ شُركاءَ معَهم فيما حَرَّفوه منه، ولا نُكَذِّبُهم؛ فلعَلَّه يكونُ صَحيحًا، فنَكونُ مُنكِرينَ لمَا أُمِرْنا أنْ نُؤمِنَ به، وأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ نَقولَ "آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"البقرة: 136. وأمَّا ما عُلِمَ كَذِبُه ممَّا أخبَرَ به اليَهودُ والنَّصارى -كافْتِرائِهم على اللهِ ورَسولِه- فلا يَسَعُ المُسلِمَ إلَّا أنْ يُكَذِّبَهم فيما قالوا. وفي الحَديثِ: أنَّ المُسلِمَ مِن حيث الإجْمالُ يُؤمِنُ بما جاء به أنْبياءُ اللهِ جَميعًا، ولا يُصدِّقُ إلَّا ما جاء موافِقًا للقُرآنِ الكَريمِ، وسُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.الدرر السنية. لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ:أي لا نفرق بين جماعة النبيين، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلتم يا معشر اليهود، إذ كفرتم بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وفعلكم هذا في حقيقته كفر بالأنبياء جميعًا لأن من كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل، ولذلك فنحن معشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء بدون تفرقة أو استثناء. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ : أي: خاضعون لعظمته سبحانه, منقادون لعبادته, بباطننا وظاهرنا, مخلصون له العبادة. |
من آية 137إلى 141 "فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"137. أي: فإنْ آمَن اليهودُ والنَّصارى إيمانًا مماثلًا من كلِّ الوجوه لإيمانكم- أيُّها المسلمون- ومِن ذلك الإيمانُ بجميعِ كتُب الله تعالى، وبجميع رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام- فقد رَشَدوا ووُفِّقوا للحقِّ والخير.واهتدوا للصراط المستقيم, الموصل لجنات النعيم. و والهُدَى هو العلم بالحق, والعمل به. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ:أي: فإنْ أعرَض أولئك اليهودُ والنَّصارى عن الحقِّ بعد إقامة الحُجَّة عليهم، فلم يُؤمِنوا بمِثل إيمانكم، فاعلموا- أيُّها المؤمنون- أنَّهم يَقصِدون المخالفةَ والمنازعةَ والعداوةَ لكم.الدرر موسوعة التفسير . فالمشاق: هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة, والعداوة البليغة, التي من لوازمها, بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلهذا وعد الله رسوله, أن يكفيه إياهم أي يكفيه شرهم . وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى بعضهم, وأجلى بعضهم, وشردهم كل مشرد. ففيه معجزة من معجزات القرآن, وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.تفسير السعدي. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ : فهو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بأحوالهم و بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء. "صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ"138. صِبْغَةَ اللَّهِ : الصبغة في الآية بمعنى الإيمان . وإنما أطلقت الصبغة على الإيمان ،لأن الإيمان يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثاره على المؤمنين كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ.وكأنهم قالوا صبغنا الله بالإيمان صبغته. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً : والاستفهام هنا للإنكار والنفي ، والمعنى: لا أحد أحسن من الله صبغة لأنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم من أدران الكفر والضلال، فهي صبغة ثابتة لا تزول لأن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب لا يرتد عنه أحد سخطة له. بخلاف ما يتلقنه أهل الكتاب عن أحبارهم ورهبانهم من الأديان الباطلة فهو من الصبغة البشرية، التي تجعل من الدين الواحد أديانا مختلفة ومذاهب متنافرة. وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ :عابدون أي مطيعون . والمعنى: قل لهم يا محمد إننا نحن معاشر المسلمين نعبد الله وحده وصبغته هي صبغتنا ولا نعبد غيره فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابًا يزيدون في ديننا وينقصون ويحلون ويحرمون ويمحون من النفوس صبغة التوحيد، ليحلوا محلها بأهوائهم صبغة الشرك والكفر. "قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ"139. قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ :المحاجة هي: المجادلة بين اثنين فأكثر, تتعلق بالمسائل الخلافية, حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله, وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما, يجتهد في إقامة الحُجة على ذلك. والمعنى أتجادلوننا في شأن الله، وتقولون أنكم الأقرب إلى الله، وتزعمون أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. وإن ديننا هو الأقدم وكتابنا هو الأسبق ولو كنتَ نبيًّا لكنتَ منَّا. وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ: يعنى ليس أحد منا أولى بالله من الآخر، لأنه تعالى"رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ" وعطاء الربوبية عام لكل الناس ، المتصرف فينا وفيكم ، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له ! "وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ" نحن لَنَا أَعْمَالُنَا التى سنحاسب عليها، وأنتم لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ التى ستحاسبون عليها، والعمل وحده هو الذي يقرب لله تعالى، وليس كما تزعمون أنكم أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وأن آبائكم الأنبياء سيشفعون لكم. فشُبْهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْجُو مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَإِنْ أَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ وَأَخْلَصَ فِي قَصْدِهِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ الْفَائِزُونَ وَإِنْ أَسَاءُوا عَمَلًا وَنِيَّةً؛ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُنْجُونَهُمْ وَيُخَلِّصُونَهُمْ بِجَاهِهِمْ، فَالْفَوْزُ عِنْدَهُمْ بِعَمَلِ سَلَفِهِمْ لَا بِصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هَدْمٌ لِدِينِ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ . "وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ" ونحن مخلصون في أعمالنا، والْإِخْلَاصُ هو رُوحُ الْأَعْمَالِ، والإخلاص, هو الطريق إلى الخلاص، فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِخْلَاصُ أَنْ يُخْلِصَ الْعَبْدُ دِينَهُ وَعَمَلَهُ فَلَا يُشْرِكَ بِهِ فِي دِينِهِ وَلَا يُرَائِيَ بِعَمَلِهِ، قَالَ الفضيل: ترك العمل من أجل النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ الله منهما.الألوكة. "أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " 140. وهذه دعوى أخرى منهم, ومحاجة في رسل الله، زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين. فرد الله عليهم بقوله" أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ " وقال سبحانه في موضع آخر " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "آل عمران : 67.وهم يقولون: بل كان يهوديًا أو نصرانيًا. فإما أن يكونوا، هم الصادقين العالمين، أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك, فأحد الأمرين متعين لا محالة، وصورة الجواب مبهم، وهو في غاية الوضوح والبيان، حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق، ونحو ذلك، لانجلائه لكل أحد، كما إذا قيل: الليل أنور، أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك. وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك, ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء, لم يكونوا هودا ولا نصارى, فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة، فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ " ولا أحدَ أشدُّ ظلمًا في كِتمان الشَّهادة؛ ممَّن يَكتُم ما أنزل الله في كُتبه . فهي شهادة عندهم، مودعة من الله، لا من الخلق، فيقتضي الاهتمام بإقامتها، فكتموها، وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم الحق، وعدم النطق به، وإظهار الباطل، والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله، وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة، فلهذا قال سبحانه " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " فيه تهديد ووعيد شديد، فالله سبحانه وتعالى ليس بسَاهٍ عن هؤلاء اليهودِ والنَّصارى، بل هو على عِلمٍ بجميع أعمالِهم محيط بها ، ولا يَخفَى عليه منها شيء.فقد أحصى أعمالهم، وعدها وادخر لهم جزاءها، فبئس الجزاء جزاؤهم, وبئست النار، مثوى للظالمين.تفسير السعدي.وموسوعة التفسير . "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"141. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ : أي : تِلْكَ إشارة إلى إبراهيم وبنيه، أي أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت،. لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم ، من غير متابعة منكم لهم ، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله ، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين ، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء ، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين .من تفسير ابن كثير. |
من آية 142إلى 144 وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به قبل وقوعه، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطّن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلامًا، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس.وليعدّ الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم. فقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل بيت المقدس وهو في مكة وكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فيستقبلهما معًا كما يفيده حديث ابن عباس: "كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يصلِّى نحوَ بَيتِ المقدِسِ والكعبةُ بينَ يدَيهِ وبعدَما هاجرَ إلى المدينةِ ستَّةَ عشرَ شَهرًا ، ثمَّ تَوجَّه إلى الكعبةِ"الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : ابن حجر العسقلاني - المصدر : موافقة الخبر الخبر-الصفحة أو الرقم : 2/279 - خلاصة حكم المحدث : صحيح. بقى المسلمون يجمعون فى الصلاة بين القبلتين ما شاء الله ،ثم أُذن لهم فى الهجرة من مكة فخرجوا إلى المدينة ولحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وفى المدينة تعذر على النبي والذين آمنوا معه الجمع بين القبلتين .. فكان المسلمون يصلون مع رسول الله ويستقبلون بيت المقدس حتى نزل الوحي بتحويل القِبْلَة إلى الكعبة. عن البراء بن عازب " كانَ أوَّلَ ما قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ علَى أجْدَادِهِ، أوْ قالَ أخْوَالِهِ مِنَ الأنْصَارِ، وأنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ يُعْجِبُهُ أنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وأنَّهُ صَلَّى أوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ، وصَلَّى معهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى معهُ، فَمَرَّ علَى أهْلِ مَسْجِدٍ وهُمْ رَاكِعُونَ، فَقالَ: أشْهَدُ باللَّهِ لقَدْ صَلَّيْتُ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كما هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَتِ اليَهُودُ قدْ أعْجَبَهُمْ إذْ كانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا ولَّى وجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أنْكَرُوا ذلكَ."صحيح البخاري. شَرائِعُ الدِّينِ مَبنيَّةٌ على الوحْيِ وما أمَرَ به اللهُ سُبحانه، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّبِعًا لذلك، وإنْ مالَتْ نفْسُه إلى أمرٍ فإنَّه لا يَفعَلُه ما لم يُؤمَرْ به.وفي هذا الحَديثِ يَروي البَراءِ بْنُ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا قدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ نزَلَ على بني النَّجَّارِ؛ لأنَّهم هم أخوالُه أو أجدادُه مِن جِهةِ جَدِّ أبيه هاشمِ بنِ عبدِ مَنافٍ. وفي أوَّلِ أمرِ الإسلامِ لمَّا فُرِضَت الصَّلاةُ كانت قِبلتُه إلى بيتِ المقدِسِ، وظلَّ يتَّجِهُ إليه سِتَّةَ عشَرَ شَهرًا، أو سَبعةَ عشَر شَهرًا، وكان يُعجِبُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تكونَ قِبلتُه قِبَلَ الكعبةِ؛ وقد أخبَرَ اللهُ سُبحانه عن حالِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه في قولِه تعالى"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"البقرة: 144، فوَعَدَه أنْ يُوجِّهَه إلى القِبلةِ التي يَرْضاها، وكانت أوَّلُ صَلاةٍ صلَّاها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ هي صَلاةَ العصرِ، ولا خِلافَ أنَّ ذلك كان في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ، وصلَّى معه بَعضُ أصحابِه، فخرَجَ رجلٌ ممَّن صلَّى معه، فمَرَّ على أهلِ مَسجدٍ، فوجَدَهم يُصَلُّون، وكانوا راكعينَ، فقال لهم: أحْلِفُ باللهِ، لقدْ صلَّيتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ في الصَّلاةِ، فلمَّا سَمِعوه صدَّقوه وَدارُوا ناحيةَ المسجدِ الحرامِ، ولم يَقطَعوا الصَّلاةَ، بلْ أتمُّوها إلى جِهةِ الكعبةِ، فصلَّوا صَلاةً واحدةً إلى جِهتينِ: جِهةِ المسجدِ الأقْصى، وجِهةِ المسجدِ الحرامِ.وكان اليهودُ يُعجِبُهم تَوجُّهُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى بَيتِ المقدِسِ؛ لأنَّه قِبْلَتُهم، فلمَّا تَوجَّه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى البيتِ الحرام، أنكَروا ذلك، فنَزَل قولُه تعالى"سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"البقرة: 142. الآياتِ، كما جاء مُصرَّحًا به في رِواياتٍ أُخرى.وكان بعضُ الصَّحابةِ ممَّن صلَّى إلى بَيتِ المقدِسِ مات أو قُتِل قَبلَ أنْ تُحوَّلَ القِبلةُ إلى البيتِ الحرام، فسُئِل صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنهم؛ فأنزَلَ اللهُ"وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ"البقرة: 143، أي: صَلاتَكم.وفي الحديثِ: ما كان عندَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم مِن سُرعةِ تَلبيةِ واستجابةِ أوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وفيه: مَشروعيَّةُ الحَلِفِ على الشَّيءِ لتَأكيدِه.وفيه: الحضُّ على حُسنِ الاستِجابةِ لِداعي اللهِ ورَسولِه.الدرر السنية. أخبَر اللهُ تعالى أنَّ السفهاء : وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن، وهم اليهود والنصارى, ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، سيتساءلون اعتراضًا- والرِّيبة تملأ قلوبَهم- عن السَّبب الذي صرَف المسلمين عن استقبال بيت المقدِس في صلاتهم. قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ :أي: قلْ يا محمَّدُ، لهؤلاء المتسائلين: لله تعالى وحْده دون غيرِه مُلكُ المشرق والمغرب وما بينهما، فكلُّ الجِهات مخلوقةٌ ومملوكة له؛ فله أن يأمُرَ بالتوجُّه إلى أيِّ جِهةٍ شاء سبحانه يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ : الله هو الذي يهدى من يشاء هدايته، إلى السبيل الحق، فيوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك، ثم إلى الكعبة، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به. وإذا سأل سائل ما الحكمة من تغيير القبلة؟ إذا أتانا الأمر من الله وجب علينا قبوله والتسليم له - وإن لم تظهر لنا حكمته - كما قال تعالى"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا "الأحزاب 36 . والله سبحانه وتعالى لا يحكم بحكم إلا لحكمة عظيمة - وإن لم نعلمها - كما قال تعالى"ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"الممتحنة 10. والله سبحانه وتعالى لا ينسخ حكمًا إلا إلى ما هو أفضل منه أو مثله ، كما قال تبارك وتعالى "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"سورة البقرة 106 .الإسلام سؤال وجواب. ومن الحكم العظيمة التي تظهر لنا من تحويل القبلة تنقية الصف المسلموامتحان المؤمن الصادق واختباره ، فالمؤمن الصادق يقبل حكم الله جل وعلا ، بخلاف غيره.كما ستوضحه الآية التالية. "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ". 143. وَكَذَلِكَ : أي: وكما هديناكم صراطًا مستقيمًا جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا: أيعدولًا خيارًا، لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ: تشهد هذه الأمة لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهم.وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا :أي شهيدًا على صدقكم. ونقل البغوي في تفسيره :1/122، عن الكلبي أنه قال : وَسَطًا " يعني : أهل دين وسط ، بين الغلو والتقصير ، لأنهما مذمومان في الدين " قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية " فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطًا عدولًا شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بَلَّغَتْ ما أُمِرَتْ ببلاغِهِ من رسالاتي إلى أممها ، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم بإيمانكم به ، وبما جاءكم به من عندي " انتهى ."جامع البيان " 2/8 . جعل الله هذه الأمة، وسطًا في كل أمور الدين، وسطًا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، بأن آمنوا بكل الأنبياء على الوجه اللائق بذلك، ووسطًا فِي مَجَالِ الْعِبَادَةِ: جَاءَ الْإِسْلَامُ وَسَطًا بَيْنَ الرَّهْبَانِيَّةِ – الَّتِي اهتمت بالروح وقَطَعَتْ كُلَّ صِلَةٍ بِالْحَيَاةِ، وَانْقَطَعَتْ لِلْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ الْإِغْرَاقِ فِي الْمَجَالِ الْمَادِّيِّ وَالِاهْتِمَامِ بِالنَّوَاحِي الْحِسِّيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ وَالطُّغْيَانِ الْمَالِيِّ وَالِانْصِرَافِ عَنِ الْعِبَادَةِ وَتَرْقِيَةِ النَّفْسِ. فجاء الإسلام جامعًا بين الحقّين حق الروح وحق الجسد، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسد وروح..ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا " أُمَّةً وَسَطًا " كاملين، ليكونوا " شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم. تشهد هذه الأمة يومَ القِيامةِ لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهمإذا كذَّبوا وأنكَرُوا أنَّ اللهَ بَعَثَ إليهم الأنبياءَ.وهي لا يَشْهَدُ عَلَيْها إلّا رَسُولُها صلى الله عليه وسلم.والأُمَّة لا تَشْهَدُ عَلى النَّبِي ولِهَذا كانَ يَقُولُ في حَجَّةِ الوَداعِ "ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟، قالوا: نَعَمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ "الحديث..... الراوي : أبو بكرة نفيع بن الحارث - المصدر : صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 1741 . فَجَعَلَ اللَّهَ هو الشّاهِدَ عَلى تَبْلِيغِهِ. يَجِيءُ نُوحٌ وأُمَّتُهُ، فيَقولُ اللَّهُ تَعالَى: هلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، فيَقولُ لِأُمَّتِهِ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقولونَ: لا ما جاءَنا مِن نَبِيٍّ، فيَقولُ لِنُوحٍ: مَن يَشْهَدُ لَكَ؟ فيَقولُ: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أنَّه قدْ بَلَّغَ، وهو قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ"البقرة: 143. والوَسَطُ: العَدْلُ."الراوي : أبو سعيد الخدري - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 3339 . “يَجِيءُ النبيُّ يومَ القيامةِ ومعه الرجلُ ، والنبيُّ ومعه الرجلانِ ، والنبيُّ ومعه الثلاثةُ ، وأكثرُ من ذلك ، فيُقالُ له : هل بَلَّغْتَ قومَك ؟ فيقولُ : نعم ، فيُدْعَى قومُه ، فيُقالُ لهم : هل بَلَّغَكم هذا ؟ فيقولونَ : لا ، فيُقالُ له : مَن يَشْهَدُ لك ؟ فيقولُ : مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ ، فيُدْعَى مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ فيُقالُ لهم : هل بَلَّغَ هذا قومَه ؟ فيقولونَ : نعم ، فيُقالُ : وما عِلْمُكُم بذلك ؟ فيقولونَ : جاءنا نبيُّنا ، فأَخْبَرَنا أنَّ الرُّسُلَ قد بَلَّغُوا فصَدَّقْناه ، فذلك قولُه : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" الراوي : أبو سعيد الخدري -المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع -الصفحة أو الرقم : 8033 -خلاصة حكم المحدث : صحيح . وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا: والجَعْلُ هُنا جَعْلُ التَّشْرِيعِ،جَعَلْنَا: أي شَرَعْنا وهي استقبال بيت المقدس أولًا، ففي أوَّلِ أمرِ الإسلامِ لمَّا فُرِضَت الصَّلاةُ كانت قِبلتُه إلى بيتِ المقدِسِ كما سبق وبيناه في تفسير الآية السابقة.خاطَب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه إنَّما شرَع له استقبال بيت المقدس أولًا، ثمَّ نسخَه بالتوجُّه إلى الكعبة؛ امتحانًا؛ لكي يَعلمَ مَن يُطيع الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ممَّن يرتدُّ عن دِينه، وإنْ كان أمر تحويل القِبلة شاقًّا على النفوس وعظيمًا، إلَّا على مَن وفَّقه الله لطريق الهداية. إِلَّا لِنَعْلَمَ :أي: علمًا يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها. ولكن هذا العلم، لا يعلق عليه ثوابًا ولا عقابًا، لتمام عدله، وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم، ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن"مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " من يؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبد مأمور.فالمؤمن المنصف نسخ استقبال بيت المقدس كقبلة للصلاة والتوجُّه إلى الكعبة يزيده إيمانًا وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم. وأما من انقلب على عقبيه- مثنى عقب وهو مؤخر القدم، وهي كناية عن الارتداد وعن الرجوع إلى الأمر الأول، وهو الكفر -، وأعرض عن الحق، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرًا إلى كفره، وحيرة إلى حيرته، ويدلي بالحُجة الباطلة، المبنية على شبهة لا حقيقة لها. "وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ " " وَإِنْ كَانَتْ " أي: وإن كان صرفك عن استقبال بيت المقدس كقبلة للصلاة " لَكَبِيرَةً" أي: شاقة " إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ "يسيرة على الذين هداهم الله للحق ، فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم، وشكروا، وأقروا له بالإحسان، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم، الذي فضله على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده, ركنًا من أركان الإسلام, وهادما للذنوب والآثام, فلهذا خف عليهم ذلك, وشق على من سواهم. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ " ثم طمْأنَ الله سبحانه المؤمنين بأنَّه عزَّ وجلَّ لن يُضيع ثوابَ صلاتهم إلى بيت المقدِس، قبل تحويل القِبلة، بل هو محفوظٌ عنده عزَّ وجلَّ؛ فهو سبحانه عظيم الرحمة بالنَّاس. ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة، فإن الله لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها. ، وفي هذا دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح.فقد سمى التوجه للقبلة إيمان وهو عمل من أعمال الجوارح. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ :والرأفة شدَّة الرَّحْمَة ومنتهاها، فالرَّؤُوف بِمَعْنى الرَّحِيم مَعَ الْمُبَالغَة فِيهِ. الفرق بين الرأفة والرحمة "والرَّأْفَةُ أَخصُّ وأَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَلَا تَكاد تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ، والرحمةُ قَدْ تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ للمَصْلحةِ" لسان العرب:9:112. وقوله" إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ " أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحانا، زاد به إيمانهم، وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت وأجلها. "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"144. "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" تَقَلُّبَ :تردده المرة بعد المرة في السماء، وهي مصدر الوحي وقبلة الدعاء.كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قِبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادًا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارًا ومطافًا، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولو لا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فَكَرِهَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قبلتهم.تفسير المراغي. عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال : كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إلى الكَعْبَةِ، فأنْزَلَ اللَّهُ "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، .... صحيح البخاري. أي: يُؤكِّد الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ رُؤيتَه له وهو يتلفَّت محوِّلًا وجهَه في جِهات السماء؛ متلهِّفًا لنزول الوحي بخبَر تحويل القِبلة إلى الكعبة. "فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا "أي فلنوجهنَّك ولنجعلنّك تلي جهة عظيمةٍ تحبها وتتشوف لها وتطمئنُّ إليها في صلاتك غير جهة بيت المقدس.وتَرْضاها معناه تحبها وتقر بها عينك. تَرْضَاهَا: أي : تحبها وتقر بها عينك. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ :أي اصرف وجهك - والمراد بالوجه هو الذات كلها- وَحوِّله بحيث يلي جهة المسجد الحرام " الشطر "، النحوَ والقصدَ والتّلقاء.. وفي ذكر "الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدًا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه. وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ :ثم عمم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإسلامية جميعها.أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا ، ولا يستثنى من هذا شيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه ، وقلبه نحو الكعبة . وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال ، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر ، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها . وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ :أي: إنَّ اليهود والنَّصارى يَعلمون مِن كتُبهم أنَّ استقبال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين الكَعبةَ، أمرٌ حقٌّ، قد فرَضه الله سبحانه وتعالى. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ: فهو العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.ولا يخفَى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين. |
من آية 145إلى 150 والمعنى:لو أتيت - يا محمد- أهل الكتاب بكل برهان وحُجة ما آمنوا بدينك ولا اتبعوا قبلتك. لماذا؟ لأنهم لا يبحثون عن دليل ولا يريدون الاقتناع بصحة الدين الجديد.. ولو كانوا يريدون دليلا أو اقتناعا لوجدوه في كتبهم التي أنبأتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم وأعطتهم أوصافه.. ولئن جئت- يا محمد- اليهود ومن على طريقتهم في الكفر بكل برهان وحُجة ما آمنوا بدينك ولا اتبعوا قبلتك ، لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة يزيلها الحجة والبرهان، وإنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من أنك على الحق المبين. وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ : إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به ، وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم ، فهو أيضًا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، وما كان متوجها إلى بيت المقدس ; لأنها قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى . وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ : اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب ، والنصارى تستقبل المشرق، وقبلة المسلمين الكعبة.أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقّا كان أو مبطلًا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ: ثم ساق القرآن الكريم بعد ذلك تحذيرًا للأمة كلها من اتباع أهل الكتاب، وجاء هذا التحذير في شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصًا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شكّ فيه - لتكونن من جملة الظالمين - وحاشاك أن تفعل ذلك.تفسير المراغي. وأي ظلم أعظم, من ظلم, من علم الحق والباطل, فآثر الباطل على الحق، وهذا, وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم, فإن أمته داخلة في ذلك، وأيضًا, فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالمًا مع علو مرتبته, وكثرة حسناته فغيره من باب أولى وأحرى.تفسير السعدي. "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ "146. هذا كالدليل لما ذُكر في قوله تعالى" وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ" البقرة 144. فكأنه قال: إن سبب العلم بأنه الحق، أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شيء من أمرهم.تفسير المراغي. فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وصلت إلى حد لا يشُكُّون فيه ولا يمترون، ولكن فريقًا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به, كتموا هذه الشهادة مع تيقنها, وهم يعلمون " ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ"البقرة :140. وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ : أي وإن فريقًا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه، من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي، وأن الكعبة قِبْلَة، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى، ومنهم من كان يجحده عن جهل، لأنهم كفروا به تقليدًا، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه. قال عبد الله بن سلام لليهود في حديث طويل " ............. يا مَعْشَرَ اليَهُودِ، اتَّقُوا اللَّهَ؛ فَواللَّهِ الذي لا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أنَّه رَسولُ اللَّهِ، وأنَّهُ جاءَ بحَقٍّ، ....."الراوي : أنس بن مالك - صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 3911 . "أنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برَجُلٍ منهمْ وامْرَأَةٍ قدْ زَنَيَا، فَقَالَ لهمْ: كيفَ تَفْعَلُونَ بمَن زَنَى مِنكُمْ؟ قالوا: نُحَمِّمُهُما ونَضْرِبُهُمَا، فَقَالَ: لا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟ فَقالوا: لا نَجِدُ فِيهَا شيئًا، فَقَالَ لهمْ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، فَأْتُوا بالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الذي يُدَرِّسُهَا منهمْ كَفَّهُ علَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ ما دُونَ يَدِهِ وما ورَاءَهَا، ولَا يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَنَزَعَ يَدَهُ عن آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَالَ: ما هذِه؟! فَلَمَّا رَأَوْا ذلكَ قالوا: هي آيَةُ الرَّجْمِ، فأمَرَ بهِما فَرُجِما قَرِيبًا مِن حَيْثُ مَوْضِعُ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَحْنِي عَلَيْهَا يَقِيهَا الحِجَارَةَ.."الراوي :عبدالله بن عمر- صحيح البخاري .الدرر السنية. نُحَمِّمُهما ونَضْرِبُهما، أي: نُسوِّدُ وُجوهَهما بالحُممِ -وهو الفَحْمُ- ونَضرِبُهما. حرَّفَ أهلُ الكتابِ مِنَ اليهودِ والنَّصارى كُتبَهمُ المُنْزَلةَ عليهم، فحَذَفوا وغيَّروا وأدْخَلوا فيها ما ليس منْها، وما بَقِيَ منه لم يَعمَلُوا به، وأخفَوْه وكتَمُوه وهمْ يَعلَمونَ. وفي هذا الحديثِ صُورةٌ مِن صُوَرِ جُحودِ اليهودِ وكِتمانِهم ما أنْزَلَ اللهُ تعالى عليهم مِنَ التَّوراةِ. فسألهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرَّجمِ :لا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟:وإنما سألهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُلزِمَهم بما يعتَقِدونَه في كتابِهم الموافِقِ لحُكمِ الإسلامِ إقامةً للحُجَّةِ عليهم، لا لتقليدِهم ومَعرفةِ الحُكمِ منهم.فأنكروا وجود حكم الرجم في كتابهم وأخفوه.وكان عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رضِي اللهُ عنه مِن عُلمائِهم قبْلَ إسلامِه، فرَدَّ عليهم، وقال لهمْ: كذبْتُم، فَأْتوا بِالتَّوراةِ فَاتْلُوها إنْ كُنتُم صادقِينَ؛ فإنَّ ذلك موجودٌ فيها لم يُغَيَّرْ.الدرر. "الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ "147. أي: اعلمْ يا محمَّد، أنَّ الحقَّ وحده هو الذي جاءك من ربِّك، لا ما يقوله اليهود أو النَّصارى، أو غيرهم؛ فلا يحصُل لك أدنى تردُّدٍ وريبةٍ فيه.موسوعة التفسير .الدرر السنية. فالقبلة التي وجهك نحوها هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين، فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه،فتمتري وتشك في الحق بعد ما تبين. والنهى في هذه الآية كالوعيد في "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ....."، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد من كانوا غير راسخي الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.تفسير المراغي. "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 148. " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا "أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فأي شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه، فالقبلة إذًا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم، فليست الجهة أساس من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحي كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.تفسير المراغي. فالقبلة, فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال, ويدخلها النسخ والنقل, من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن, فيامتثال طاعة الله, والتقرب إليه, وطلب الزلفى عنده، وهو الذي خلق الله له الخلق, وأمرهم به."وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"الذاريات 56.أي خلقَهم لعبادتِه وطاعته ، خلقَهم ليعبدوه وحدَه لا شريكَ له. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ : والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها, يتضمن فعلها, وتكميلها, وإيقاعها على أكمل الأحوال, والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات, فهو السابق في الآخرة إلى الجنات, فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل, من صلاة, وصيام, وزكوات وحج, عمرة, وجهاد, ونفع متعد وقاصر. ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير, وينشطها, ما رتب الله عليها من الثواب قال: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا:أي: في أي بقعة يدرككم الأجل، وتموتون فيها، يجمعكم الله- تعالى- يوم القيامةبقدرته,فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات. فيجازي كل عامل بعمله. وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شيء لتناسب الصفة مع ما ذُكِرَ من الإعادة بعد الموت والبلى .قادر على جمعكم بعد مماتكم من قبوركم حيث كنتم، وإن تفرقت أجسادُكم وأبدانُكم، كما أنه- سبحانه- قدير على كل شيء. "وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"149. هذا تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره .أي: ومن أي موضع خرجت وإلى أي مكان آخر سرت، فول- يا محمد- وجهك عند صلاتك إلى المسجد الحرام، وإن هذا التوجه شطره لهو الحق الذي لا شك فيه عند ربك . والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أيضًا أمته،لذا قال سبحانه: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: أي فالله ليس بساه عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يجىء به من أمر الدين، بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم غير مغفول عنها, بل مجازون عليها أتم الجزاء, إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر. " وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" 150. أى: ومن أي مكان خرجت- يا محمد- فول وجهك تلقاء المسجد الحرام، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه ونحوه. وتلك هي المرة الثالثة التي تكرر فيها الأمر للمؤمنين بالتوجه إلى المسجد الحرام في صلاتهم، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن تحول القبلة كان أول نسخ في الإسلام- كما قال كثير من العلماء- فاقتضى الأمر تأكيده في نفوس المؤمنين حتى يستقر في مشاعرهم، ويُذهب ما يثار حولها من شبهات أدراج الرياح، ولأن الله- تعالى- أناط بكل واحد من هذه الأوامر الثلاثة بالتحول ما لم ينط بالآخر من أحكام فاختلفت فوائدها، فكأنه- سبحانه- يقول لنبيه- صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين،الزموا هذه القبلة لأنها هي القبلة التي ترضونها وترغبون فيها وطالما تمنيتموها، والزموها- أيضا- لأنها هي القبلة التي لن تنسخ بعد ذلك. والزموها- كذلك- لأن لزومكم إياها يقطع حجة اليهود الجاحدين، وغيرهم من المعاندين والخاسرين. وقد اقترن هذا الأمر الثالث بالتوجه إلى المسجد الحرام في هذه الآية الكريمة بحكم ثلاث. أولها: قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ :أي: حوَّلنا قِبلتَكم إلى الكَعبة؛ كي لا يحتجَّ اليهودُ عليكم قائلين: إنكم ما دُمتم قد وافقتمونا في قِبلتنا نحو بيت المقدس، فلِمَ تَعيبون دِينَنا، ولِمَ لا تتبعون ملَّتَنا؟ لكن ستبقى حُجَّة الظالمين- وهم مشركو قريش- الذين يحتجُّون عليكم بالباطل قائلين: إنكم ما دُمتم قد عُدتم إلى قِبلتنا، فلا بدَّ أن تتَّبعوا دِيننا فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي :أي: لا تخشَوا هؤلاء الظلمةَ المتعنتين، ولا حُجَجهم الباطلة، وأفرِدوا الخشية لي؛ فإنِّي وحْدي المستحقُّ لذلك . وثانيها: قوله تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ:أي: شرَعت لكم استقبال الكعبة؛ لأُكمل لكم شرائعَ ملَّتكم الحَنيفيَّة بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم إبراهيم عليه السلام، وجعل الأمم الأخرى تبعًا لكم فيه، وطَهَرَهُ من عِبَادَةِ الأوثان والأصنام. وثالثها: قوله- تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ : أي: ومن أسباب تحويل القبلة إلى الكعبة أنْ ترجُوا بامتثال أوامر الله تعالى نيلَ هُداه، فتنتبهون وتعلمون الحق وتعملون به؛ ابتغاءَ رِضاه ،والهداية هي الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية ،وغاية هذه الحياة هي أن تصل إلى نعيم الآخرة بامتثال أوامر الله عز وجل.الوسيط ومصادر أخرى. |
من آية 151إلى 157 يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة, ليس ذلك ببدع من إحساننا, ولا بأوله, بل أنعمنا عليكم من قبل بإرسال هذا الرسول الكريم لكم ،وهو منكم, تعرفون نَسبَهُ وأخلاقَهُ الفاضلة وصدقه, وأمانته وكماله ونصحه. يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا: وهذا يَعُم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل, والهدى من الضلال, التي دلتكم أولًا, على توحيد الله وكماله, ثم على صدق رسوله, ووجوب الإيمان به, ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب,حتى حصل لكم الهداية التامة, والعلم اليقيني. وَيُزَكِّيكُمْ : أي يطهر نفوسَكُم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من عبادة الأصنام ومن وأد البنات والخمر والميسر والربا، وقتل الأولاد تخلصًا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب. بتربيتها على الأخلاق الجميلة, وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة, وذلك كتزكيتكم وتطهيركم من الشرك, إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص, ومن الكذب إلى الصدق, ومن الخيانة إلى الأمانة, ومن الكِبر إلى التواضع, ومن سوء الخلق إلى حُسن الخلق, ومن التباغض والتهاجر والتقاطع, إلى التحاب والتواصل والتواد, وغير ذلك من أنواع التزكية. وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ : وإذا أشرقت النفوس بنور الحق، وتحلت بالأخلاق الحميدة، قويت على تلقي ما يَرِد عليها من الحقائق السامية. المراد بالكتاب: القرآن، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه، فهو غير التلاوة، فلا تكرار بين قوله يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وبين قوله وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ. وَالْحِكْمَةَ: السنة ، أي ما يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة. وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ: أي ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي. ومما لم يكونوا يعلمونه وعلمهم إياه صلّى الله عليه وسلّم مثل وجوه استنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها، وأخبار الأمم الماضية، وقصص الأنبياء، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم. وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة. ولقد كان العرب قبل الإسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد ... فلما أكرمهم الله- تعالى- برسالة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وتلا عليهم الآيات، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، خرج منهم رجال صاروا أمثالًا عالية في العقيدة السليمة، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات.تفسير الوسيط. "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ "152. أي: عليكم بذِكري في مقابل تلك النعم التي تقدَّم ذكرها. وهذا الذِّكر المأمور به عامٌّ يَشملُ ذِكْرَ اللهِ قولًا باللِّسانِ، وعملًا بالقلبِ وبالجوارحِ، أَذْكُرْكُمْ ووعد عليه أفضل جزاء على هذا الذِّكر ، وهو أن يَذكُر هو سبحانَه مَن ذكَره. "يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. "الراوي : أبو هريرة- صحيح البخاري. وفي الحَديثِ: التَّرغيبُ في حُسنِ الظَّنِّ باللهِ تَعالَى. وفيه: بَيانُ أنَّ الجَزاءَ من جِنسِ العَمَلِ.الدرر السنية. وهذه أفضل تربية من الله لعباده، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل. وبعد أن أعلمهم ما يحفظ النعم، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال: وَاشْكُرُوا لِي: أي: اشكُروني على ما مَنحتُكم من نِعمٍ بأن تستعملوا النعم في طاعته سبحانه، باللِّسانِ وبالقلب والجوارح، ولا تجحدوا إحساني إليكم. ومن أعظمِ ذلك: نِعمةُ الإسلام، وإرسالُ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسلام، والهدايةُ إلى الشَّرائع الصَّحيحة، ومنها استقبالُ الكعبة الشريفة فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة, وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " إبراهيم:7. ولما كان الشكر ضده الكفر, نهى عن ضده فقال " وَلَا تَكْفُرُونِ" المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر, فهو كفر النِّعم وجحدها، ويحتمل أن يكون المعنى عامًّا, فيكون الكفر أنواعًا كثيرة, أعظمه الكفر بالله, ثم أنواع المعاصي, على اختلاف أنواعها وأجناسها, من الشرك, فما دونه.تفسير السعدي. وهذا تحذير لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقع فيه بعض الأمم السابقة التي فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"153. بعد أن أمر- سبحانه- عباده بذكره وشكره، وجه نداء إليهم بيَّنَ لهم فيه ما يعينهم على ذلك، كما بين لهم عاقبة الصابرين على البلاء. فالصبر هو: حبس النفس وكفها عما تكره, فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها, وعن معصية الله حتى تتركها, وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر. وَالصَّلَاةِ : الصَّلاةُ أعظمُ أركانِ الإسلامِ العَمليَّةِ، ولها أهمِّيَّتُها الخاصَّةُ في الشَّرعِ، وفيها مِن الرُّوحانيَّاتِ والصِّلةِ باللهِ ما يَجْعَلُ القلبَ يَرْتاحُ ويَخْرُجُ مِنْ متاعبِ الدُّنيا إلى مَعِيَّةِ الحَقِّ سُبْحانَه، وقد جعلتُ قُرَّةُ عينِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ. "وجعلَتْ قرةُ عَيني في الصلاةِ "الراوي : أنس بن مالك -المحدث : الألباني- المصدر : صحيح النسائي. فلا شيءَ يُسعِدُه ويُدخِلُ عليه السُّرورَ بمِثْلِ ما تُدخِلُ عليه الصَّلاةُ؛ فقُرَّةُ العينِ يُعبَّرُ بها عنِ المَسرَّةِ ورؤيةِ ما يُحِبُّه الإنسانُ.وهي عبادةٌ جليلةٌ فيها تَصْفو بها الرُّوحُ مِن الكَدَرِ والمُنغِّصاتِ النَّفسيَّةِ، وفيها يَقِفُ العبدُ بينَ يدَيْ ربِّه ويَدْعوه لِتَفريجِ هُمومِه؛ فهو وحْدَه القادِرُ على إزالةِ الهمِّ والحزنِ وتسهيلِ الصِّعابِ. وفي الحديث: بَيانُ عِظَمِ قَدْرِ الصَّلاةِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وأنَّها يَنبغي أنْ تكونَ الأَوْلَى عندَ كلِّ مسلِمٍ .الدرر السنية. عن حذيفةَ قالَ : كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى " المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود. وهذا مِن تعليمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم لأمَّتِه، فإنَّه يُعلِّمُنا حُسْنَ التَّوكُّلِ على اللهِ واللُّجوءَ إليه في كلِّ الأمورِ. " يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها "الراوي : سالم بن أبي الجعد -المحدث : الألباني- المصدر : صحيح أبي داود. وطَلَبُ الرَّاحةِ في الصَّلاةِ يَصْدُرُ ممَّنْ كان خاشعًا فيها ومُحِبًّا لها، وإنْ كانت ثَقيلةً على البعضِ؛ كما قال اللهُ"وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" البقرة: 45. وفي الحَديثِ: أنَّ الصَّلاةَ راحةٌ للقَلْبِ مِنْ تَعَبِ الدُّنيا ومَشاغِلِها. "الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ،...........والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها."الراوي : أبو مالك الأشعري- المحدث : مسلم- المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 223. والصَّلاةُ نُورٌ : قيل: المَعنَى: إنَّ من أجرِها أن يَجعَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ نورًا لصاحِبِها يَومَ القيامةِ، ويَكونُ في الدُّنيا أيضًا على وَجهِه البَهاءُ، بخِلافِ مَن لم يُصَلِّ، وقيل: هي تَمنَعُ منَ المَعاصي وتَنهَى عنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ، وتَهدي إلى الصَّوابِ، كما أنَّ النُّورَ يُستَضاءُ به، وقيل: كُلُّ هذا؛ فهي نُورٌ للعَبدِ في قَلبِه، وفي وَجهِه، وفي قَبرِه، وفي حَشرِه. والصَّبْرُ ضِياءٌ"، والضِّياءُ هو النُّورُ الذي يَحصُلُ فيه نَوعُ حَرارةٍ وإحراقٍ، كضياءِ الشَّمسِ، بخِلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه نورٌ مَحضٌ، فيه إشراقٌ بغَيرِ حَرارةٍ، ولمَّا كان الصَّبرُ شاقًّا على النُّفوسِ يَحتاجُ إلى مُجاهدةِ النَّفسِ وحَبسِها وكَفِّها عمَّا تَهواهُ، كان ضياءً.الدرر السنية. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ : أي: مع من كان الصبر لهم خلقا, وصفة, وملكة بمعونته وتوفيقه, وتسديده، أي: إنَّه سبحانه وتعالى مع الصَّابرين معيَّةً خاصَّةً تَقتضي قُربَه منهم، ومحبَّتَه لهم، ونصْرهم وتأييدَهم، وإعانتهمفهانت عليهم بذلك, المشاق والمكاره, وسهل عليهم كل عظيم, وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه منقبة عظيمة للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية الخاصة من الله, لكفى بها فضلًا وشرفًا.تفسير السعدي. الفرق بين المعية الخاصة والعامة:المعيَّةُ الخاصَّةُ : هي للمُتَّقينَ والصَّابرينَ والمحسِنينَ، فهذه المعيَّةُ الخاصَّةُ هي بالنَّصرِ والتَّوفيقِ والإعانةِ والتسديدِ ونحوِ ذلك.كقوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ "النحل: 128 ،" إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " البقرة: 153. ،" لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا "التوبة: 40. والمعيَّةُ العامَّةُ : عامة للمؤمنِ والكافرِ، وأمَّا المعِيَّةُ العامَّةُ فبالسَّمعِ والبَصَرِ والعِلمِ ، وهي المذكورةُ في قَولِه" مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ" إلى قَولِه" وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْأَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "المجادلة: 7 ، "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ "الحديد: 4 ؛ لأنَّ جميعَ الكائناتِ بسَمواتِها وأرضِها في يدِ خالِقِ السَّمَواتِ والأرضِ أصغَرُ مِن حَبَّةِ خَردَلٍ، فهو مع جميعِها بالإحاطةِ الكامِلةِ العَظيمةِ، وبالإحاطةِ العِلميَّةِ ونُفوذِ التصَرُّفِ كما لا يخفى.الموسوعة العقدية/الدرر السنية.ومصادر أخرى. "وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ "154. لما ذكر تبارك وتعالى، الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأمور ذكر نموذجًا مما يُستعان بالصبر عليه, وهو الجهاد في سبيله, وهو أفضل الطاعات البدنية, وأشقها على النفوس, لمشقته في نفسه, ولكونه مؤديًا للقتل, وعدم الحياة, التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها، فكل ما يتصرفون به, فإنه سعى لها, ودفع لما يضادها. ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم، فأخبر تعالى: أن من قتل في سبيله, بأن قاتل في سبيل الله, لتكون كلمة الله هي العليا, ودينه الظاهر, لا لغير ذلك من الأغراض, فإنه لم تفته الحياة المحبوبة, بل حصل له حياة أعظم وأكمل, مما تظنون وتحسبون. فالشهداء " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ "آل عمران الآيات 169-170.فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى, وتمتعهم برزقه البدني في المأكولات والمشروبات اللذيذة, والرزق الروحي, وهو الفرح، والاستبشار وزوال كل خوف وحزن، وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا. تفسير السعدي. وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ : أي: لا تحسون ولا تدركون حالهم بالمشاعر، لأنها من شؤون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحي. "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " 155. وبعد أن أمر- سبحانه- عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة على احتمال المكاره، أردف ذلك بذكر بعض المواطن التي لا يمر فيها الإنسان بسلامة إلا إذا اعتصم بعرى الصبر. فأخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي -والبلاء وهو الامتحان والاختبار- عبادَهُ بالمحنِ, ليتبين الصادقَ منَ الكاذبِ, والجازعَ مِنَ الصابرِ, ولتمييز أهل الخير من أهل الشر وهذه سنته تعالى في عباده. قوله: بِشَيْءٍ: للتقليل.أي بشيء يسير من كل واحد من هذه البلايا والمحن المذكورة.لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله, أو الجوع, لهلكوا,والمحن تمحص لا تهلك. والمعنى: ولنصيبنكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع، وبشيء من النقص في الأنفس والأموال والثمرات، ليظهر هل تصبرون أو لا تصبرون، فنرتب الثواب على الصبر والثبات على الطاعة، ونرتب العقاب على الجزع وعدم التسليم لأمر الله- تعالى-. ولقد حدث للمسلمين الأولين خوف شديد بسبب تألب أعدائهم عليهم كما حصل في غزوة الأحزاب. وحدث لهم جوع أليم وقلة ذات يدهم .عن عبد الله بن شقيق قال : أقمتُ مع أبي هريرةَ بالمدينةِ سنةً ، فقالَ لي ذاتَ يَومٍ ونحنُ عندَ حُجرةِ عائشةَ : لقد رأيتُنَا وما لَنا ثيابٌ إلَّا البُرُدُ المُتفتِّقَةُ ، وإنَّه لَيأتي على أحدِنا الأيَّامُ ما يجدُ طعامًا يُقيمُ بهِ صُلبَه حتَّى إن كانَ أحدُنا لِيأخذُ الحجَرَ فيَشدُّ بهِ على أخْمَصِ بطنِه ، ثمَّ يشُدُّه بثوبِه ليُقيمَ صُلبَه."الراوي : أبو هريرة- المحدث : الألباني -المصدر : صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم : 3307 - خلاصة حكم المحدث : صحيح موقوف . "أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ له أبو شُعَيْبٍ، كانَ له غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ له أبو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أدْعُو النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وأَبْصَرَ في وجْهِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الجُوعَ، فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذا قَدِ اتَّبَعَنَا، أتَأْذَنُ له؟، قَالَ: نَعَمْ. "الراوي : أبو مسعود عقبة بن عمرو- المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري . . وحدث لهم نقص في أموالهم بسبب اشتغالهم بإعلاء كلمة الله. وحدث لهم نقص في أنفسهم بسبب قتالهم لأعدائهم. ولكن كل هذه الآلام لم تزدهم إلا إيمانًا وتسليمًا لقضاء الله وقدره، واستمساكًا بتعاليم دينِهِم. وفي الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضى سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف. ومع هذا فإن من الهدي سؤال الله العافية : "لم يَكُنْ رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يَدَعُ هؤلاءِ الكَلِماتِ حين يُمْسِي وحين يُصْبِحُ : اللهم ! إني أَسْأَلُكَ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ، اللهم ! إني أَسْأَلُكَ العَفْوَ والعافيةَ في دِينِي ودُنْيَايَ، وأهلي ومالي، اللهم ! اسْتُرْ عَوْراتِي وآمِنْ رَوْعاتِي، اللهم ! احْفَظْنِي من بينِ يَدَيَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعَظَمَتِكَ أن أُغْتالَ من تحتي ؛ يعني : الخَسْفَ "الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - المصدر : هداية الرواة -صحيح. قامَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ: قامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم عامَ الأوَّلِ على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا منَ العافيةِ "الراوي : رفاعة بن عرابة الجهني - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي- الصفحة أو الرقم : 3558- خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح . الشرح: "سَلُوا اللهَ"، أي: اطلُبوا في دُعائِكم مِن اللهِ، "العفوَ"، أي: مَحْوَ الذُّنوبِ وسَتْرَ العيوبِ، "والعافيةَ"، أي: السَّلامةَ في الدِّينِ مِن الفِتنةِ، وفي البَدنِ مِن الأمراضِ، أو السَّلامةَ في الدُّنيا مِن النَّاسِ وشُرورِهم، وأن يُعافِيَك اللهُ مِنهم ويُعافِيَهم منك؛ "فإنَّ أحَدًا لم يُعطَ بعدَ اليَقينِ"، أي: بعد الإيمانِ والبصيرةِ في الدِّينِ "خيرًا مِن العافيةِ"، فكان هذا الدُّعاءُ مِن جَوامعِ الدُّعاءِ.الدرر السنية. ولكن لنحذر من الخوف المفتعل من المجهول ومن المستقبل وأنه قد يقع بلاء كذا أو كذا فآفة الناس أنهم يعيشون في المصائب قبل وقوعها، وبذلك يكبر حجم المصيبة بالتوجس منها والرهبة من مواجهتها؟ إنك لو توكلت على الله وسألت الله العافية قد لا تقع ، ولو وقعت المصيبة فهو برحمته ينزل معها اللطف، فكأنك إن عشت في المصيبة قبل أن تقع، فأنت تعيش في المصيبة وحدها معزولة عن اللطف المصاحب لها. "تنزِلُ المعونَةُ مِنَ السماءِ علَى قَدْرِ المؤْنَةِ ، وينزلُ الصبرُ على قدرِ المصيبةِ"الراوي : أبو هريرة- المحدث : الألباني- المصدر : صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 3001- خلاصة حكم المحدث : صحيح. الشرح: "تنزلُ المَعونةُ"، أي: الإعانةُ بجَميعِ صُوَرِها؛ مِن مالٍ وغيرِه، " مِن السَّماءِ"، أي: يُنَزِّلُها اللهُ عزَّ وجلَّ على العبْدِ "على قدْرِ المُؤْنةِ"، والمُؤْنةُ هي القُوتُ الذي يُحتاجُ إليه، وقِيل: هي الشِّدَّةُ والتَّعبُ، والمعنى: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنَزِّلُ للعبْدِ رِزقَه على قدْرِ حاجتِه.وعِمادُ ذلك طلَبُ المَعونةِ مِن اللهِ تعالى بصِدقٍ وإخلاصٍ. " ويَنزِلُ الصَّبرُ"، أي: يأْتي مِن اللهِ تعالى للعبْدِ المُصابِ، "على قَدْرِ المُصيبةِ"؛ فإنْ عظُمَت المُصيبةُ أفرَغَ اللهُ عليه صبْرًا كثيرًا؛ لُطْفًا منه تعالى به؛ لئلَّا يَهلِكَ جَزعًا، وإنْ خفَّتَ فبقَدْرِها. وفي الحَديثِ: إرشادٌ إلى الاعتِصامِ بحَولِ اللهِ وقوَّتِه، وتَوجيهِ الرَّغباتِ إليه بالسُّؤالِ والابتهالِ.الدرر السنية. نسأل الله السلامة والعافية من كل بلاء. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ: أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب. القائلين إذا أصابتهم مصيبة: " الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"156. قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ :أي: مملوكون لله, مدبرون تحت أمره وتصريفه. ومع أننا مملوكون لله, فإنا إليه راجعون يوم المعاد, فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا, لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله, وراجع إليه, من أقوى أسباب الصبر.تفسير السعدي. يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر - بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون. والصبر لا ينافي ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين في الإنسان.تفسير المراغي. قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي, فيُقرون بعبوديتي, ويوحِّدونني بالربوبية, ، ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي, ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي.تفسير الطبري. "أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"157. أُولَٰئِكَ :الموصوفون بالصبر المذكور. عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ :أي: إنَّ هؤلاءِ الصَّابرين المبشَّرين الذين يقولون: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لهم من الله تعالى ثناءٌ عليهم وتنويهٌ بشأنهم، وتتنزَّل عليهم منه سبحانه الرَّحمات. "ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ"إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"البقرة: 156، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها ...."الراوي : أم سلمة أم المؤمنين - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 918. "إذا أصابَت أحدَكُم مُصيبةٌ فليقُل : إنَّا للَّهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ ، اللَّهمَّ عندَكَ أحتسِبُ مُصيبتي ، فآجِرني فيها ، وأبدِل لي بِها خيرًا مِنها "الراوي : أم سلمة أم المؤمنين - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم: 3119 - خلاصة حكم المحدث : صحيح . الشرح: أمَرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ بالصَّبرِ عند المصائِبِ، ومِمَّا يُعينُ على الصَّبرِ ما أخبَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في هذا الحديثِ بقولِه: "إذا أصابَت أحدَكم مُصيبَةٌ"، أي: إذا وقَعَ على الإنسانِ ما يَكرَهُ ويتَأذَّى منه، وليس له القُدرَةُ على دَفْعِه؛ "فليَقُلْ: إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعون"، أي: إيمانًا منه وتَسْليمًا بقَضاءِ اللهِ وقدَرِه على ما أصابَه، فنحن مَملُوكون للهِ وعَبيدٌ له، وإليه عزَّ وجلَّ نَرجِعُ في حَوْلِنا وقوَّتِنا، "اللَّهمَّ عِندَك أحتَسِبُ مُصيبَتي"، أي: أجعَلُ أجرَها وجزاءَ ما بُليتُ به عندَك لا عندَ أحدٍ سِواكَ، "فأْجُرْني فيها"، أي: فاجعَلْ لي فيما أصابَني يا أللهُ أجْرًا وثَوابًا في الآخِرَةِ، "وأبدِلْ لي بها خيرًا منها"، أي: أبدِلْ تلك المُصيبَةَ الَّتي وقعَتْ بي بنعمَةٍ خيرًا مِنها وأفضَلَ في الدُّنيا، فيكونُ العبْدُ بذلك إذا ما حلَّتْ به مصيبَةٌ فإنَّه يَطلُبُ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ بها ثَوابًا في الآخِرَةِ ونعمَةً في الدُّنيا بعد الثَّناءِ على اللهِ والخضُوعِ له، فيَجمَعُ بينَ الخيرَينِ فضْلًا مِن اللهِ ونعمَةً. وفي الحديثِ: الأمرُ باللُّجوءِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ عندَ المصيبةِ بالصَّبرِ والذِّكرِ والدُّعاءِ.الدرر السنية. وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ : وهؤلاء هم الذين عرفوا الحق وعملوا به , وهو في هذا الموضع, علمهم بأنهم لله, وأنهم إليه راجعون, وعملوا به وهو هنا صبرهم لله. فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها, لتخف وتسهل, إذا وقعت، وبيان ما تقابل به, إذا وقعت, وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر, وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر, بضد حال الصابر.تفسير السعدي. |
من آية 158إلى 162. قال الآلوسي: بعد أن أشار- سبحانه- فيما تقدم إلى الجهاد عقَّبَ ذلك ببيان معالِم الحج، فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال. وقيل لما ذكر الصبر عقَّبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه.ا.هـ. أخبَر الله تعالى أنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة "مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ " أي من أعلام دينه الظاهرة، التي تعبَّدَ اللهُ بها عبادَهُ, وإذا كانا من شعائر الله، فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال" وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " الحج:32.فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله، وأن تعظيم شعائره، من تقوى القلوب. والتقوى واجبة على كل مكلف، وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة، كما عليه الجمهور، ودلت عليه الأحاديث النبوية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال " يا أَيُّها الناسُ خُذُوا عَنِّي مناسكَكم ، فإني لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بعد عامي هذا"الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع-صحيح. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا: والجُناح- بضم الجيم- الإثم والحرج مشتق من جنح إذا مال عن القصد، وسمى الإثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل. هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما،فبعض المسلمين كانوا مترددين في كون السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله، وكانوا يظنون أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية. فنفى تعالى الجناح وهو الإثم لدفع هذا الوهم،لا لأنه غير لازم. ودل تقييد نفي الجناح – الإثم والحرج- فيمن تَطَوَّفَ بهما في الحج والعمرة، أنه لا يتطوع بالسعي مفردًا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت، فإنه يشرع مع العمرة والحج، وهو عبادة مفردة. فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة, ورمي الجمار فإنها تتبع النُّسك، فلو فُعِلَت غير تابعة للنُّسك كانت بدعة، لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة لم يشرعها أصلا، ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة، فتفعل على غير تلك الصفة, وهذا منه. تفسير السعدي. فالجناح هو الإثم، يعني فلا إثم عليه في أن يتطوف بهما، أن يطوف أصلها يتطوف، ولكنه غلبت التاء طاء لعلة تصريفية فصار أن يطوف، وقوله"بهما" المراد بينهما كما تفسره سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد أن يطوف بهما يدور عليهما كما يطوف بالبيت العتيق، فإن هذا قطعًا لا يُراد لأنه شيء غير ممكن والسنة تفسر القرآن.العثيمين.أهل الحديث والأثر. ورد في حديث جابر الطويل في حج رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".......ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ"البقرة: 158، أَبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ به، فَبَدَأَ بالصَّفَا، فَرَقِيَ عليه، حتَّى رَأَى البَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهو علَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بيْنَ ذلكَ، قالَ مِثْلَ هذا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلى المَرْوَةِ، حتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى، حتَّى أَتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ علَى المَرْوَةِ كما فَعَلَ علَى الصَّفَا، حتَّى إذَا كانَ آخِرُ طَوَافِهِ علَى المَرْوَةِ،.... " صحيح مسلم . الراوي : جابر بن عبد الله . ويقال للسعي طواف وللطواف سعي أيضًا : "وسَعَى بيْنَ الصَّفَا، والمَرْوَةِ " صحيح البخاري. "ثُمَّ يَطُوفُ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ" صحيح البخاري. يَروي التَّابِعيُّ عاصِمُ بنُ سُلَيمانَ الأحوَلُ أنَّه سألَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه : قُلتُ لأنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ؟ قالَ: نَعَمْ؛ لأنَّهَا كَانَتْ مِن شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا"البقرة:158.الراوي : أنس بن مالك - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 1648 - خلاصة حكم المحدث : صحيح "سَأَلْتُ أنَسَ بنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، عَنِ الصَّفَا، والمَرْوَةِ فَقالَ: كُنَّا نَرَى أنَّهُما مِن أمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كانَ الإسْلَامُ أمْسَكْنَا عنْهما فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى"إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فلا جُنَاحَ عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهِمَا"البقرة: 158.الراوي : أنس بن مالك - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري. وقوله : وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا : تذييل قُصد منه الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها- من حج وعمرة, وطواف، وصلاة، وصوم وغير ذلك...-.وتَطَوَّعَ من التطوع وهو فعل الطاعة فريضة كانت أو نافلة، وقيل هو التطوع بالنفل خاصة.تفسير الوسيط. فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ: الشاكر والشكور, من أسماء الله تعالى، الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه، العظيم من الأجر، الذي إذا قام عبده بأوامره، وامتثل طاعته، أعانه على ذلك، وأثنى عليه ومدحه، وجازاه في قلبه نورًا وإيمانًا, وسعة، وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء. ثم بعد ذلك، يُقْدِمُ على الثواب الآجل عند ربه جزاءً موفورًا.تفسير السعدي. ونلاحظ أن اسم "الشاكر" قد اقترن باسم "العليم" سبحانه واقترانه به يفيد أنه تعالى شاكر أي يثيب على القليل بالكثير، مع علمه التام المحيط بمن يستحق الثواب الكامل, بحسب نيته وإيمانه وتقواه ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد, فلا يضيعها بل يجدونها أوفر ما كانت على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم. وتَرغيبًا في فِعل الطاعة والاستزادة منها أخْبَر تعالى أنَّ مَن يأتي بالطاعات، سواء ما كان منها مَفروضًا أو مستحبًّا، ويَزداد منها؛ فإنَّ الله مُجازيه على عمَله خيرَ الجزاء، فهو سبحانه شاكرٌ لا يُضيع أجْرَ مَن أحسن عملًا، عليمٌ لا يَخفَى عليه ذاك الإحسانُ.موسوعة التفسير.الدرر السنية. "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ"159. الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه، واليهود فعلوا في التوراة كليهما، فقد أخفوا حكم رجم الزاني، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد ﷺ، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام.تفسير المراغي. هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته. لكنها أيضًا حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله " مِنَ الْبَيِّنَاتِ " الدالات على الحق المظهرات له، " وَالْهُدَى " وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم، مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ:والمراد ما اشتملت عليه الكتب السماوية السابقة على القرآن من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن هداية وأحكام.والمراد بالكتاب جنس الكتب، فيصح حمله على جميع الكتب التي أنزلت على الرسل- عليهم السلام-. وقيل: المراد به التوراة. فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا للناس ما مَنّ اللهُ به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله. "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ" آل عمران: 187. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويسلك بهم مسلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه اللهُ بلِجامٍ من نارٍ يومَ القيامةِ "الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم: 3658 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح . أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ : يلعنهم أي يبعدهم ويطردهم عن رحمته ،وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي ويلعنهم كل من تتأتى منه اللعنة- كالملائكة والمؤمنين- بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله لكتمانهم لما أمر الله بإظهاره. " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"160. بعد هذا الوعيد الشديد لأولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، أورد القرآن في أعقاب ذلك آية تفتح لهم نافذة الأمل، وتبين لهم أنهم إذا تابوا وأنابوا قبل الله توبتهم ورحمهم. أي: استثنى الله عزَّ وجلَّ منهم مَن رجَع عن كِتمانه، معترفًا لله تعالى بذنبه، مُصلحًا حالَ نفْسِه بالتقرّبِ إلى اللهِ بصالحِ الأعمالِ، مبيِّنًا للنَّاسِ ما كتَمَه مِنَ الحقِّ. أي بينوا خلاف ما كانوا عليه من الباطل. ولا يكفي في التوبة من أي ذنب قول القائل : قد تبت ، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول ، فإن كان مرتدًا رجع إلى الإسلام مُظهِرًا شرائعه ، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح ، وجَانَب أهل الفسادِ والأحوال التي كان عليها ، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام ، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه منَ الباطلِ. فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: فهؤلاء يتوب اللهُ عليهم فأذن بتوبتهم ووفقهم لها ، ويفيضُ عليهم مغفرتَهُ تفضلًا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوبَ عبادِهِ المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات. وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، في التوبة عما فرط من الذنوب، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام. تعقيب: توبة الله على العبد لها معنيان : الأول : توفيق الله تعالى للعبد أن يتوب . الثاني : أن يقبل الله تعالى توبة العبد . قال ابن القيم في "مدارج السالكين" 1/312 : "وتوبة العبد إلى ربه: محفوفة بتوبة مِنَ اللهِ عليه قبلها ، وتوبة منه بعدها ، فتوبته بين توبتين من الله ، سابقة ولاحقة ، فإنه تاب عليه أولًا، إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا ، فتاب العبد ، فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابة .ا.هـ. "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"161. لَمَّا لعَن الله الكاتمين للحق؛ واستثنى منهم التائبين، ذكَر المُصرِّين على كفرهم حتَّى ماتهم، ولم يتوبوا، معبِّرًا عن كتمانهم بالكُفر؛ لتعمَّ العبارةُ كلَّ كُفر ولو بغير معصية الكتمان، فهؤلاء يستحقون اللعن الأبدي الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان، وهذا لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر. أي: إنَّ الله تعالى يطردُ أولئك الكفَّار من رحمته، وأمَّا الملائكة وجميع النَّاس فيَسألون الله عزَّ وجلَّ أن يُبعدَهم ويطردَهم من رحمته. "خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ "162. الخلود البقاء إلى غير نهاية. أي: هم خالدون أبدًا في هذه اللَّعنة المستَتْبِعةِ للخلود الأَبديِّ في نار جهنَّمَ، التي لا يَنقُص فيها عذابُهم زمنًا ولا مِقدارًا؛ فهُم في عذابٍ دائمٍ وشديد. وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ:لا يُمهلون فيُؤخَّر عنهم العذاب ،أو ولا هم يُمْهَلُون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال. |
من آية 163إلى.164. قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ معطوف على قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا عطف القصة على القصة. حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء. إنما ذكر الوحدانية- وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ - والرحمة - الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - دون غيرهما من صفاته، لأن الوحدانية تُذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق أن شارع الدين واحد لا معبود سواه ، وبأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده. وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ :أي: متوحد منفرد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فليس له شريك في ذاته، ولا سمي له ولا كفو له، ولا مثل، ولا نظير ، فإذا كان كذلك، فهو المستحق لأن يؤله ويُعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه.لذا قال سبحانه بعدها:لَّاإِلَهَ إِلَّا هُوَ . الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ : وأتى- سبحانه- بهذين اللفظين في ختام الآية، لأن ذكر الإلهية والوحدانية يحضر في ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان، مصدر الإحسان ومولى النعم، فقال: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، وهذه طريقة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط. ثم ذكر - عزت قدرته - بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"164. وبعد أن أخبر- سبحانه- بأنه هو الإله الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، عقب ذلك بإيراد ثمانية آيات أي: أدلة تشهد بوحدانيته وإلهيته، وقدرته وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته ، وتشتمل على آيات ساطعات، وبينات واضحات، تهدي أصحاب العقول السليمة إلى عبادة الله وحده، وإلى بطلان ما يفعله كثير من الناس من عبادة مخلوقاته. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: إن إيجاد السَّموات والأرض من عدمٍ، وصُنعِهما المتقن لآيات بينات للفِطَرِ والعقولِ السليمةِ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ : وما فيها والسموات التي تتألف أجرامها من طوائف، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها، فتكون سببًا في حياة الحيوان والنبات، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها، استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية، ولولا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعًا. ...وَالْأَرْضِ : الأرض،جعلها سبحانه مهادًا للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها ففي جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان وجميع المخلوقات ، وفي منافعها المختلفة باختلاف أنواعها، ما يدل على إبداع.الحكيم العليم." وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ" الذاريات : 20. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم ، وصدق نبوة نبيهم ، خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ".الحج:5. "وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ "الرعد : 4. المقصود أنها مع تجاورها وتقاربها مختلفة في أوصافها مما يشهد بقدرة الله- تعالى- العظيمة. قال ابن كثير ما ملخصه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي: أراض يجاور بعضها بعضًا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئًا، وهذه تربتها حمراء، وتلك تربتها سوداء، وهذه محجرة وتلك سهلة، والكل متجاورات، فهذامما يشهد بقدرة الله ، لا إله إلا هو ولا رب سواه . خلقَ سبحانه هذه الأرض وأرساها بالجبال؛ يقول - جل وعلا "وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ "النحل : 15. ألقى في الأرض رواسي أي جبالا ثابتة . رسا يرسو إذا ثبت وأقام .والميد :هو الاضطراب ، لتقر الأرض ولا تميد أي : تضطرب بما عليها من الكائنات الحية فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك. ويقول - جل وعلا " وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا "النازعات : 32. أي: ثبتها في الأرض. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ : وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما، خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر، والبرد، والتوسط، وفي الطول، والقصر، والتوسط، أي : تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر ، فتارة يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ، وما ينشأ عن ذلك من الفصول، التي بها انتظام مصالح بني آدم . – مثاله في فصل الصيف يطول النهار ويقصر الليل وفي الشتاء يطول الليل ويقصر النهار وهذا مُشَاهَد - إن هذا الإخبار عن ذلك فيه حث على التأمل والتفكر، فالله ذكر ذلك في سياق مدح لهؤلاء المتفكرين المُعتبرين. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ:وهي السفن والمراكب ونحوها، مما ألهم الله عباده صنعتها، ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح، التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال، والبضائع التي هي من منافع الناس، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم. وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله : والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم -الجغرافية الفلكية-. قال- تعالى" وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ "الأنعام: 97 . وخص- سبحانه- النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفع وما يضر لأن المراد هنا عَدّ النِّعَم، ولأن الذي يحمل فيها ما يضر غيره هو في الوقت نفسه يقصد منفعة نفسِهِ. ومن وجوه الاستدلال بالفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله- تعالى- هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفنا، وهو الذي سخر لبحر لتجرى فيه مقبلة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقا حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذي رعاها برعايته وهي كنقطة صغيرة في ذلك الماء الواسع، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهي حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.الوسيط. وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا: والمراد بالسماء: جهة العلو، أي: وما أنزل من جهة السماء من ماء. قال تعالى" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ "الروم:48. وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا :أي: ويجعله قطعًا بعضها فوق بعض تارة أخرى. والكسف: جمع كسفه، وهي القطعة من السحاب. الْوَدْقَ: المطر ، يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ : أي: المطر يخرج ويتساقط من خلال هذا السحاب، ومن بين ذراته. فَإِذا أَصابَ بِهِ، أي: بهذا المطر مَنْ يَشاءُ. إصابته به مِنْ عِبادِهِ بأن ينزله على أراضيهم وعلى بلادهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: يفرحون بذلك، لأنه يكون سببا في حياتهم وحياة دوابهم وزروعهم. وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم: إن المطر يتوالد عن طريق تجمع هائل لبخار المياه المتصاعدة من المسطحات المائية المختلفة ومن التربة - ثم يتعرض لعوامل مختلفة من درجات الحرارة الباردة و اتجاه تيارات الرياح فيؤدي لتكثيف البخار وتتكون سُحُبًا يسقط الماء – المطر - من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله . وأعرف الناس بنعمة المطر، أولئك الذين يعيشون في الأماكن البعيدة عن الأنهار. ممن تقوم حياتهم على مياه الأمطار. فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا:أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات، وبه أمكن معيشة الكائنات الحية على سطحها،قال تعالى"وتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ"الحج:5. وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ : وَبَثَّ فِيهَا :أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة. الدابة اسم من الدبيب والمشي ببطء، كل ما يمشى فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق عليه دابة. والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام، لا ما يجرى به العرف الخاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع.الوسيط. وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ:أي: وتصريف أي تقليب الرياح للسحاب. تقليب الرِّيح ركودًا وهبوبًا، وجعْلها تهبُّ من اتجاهات عِدَّة، واختلافها في الشِّدَّة والضَّعف، والنَّفع والضر، وتذليله سبحانه السَّحابَ بين السَّماء والأرض لمصالح خَلْقه، على حسب إرادته- سبحانه- ووفق حكمته. الْمُسَخَّرِ : والْمُسَخَّرِ: المُذلَّل، وَالمُيسَّر،من التسخير وهو التذليل والتيسير,والتسخير معناه حمل الشيء على حركة مطلوبة منه لا اختيار له فيها، والله يسخر السحاب لأنه يريده أن يمطر هنا، فيأتي مسخر الرياح فيسوقه إلى حيث يريد الله. لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: هذه الدلائلَ والعلامات يَعيها مَنْ مَنَّ الله عليه بعقلٍ يتدبَّر به، فيَفهَم حكمة الله عزَّ وجلَّ منها. |
من آية 165إلى171. . ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن " وَمِنَ النَّاسِ " مع هذا البيان التام مَنْ يتخذ مِنَ المخلوقين أندادا لله ، الأنداد واحدها ندّ وهو المماثل .أي: يتخذون نظراء ومثلاء، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة. ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة، وبيان التوحيد - عُلم أنه معاند لله، مشاق له, أو معرِض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك، بل قد حقت عليه كلمة العذاب. وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، وإنما يسوونهم به في العبادة، فيعبدونهم، ليقربوهم إليه، وفي قوله: " يَتَّخِذُ " دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له، تسمية مجردة، ولفظا فارغا من المعنى. قال تعالى "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ " الزمر:3. مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى : يقولون إننا ما نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها، لكي تقربنا إلى الله قربى، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ : الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَ شَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ" أي: الذين آمنوا أشد حبًا لله من أهل الأنداد لأندادِهم، لأن المؤمنين أخلصوا محبتهم لله، وهؤلاء أشركوا بها، ولأن المؤمنين أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله- تعالى- لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم، ولأنهم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتنبوه. والمشركون أحبوا من دون الله من لا يستحق من الحب شيئًا، ومحبته عين شقاء العبد وفساده، وتشتت أمره. لذا أخبر- سبحانه- عما ينتظر الظالمين من سوء المصير ، والظالمون هم المشركون وظلموا باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله وبحملهم على أن يحذو حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم ، وسعيهم فيما يضرهم وتوعدهم الله بقوله " وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ " والمعنى: ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعَدّ لهم يوم القيامة فتقطع بهم الأسباب، ولا تغني عنهم الأنداد والأرباب، أن القدرة والقوة كلها لله وحده، وأن عذابه الذي يصيب به المتخبطين في ظلمات الشرك شديد، بها يتصرف في كل موجود، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هي عين القوة التي تدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين حين لجأوا إلى سواها، وأشركوا معها غيرها، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم. لو يعلمون ذلك، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من العذاب والحسرة والندامة. " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ"166. وتَبَرَّأَ من التَّبَرُؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد، ومنه برئت من الدين أي: تخلصت منه، وبرأ المريض من مرضه، أي: تخلص من مرضه. والمراد بالذين اتُّبِعُوا: أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله. والمراد بالذيناتَّبَعُوا: أتباعهم وأشياعهم الذين يتلقون جميع أقوالهم بالطاعة والخضوع بدون تدبر أو تعقل. وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ: وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة. والْأَسْبابُ جمع سبب، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقَى به الشجر ونحوه، ثم سمي به كل ما يتوصل به إلى غيره، عينا كان أو معنى. فيقال للطريق سبب، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك، والمراد بالأسباب هنا: الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين ... إلخ. "وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ "167. الكرة: الرجعة والعودة. والمعنى: وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب - بأن يتركوا الشرك بالله، ويقبلوا على إخلاص العمل لله،ويهتدوا بكتاب الله وسنة رسوله ثم يعودوا إلى موضع الحساب-فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم. وهيهات هيهات، فات الأوان ، وليس الوقت وقت إمهال وإنظار.فتبرؤوا جميعًا من بعض في حال رؤيتهم للعذاب. كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ: المعنى: كما أرى الله- تعالى- المشركين العذاب وما صاحبه من التبرؤ وتقطع الأسباب بينهم، يريهم- سبحانه- أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم. ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.لكن هذا التحسُّر والندم لا يُفيدهم شيئًا؛ فإنَّهم باقون في النار غير خارجين منها. بل هم مستقرون فيها استقرارًا أبديًا. " يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"168. لما بيَّنَ تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فوجه نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات- كُلُوا صيغة أمر واردة في معنى الإباحة.- ، فذكر ذلك في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبًا ، أي : مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول وَالطَّيِّبُ: هو المستلذ المستطاب الذي تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع في تهلكة، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم، والموقع في تهلكة يمجه العقل القويم.، فكأنه يدعو غير المؤمنين: لو عقلتم، لوجب أن تحتاطوا إلى حياتكم بألا تأكلوا إلا حلالا أحله الله للمؤمنين، ونهاهم عن اتباع وساوس وخطوات الشيطان : وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي عن اتباع الشيطان. بَيِّن العداوة، وقيل: مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه الله من الجنة. ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال تعالى : "إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"169. هذه الآية استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لأنواع شروره ومفاسده. إِنَّمَا يَأْمُرُكُم: والأمر في الأصل: الطلب بالقول، واستعمل في تزيين الشيطان المعصية، لأن تزيينها في معنى الدعوة إليها. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله "لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ؟" قلتُ: شَبَّهَ تزيينَهُ وبعثَهُ على الشرِّ بأمرِ الآمرِ، كما تقول: أمَرَتنِي نفسي بكذا. بِالسُّوءِ :والسوء كل مايُحزِن . والمراد به هنا، كل ما يغضب الله- تعالى- من المعاصي، لأنها تسوء صاحبَهَا وتُحْزِنه في الحال أو المآل. وَالْفَحْشَاءِ : ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال مما يستفحشه من له عقل .عطف الفحشاء على السوءمن باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي . وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع. فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه,، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا، وأوثانا، تقرب من عبدها من الله، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا, أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم. قال الطبري : وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعًا. "مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "المائدة : 103. هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما أحله الله، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ "وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة. " وَلَا سَائِبَةٍ "وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة. " وَلَا حَامٍ " أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم. فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم.تفسير السعدي. "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"170. أي: وإذا قيل لأولئك الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، أي: إذا قيل للمشركين: التزِموا باتِّباع الوحيِ الإلهيِّ فحسبُ؛ فأحِلُّوا حلالَه، وحرِّموا حرامَه، دون التَّقوُّلِ على الله تعالى بلا عِلمٍ ،ولا تتبعوا من دونه أولياء – جنحوا إلى تقليد الآباء وأعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء. أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ: أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم جُهال لا يعقلون شيئًا من أمور الدين. إذ ليس لديهم عقلٌ سليم يُرشِدهم إلى اتِّباع الحقِّ، ويزجُرُهم عن اتِّباع الباطل، ولا يحمِلون عِلمًا نافعًا يعمَلون على وَفْقِه عملًا صالحًا؛ فكيف يتَّبعون هؤلاء ومِثْلُهم لا يصلُحُ أنْ يُقتدى بهم . قال جلَّ وعلا في موضع آخر" إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ "الصافات:69-70. "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "171. الذي ينعق هو الذي يُصَوِّتُ ويصرخ للبهائم، وهو الراعي. شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم ما يقول ، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه. أي: شبَّه اللهُ تعالى الكفَّارَ عند دعوة الدَّاعي لهم إلى الإيمان -كالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- شبَّههم بالبهائمِ التي يصوِّت لها راعيها، فتسمَعُ الصَّوت ولا تفهَمُ المعنى، فكذلك حالُ الكفَّارِ الَّذين لا ينتفعون مِن تلك الدَّعوة بشيء، لكنَّهم يسمعون ما تُقام عليهم به الحجَّة. دُعَاءً وَنِدَاءً : والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد أي أن ثانيهما تأكيد للأول، وقيل: الدعاء للقريب والنداء للبعيد. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ : زيادة في تبكيتهم وتقريعهم، أي: هم صم عن استماع دعوة الحق، بُكْم عن إجابة الداعي إليها، عمي عن آيات صدقها وصحتها، فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر. وقوله:فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ: وارد مورد النتيجة بعد البرهان، بجانب كونه توبيخا لهم، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإدراك وهما السمع والبصر، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطلاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عقله الاكتسابى، فأصبح لا يفقه شيئا لأن العقل الذي يكتسب به الإنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث.الوسيط. وبعد هذا البيان البليغ لحال الذين يتخذون من دون الله أندادا، ولحال الكافرين المقلدين لآبائهم في الضلال بدون تدبر أو تعقل، بعد كل ذلك وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين بينت لهم فيه- وفيما سيأتى بعده من آيات- كثيرا من التشريعات والآداب والأحكام التي هم في حاجة إليها . |
من آية 172إلى 176.. بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه، ثم خاطب الناس جميعًا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبًا، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنه لا استقلال لهم برأى ولا يهتدون بعقل. ثم في هذه الآية وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأحرى بالاهتداء، فأمرهم – أمر إباحة - أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ. طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ: أي طاب كسبه من الحلال.وما طاب من الرزق بتحليل الله له.أي: يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلوا من ألوان الطيبات التي أحللناها لكم. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ :والشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم لموجدها، ووضعها في الموضع الذي أمر به.أي استخدام نعم الله في طاعة الله لنؤدي شكرها. "إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا."الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم أي: تمتعوا بنعم الله، واعترفوا له بها على وجه التعظيم، بأن تمتثلوا ما أمر به، وتجتنبوا ما نهى عنه، إن كنتم تخصونه بالعبادة حقًا، وتفردونه بالطاعة صدقًا. قال الآلوسى: وجملة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ بمنزلة التعليل لطلب الشكر، كأنه قيل "واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة، وتخصيصكم إياه بالعبادة، يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه، وهي لا تتم إلا بالشكر، لأنه من أجل العبادات"الوسيط. إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ: لمَّا قيَّد سبحانه وتعالى الإذنَ لعباده بالطيِّب من الرِّزق، افتقَر الأمرُ إلى بيان الخبيث منه ليُجتَنَب، فبيَّن صريحًا ما حرَّم عليهم ممَّا كان المشركون يستحلُّونه ويحرِّمون غيرَه، وأفهَم حِلَّ ما عداه، وأنه كثيرٌ جدًّا؛ ليزدادَ المخاطَب شكرًا. الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ :بيان لما حرمه الله- تعالى- علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا. والْمَيْتَةَ في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غيرمشروعة، فيدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي. قال تعالى"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ "المائدة: 3. قال صلى الله عليه وسلم"ما قُطِعَ منَ البَهيمةِ وَهيَ حيَّةٌ فما قُطِعَ منها فَهوَ مَيتةٌ" الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - صحيح ابن ماجه. الْمُنْخَنِقَةُ: أي: الميتة بخنق، بيد أو حبل، أو إدخال رأسها بشيء ضيق، فتعجز عن إخراجه حتى تموت. " وَالْمَوْقُوذَةُ " أي: الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة، أو هدم شيء عليها، بقصد أو بغير قصد. " وَالْمُتَرَدِّيَةُ " أي: الساقطة من علو، كجبل أو جدار أو سطح ونحوه، فتموت بذلك."وَالنَّطِيحَةُ ْ" وهي التي تنطحها غيرها فتموت. " وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ْ" من ذئب أو أسد أو نمر، أو من الطيور التي تفترس الصيود، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع لها، فإنها لا تحل. وَالدَّمَ : أي الدم المسفوح، لأنه قذر وضارّ كالميتة. الدم المسفوح هو الدم الذي يخرج من البهيمة عند الذبح يحرم شربه.استثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلها. "أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ ، فأمَّا الميتَتانِ ، فالحوتُ والجرادُ ، وأمَّا الدَّمانِ ، فالكبِدُ والطِّحالُ"الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه. وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ:كذلك حرم عليهم لحم الخنزير ، سواء ذكي أو مات حتف أنفهويدخُل فيه شحمُه. وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ:وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى, كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار, والقبور ونحوها.وأصل الإهلال رفع الصوت لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم. فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ : غَيْرَ بَاغٍ :أي: غير طالب للمحرم, مع قدرته على الحلال, أو مع عدم جوعه. وَلَا عَادٍ :أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له, اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها. أي فمن ألجئ إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبًا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعًا أشد ضررًا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا، لم يقصد إجازة عمل الوثنية.ويحمل معه ما يبلغه الحلال ، فإذا بلغه ألقاه. والإنسان بهذه الحالة, مأمور بالأكل, بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة, وأن يقتل نفسه. فيجب, إذًا عليه الأكل, ويأثم إن ترك الأكل حتى مات, فيكون قاتلا لنفسه. وهذه الإباحة والتوسعة, من رحمته تعالى بعباده, فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : أنَّه رفَع بمغفرته الإثمَ عنهم في تناوُل ما حرَّمه؛ تجاوزًا منه سبحانه، وهو الرَّحيم بعباده، ومن رحمته أنْ شرَع لهم ذلك توسعةً منه. أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر، ورفَع بمغفرته الإثمَ عنهم في تناوُل ما حرَّمه؛ تجاوزًا منه سبحانه، وهو الرَّحيم بعباده، ومن رحمته أنْ شرَع لهم ذلك توسعةً منه. وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور, اضطر إليه الإنسان, فقد أباحه له, الملك الرحمن. مع مراعاة القاعدة التالية: الضرورة بقدرها. وَلَيْسَ وَاجِبٌ بِلاَ اقْتِدَارِ *****وَلاَ مُحَرَّمٌ مَعَ اضْطِرارِ وَكُلُّ مَحْظُورٍ مَعَ الضَّرُورَةْ *****بِقَدْرِ ما تَحْتَاجُهُ الضَّرُورَةْ. " إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" 174. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ : يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم ، مما تشهد له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم.فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك .فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة . وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا : وهو عرض الحياة الدنيا، والحطام الدنيوي .وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل حتى ولو كان ملء الأرض ذهبا.قال تعالى "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا" النساء: 77. أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ:أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار، وانتهاء مطامعهم بعذابها. وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ . وقيل أراد به أنه يكون عليهم غضبان كما يقال فلان لا يكلم فلانا إذا كان عليه غضبان. وَلَا يُزَكِّيهِمْ:أي: ولا يطهرهم من دنس الكفر والذنوب بالمغفرة، من التزكية بمعنى التطهير. يقال: زكاه الله، أي: طهره وأصلحه. وتستعمل التزكية بمعنى الثناء، ومنه زكى الرجل صاحبه إذا وصفه بالأوصاف المحمودة وأثنى عليه، فيكون معنى وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثني عليهم- سبحانه- ومن لا يثني عليه الله فهو معذب. فهؤلاء الذين كتموا الحق نظير شيء قليل من حطام الدنيا، فقدوا رضا الله عنهم وثناءه عليهم وتطهيره لهم. الوسيط. وقيل :أي: إنَّ جزاءَهم في الآخرة مِن جِنس ما عمِلوه في الدُّنيا، فكما أكَلوا في بطونهم ما حرَّم الله تعالى بما اكتَسَبوه من مالٍ حرامٍ؛ لكتمانِهم العِلمَ- فكذلك يُطعَمون يومَ القيامة نارًا في بطونهم؛ جزاءً وِفاقًا.الموسوعة الحديثية/الدرر السنية. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان سوء منقلبهم، وشدة ألم العذاب الذي ينالهم فقال- تعالى- وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أى. موجع مؤلم. قال الآلوسى: وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر- سبحانه- اشتراءهم بذلك- الثمن القليل- وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية، بدأ أولا في الخبر بقوله: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. وابتنى على كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله ثمنا قليلًا، أنهم شهود زور وأحبار سوء، آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآلموه فقوبلوا بقوله- سبحانه: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. الوسيط. "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ"175. ثم بين- سبحانه- ما هم عليه من جهل وغباء وسوء عاقبة فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ. الاشتراء: استبدال السلعة بالثمن. والمعنى: أولئك الذين تقدم الحديث عنهم وهم الكاتمون لما أنزل الله قد بلغ بهم انطماس البصيرة أنهم باعوا الهدى والإيمان ليأخذوا في مقابلهما الكفر والضلال، وباعوا ما يوصلهم إلى مغفرة الله ورحمته ليأخذوا في مقابل ذلك عذابه ونقمته، فما أخسرها من صفقة، وما أخسر هؤلاء الكاتمين الذين فعلوا ذلك نظير عرض من أعراض الدنيا الفانية، فخسروا بما فعلوه دنياهم وآخرتهم. الوسيط. بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ: المقصود تعجيب المؤمنين من جراءة أولئك الكاتمين لما أنزل الله على اقترافهم ما يلقي بهم في النار، شأن الواثق من صبره على عذابها المقيم. وشبيه بهذا الأسلوب في التعجب- كما أشار صاحب الكشاف- أن تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن فأنت لا تريد التعجب من صبره، وإنما تريد إفهامه أن التعرض لما يغضبه لا يقع إلا ممن شأنه الصبر على القيد والسجن، والمقصود بذلك تحذيره من التمادي فيما يوجب غضب ذلك السلطان. الوسيط. "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ"176. لَمَّا ذكَر جلَّ وعلا جزاءهم، ذكَر السَّبب الموجِبَ لهذا العقاب العظيم. بين- سبحانه- أن سبب استحقاقهم للعذاب الأليم، هو ارتكابهم لما نهى الله عنه عن قصد وسوء نية فقال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. أي: ذلك العذاب الأليم حل بهم بسبب أن الله أنزل التوراة مصحوبة ببيان الحق الذي من جملته التبشير ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فكتموا هم هذا الحق وامتدت إليه أيديهم الأثيمة بالتحريف والتأويل إيثارا لمطامع دنيوية على هُدَى الله الذي هو أساس كل سعادة. فاسم الإشارة ذلِكَ يعود على مجموع ما سبق بيانه من أكل النار، وعدم تكليم الله إياهم، وعدم تزكيتهم.. إلخ. والباء في قوله: بِأَنَّ للسببية، والمراد بـ الْكِتَاب: التوراة. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ : اختلفوا: خالف بعضهم بعضا، وأصله من اختلاف الطريق، تقول اختلفوا في الطريق. أي: جاء بعضهم من جهة والبعض الآخر من جهة أو جهات أخرى. ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب والاعتقاد. والكتاب: التوراة، أو التوراة والإنجيل، إذ يصح أن يراد جنس الكتاب والمقام يقتضى صرفه إلى هذين الكتابين، وقد أبعد في التأويل من قال بأن المراد به القرآن لأن الحديث عن أهل الكتاب الذين كتموا ما في كتبهم من بشارات بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ،واختلافهم في الكتاب من مظاهره: إيمانهم ببعضه وكفرهم بالبعض الآخر، وتحريفه عن مواضعه وتأويله على غير ما يراد منه. والشقاق: الخلاف، هم في عَداوة بعيدة ، كأن كل واحد من المختلفين في شق غير الشق الذي يكون فيه الآخر، وإذا وصف الخلاف بالبعد فهم منه أنه بعيد عن الحق، يقال: قال فلان قولا بعيدا، أي بعيدا من الصواب. والمعنى: ذلك العذاب الأليم حل بأولئك الأشقياء بسبب كتمانهم لما أنزله الله في كتابه من الحق، وإن الذين اختلفوا في شأن ما أنزله الله في كتبه فأظهروا منها ما يناسب أهواءهم وأخفوا ما لا يناسبها- لفي بعد شديد عن الحق والصواب. |
من آية 177إلى 182. الآيات السابقة قد ذكرت ألوانًا من العقوبات الأليمة التي توعد الله بها كل من يكتم أمرًا نهى الله عن كتمانه، لكي يقلع كل من يتأتى له الخطاب عن هذه الرذيلة وفاء للعهد الذي أخذه الله على الناس بصفة عامة، وعلى أولي العلم بصفة خاصة. ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر، ووجوه الخير، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية " لَّيْسَ الْبِرَّ أَن...... الْبِرّ : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقُرْبَة يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- . البِرّ: قُرِئ بالنَّصب والرَّفْع؛ فعَلى قِراءة النصب، فالبرّ خبَر "ليس" مقدَّم منصوب ، وقوله: أَن تُوَلُّوا- مصدر مُؤوَّل، أي: توليكم- في محلِّ رفْع اسم "ليس" مؤخَّر. وأمَّا على قراءة رفع البِرّ ، فلا تقديم ولا تأخير. فالبِرّ: اسم "ليس"، وأن تولوا: مصدر مُؤوَّل، أي: توليكم خبرُها في محلِّ نصب خبر "ليس". موسوعة التفسير-الدرر.بقليل تصرف بمزيد تفصيل وتوضيح. لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ : لما أمر اللهُ تعالى المؤمنين أولًا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه.تفسير ابن كثير. والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب فقط، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح – يكون أيضًا في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي إنفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .الوسيط و..... وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ : وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بِر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص ، هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو – أي لا تخضع - الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها نبراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة . وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ" الإيمانُ باليَومِ الآخِرِ: هو التَّصديقُ بيَومِ القيامةِ، وما اشتَمَلَ عليه مِنَ الإعادةِ بَعدَ المَوتِ، والنَّشْرِ، والحَشْرِ، والحِسابِ والميزانِ والصِّراطِ، والجَنَّةِ والنَّارِ، وأنَّهما دارَا ثَوابِه وجَزائِه لِلمُحْسِنِينَ والمُسيئِينَ، إلَى غَيرِ ذلك مِمَّا صَحَّ نَصُّه، وثَبَتَ نَقلُه"ا.هـ. وقال ابنُ بازٍ: أمَّا الإيمانُ باليَومِ الآخِرِ فيَدخُلُ فيه الإيمانُ بكُلِّ ما أخبَرَ اللَّهُ به ورُسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا يَكونُ بَعدَ المَوتِ كَفتنةِ القَبرِ وعَذابِه ونَعيمِه، وما يَكونُ يَومَ القيامةِ مِنَ الأهوالِ والشَّدائِدِ والصِّراطِ والميزانِ والحِسابِ والجَزَاءِ ونَشْرِ الصُّحُفِ بَينَ النَّاسِ، فآخِذٌ كِتابَه بيَمينِه وآخِذٌ كِتابَه بشِمالِه، أو من وراءِ ظَهرِه، ويَدخُلُ في ذلك أيضًا الإيمانُ بالحَوضِ المَورودِ لنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإيمانُ بالجَنَّةِ والنَّارِ، ورُؤيةِ المُؤمِنينَ لِرَبِّهم سَبحانَه وتَكليمِه إيَّاهم، وغَيرُ ذلك مِمَّا جاءَ في القُرآنِ الكِريمِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ عَن رَسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَجِبُ الإيمانُ بذلك كُلِّه وتَصديقُه على الوَجهِ الَّذي بَيَّنَه اللَّهُ ورُسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.مجموع فتاوى ابن باز: 1/ 21.الموسوعة العقدية.الدرر. والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام . وَالْمَلَائِكَةِ : أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم" لَا يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ "التحريم:6. - ومن وجوه دخول التصديق بالملائكة - في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبيَّن ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .الوسيط. وَالْكِتَابِ : والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقًا وما خالفه كان باطلًا. والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .الوسيط. الإيمان بالكتب السابقة فهو إيمان مجمل يتناول أصولها وما فيها من حق دون ما أدخل فيها من تحريف وتبديل؛ لأن الله أمر بالإيمان بها مع ذكره سبحانه أن أهلها قد حرفوها وغيروا فيها، فالإيمان بأصولها وأنها من عند الله دون ما فيها من تحريف وتبديل فهذا مردود على أصحابه، قال تعالى: "فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً"سورة البقرة: آية 79، وقال تعالى"وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"سورة آل عمران: آية.78.واقتضت حكمة الله أن تكون الكتب السابقة لآجال معينة ولأوقات محدودة. أما الإيمان بالقرآن؛ فإنه إيمان مفصل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، واتباع ما جاء فيه،وتحكيمه في كل صغيرة وكبيرة ،والإيمان بأنه كلام الله غير مخلوق ، القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، قال سبحانه وتعالى "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"الحجر:9. ... وَالنَّبِيِّينَ : أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليغها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة . والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح. ولقد قام الدليل القاطع على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين. قال صلى الله عليه وسلم" إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري. وفي هذا الحَديثِ يَضرِبُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المثَلَ له وللنَّبيِّينَ صلَّى اللهُ عليهم وسلَّمَ، وما بَعَثَهمُ اللهُ به مِن الهُدى والعِلمِ، وما يَنفَعُ النَّاسَ؛ كمَثلِ رَجلٍ بَنى بَيتًا، إلَّا أنَّ هذا البِناءَ مع جَمالِه وحُسنِه، كانت هناك لَبِنةٌ واحِدةٌ فيه بَقيَ مَوضِعُها فارِغًا، واللَّبِنةُ هي القِطعةُ مِن الطِّينِ، تُعجَنُ وتُعَدُّ للبِناءِ، ويُقالُ لها -ما لم تُحرَقْ : لَبِنةٌ، فإذا أُحرِقتْ فهي آجُرَّةٌ.فجعَلَ النَّاسُ يَطوفونَ بالبيتِ، ويَعجَبونَ مِن حُسنِه، ويَقولونَ: لو وُضِعَتْ هذه اللَّبِنةُ لَكان غايةً في الحُسنِ والكَمالِ، فكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو اللَّبِنةَ الَّتي بها اكتمَلَ البِناءُ؛ فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنِّسبةِ إلى الأنْبياءِ السَّابِقينَ كاللَّبِنةِ المُتَمِّمةِ لذلك البِناءِ؛ لأنَّ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَمالَ الشَّرائِعِ السَّابِقةِ، وليس مَعنى هذا أنَّ الأدْيانَ السَّابِقةَ كانت ناقِصةً، وإنَّما المُرادُ أنَّه وإنْ كانت كُلُّ شَريعةٍ كامِلةً بالنِّسبةِ إلى عَصرِها، فإنَّ الشَّريعةَ المُحَمَّديَّةَ هي الشَّريعةُ الأكمَلُ والأتَمُّ، وكَونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمَ النَّبيِّينَ، أي: لا نَبيَّ بعْدَه.الدرر. وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يُصَدِّق به الإِنسان ، ليكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة . ".....ما الإيمانُ قالَ أن تؤمِنَ باللَّهِ وملائكتِهِ ورسلِهِ وكتبِهِ واليومِ الآخرِ والقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ ....." الراوي : عمر بن الخطاب -المحدث : الألباني-المصدر :صحيح ابن ماجه. ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان لمحة من الأعمال الصالحة فقالت: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ: أي: ومِن الأعمال الدَّاخلةِ في مسمَّى البِرِّ: أنْ يُعطيَ العبدُ المالَ وهو محبٌّ له وراغبٌ فيه. " جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى، ولَا تُمْهِلُ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا وقدْ كانَ لِفُلَانٍ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري . شرح الحديث:أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى :صحيحٌ ليس فيه مرَضٌ أو عِلَّةٌ تقْطَعُ أمَلَه في الحياةِ، وهو وقتٌ يُصادِفُ مَن يكونُ مِن شأنِه الشُّحُّ، وهو البُخلُ مع الحِرصِ، ويَخافُ مِن الوُقوعِ في الفَقرِ، ويَأْمُلُ الغِنَى ويَرجوه ويَطمَعُ فيه لِنفْسِه، وهذا في فَترةِ الحياةِ كلِّها، وخاصَّةً وقْتَ الرَّغدِ والنَّعيمِ، فيَكونُ الإنسانُ أكثَرَ حِرصًا، فإذا تصَدَّق مع كلِّ هذه المَوانعِ والمُغرياتِ الَّتي تَحُثُّه على حِفظِ المالِ فذلك أعظَمُ أجرًا. ولَا تُمْهِلُ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا وقدْ كانَ لِفُلَانٍ: ثمَّ حذَّره النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن آفةٍ تُصيبُ كثيرًا مِن النَّاسِ، وذلك بأنَّ يَنتظِرَ ويَتمهَّلَ ويؤخِّرَ التصَدُّقَ، حتَّى إذَا بَلَغَت رُوحُه الحُلْقُومَ، وشعَرَ بقُربِ المَوتِ، وتأكَّدَ أنَّ المالَ لن يَنفَعَه، وأنَّه سيَترُكُه- أَوْصى لِفُلَانٍ بكذا، ولِفُلانٍ بكذا، وأخبَرَ أنَّه قدْ كان لِفُلانٍ مِن الدُّيونِ أو الحُقوقِ، وقد أصبَح المالُ مِلكًا للورَثةِ، فهذا أقَلُّ أجرًا.فبيَّنَ لنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ أن تَتصدَّقَ حالَ حياتِك وصحَّتِك، مع احتياجِك إلى المالِ واختصاصِك به، لا في حالِ سقَمِك وسياقِ مَوتِك؛ لأنَّ المالَ حينَئذٍ خرَج عنك وتعلَّقَ بغيرِك.الدرر السنية. ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ: فيدفعه صدقةً لأقاربِه، وللصِّغار اليتامى الَّذين فقدوا آباءهم وهم دون البلوغ ولا كاسبَ لهم، وللمساكين الَّذين لا يجِدون ما يَكفيهم ويُغْنيهم، وللمسافر المجتاز يريد نفقةً تُوصلُه لموطنه، وللطَّالبين حاجةً ممَّا يعرِضُ لهم مِن سوء، ولعِتْق الرِّقاب ونحوها - الأسارى والأرقاء-. أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة. عني القرآن عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين بالحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضًا - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها . ثم ذكرت الآية ألوانًا أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ: وَأَقَامَ الصَّلَاةَ :وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به. وَآتَى الزَّكَاةَ:أي الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة، وإيتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى " إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ"التوبة:60. وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقًا لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منهم أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة . والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين . وقلما تجئ الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة,لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من اليقين. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنون عليه الله من الإِذعان لكل ما جاء به الدين ،. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها.ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضًا مما لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا ، وحقوق العباد, التي أوجبها الله عليهم. ويشمل الحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور, ونحو ذلك والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أَيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات . وفي قوله - تعالى " إِذَا عَاهَدُواْ " إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد . ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ : البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج .والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام. وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته . وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة . وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم . وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر، وكاد يفضي إلى الكفر، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ: أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا : أي صدقوا في دعواهم الإيمان، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ : أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا، وعذابه في الآخرة. وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعًا من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق . بر العقيدة: فقد بينته أكمل بيان في قوله تعالى "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ " وبر في العمل: ذُكِرَ في قوله تعالى : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ: ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهرًا من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - . وأما بر الخلق: فقد ذُكِرَ بأحكم عبارة في قوله - تعالى :وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة . وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بِرِّ العقيدة و بِرِّ العمل و بِرِّ الخُلُق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، وتضع على هذا كله عنوانًا واحدًا " البِرّ " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .الوسيط. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ "178. بعد أن بيَّن - سبحانه - أنَّ البِرَّ الجامعَ لألوانِ الخيرِ يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر .... . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضة - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة بعد كل ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ : أي : فُرِضَ عليكم . الْقِصَاصُ: العقوبة بالمثل من قتل أو جرح . وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانبًا من التبعة في تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة. والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا تتعدوا بالقصاص إلى غير القاتل والجاني -كما لو قَتلت الأُنثى أُنثى أُخرى، فإنَّ الأنثى الجانية هي التي تُقتل، ولا يَحِلُّ أن يُقتل بهذه الأنثى المقتولة رجلٌ لم يقتلها، ومثل ذلك: الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَرُ بالذَّكَر-، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل . ولفظ " في " في قوله - تعالى : فِي القتلى : للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها ." دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ" .الراوي : عبدالله بن عمر - صحيح البخاري. وقوله تعالى " الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى" بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير وقد يفهم من مقابلة " الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .-طالما المرأة قتلت رجل تقتل، ولو قتل رجل امرأة يقتل وهذا تفصيل ما سبق- . قال القرطبي " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " . والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه . والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل . والمساواة وإبطال ما كان شائعًا في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصًا لا ترضى حتى تقتل في مقابلة من الضعيفة أشخاصًا . وإذا قتلت منها عبدًا تقتل في مقابله حرًا أو أحرارًا ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلًا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيرًا مما فعله الجاهليون في هذا الشأن . ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكمًا يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية. فقال سبحانه: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ : عُفِيَ : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ، ترك العقاب عليها . والذي "عُفِيَلَهُ" هو القاتل ، و "أَخِيهِ"الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ "شَيْء"القصاص. والمعنى : أن القاتل عمدًا إذا أسقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدِّيَة بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدِّيَة من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدِّيَة بالإحسان ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه . ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ:أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضي طائعًا مختارًا ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدِّيَة تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصًا ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .فقوله - تعالى" فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقًا في مطالبته القاتل بدفع الدية . وقوله"وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ"وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدِّيَة لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة . وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر . وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيرًا بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان . وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة ..وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصًا عادلًا . والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقَى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامَى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته . ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقه الدين ، وانحطاط الخلق . ثم بين - سبحانه - الحكمة في مشروعية القصاص توطينًا للنفوس على الانقياد له ، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال - تعالى : "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"179. أي : ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة ، فالتنوين للتعظيم"حَيَاةٌ ". أي: إنَّ في مشروعيةِ القِصاص حياةً، لِمَن أعمَل عقلَه؛ ليتدبَّرَ ويفهمَ عن الله تعالى مرادَه من هذا الحُكم، فينزجِر ويجتنِب القتل؛ فإنَّ مَن أراد القتل إذا علِم أنَّه يُقتَل قِصاصًا بمن قتَله، كفَّ عن القتل؛ فكان في ذلك حياةٌ له ولِمَن أراد قَتْلَه، وإذا رُئي القاتلُ مقتولًا انزَجر بذلك غيرُه، كما أنَّه كان في أهل الجاهليَّةِ مَن إذا قُتل الرَّجلُ مِن قومهم قتَلوا به أكثرَ مِن واحد من عشيرةِ القاتل؛ فشرَع اللهُ تعالى القِصاص، فلا يُقتَلُ بالمقتولِ غيرُ قاتلِه، وفي ذلك حياةٌ لقومِه .موسوعة التفسير.الدرر السنية. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ : أي ولما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم لعلكم تتقون تتقون القتل و الاعتداء فتسلَمون من القصاص وتكفّون عن سفك الدماء، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص. وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق بذلك أن يكون من المتقين. "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ"180. فبعد أن يوصي الحق عباده بأن يضربوا في الحياة ضربًا يوسع رزقهم ليتسع لهم، ويفيض عن حاجتهم، فهذا الفائض هو الخير،فعليه أن يوصي به قبل أن يموت. أي: فرض الله عليكم, يا معشر المؤمنين " إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" فسر بحضور أسباب الموت ، وظهور أماراته ، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ, وحضور أسباب المهالك.ولكن نظرًا لأنه لا يعرف أحد متى يموت فعليه أن يوصي وصية عامة لكن أموره .... عن عبد الله بن عمر أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ" ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ له شيءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".الراوي : عبدالله بن عمر -صحيح البخاري. في الحديث :حثَّ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وأكَّدَ على المُبادَرةِ بكِتابةِ الوَصيَّةِ قبْلَ مُباغَتةِ الموتِ، وبيَّنَ أنَّه لَيس لائقًا بالمسلمِ -سَواءٌ كان رجُلًا أو امرأةً- وله شَيءٌ يُوصِي فيه مِن الأموالِ، والبَنينَ الصِّغارِ، والحُقوقِ التي له، وعليه؛ مِن دِيونٍ، وكفَّاراتٍ، وزَكَواتٍ فرَّطَ فيها، أنْ تَمضِيَ عليه لَيلتانِ أو أكثرُ؛ إلَّا ووَصيَّتُه بهذا الشَّيءِ مَكتوبةٌ ومَحفوظةٌ عِندَه. وفيه: أنَّ الأشياءَ المهمَّةَ يَنْبغي أنْ تُضبَطَ بالكتابةِ؛ لأنَّها أثبَتُ مِن الضَّبطِ بالحِفظِ؛ لأنَّه يَخونُ غالِبًا. وفيه: النَّدبُ إلى التَّأهُّبِ للموتِ، والاحترازِ قبْلَ الفَوتِ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَدْري مَتى يَفجَؤُه الموتُ.الدرر السنية. .علينا أن نفهم أن الحق ينبهنا إلى أن يكتب الإنسان ما له وما عليه في أثناء حياته. فيقول ويكتب وصيته التي تنفذ من بعد حياته. يقول المؤمن: إذا حضرني الموت فلوالدي كذا وللأقربين كذا. أي أن المؤمن مأمور بأن يكتب وصيته وهو صحيح، ولا ينتظر وقت حدوث الموت ليقول هذه الوصية. إِن تَرَكَ خَيْرًا: وهو المال الكثير عرفًا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل. وقوله" حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ " دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو: الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى. واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف الجاري. ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملًا، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف - أو لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق ، وقد كانوا حديثي عهد بالإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما .-, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد. فبهذا الجمع, يحصل الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح. وإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فهما لا يرثانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ. الراوي : أسامة بن زيد - صحيح البخاري. لكن له أن يوصي لهما بما يؤلّف به قلوبهما. فقد نص أهل العلم على جواز الوصية لغير المسلم ما لم تكن بمصحف، فقد نقل صاحب التاج والإكليل في شرحه لمختصر خليل المالكي عن مالك قوله: ..... إن الوصية للكافر الذمي فيها أجر على كل حال، والكراهة إنما لإيثار الذمي على المسلم لا بنفس الوصية.واتفق الفقهاء المسلمون من الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية على صحة الوصية إذا صدرت من مسلم لذميّ ، أو من ذمي لمسلم ، بشروط الوصية الشّرعية ، واحتجوا لذلك بقوله تعالى "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ." سورة الممتحنة /8 ، ولأن الكفر لا ينافي أهلية التملك ، وكما يصح بيع الكافر وهبته فكذلك تصحّ وصيته. يَحكي سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه "جاءَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعُودُنِي وأنا بمَكَّةَ، وهو يَكْرَهُ أنْ يَمُوتَ بالأرْضِ الَّتي هاجَرَ مِنْها، قالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْراءَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُوصِي بمالِي كُلِّهِ؟ قالَ: لا، قُلتُ: فالشَّطْرُ؟ قالَ: لا، قُلتُ: الثُّلُثُ؟ قالَ:فالثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إنَّكَ أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أيْدِيهِمْ، وإنَّكَ مَهْما أنْفَقْتَ مِن نَفَقَةٍ، فإنَّها صَدَقَةٌ، حتَّى اللُّقْمَةُ الَّتي تَرْفَعُها إلى فِي امْرَأَتِكَ، وعَسَى اللَّهُ أنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بكَ ناسٌ ويُضَرَّ بكَ آخَرُونَ. ولَمْ يَكُنْ له يَومَئذٍ إلَّا ابْنَةٌ."الراوي : سعد بن أبي وقاص - صحيح البخاري. "فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" 181. ثم توعد - سبحانه - من يبدل الوصية أي يغيرها بعد ما علمها،وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة في الموصَى به أو النقص منه أو كتمانه ، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصَى به بعد وفاة الموصِي . بَعْدَ مَا سَمِعَهُ : أي علمه وتحقق منه ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله . والضمائر البارزة في " بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه " عائدة على القول أو على الكلام الذي يقوله الموصِي والذي دل عليه لفظ الوصية أو على الإِيصاء المفهوم من الوصية ، وهو الإِيصاء أو القول الواقع على الوجه الذي شرعه الله . فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ:والمعنى : فمن غير الإِيصاء الذي أوصى به المتوفى عن وجهه ، بعدما علمه وتحقق منه ، فإنما إثم ذلك التغيير في الإيصاء يقع على عاتق هذا المُبَدِّل ، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة ، وخالف شريعة الله ، ولن يلحق الموصي شيئًا من الإِثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله - تعالى . وقد ختمت الآية بقوله - تعالى " إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ " للإِشعار بالوعيد الشديد الذي توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من حيل الناس الباطلة ، فهو - سبحانه سميع لوصية الموصي ،وسميع وعليم بما يقع فيها من تبديل وتحريف. "فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"182. ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح وإزالة التنازع. خَافَ : من الخوف ، وهو في الأصل حالة تعتري النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله على سبيل الظن أو على سبيل العلم . والجنف : الميل والجور أَوْ إِثْمًا : والإِثم : الذَّنب الذي يَسْتحقّ فاعله العُقوبة عليه. أثم: تدل على أصل واحد، وهو البطء والتأخر. يقال: ناقة آثمة، أي: متأخرة. و"الإثم" مشتق من ذلك؛ لأن ذا الإثم بطيء عن الخير متأخر عنه.إسلام ويب. ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة في الوصي يرى أن الموصِي قد حاد في وصيته عن حدود العدل ، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله ، وهو في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأي يكون المعنى : أن الوصي إذا رأى في الوصية ميلًا عن الحق خطأ أو عمدًا وأصلح بين الموصَى لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في التغيير في الوصية . والضمير في قوله " بَيْنَهُمْ " عائد على الموصى لهم . وقوله " إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ " تذييل أتى به - سبحانه - للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه ، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإِصلاح ولو اعتمد على ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال . وبهذا تكون الآيات الكريمة قد بينت للناس حكمًا آخر من أحكامها السامية ، يتعلق بالوصية في الأموال ، وفي هذا الحكم دعوة إلى التراحم والتكافل ، وغرس لأواصر المودة والمحبة بين الأبناء والآباء وبين الأقارب بعضهم مع بعض .الوسيط. |
من آية 183إلى188. لما ذكر سبحانه ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا عبادة عظيمة من العبادات التي جعلها الله - تعالى - ركنًا من أركان الإِسلام وهي صوم رمضان. قال صلى الله عليه وسلم "بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ."الراوي : عبدالله بن عمر- صحيح البخاري . الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام ، وهو في اللغة : الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ومنه قوله - تعالى - مخبرًا عن مريم " إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا " أي : سكوتًا عن الكلام . وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب وتقول العرب : صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة . الصيامُ في شريعةِ الإسلامِ عِبادةٌ بدنيَّةٌ، تعني: الإمساكَ، بنيَّةِ التعبُّدِ، عن الأكْلِ والشُّربِ وغِشيانِ النِّساءِ، وسائرِ المُفطِّراتِ، مِن طلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ. كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ : أي : أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة أيضًا على الأمم السابقة ، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله ، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية.الوسيط.والدرر السنية. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: جملة تعليلةجيء بها لبيان حِكمة مشروعية الصيام فكأنه - سبحانه - يقول لعباده المؤمنين : فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم ، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله ، وبذلك تكونون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه . ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها ، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن الصوم " الصَّومُ جُنَّةٌ منَ النَّارِ "الراوي : عثمان بن أبي العاص الثقفي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي. والجُنَّةُ الوِقايةُ والسَّترُ مِن النَّارِ وحِصْنٌ حَصينٌ مِنها في الآخِرةِ، ووِقايةٌ مِن الوُقوعِ في المنكَراتِ في الدُّنيا، وإنَّه يَقي صاحِبَه ما يُؤذيه مِن الشَّهواتِ؛ فيَنبَغي للصَّائمِ أن يَصونَ نفْسَه وصيامَه ممَّا يُفسِدُه ويَنقُصُ ثوابَه, مِن كلِّ المنكَراتِ والمعاصي.الدرر. جُنَّةٌ :أي : وقاية . إذ في الصوم وقاية من الوقوع في المعاصي ، ووقاية من عذاب الآخرة . فمما اشتمل عليه الصيام من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربًا بذلك إلى الله, راجيًا بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى. ومنها:أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.تفسير السعدي. "أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"184. أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ :أي: إنَّ هذا الصِّيامَ مفروضٌ عليكم في أيَّامٍ قليلةٍ، مَحصيَّة ساعاتُها ، وهي أيَّامُ شهرِ رَمضانَ.فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفًا ورحمة بالمكلفين. فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ :ثم رخص سبحانة للمريض والمسافر الفطر وذلك للمشقة في الغالب. ثم القضاء في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى السفر, وحصلت الراحة. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍفَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ:أي: يجبُ على مَن استطاع الصِّيامَ ولم يصُمْ، أنْ يُقدِّمَ عن كلِّ يومٍ أفطَره فدية طعامًا لمسكينٍ. ويعني ذلك أن الإنسان مخير بين الصيام وبين الإفطار ويفدي ولا يصوم، ولكن هذا قد يكون مشكلًا لأننا قررنا أنه لا فطر إلا لعذر، مرض أو سفر، كيف يكون للإنسان المطيق له أن يترك الصوم ويفدي، نقول: نعم، يمحو الله ما يشاء ويثبِت، كان في أول ما فرض الصيام لما كانوا غير معتادين للصيام يخير الإنسان، إن شاء صام، وإن شاء فدى، والدليل على هذا قوله"وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ" فدل ذلك على أن الإنسان يطيق الصوم، فخيره الله بين الفدية وبين الصوم ولكنه قال: إن الصوم خير. فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ :أي: مَن أطعَم أكثرَ مِن مسكين، فذلك أفضلُ من إطعامِ مسكينٍ واحدٍ عن كلِّ يومٍ أفطَره . ثمَّ نَسَخ اللهُ عزَّ وجلَّ هذا التخييرَ في حقِّ القادِر على الصيام بقوله تعالى في الآية التي تليها : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فأوجب عليه الصومَ، وبقِي الفطرُ والإِطعامُ للعاجز عنه. عن سلمة بن الأكوع قال"كُنَّا في رَمَضَانَ علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، مَن شَاءَ صَامَ وَمَن شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بطَعَامِ مِسْكِينٍ، حتَّى أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ "فمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"البقرة:185.الراوي : سلمة بن الأكوع - صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم : 1145. " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"185. شَهْرُ رَمَضَانَ : أي: الأيَّامُ المعدودات هي شهرُ رمضانَ. الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ : أي: الصوم المفروض عليكم, هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية, وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل السعادة وأهل الشقاوة. فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم فيه, أن يكون موسمًا للعباد مفروضًا فيه الصيام. تفسير السعدي. فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ : أي فمن شهد منكم دخول الشهر ، وشهوده برؤية هلاله في البلد التي هو حاضر فيها، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره أن يصومه، هذا فيه تعيين الصيام ونَسخ التخيير بين الصيام والفدية للقادر . وبقِي الفطرُ والإِطعامُ للعاجز عنِ الصيام لمرض أو لسفر أو لأي سبب يعجزه عن الصيام .فلو كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه ، أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال سفر فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام أي يقضيها ويصوم عدد أيام ما أفطر عند زوال العذر المفطر. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ: أي : إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرًا عليكم. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ :وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم بأن تصوموا أيامة كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته.لئلا يتوهم متوهم, أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته أي تكميل عدد أيام الشهر. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ : أي: ويُريد اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ تُكبِّرُوه، والمعنى: يُريد اللهُ شرعًا- أي: يُحبُّ- أنْ تُعظِّموه بقول: اللهُ أكبَرُ، وذلك بعد انقضاءِ شهرِ رمضانَ - ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد. أي: من أجْل أنْ تكونوا بتكبيرِكم اللهَ عزَّ وجلَّ، وبالقيام بغير ذلك من أنواع شكره كأداء فرائضه وترك محارمه، مِن الشَّاكرين لنِعمة اللهِ تعالى عليكم بتوفيقكم لصِيام شهرِ رمضانَ، وتيسيرِه أحكامَه عليكم ويشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده, وبالتكبير عند انقضائه. "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"186. قال الإِمام البيضاوي في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من آيات الصيام : واعلم أنه - تعالى - لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبة بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم ، مجيب لدعائهم ، مجاز على أعمالهم تأكيدًا له وحثًا عليه. الله تعالى, هو الرقيب الشهيد, المطلع على السر وأخفى, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فهو قريب أيضا من داعيه, بالإجابة، ولهذا قال سبحانه : أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ: فمن دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام ونحوه, فإن الله قد وعده بالإجابة. قال الحافظ ابن كثير : وفي ذكره - تعالى - هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر. "قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا إذا رَأيْناك رَقَّتْ قُلوبُنا، وكُنَّا مِن أهْلِ الآخِرةِ، وإذا فارَقْناك أَعْجَبَتْنا الدُّنْيا، وشَمَمْنا النِّساءَ والأوْلادَ، قالَ: "لو تَكونونَ -أو قالَ: لو أنَّكم تَكونونَ- على كلِّ حالٍ على الحالِ الَّتي أنتم عليها عنْدي لَصافَحَتْكم المَلائِكةُ بأَكُفِّهم، ولَزارَتْكم في بُيوتِكم، ولو لم تُذْنِبوا لَجاءَ اللهُ بقَوْمٍ يُذنِبونَ كي يَغفِرَ لهم"، قالَ: قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، حَدِّثْنا عن الجَنَّةِ، ما بِناؤُها؟ قالَ"لَبِنةٌ ذَهَبٌ، ولَبِنةٌ فِضَّةٌ، ومِلاطُها المِسْكُ الأَذفَرُ وحَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ والياقوتُ، وتُرابُها الزَّعْفَرانُ، مَن يَدخُلُها يَنعَمُ ولا يَبأَسُ، ويَخلُدُ ولا يَموتُ، لا تَبْلى ثِيابُه، ولا يَفْنى شَبابُه، ثَلاثةٌ لا تُرَدُّ دَعْوتُهم: الإمامُ العادِلُ،والصَّائِمُ حتَّى يُفطِرَ، ودَعْوةُ المَظْلومِ تُحمَلُ على الغَمامِ، وتُفتَحُ لها أبْوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ: وعِزَّتي لَأَنْصُرَنَّك ولو بَعْدَ حينٍ "الراوي : أبو هريرة- المحدث : الوادعي- المصدر : الصحيح المسند -الصفحة أو الرقم : 2/366-خلاصة حكم المحدث : صحيح. " ومِلاطُها المِسْكُ الأَذفَرُ " والمِلاطُ: هو التُّرابُ الَّذي يُمزَجُ بالماءِ، فيكونُ طِينًا يُستخدَمُ لِربْطِ اللَّبِناتِ بعضِها ببعضٍ؛ حتَّى يَملَأَ ما بيْنها مِن فراغاتٍ، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هذا المِلاطَ الَّذي يكونُ بيْن لَبِناتِ الجنَّةِ يكونُ مِن "المِسكِ الأَذْفَرِ"، أي: يكونُ مَخلوطًا بالمِسكِ شَديدِ الرَّائحةِ الطَّيِّبةِ، " وحَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ والياقوتُ، وتُرابُها الزَّعْفَرانُ "، أي: إنَّ حصى الجنَّةِ الصَّغيرَ هو "اللُّؤلؤُ والياقوتُ، وتُربَتُها الزَّعفرانُ"، أي: إنَّ تُربةَ أرْضِها في شَكْلِها تكونُ مِن الزَّعفرانِ الطَّيِّبِ، "، مَن يَدخُلُها يَنعَمُ ولا يَبأَسُ"، أي: يكونُ مُنعَّمًا بما فيها، "ولا يَبأَسُ"، أي: لا يكونُ في شِدَّةٍ ولا يَفتقِرُ، "ويَخلُدُ"، أي: تكونُ حياتُهم حياةً أبديَّةً دائمةً، "ولا يَموتُ"، أي: لا يَفقِدون حياتَهم ولا يَفْنَون، "لا تُبْلى ثِيابُهم"، أي: إنَّ ملابِسَهم لا تكونُ مُتَّسِخةً ولا قديمةً، بلْ تكونُ جديدةً، "ولا يَفْنى شَبابُهم"، أي: إنَّ شبابَهم دائمٌ ومُستمِرٌّ لا يَتغيَّرُ، فلا يُصيبُهم الهرَمُ وكِبَرُ السِّنِّ، "ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "ثلاثٌ"، أي: ثلاثُ أصنافٍ مِن النَّاسِ، "لا تُرَدُّ دَعوتُهم"، أي: إنَّ دُعاءَهم يكونُ مُستَجابًا ومَقبولًا، وهم: "الإمامُ العادلُ"، أي: الحاكمُ الَّذي لا يَظلِمُ النَّاسَ ويَنظُرُ في مصالِحِ رَعيَّتِه، "والصَّائمُ" الَّذي امتنَعَ عن الطَّعامِ والشَّرابِ وترَكَ الشَّهواتِ ابتغاء وجه الله، "حينَ يُفطِرُ" عندَ إفطارِه وقْتَ غُروبِ الشَّمسِ، "ودَعوةُ المظلومِ" وهو مَن اعْتُدِيَ عليهِ بغيرِ حقٍّ؛ فإنَّ دُعاءَه ودَعوتَه على مَن ظلَمَهُ، "يَرفَعُها"، أي: تَصعَدُ دَعوتُه بإذنِ اللهِ، "فوقَ الغَمامِ"، أي: السَّحابِ، "وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ"، أي: تكونُ مَداخِلُ السَّماءِ لدَعوةِ المظلومِ مَفتوحةً، ويقولُ الرَّبُّ تَباركَ وتَعالى: "وعِزَّتي" يُقسِمُ اللهُ بعِزَّتِه الَّتي هي عظَمتُه وسُلطانُه، "لَأنصُرنَّكَ"، أي: أستَجِيبُ دُعاءَك ولا أُهْدِرُ حقَّكَ، "ولو بعدَ حِينٍ"، أي: ولو مَضى وقْتٌ طويلٌ.الدرر السنية. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.:أي: فلينقادوا لي، ممتثِلين أوامري، ومجتَنِبين نواهيَّ، وليؤمنوا بأنِّي أُثيبهم على انقيادِهم لي، وأُجِيب دعاءَهم وتضرُّعَهم لي، من أجل إصابةَ الحقِّ بذلك، والتَّوفيقَ للعِلم النَّافع والعملِ الصالح .والمعنى : لقد وعدتكم يا عبادي بأن أجيب دعاءكم إذا دعوتموني ، وعليكم أنتم أن تستجيبوا لأمري ، وأن تقفوا عند حدودي ، وأن تثبتوا على إيمانكم بي ، لعلكم بذلك تصلون إلى ما فيه رشدكم وسعادتكم في الحياتين العاجلة والآجلة . وأمرهم - سبحانه - بالإِيمان بعد الأمر بالاستجابة ، لأنه أول مراتب الدعوة ، وأولى الطاعات بالاستجابة . لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ::أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة, ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"187. كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال"كانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا كانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أنْ يُفْطِرَ؛ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ ولَا يَومَهُ حتَّى يُمْسِيَ، وإنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأنْصَارِيَّ كانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإفْطَارُ أتَى امْرَأَتَهُ، فَقالَ لَهَا: أعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قالَتْ: لا، ولَكِنْ أنْطَلِقُ فأطْلُبُ لَكَ، وكانَ يَومَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قالَتْ: خَيْبَةً لَكَ! فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عليه، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ"البقرة: 187،فَفَرِحُوا بهَا فَرَحًا شَدِيدًا، ونَزَلَتْ"وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ"البقرة: 187.الراوي : البراء بن عازب - صحيح البخاري. عنِ ابنِ عبَّاسٍ ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" ، فَكانَ النَّاسُ على عَهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا صلَّوا العتَمةَ حرُمَ علَيهِمُ الطَّعامُ والشَّرابُ والنِّساءُ ، وصاموا إلى القابِلةِ ، فاختانَ رجُلٌ نفسَهُ ، فجامعَ امرأتَهُ ، وقد صلَّى العشاءَ ، ولم يُفطِرْ ، فأرادَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن يجعَلَ ذلِكَ يسرًا لمن بقيَ ورخصةً ومَنفعةً ، فقالَ سبحانَهُ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ" الآيةَ ، وَكانَ هذا مِمَّا نفعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ ورخَّصَ لَهُم ويسَّرَ" الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم : 2313 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح. لَمَّا فُرِضَ الصِّيامُ على المسلِمينَ في أَوَّلِ الأمرِ كان الوقتُ المسموحُ به للطَّعامِ والشَّرابِ والنساء هو بَعْدَ أذانِ المَغْرِبِ إلى أذانِ العِشاءِ فَقَط، وكان في ذلك مَشقَّةٌ كبيرةٌ على المسلِمينَ ، فيسَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ على المسلمينَ، وفَسَحَ لهم ذلك الوقتَ إلى طُلوعِ الفَجْرِ، كما جاء في هذا الحَديثِ."فاخْتانَ رَجُلٌ نَفْسَه"، أي: خان رَجُلٌ نَفْسَه، والْمُرادُ: ظَلَم نَفْسَهُ وأَقْدَم على شيءٍ قد مُنِعَ مِنْهُ، "فجامَعَ امرأتَه"، أي: وَقَعَ عليها في الوقتِ المَنهيِّ عنه، "وقد صلَّى العِشاءَ"، أي: بَعْدَ صلاةِ العِشاءِ، "ولَمْ يُفْطِرْ"، أي: ولم يَأكُلْ ولم يَشْرَبْ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه أتَى زوجتَه فقط، ولم يَسْتبِحْ لنَفْسِه باقيَ ما نُهي عنه."فأراد اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يجعَلَ ذلك يُسرًا"، أي: أرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يَجْعَلَ ما فَعَله الرَّجُلُ سببًا للتَّيسيرِ، "لِمَنْ بَقي"، أي: للمُسلِمينَ جَميعًا، "ورُخْصَةً"، أي: وتخفيفًا، "ومنفَعةً"، أي: نْفعًا وإفادةً، فأَنْزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ قولَه"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" البقرة: 187، أي: فمَدَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الأكلَ والشُّربَ وقُرْبَ النِّساءِ إلى طُلوعِ الفَجْرِ، وليس إلى أذانِ العِشاءِ.الدرر السنية. أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ:والمعنى : أحل الله لكم في ليالي صومكم الرفث وهوكناية عن الجماع في هذا الموضع والإِفضاء إلى نسائكم ومباشرتهن . وفي معجم اللغة معنى رفث حسب السياق:رَفَثَ في كلامه : صرَّح بكلامٍ قبيحٍ / رفَث الرَّجلُ بزوجته: جامعها، أفضى إليها. وقوله:هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ: جعل كل واحد منهما لصاحبه لباسا لأنه سكن له , كما قال جل ثناؤه "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا " الفرقان: 47 .يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه . وكذلك زوجة الرجل سكنه يسكن إليها. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ: تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ : والخيانة هي انتقاص الحق على جهة المساترة . إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به ، كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين : أحدهما جماع النساء , والآخر : المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حرامًا ذلك عليهم. فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ :تاب عليكم بأنْ أحلَّ لكم هذا الَّذي حرَّم عليكم من قبلُ، وعفا عنكم بأن محا ذنوبكم و تجاوَز عن ما سلَف من التخوُّنِ. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ:بَاشِرُوهُنَّ : من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة ، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها . وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ :أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح. فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ :والمقصود من الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره . والمقصود من الخيط الأسود : ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل والمعنى : لقد أبحنا لكم مباشرة النساء في ليالي الصوم ، وأبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وأن تشربوا في هذه الليالي حتى يتبين لكم بياض الفجر من سواد الليل .قال الإِمام الرازي " الْفَجْرِ " مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجرًا ، وفجرته تفجيرًا قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح .ا.هـ. وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ : والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه .أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم في المساجد للعبادة، فإن المباشرة تبطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهار. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا :تلك المذكورات والأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة . والحدود جمع حد ، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر . ومنه سمي الحديد حديدًا لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن .و سميت الأحكام التي شرعها الله حدودًا لأنها تحجز بين الحق والباطل. أي : تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم ، وتحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات ، هي حدود الله التي حدها لعباده، ونهاهم عنها ولا يحل الاقتراب منها ومجاوزتها . وعبر - سبحانه - عن النهي عن مخالفة تلك الأحكام بقوله :فَلاَ تَقْرَبُوهَا - مبالغة في التحذير من مخالفتها ، لأن النهي عن القرب من الشيء يشمل النهي عن فعل المحرم بالأولى ، والنهي عن وسائله الموصلة ، والآية ترشد بقولها " فَلاَ تَقْرَبُوهَا " إلى اجتناب ما فيه شُبْهَة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تفضي في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام . والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد عنها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها.وأما الأوامر فيقول الله فيها: تلك حدود الله فلا تعتدوها – فلا تتعدوها وتتركوها بل الزموها ولا تتجاوزوها - فينهى عن مجاوزتها. قال صلى الله عليه وسلم "الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ."الراوي : النعمان بن بشير - صحيح البخاري. كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ:أي : مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها ، يبين لكم آياته ، أي : أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدي بكم إلى العقوبة ، وتكونوا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه .فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببًا للتقوى. وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم ، ببيان مظاهر رفق الله بعباده ، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب ، والإِباحة والتحريم ، وغير ذلك من أنواع الهداية والإِرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم . وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال – تعالى: "وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"188. لما كان الكلام في الآية السالفة في الصيام وأحكامه، وفيه حلّ أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت، ناسب أن يذكر هنا حكم أكل الإنسان مال غيره. الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان.المراد بالأكل هنا الأخذ والاستيلاء بالباطل أي بغير حق والباطل نقيض الحق.والمراد بالباطل هنا: الحرام الذي لا يجوز فعله. وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ :والإِدلاء في الأصل : إرسال الدلو في البئر لإخراج الماء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده . والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين . والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم . وردَ قوله تعالى: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ بعد قوله سبحانه: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ من باب ذِكر الخاصِّ بعد العامِّ، وفائدته: بيان شدَّة شَناعة هذه الصورة، ولأنها جامعةٌ لمحرماتٍ كثيرة. أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم, والأموال مضافة للجميع، فالمال ساعة يكون ملكا لك، فهو في الوقت نفسه يكون مالًا ينتفع به الغير. إذن فهو أمر شائع عند الجميع، لكن ما الذي يحكم حركة تداوله؟ إن الذي يحكم حركة تداوله هو الحق الثابت الذي لا يتغير، ولا يحكمه الباطل. فينبغي للمسلم أن يحترم مال الغير كما يحترم ماله الذي يخصه؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة. والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق. لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ :أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم فتكونون بذلك آكِلينَ طائفةً مِن أموال النَّاس بالحرامِ ، وأنتم تعلَمون أنَّكم واقِعونَ في الحرام. *ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية, أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضًا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود الربا, والقمار؛ كلها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة, ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأُجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات, والأوقاف، والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه. فكل هذا ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة, غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرمًا, ولا يحلل حرامًا, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة. فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره, بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله. وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى" وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا "تفسير السعدي. "سَمِعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، أقْضِي له بذلكَ وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا."الراوي : أم سلمة أم المؤمنين -صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم : 7185. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري"إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ."صحيح البخاري. وفي هذا الحديثِ تروي أُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ رضِيَ اللهُ عنها، زَوْجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَقولُ"سَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَلَبَةَ خِصَامٍ" والجَلَبَةُ: اختِلاطُ الأصواتِ "عندَ بابِه"، وكان في مَنزلِ أُمِّ سَلَمَةَ رضِيَ اللهُ عنها وحُجْرَتِها، وكأنَّهم أتَوا إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَحكُمَ بينهم، فخَرَج إليهم ليتعَرَّفَ على الخُصومةِ التي بينهما، ويقضي فيها، فقال محذِّرًا لكُلِّ واحدٍ منهما من المخاصَمةِ في الباطِلِ"إنَّما أنا بَشَرٌ"، أي: أنَّه لا يعلَمُ الغَيبَ وبواطِنَ الأمورِ إلَّا ما أطلعه اللهُ تعالى عليه، فيَجْري عليه أحكامُ البشَرِ من الخطأِ والسَّهْوِ والنِّسيانِ بطبيعتِه البشريَّةِ، ومن ذلك أنَّه قد يأتيه المتخاصِمون المدَّعِي والمدَّعَى عليه؛ ليحكُمَ بينهم، فربَّما كان أحَدُ المتخاصِمَينِ عند القاضي أحسَنَ إيرادًا للكَلامِ، وأَقْدَرَ على الحُجَّةِ والبَيِّنةِ، وأدفَعَ لِدَعوى خَصْمِه، فأظُنُّ لفصاحتِه ببيانِ حُجَّتِه أنَّه صادِقٌ، فأَقْضِي له بما زعَمَه من الحُجَجِ،"فمَن قَضَيْتُ له بحقٍّ" الذي هو في الحقيقةِ حَقُّ أخيه المسلِمِ، وسلَّمْتُه له، فلا يَستَحِلَّه؛ فإنَّه إذا أخذ ذلك الحَقَّ وهو يعلَمُ أنَّه باطِلٌ وظُلْمٌ لغيرِه، فإنه يأخُذُ شيئًا يؤدِّي به إلى النَّارِ في الآخِرةِ، فليتجَرَّأْ عليها وليأخُذْها، أو ليترُكْها لصاحِبِها؛ خشيةً لله عزَّ وجَلَّ وخوْفًا من وعيدِ النَّارِ في الآخِرةِ.الدرر السنية |
من آية 189إلى195. كان الكلام في الآيات السابقة في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان، فناسب ذلك ذكر الأهِلَّة، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال كما جاء في الحديث "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُمِّيَ علَيْكُم فأكْمِلُوا العَدَدَ."الراوي : أبو هريرة- صحيح مسلم . "جعل اللهُ الأهلَّةَ مواقيتَ للناسِ ، فصوموا لرؤيتِه ، وأَفطِروا لرؤيتِه ، فإن غُمَّ عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا"الراوي : عبدالله بن عمر وطلق بن علي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع- الصفحة أو الرقم : 3093 - خلاصة حكم المحدث : صحيح. "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ" والسؤال الذي نحن بصدده يعالج قضية كونية. وعندما يسأل المسلمون عن قضية كونية فذلك دليل على أنهم التفتوا إلى كون الله التفاتًا شرعيًا آخر، لقد وجدوا الشمس تشرق كل يوم ولا تتغير، أما القمر الذي يظهر في الليل فهو الذي يتغير، إنه يبدأ في أول الشهر هلالًا صغيرًا ثم يكبر حتى يصبح بدرًا، وبعد ذلك يبدأ في التناقص حتى يعود إلى ما كان عليه، لقد لفت نظرهم ما يحدث للقمر ولا يحدث من الشمس، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم. قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ : أي قل لهم يا محمد – صلى الله عليه وسلم - إن الله - تعالى - قد خلقها ليضبط بها النَّاسُ شوؤنَهم المؤقَّتة بأوقاتٍ كصومهم ، وزكاتهم ، وحجهم ، وعدة نسائهم ، ومدد حملهن ، ومدة الرضاع ، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم . والتوقيت بالأهلة يسهل على العالِم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: "سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضيَ اللهُ عنه يقولُ: نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ فِينَا؛ كَانَتِ الأنْصَارُ إذَا حَجُّوا فَجَاؤُوا، لَمْ يَدْخُلُوا مِن قِبَلِ أبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، ولَكِنْ مِن ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَخَلَ مِن قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأنَّهُ عُيِّرَ بذلكَ، فَنَزَلَتْ"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا"البقرة: 189.الراوي : البراء بن عازب - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 1803. الشرح:مِن حِكمةِ اللهِ تعالَى أنَّه لم يُنزِلِ القُرآنَ الكريمَ جُملةً واحدةً، بلْ أنْزَلَه مُفرَّقًا وَفْقَ التَّدرُّجِ الذي أرادهُ اللهُ في بِناءِ وتَربيةِ المجتمَعِ المُسلِمِ الوليدِ، ونزَلَ مُعالِجًا للعاداتِ الخاطئةِ، وما يَطرَأُ مِن مُشكِلاتٍ، وما يَستجِدُّ مِن أحداثٍ. وفي هذا الحديثِ يَرْوي البَراءُ بنُ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ الأنصارَ كانوا قبْلَ الإسلامِ إذا رَجَعوا مِنَ الحجِّ أو العُمرةِ لا يَدخُلونَ بُيوتَهم مِن أبوابِها، بلْ يَدخُلونَ مِن ظُهورِها -وكذلك كان يَفعَلُ كَثيرٌ مِن العرَبِ- فكانوا يَتسلَّقون جُدرانَ بُيوتِهم منَ الخَلْفِ، أو يَفتحونَ فَتحةً في الجِدارِ ويَدخُلونَ منها، وكانوا يَرَوْنَ مُخالَفَةَ ذلك عَيبًا كَبيرًا، ويَرْوَن فِعلَ ذلك هو البِرَّ والتَّقوى، فلمَّا جاء الإسلامُ دَخَلَ رجُلٌ منَ الأنصارِ مِن بابِ بَيتِه، فعَيَّروه بذلك، فأنْزَلَ اللهُ تعالَى قَولَه"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا"البقرة: 189، فأخْبَرَهم اللهُ تعالَى أنَّ هذا العَملَ مع اعتِقادِه قُربةً، ليس مِن الخيرِ في شَيءٍ، بلْ إنَّ البِرَّ الحقيقيَّ هو أنَّ يَتَّقيَ العبدُ ربَّه عزَّ وجلَّ؛ بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نَواهِيه، لا التعبُّدُ بما لم يَشْرَعْه اللهُ جلَّ وعلا؛ ولذا أمَرَ بإتيانِ البيوتِ مِن أبوابِها، كما هو الأصلُ الَّذي جَرَتْ به العادةُ؛ إذ لا دَليلَ يَمنَعُ مِن ذلك وقْتَ الإحرامِ، فتَرَكَ النَّاسُ هذه العادةَ وصاروا يَدخلونَ بُيُوتَهم مِن أبوابِها. وفي الحديثِ: أنَّ العاداتِ لا تَجعَلُ غيرَ المَشروعِ مَشروعًا. وفيه: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى إذا نَهَى عن شَيءٍ فتَح لعِبادِه مِن المأذونِ ما يَقومُ مقامَه؛ فإنَّه لَمَّا نَفى أنْ يكونَ إتيانُ البُيوتِ مِن ظُهورِها مِن البِرِّ، بيَّن ما يَقومُ مَقامَه.الدرر السنية. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: أمرهم سبحانه أن يلتزموا بالتَّقوى؛ بفعلهم المأمورَ، وتركِهم المنهيَّ عنه، رجاء أنْ يصِلوا بتقواهم تلك إلى الظَّفَر بما يطلُبون – الجنة: رزقنا الله وإياكم الفلاح ودخول الجنة -، والنَّجاةِ ممَّا يحذَرون- النار :أعاذنا الله وإياكم منها-. "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"190. بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرمًا في الجاهلية ،بَيَّنَ هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعًا عن دينكم ولإعلاء كلمة الحق ، وتربية لمن يفتنكم عن دينكم، وينكث العهد ،لا لحظوظ النفس وشهواتها وحبّ سفك الدماء. وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ: أي ولا تعتدوا بالقتال فتبدءوهم به، ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، فإنّ الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى، ولا سيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم.تفسير المراغي. ومن الاعتداء, مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها, فإن ذلك لا يجوز.تفسير السعدي. "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ"191. والمعنى: عليكم أيها المسلمون أن تقتلوا هؤلاء الذين أذنا لكم بقتالهم حيث وجدتموهم وظفرتم بهم، فإنهم قد بادءوكم بالعدوان، وتمنوا لكم كل شر وسوء.فهذا أمر بقتالهم، أينما وجدوا في كل وقت، وفي كل زمان قتال مدافعة، وقتال مهاجمة . ولما كان القتال عند المسجد الحرام، يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام، أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك، والصد عن دينه، أشد من مفسدة القتل، فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في قتالهم. ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، وهي: أنه يرتكب أخف المفسدتين، لدفع أعلاهما. ثم استثنى من هذا العموم قتالهم في المسجد الحرام قتال مهاجمة.فقال سبحانه " وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ"أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتِل هو فيه وينتهك حرمته، فلا أمان له حينئذ. وأنه لا يجوز قتالهم في المسجد الحرام إلا أن يبدأوا بالقتال، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم.فإنهم يُقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت، حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا، فإن الله يتوب عليهم، ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله، والشرك في المسجد الحرام، وصد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده. ولم يقل- سبحانه- فإن قاتلوكم فقاتلوهم، وإنما قال فَإِنْ قاتَلُوكُمْفَاقْتُلُوهُمْ تبشيرًا للمؤمنين بالغلبة عليهم، وإشعارًا بأن هؤلاء المشركين من الخذلان والضعف بحالة أمر الله المؤمنين معها بقتلهم لا بقتالهم فهم لضعفهم لا يحتاجون من المؤمنين إلا إلى القتل. كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ : تذييل لما قبله. واسم الإشارة ذلك يعود إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا. والجزاء: ما يقع في مقابلة الإحسان أو الإساءة، فيطلق على ما يثاب به المحسن، وعلى ما يعاقب به المسيء. والمراد به في الآية العقاب. أى: مثل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يجازي الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم.الوسيط. "فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "192. أي: فإن انتهوا عن الكفر وعن مقاتلتكم فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم فإن الله غفور رحيم. وكل من تاب من كفر أو معصية فشأن الله معه أن يغفر له ويرحمه. ونظير هذه الآية قوله- تعالى"قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ"الأنفال:38. "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ "193. ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله، وأنه ليس المقصود به، سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن " ويَكُونَالدِّينُ لِلَّهِ " فيظهر دين الله تعالى، على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه، من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود، فلا قتل ولا قتال. والدين في اللغة: العادة والطاعة ثم استعمل فيما يتعبد به الله- تعالى- سواء أكان ما تعبد به صحيحا أم باطلا. والمراد هنا: الدين الصحيح الذي شرعه الله لعباده على لسان نبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم ليتوصلوا به إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل. وقد تحقق ذلك – أي تحقق ظهور دين الله - بالقتال الذي دار بين المسلمين والمشركين في أكثر من عشرين غزوة قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وفي أكثر من أربعين سرية بعث فيها أصحابه، وكانت ثمار هذه المعارك أن انتصر الحق وزهق الباطل. وقبل أن يلتحق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب هو دين الإسلام الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم. فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ :أي: فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم. فمن ظلم منهم، فإنه يستحق المعاقبة، بقدر ظلمه.لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم، ليرجعوا عن ظلمهم وغيهم. "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"194. الآية فيها بيان للحكمة في إباحة القتال في الأشهر الحرم، وإيذان بأن مراعاة حرمة الشهر الحرام إنما هي واجبة في حق من يصون حرمته، أما من هتكها فقد صار بسبب انتهاكه لحرمة الشهر الحرام محلا للقصاص والمعاقبة في الشهر وفي غيره. وسمي الشهر الحرام لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه. والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.قال- تعالى"إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ".التوبة :36. قال صلى الله عليه وسلم "الزَّمانُ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَةِ يَومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ؛ السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بيْنَ جُمادَى وشَعْبانَ، ..." الراوي : أبو بكرة نفيع بن الحارث -صحيح البخاري. وقوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك. والقصاص: المساواة. أي، وكل حرمة يجري فيها القصاص. فمن هتك أية حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة. والمراد: أن المشركين إذا أقدموا على مقاتلتكم- أيها المؤمنون- في الحرم أو في الشهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضًا على سبيل القصاص والمجازاة بالمثل، حتى لا يتخذوا الأشهر الحرم ذريعة للغدر والإضرار بكم. ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. أي: فمن اعتدى عليكم وظلمكم فجازوه باعتدائه وقابلوه بمثل ما اعتدى عليكم دون حيف أو تجاوز للحد الذي أباحه الله لكم. إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه.وسمي جزاء الاعتداء اعتداء على سبيل المشاكلة. وفي الآية إيماء إلى أن قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير، فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس.تفسير المراغي. قال الآلوسى: واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق. حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء مالح. واستدل بها أيضًا على أن من غصب شيئًا وأتلفه لزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له . ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالأمر بالتقوى والخشية منه فقال:وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.أي: اتقوا الله وراقبوه في الانتصار لأنفسكم، وترك الاعتداء فيما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه بالمعونة والتأييد، والنصر والتمكين، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدًا لدينه وإعلاء لكلمته .الوسيط. والمراغي. "وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" 195. أي أنفقوا في الجهاد ، وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين ، فاشتروا السلاح والكراع وعُدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلبة عليكم ، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح، لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله، إبطال للجهاد، وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم. وإلى هذا أشار بقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدّة فقد أهلكتم أنفسكم. وكلمة " ألقى " تفيد أن هناك شيئا عاليًا وشيئًا أسفل منه، فكأن الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وهل سيلقي الواحد منا نفسه إلى التهلكة، أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين عدوه؟ لا، إن اليد المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو عليه، وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم، وإذا فتنهم في دينهم فقد هلكوا. إذن فالاستعداد للحرب أنفى للحرب، وعندما يراك العدو قويًا فهو يهابك ويتراجع عن قتالك. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: والإحسان كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن تعبد الله ـ أي تطيع أوامره ـ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك لحديث جبريل الطويل "....قالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ،.....".صحيح البخاري. فنهايةُ مَقامِ الإحسانِ: أنْ يَعبُدَ المؤمِنُ ربَّه كأنَّه يَراه بقلْبِه، فيكونَ مُستحضِرًا ببَصيرتِه وفِكرتِه لهذا المَقامِ، فإنْ عجَزَ عنه وشقَّ عليه انتقَلَ إلى مَقامٍ آخَرَ؛ وهو أنْ يَعبُدَ اللهَ على أنَّ اللهَ يَراهُ ويطَّلِعُ على سِرِّه وعَلانيتِه، ولا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أمرِه. الدرر السنية. - فالمسلم حال إنفاقه في سبيل الله يحرص أن يبلغ مقام الإحسان هذا . ودائرة الإحسان لا تقتصر على القتال فقط، للقاعدة الأصولية : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .فالأمر هنا عام، وهذا تحفيز للإحسان في كل شيء.فكل زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم كل جزئيات الحياة، فالإحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن الإنسان الحركة في الأرض، ويعمل عملاً يكفيه ويكفي من يعول، ثم يفيض لديه ما يحسن به.إذا لم يتوافر المال، فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك، والجاه قد قومه الإسلام أي جعل له قيمة، فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على حقوقهم، وعلى الوجيه أيضًا أن يأخذالضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي، وعليه بجاهه أن يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها. ولم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة الإسلامية. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ :تذييلٌ للترغيب في الإحسان؛ لأنَّ محبة الله عبدَه غايةُ ما يطلبه الناس؛ إذ محبَّة اللهِ العبدَ سببُ الصلاحِ والخيرِ دُنيا وآخِرة، واللام للاستغراق العُرفي، والمراد المحسنون من المؤمنين.موسوعة التفسير،بالدرر السنية. |
آية 196 "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" 196. المعنى الإجمالي : الكلام فيما مضى في بيان أحكام الحج - -يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ - بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره بعد شهر الصيام، وجاء ذكر آيات القتال تابعًا لبيان أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام.وهنا عاد إلى إتمام أحكام الحج، فذكر حكم المحصر وعدم جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله، إلا لمن كان مريضًا أو به جروح ونحوها فإنه يحلق وعليه أن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة أو يتصدق بفرق على ستة مساكين - الفرق بالتحريك مكيال بالمدينة يزن ستة عشر رطلا- فإذا زال الخوف من العدوّ، فمن أتم العمرة وتحلل وبقي متمتعًا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه دم، لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج، وسبعة إذا رجع إلى بلده إلا إذا كان مسكنه وراء الميقات.تفسير المراغي. الشرح المفصل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ:كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإسلام، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام، فجاءت شريعة الإسلام فوضعت لهما أفضل الأحكام، وأسمى الآداب، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين أن يسيروا في أدائهما على الطريقة التي سار عليها فقال "رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَرْمِي علَى رَاحِلَتِهِ يَومَ النَّحْرِ، ويقولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه."الراوي : جابر بن عبدالله - صحيح مسلم. لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ: أي: تَعلَّموا مِنِّي واحفَظوا الأحْكامَ الَّتي أَتيْتُ بها في حَجَّتي مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ، فخُذوها عَنِّي واعَمَلوا بِها، وعَلِّمُوها النَّاسَ. وقد اختلف العلماء في المقصود من الإتمام في قوله- تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما: إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى: أقيموا الحج والعمرة لله: أي أدوهما وائتوا بهما. فالأمر في «أتموا» مُنْصَب على الإنشاء والأداء. أصحاب القول الأول: يرون أن العمرة واجبه كالحج، لأن الله- تعالى- أمر بهما معا، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال"تابعوا بين الحج والعمرة.." .وإلى هذا القول اتجه سعيد بن جُبير، وعطاء، وسُفيان الثوري، والشافعية. القول الثاني: يرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية- أن المراد بإتمامهما: أن على المسلّم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتي به كاملًا بأركانه وواجباته، مُخلِصين لله تعالى في ذلك. فالأمر على هذا القول منصب على الإتمام لا على أصل الأداء. وأصحاب هذا القول يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في الآية ما يفيد الوجوب، بل فيها ما يفيد وجوب الإتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما. وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله- تعالى" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"آل عمران 97 . فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ : بعد أن أمر الله- تعالى- عباده بأن يتموا الحج والعمرة له سبحانه، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما. والإحصار والحصر في اللغة: بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك - على الراجح. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ : والمعنى: أتموا- أيها المؤمنون- الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك، فإن أُحْصِرْتُمْ أي، مُنعتم بعد الإحرام من الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، فعليكم إذا أردتم التحلل من الإحرام أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدي، وهو سُبْع بَدَنَة، أو سُبْع بقرة، أو شاة يذبحها المُحْصَر. وذبحها يكون في موضع الإحصار – على قول الجمهور- ولو في الحِلِّ لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحِلِ، فهي ليست من الحرم عند المحققين. فَمَا اسْتَيْسَرَ وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شؤونها التيسير لا التعسير، والرفق لا التشديد قال- تعالى" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" البقرة : 185. وقال- تعالى"وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ "الحج: 78. " وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ." ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تذبحوا الهدي في الموضع الذي أحصرتم فيه، فإذا تم الذبح فاحلقوا وتحللوا. وبعد أن بين- سبحانه- أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمرًا على إحرامه، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ:أي: فمن كان منكم- أيها المحْرِمُون- مريضًا بمرض يضطر معه إلى الحلق، أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مؤذية، إن حلق وهو على إحرامه – وإزالة الشعر، بحلق أو غيره من محظورات الإحرام - فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك. صيام ثلاثة أيام, أو صدقة على ستة مساكين أو نسك ما يجزئ في أضحية، فهو مخير، والنسك أفضل، فالصدقة، فالصيام. يروي التابعيُّ عبدُ اللهِ بنُ مَعقِلٍ " قَعَدْتُ إلى كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ في هذا المَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الكُوفَةِ- فَسَأَلْتُهُ عن "فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ"البقرة: 196، فَقالَ: حُمِلْتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والقَمْلُ يَتَنَاثَرُ علَى وَجْهِي، فَقالَ: ما كُنْتُ أُرَى أنَّ الجَهْدَ قدْ بَلَغَ بكَ هذا، أمَا تَجِدُ شَاةً؟ قُلتُ: لَا، قالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِن طَعَامٍ، واحْلِقْ رَأْسَكَ. فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وهْيَ لَكُمْ عَامَّةً."الراوي : كعب بن عجرة - صحيح البخاري. وعبر- سبحانه- هنا بالفدية دون الكفارة، لأن الذي به مرض أو أذى من رأسه لم يرتكب ذنبًا أو إثمًا حتى يكفر عنه. فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: بعد أن بين- سبحانه كيفية التحلل عند الإحصار، وكيفية التحلل الجزئى من بعض المحرمات عند المرض، عقب ذلك ببيان كيفية التحلل في حالة الأمن. أي فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم الذي منعكم من حجكم أو عمرتكم. فمن انتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها ، إلى وقت الانتفاع بأعمال الحج، فعليه ما استيسر من الهدي أي فعليه دم نسك ، ويأكل منه كالأضحية ويذبح يوم النحر. والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر لحج، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج. وسمى هذا النوع من الإحرام تمتعا، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد. لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية. فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ : أي فمن لم يجد الهدي لعدم وجوده أو عدم المال الذي يشتري به، فعليه صيام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج . ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه. وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ: أي:وتصوموا سبعة أيام إذا فرغتم من أعمال الحج. قال مجاهد وعطاء وإبراهيم: المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق. وقال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان.تفسير ابن عطية. ووصف العشرة بأنها كاملة، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج، وأن الحاج إذا نسي بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله- تعالى- به. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " يجوز أن يصوم الأيام الثلاثة في أيام التشريق، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، ويجوز أن يصومها قبل ذلك بعد إحرام العمرة، ويجوز أن يصوم هذه الأيام الثلاثة متوالية ومتفرقة، لكن لا يؤخرها عن أيام التشريق. أما السبعة الباقية فيصومها إذا رجع إلى أهله، إن شاء صامها متوالية، وإن شاء متفرقة" انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" 24/ 376. " تَمَتَّعَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ وأَهْدَى ........فمَن لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلى أهْلِهِ. ....." الراوي : عبد الله بن عمر -صحيح البخاري. وقال الشيخ ابن عثيمين : " من أخَّر صيام الثلاثة أيام التي في الحج حتى انتهى حجه لغير عذر، فهل تلزمه الفدية؟ الصحيح لا تلزمه، ......وهناك من يقول تلزمه الفِدية، وهو أصلاً ما عنده فِدية، وهو أيضًا لما عُدِمَ الهدي صار الصيام واجبًا في حقه، فنقول: إنه يجب أن يكون في الحج، وإذا تأخر ولا سيما إذا كان لعذر فإنه يقضى كرمضان " انتهى من "الشرح الممتع" 7/ 180. ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : أي: ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النُّسكين، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها ،من كان دون الميقات ، ومن كان منه على مسافة لا تقصر منها الصلاة ; لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا.وقد شرع- سبحانه- التمتع ليكون تيسيرا ورفقا للمقيمين بعيدا عن مكة ،هذا قول الأحناف. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ : أي واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، ومن ذلك, امتثالكم, لهذه المأمورات، واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن لم يخشه ولم يلتزم حدوده. وفي هذا الأمر بالتقوى في ختام هذه الآية التي تحدثت عن الحج إشعار بأن هذه الفريضة ليست العبرة فيها بما تعمله الجوارح وإنما العبرة بما تتركه في القلوب من توبة صادقة، وصيانة للنفس عن اقتراف المحارم. وفي قوله: وَاعْلَمُوا اهتمام بالخبر، وتحقيق لمضمونه، وترهيب من العقاب مع الترغيب بالثواب، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب. وهذا هو الموجب للتقوى، فإن من خاف عقاب الله، انكف عما يوجب العقاب، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب، ولم يرج الثواب، اقتحم المحارم، وتجرأ على ترك الواجبات. |
من آية : 197 إلى آية 202 "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ"197.بعد أن ذكر سبحانه أعمال الحج وبيَّنَ ما يجب على المُحْصَرِ أن يفعله من ذبح الهدي وعدم الحلق حتى يبلغ الهدي محله، ثم ذكر حُكْم من لم يجد ذلك، أعقب هذا بذكر زمان الحج، وما يجب على من أوجب على نفسه الحج. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ :أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة،فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج .وهذا هو المروي عن ابن عباس، وجرى عليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ: أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدي، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل، فلا يكفي للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه. فمن أحرم به أي شرع فيه ، فالشروع فيه يصيره مثل الفرض من حيث كيفية أداؤه، ولو كان نفلًا، مثل من شرع في صلاة نافلة يلزمة أن يؤديها بأركانها وواجباتها كما يؤدي الفريضة طالما شرع ودخل في النافلة. واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، ولو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور، بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله" فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ " دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها، وإلا لم يقيده. فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ : أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن. والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام. والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة. والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور، ليس له جزاء إلا الجنة، الحج المبرور: هو الذي وُفيت أحكامه، ولم يخالطه شيء من الإثم. وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج. واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" أي: اتركوا الأقوال والأفعال القبيحة، وسارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصًا في تلك الأزمنة والأمكنة المفضلة، والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو- سبحانه- سيجازيكم على فعل الخير بما تستحقون من جزاء. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهمَا قالَ: كانَ أهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ ولَا يَتَزَوَّدُونَ، ويقولونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى"البقرة: 197.الراوي : عبدالله بن عباس - صحيح البخاري. والمعنى: واستَعينوا على أداءِ الحجِّ بأخْذِ ما تَحتاجون إليه مِن طَعامٍ وشَرابٍ، واعْلَموا أنَّ خَيرَ ما تَستَعينون به في كلِّ شُؤونِكم هو تَقْوى اللهِ تعالَى.وفي الحديثِ: أنَّ تَرْكَ سُؤالِ النَّاسِ مِن التَّقوى. وفيه: أنَّ التَّوكُّلَ لا يكونُ مع السُّؤالِ؛ وإنَّما التَّوكُّلُ على اللهِ تعالَى ألَّا يَستعينَ بأحَدٍ في شَيءٍ.الدرر السنية. لما أمرهم أن يتزودوا بالزاد المادي الحقيقي الذي يغنيهم عن سؤال الناس، ويصون لهم ماء وجوههم. أمرهم وأرشدهم أيضًا إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والإكثار من العمل الصالح . وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ: أي: أخلصوا لي يا أصحاب العقول السليمة الرزينة ، والمدارك الواعية، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول السليمة.والجملة الكريمة ليست تكرارا لسابقتها، لأن الأولى حث على التقوى وهذه حث على الإخلاص فيها. "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ"198. بين- سبحانه- أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود بالزاد المادي متى توافرت التقوى. الجناح: أصله من جنح الشيء إذا مال: يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها.والمراد بالجناح هنا الإثم والذنب، لأنه لما كان الإثم يميل بالإنسان عن الحق إلى الباطل سمي جناحًا. والابتغاء: الطلب بشدة، والفضل: الزيادة وتكون في الخير والشر إلا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول. أي: لا إثم ولا حرج عليكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيبا عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج.فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلى ذلك في موسم الحج، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله. عن أبي أُمامةَ التَّيميِّ قالَ : كنتُ رجلًا أُكرِّي في هذا الوجْهِ وَكانَ ناسٌ يقولونَ لي إنَّهُ ليسَ لَكَ حجٌّ فلقيتُ ابنَ عمرَ فقلتُ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ إنِّي رجلٌ أُكرِّي في هذا الوجْهِ وإنَّ ناسًا يقولونَ لي إنَّهُ ليسَ لَكَ حجٌّ فقالَ ابنُ عمرَ أليسَ تُحرِمُ وتلبِّي وتطوفُ بالبيتِ وتفيضُ من عرفاتٍ وترمي الجمارَ قالَ قلتُ بلى قالَ فإنَّ لَكَ حجًّا جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فسألَهُ عن مثلِ ما سألتني عنْهُ فسَكتَ عنْهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فلم يُجبْهُ حتَّى نزلت هذِهِ الآيةُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فأرسلَ إليْهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وقرأَ عليْهِ هذِهِ الآيةَ وقالَ لَكَ حجٌّ "الراوي : أبو أمامة التيمي -المحدث : الألباني -المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم : 1733 خلاصة حكم المحدث : صحيح . كُنتُ رَجُلًا أَكْري في هذا الوَجْه»، أي: أُؤَجِّرُ دابَّتي في سَفَر الحَجِّ، «وكان ناسٌ يقولون لي: إنَّه ليسَ لك حَجٌّ»؛ لتوهُّمِ عدَمِ وجودِ النِّيَّةِ الخالِصة للحَجِّ؛ لأنَّه حيثُ اشتغَلَ بالكِراءِ فإنَّ سَيرَه لأجْلِ دابَّتِه لا لأعْمالِ الحَجِّ. أي: إنَّ كِراءك لِدابَّتك مع أدائك لأعْمالِ الحَجِّ لا يُخِلُّ بِحجِّك. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهمَا: كانَ ذُو المَجَازِ وعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ كَأنَّهُمْ كَرِهُوا ذلكَ، حتَّى نَزَلَتْ"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"البقرة: 198، في مَوَاسِمِ الحَجِّ."الراوي : عبدالله بن عباس - صحيح البخاري. وفي هذا الأثرِ يُخبِرُ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ ذا المَجازِ وعُكاظًا كانَتَا سُوقينِ للناسِ في الجاهليَّةِ، وذو المَجازِ: بناحيةِ عَرَفةَ إلى جانِبِها، وقيل: في مِنًى، وعُكاظٌ: خلْفَ قَرْنِ المَنازل بـ(44 كم) على طَريقِ صَنعاءَ اليمنِ، فلمَّا جاء الإسلامُ كأنَّ المسلمينَ كَرِهوا التِّجارةَ في أيَّامِ الحجِّ مِثلَ المشركينَ، وخَوفًا مِن الوقوعِ في الإثمِ؛ للاشتِغالِ في أيَّامِ النُّسكِ بغَيرِ العبادةِ. حتَّى نزَلَ قولُ اللهِ تعالَى"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"البقرة: 198، أي: ليس عليكم إثْمٌ أنْ تَطلُبوا الرِّزقَ الحَلالَ بالتِّجارةِ وغيرِها في أثناءِ الحجِّ، عَطاءً ورِزقًا مِنه سُبحانه، وهذا تَفضُّلٌ مِن اللهِ سُبحانه عليهم. وكان ناسٌ مِن العرَبِ في الجاهليَّةِ يَتأثَّمون أنْ يَتَّجِروا أيَّامَ الحجِّ، وإذا دَخَلَ العشْرُ كَفُّوا عن البيعِ والشِّراءِ، فلم يَقُمْ لهم سُوقٌ، ويُسَمُّون مَن يَخرُجُ بالتِّجارةِ الدَّاجَّ، ويَقولون: هؤلاء الداجُّ وليسوا بالحاجِّ، والدَّاجُّ: الأتْبَاع والأعْوانُ. وفي الحديثِ: مَشروعيَّةُ البيعِ والشِّراءِ للمُحرِمِ. وفيه: مَشروعيَّةُ التِّجارةِ في أسواقِ الجاهليَّةِ والمشركينَ.الدرر السنية. فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ : الفاء في قوله: فَإِذَا: لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ.. أَفَضْتُم:اندفعتم بكثرة متزاحمين. وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضًا فانتشر وسال من حافتي الوادي والإناء. فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق.والمراد: خروجهم من عرفات بشيء من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة. وعرفات: اسم للجبل المعروف . فأمر الحُجَّاجَ أن يذكروه سبحانه عند المزدلفة بعدَ أن يدفعوا إليها من عَرفات، وهذا الذِّكر الذي أمر الله به يدخُل فيه الصلاةُ والدعاء عندها . والتصريح باسم " عرفات " في هذه الآية للرد على قريش؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في " جَمْع " وهو المزدلفة؛ لأنهم حُمْس ، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم ، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة ، لأن عرفة من الحل . "...........وكانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِن عَرَفَاتٍ، ويُفِيضُ الحُمْسُ مِن جَمْعٍ، قالَ: وأَخْبَرَنِي أبِي، عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ في الحُمْسِ"ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ"البقرة: 199،قالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِن جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إلى عَرَفَاتٍ."الراوي : عائشة أم المؤمنين -صحيح البخاري . وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ:أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان. " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"199. الآية التي قبلها: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وهذه الآية : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فكل ذلك في الإفاضة من عرفة، الأول أعلمهم فيه بما يكون عند انتقالهم من عرفة إلى مزدلفة من الذكر عند المشعر الحرام، وهو مزدلفة، وفي الثانية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ: فِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: المُرادُ بِهِ الإفاضَةُ مِن عَرَفاتٍ. القَوْلُ الثّانِي: وهو اخْتِيارُ الضَّحّاكِ: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الإفاضَةُ مِنَ المُزْدَلِفَةِ إلى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلرَّمْيِ والنَّحْرِ.تفسير الرازي. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ :فالعبد لا يستغني عن الاستغفار؛ لأنه مهما فعل، وتقرب، وعمل، وبذل وأحسن وأنفق، فإنه لا يؤدي نعمة الله عليه، لا في دينه، ولا في دنياه ، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة. وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومَنَّ بها على ربه، وجَعَلَت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر.تفسير السعدي. فالمُرادُ مِنهُ الِاسْتِغْفارُ بِاللِّسانِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالقَلْبِ، وهو أنْ يَنْدَمَ عَلى كُلِّ تَقْصِيرٍ مِنهُ في طاعَةِ اللَّهِ، ويَعْزِمَ عَلى أنْ لا يُقَصِّرَ فِيما بَعْدُ، ويَكُونَ غَرَضُهُ في ذَلِكَ تَحْصِيلَ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى لا لِمَنافِعِهِ العاجِلَةِ، كَما أنَّ ذِكْرَ الشَّهادَتَيْنِ لا يَنْفَعُ إلّا والقَلْبُ حاضِرٌ مُسْتَقِرٌّ عَلى مَعْناهُما، وأمّا الِاسْتِغْفارُ بِاللِّسانِ مِن غَيْرِ حُصُولِ التَّوْبَةِ بِالقَلْبِ فَهو إلى الضَّرَرِ أقْرَبُ.تفسير الرازي. "فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"200. قال ابن كثير: عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم- بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم- فيقول الرجل منهم. كان أبي يطعم الطعام ويحمل الديات ... ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم فأنزل الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية.ا.هـ.والمعنى: فإذا فرغتم من عباداتكم، وأديتم أعمال حجكم، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله- تعالى- أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم. فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله- تعالى- والنهى عن التفاخر بالأحساب والأنساب. وبعد أن أمر- سبحانه- الناس بذكره، بيَّنَ أنهم بالنسبة لدعائه وسؤاله فريقان، أما الفريق الأول فقد عبر عنه بقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ:أي: من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها، وهذا النوع ليس له في الآخرة من خَلاقٍ أي: ليس له نصيب وحظ من الخير. "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ :201. ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه. "عنْ عبْدِ العزِيزِ بْنِ صُهَيبٍ قال: سَأَلَ قَتَادَةُ أَنَسًا: أَيُّ دَعْوَةٍ كانَ يَدْعُو بهَا النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَكْثَرَ؟ قالَ: كانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بهَا يقولُ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. "قالَ: وَكانَ أَنَسٌ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بدَعْوَةٍ دَعَا بهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بدُعَاءٍ دَعَا بهَا فِيهِ."الراوي : عبدالعزيز بن صهيب - صحيح مسلم . وبين- سبحانه- أن هذا النوع الثاني من الناس قد التمس من خالقه أن يقيه عذاب النار مع أن هذا الدعاء مندرج تحت حسنة الآخرة، وذلك لأن هذا النوع من الناس لقوة إيمانه، وصفاء وجدانه، وشدة خشيته من ربه يغلب الخوف على الرجاء، فهو يستصغر حسناته مهما كثرت بجانب نعم الله وفضله، ويلح في الدعاء وفي الطلب أملا في الاستجابة. "أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ"202. إن الإشارة تعود إلى الفريقين. أي: لكل من الفريقين نصيب من عمله على قدر ما نواه وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل. ويضعفه أن الله- تعالى- قد ذكر قبل ذلك عاقبة الفريق الأول بقوله: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وقيل اسم الإشارة " أُولَٰئِكَ " يعود إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة .الوسيط. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ : وهو سريع المحاسَبة للخَلْق يوم القيامة دون أنْ يظلِمَ أحَدًا شيئًا، ودون الحاجةِ إلى تذكُّرٍ أو تأمُّلٍ، كما أنَّه سبحانه سريعُ المجازاة لعباده. |
آية 203. الأيام المعدودات هي أيام منى، وهي أيام التشريق الثلاثة الحاديَ عشَرَ والثَّانيَ عشَرَ والثَّالثَ عشَرَ مِن ذي الحجَّةِ، وسُمِّيَتْ بذلك لِتَشرِيقِ النَّاسِ لُحومَ الأَضاحِيِّ فيها، وهو تَقْدِيدُها ونَشْرُها في الشَّمسِ لِتَجْفيفِها، وهذه كانتْ حالَهم في زَمانِهم، وفي هذه الأيَّامِ تكونُ لُحومُ الأَضاحِيِّ والهَدْيِ مُتوفِّرةً؛. فالآية الكريمة تأمر الحجاج وغيرهم من المسلمين أن يكثروا من ذكر الله في هذه الأيام المباركة، لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخرو..... "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. وفي رواية : زاد فيه "وذكرٍلله"الراوي : نبيشة الخير الهذلي - صحيح مسلم. فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَى: يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق، ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة يرمي عند كل جمرة سبع حصيات. ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويترك المبيت بمنى في الليلة الثالثة ورمى يومها بعد الزوال- كما يرى الشافعية- وبعده أو قبله- كما يرى الحنفية- فلا إثم عليه في عدم مبيته بمنى في الليلة الثالثة، إذا اتقى كل منهما الله ووقف عند حدوده. فالتقييد بالتقوى للتنبيه إلى أن العبرة في الأفعال إنما هي بتقوى القلوب وطهارتها وسلامتها. وَاتَّقُوا اللَّهَ: اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب معاصيه ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ: واعلموا أنكم ستجمعون بعد تفرقكم وتساقون إلى خالقكم يوم القيامة فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه، وجد جزاء التقوى عنده، ومن لم يتقه, عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله, فلهذا حث تعالى على العلم بذلك. واختير لفظ تُحْشَرُونَ هنا دون تصيرون أو ترجعون ، لأن تحشرون أجمع لأنه يدل على المصير وعلى الرجوع مع الدلالة على أنهم يصيرون مجتمعين كلهم كما كانوا مجتمعين حين استحضار حالهم في هذا الخطاب وهو اجتماع الحج ، فلفظ تحشرون أنسب بالمقام من وجوه كثير. وقد ختمت الآيات التي تحدثت عن فريضة الحج بهذا الختام المكون من عنصرين، أحدهما: تقوى الله. والثاني: العلم اليقيني بالحشر، للإشعار بأنهما خلاصة التدين، وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها، وإذا خلت أية عبادة من هذين العنصرين كانت صورة لا روح فيها. |
ملخص مناسك العمرة إذا وصل المعتمر الميقات: اغتسل ولبس وأحرم ،فإن كان السفر على متن طائرة لا تتوقف إلاَّ في جُدَّة، فيجوز له أن يلبس الإحرام في المنزل أو في المطار أو في الطائرة، وأن يُحرم بعمرة ـ وجوبًا ـ قبل أن يتجاوز الميقات المكاني المتعلق به. ◀الاغتسال والتطيب للرجال ◀لبس ثياب الإحرام ◀الصلاة ◀ينوي الإحرام ويلبي ،والإحرام نية الدخول في النسك والتلبس به، وصفة التلبية للعمرة :«لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً»ويكمل التلبية " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنَّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ" . ويستمر في التلبية في العمرة من الإحرام إلى أن يشرعَ في الطواف.◀الطواف :والطواف يكون سبعةَ أشواطٍ، يبتدىء من الحجر الأسود وينتهي به. ولا يصحُّ الطوافُ من داخل الحِجْرِ.فيستلمالحجرَ الأسودَ بيده اليمنى...، ويُقَبّله إن تيسّر له ذلك، فإذا وصل الركنَ اليماني استلمه إن تيسّر له بدون تقبيلٍ ،فإن لم يتيسر له فلا يزاحم ولا يشير إليه عن بعد.ويقول بين الركن اليماني والحجَر الأسود"رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاٌّخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار "البقرة 201. والسنةُ للرجل في طواف القدوم الاضطباع في جميع الأشواط ،والرَّمَل في الثلاثة أشواط الأولى فقط.فإذا أتمَّ سبعةَ أشواطٍ، صلى ركعتين عند مقام إبراهيم لو تيسر. ثم يذهب إلى زمزم فيشرب منها ويصب على رأسه. ثم يرجع إلى الحجر الأسود ،ويقول الله أكبر ويقبله إذا تيسر . ◀السعي بين الصفا والمروة ◀التحلل: وذلك يكون بالحلق للرجل ، أو التقصير ، والتقصير للمرأة . ملخص◀أعمـال الحـج ◀ ◀القارن والمُفرِد: يتوجهون مباشرة إلى منى يوم التروية، دونَ أن يُحرموا مرة أخرى، لأنهم مازالوا على إحرامهم. أما المتمتع إذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجةأحرم بالحج ضحى من مكانه الذي أراد الحج منه ، ويفعل عند إحرامه: الآتي: ◀الاغتسال والتطيب للرجال◀لبس ثياب الإحرام ◀الصلاة :الصلاة قبل الإهلال. ◀ينوي الإحرام ويلبي بالنسك، وصفة التلبية في الحج : لبيك حجًا أو حِجَّة ، إذا كانت الحجة عن أحد يقول :لبيك حجًا عن فلان.ويكمل التلبية ويكمل التلبية " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنَّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ "وتستمر التلبية إلى رمي جمرة العقبة الكبرى . ◀المبيت بمِنى يوم التروية:يخرج إلى مِنى - يوم التروية الثامن من ذي الحجة-فيصلي بها: الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصرًا منْ غيرِ جمعٍ ،والفجر . ◀الوقوف بعرفة:فإذا طلعت الشمس يوم عرفة - التاسع من ذي الحجة- سار من مِنى إلى عرفة فنزل بمسجد نَمِرَة في الجزء الواقع في حدود عرفة إلى الزوال- الزوال : أي زوال الشمس عن كبد السماء أي وقت الظهر- إن تيسر له وإلا فلا حرج لأن النزول بنمرة سنة . ولنتحر معرفة حدود عرفة والتأكد من الوقوف داخلها. فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر قصرًا وجمعَ تقديمٍ ، ، بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ ،كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليطول وقت الوقوف والدعاء ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ويدعو بما أحب رافعًا يديه - تلقاء وجهه- مستقبلاً القبلة ولو كان الجبل خلفه لأن السنة استقبال القبلة لا الجبل وكان أكثر دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك الموقف العظيم لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- . ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء فإن خير الدعاء دعاء يوم عرفة . ويستمر بعرفة إلى الليل أي إلى أن تغرب الشمس . فائدة : إذا وصل الحاج إلى عرفة قبل فجر يوم النحر- 10ذو الحجة -صحت حجته ـ وذلك عند الاضطرار ـ أما إذا وصل بعد الفجر فلا حج له . أقبِلْ على الله بكل جوارحك . فإذا غربت الشمس سار إلى المزدلفة. ◀الذهاب للمزدلفة والمبيت بها: فإذا غربت شمس يوم عرفة سار إلىالمزدلفة.فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا - جمع تأخير- بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ. فيبيت بمزدلفة ، فإذا تبين الفجر صلى الفجر مبكرًا بأذان وإقامة ثم قصد المشعر الحرام بمزدلفة - وهو الآن مكان المسجد- فوحَّدَ الله وكبره ودعا بمَا أحب حتى يُسْفِر جدًا ، وإن لم يتيسر له لذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه وجمع- أي مزدلفة- كلها موقف ◀الدفع إلى مِنَى- العاشر من ذي الحجة- فإذا أسفر جدًا - أي: أضاء الفجرُ إضاءةً تامَّةً- دفع قبل أن تطلع الشمس.فإذا وصل إلى مِنى ـ وذلك صبيحة اليوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم النحر عليه الآتي : *رمى جمرة العقبة الكبرى . *نحر أو ذبح الهَدْي . *حلق الرأس أو تقصيرها . *الطواف بالكعبة - طواف الإفاضة - والسعي. ◀طواف الإفاضة:ويطوف مثل طواف القدوم تمامًا إلا الاضطباع والرَّمَل فهما خاصان بطواف القدوم فقط . *ثم السعي بين الصفا والمروة ثم يخرج إلى المسعى ليسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا "، ولا يقرؤها في غير هذا الموضع - أي في بداية السعي فقط - أبدأ بما بدأ اللهُ بهِ . ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبة، فيستقبلها ويرفع يديه فيحمدَ الله ويدعو بما شاء أن يدعو- دعاء مطلق-، وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلاثًا، وَيَقُولُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، يُكررّ ذلك ثلاثَ مراتٍ -دعاء مسنون -، ويدعو بينها - دعاء مطلق- أي:ذكر + دعاء مطلق ،ذكر + دعاء مطلق- ذكر، ثم ينزلُ من الصفا إلى المروة ماشيًا حتى يصلَ إلى العمودِ الأخضرِ؛ فإذا وصَلَه، أسرع إسراعًا شديدًا بِقَدْرِ ما يستطيع إن تيسر له بلا أذية- الهرولة -، حتى يصلَ إلى العمودِ الأخضرِ الثاني، ثم يمشي على عادته حتى يصلَ المروةَ، فيرقَى عليها ويستقبلَ القِبلةَ، ويرفعَ يديه ويقولَ ما قاله على الصفا - الدعاء فقط دون القرآن،. ثم ينزلُ من المروة إلى الصفا يمشي في موضعِ مشيه، ويُسِرعُ في موضع إسراعه- الهرولة-، للرجال فقط على الراجح .فيرقى على الصفا، ويستقبلُ القِبلَة ويرفع يديه ويقولُ مثلَ ما سبق في أول مرة، ويقولُ في بقية سعيه ما أحب من ذكرٍ وقراءةٍ ودعاء. ◀العودة لمِنَى:يرجع بعد ذلك إلى مِنى حيث يقيم أيام التشريق -11، 12، 13من ذي الحجة- وهي أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل . فليس عليه في أيام التشريق شيء إلا أن يرمي الجمرات الثلاث ، كل يوم يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة الكبرى التي رماها يوم النحر ، فيرمي الجمرات الثلاث إذا زالت الشمس -أي بعد أذان الظهر- في يومي -11، 12من ذي الحجة - فإذا أتم رمي الجمار في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تَعَجَّل ونزل من مِنى ، وإن شاء تأخر فبات بها ليلة الثالث عشر ورمى الجمار الثلاث بعد الزوال ؛كما سبق والتأخر أفضل .ولا يجب عليه التأخر لليوم الثالث عشر إلا إذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر وهو بمِنى، فإنه يلزمه التأخر حتى يرمي الجمار الثلاث بعد زوال اليوم الثالث عشر . وبهذا يكون حَجُّه انتهى ◀طواف الوداع:فإذا أراد الحاج أن يرتحل من مكة يطوف للوداع ،يطوف بالبيت سبعة أشواط من دون سعي،.ويصلي ركعتين ثم ينصرف*الحائض والنفساء ليس عليهما وداع. |
من آية 204 إلى آية 209. "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ"204. عطف على جملة ".... فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"البقرة : 200، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لاحظ لهم في الآخرة ، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا والآخرة حيث قال سبحانه وتعالى " وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "201 "أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ "202.، فانتقل هنا إلى حال آخرين ممن لَاحَظَّ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها " وَمِنَ النَّاسِ مَنيُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" من الإعجاب بمعنى الاستحسان ،. مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة في الدنيا ، وهم المذكورون في قوله "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ "البقرة : 207 . وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ: أي يقرن معسول قوله، وظاهر تودده بإشهاد الله على أن ما في قلبه مطابق لما يجري على لسانه.كأن يقول: الله يشهد أني صادق فيما أقول.. إلى غير ذلك من الأقوال التي يقصد بها تأكيد قوله وصدقه فيما يدعيه ويخبر أن الله يعلم, أن ما في قلبه موافق لما نطق به, وهو كاذب في ذلك، لأنه يخالف قوله فعله. فلو كان صادقا، لتوافق القول والفعل، كحال المؤمن غير المنافق. فكل عمل وقول له ظاهر وله باطن. ومن الجائز أن تتقن الظاهر ويستحسنه الناس وتدلس على الناس في باطنك، فإذا كان الناس لهم مع بعضهم ظاهر وباطن ،فالله يعلم ظاهر وباطن كل مخلوق. أَلَدُّ الْخِصَامِ: شديد الخصومة أي العداوة. قال صلى الله عليه وسلم"أَبْغَضُ الرِّجالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ"الراوي : عائشة أم المؤمنين -صحيح البخاري . والألدُّ الخَصِمُ هو المُولَعُ بِالخُصومِة -وهي النِّزاعُ والعَدَاوَةُ والمُجادَلةُ- الماهرُ فيها، والدَّائمُ فيها كذلِك. إن هذا النوع من الناس يثير الإعجاب بحسن بيانه، ويضللهم بحلاوة لسانه، ويحلف بالأيمان المغلظة أنه لا يقول إلا الصدق، ويجادل عما يقوله بالباطل بقوة وعنف ومغالبة، فهو بعيد عن طباع المؤمنين الذين إذا قالوا صدقوا، وإذا جادلوا اتبعوا أحسن الطرق وأهداها.الوسيط. "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ"205. أي: كما أنَّ مقالَه مُعْوجٌّ، واعتقاده فاسدٌ، فأفعاله كذلك سيِّئةٌ وقبيحة، فإذا خرَج وانصرف عنك هذا الذي يُعجِبُك قولُه، سار في الأرض مجتهدًا في إفسادِها، ومعنى الفساد : إتلاف ما هو نافع للناس ،فإهلاك الحرث والنسل كناية عن إتلافه لما به قوام أحوال الناس ومعيشتهم، وعن إيذائه الشديد لهم. وقوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ أي لا يرضى عن الذي منه الإفساد في الأرض، ويُظْهِر للناس الكلام الحسن وهو يبطن لهم الفعل السيئ، لأنه- سبحانه- أوجد الناس ليصلحوا في الأرض لا ليفسدوا فيها. فالجملة الكريمة تحذير منه- سبحانه- للمفسدين، ووعيد لهم على خروجهم عن طاعته. قال صلى الله عليه وسلم "إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ."الراوي : أبو هريرة - صحيح مسلم. "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ" 206. أي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك، وأخذته العزة الملابسة للإثم والظلم وهو احتراس لأن من العزة ما هو محمود وهي العزة بالحق قال تعالى " يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّغڑ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ "المنافقون:8. فعزة اللهِ : قهره مَنْ دونه ، وعزة رسولِه : إظهار دينهِ على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين : نصر الله إياهم على أعدائهم . العِزَّة الحقيقيَّة.. العِزَّة في الحقِّ، وبالحقِّ، والتي يكون صاحبها عزيزًا ولو كان ضعيفًا مَظْلومًا، شامخًا ولو كان طريدًا مُستضَامًا، فتجده لا يركع إلا لله، ولا يتنازل عن شيء ممَّا أَمَره به، فهو يَعْتَزُّ بعِزَّة الله -تبارك وتعالى-، الذي يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء. فهذه هي العِزَّة بالحقِّ؛ لأنَّها اعْتِزَاز بمن يملكها، وإذعان له، وانتساب لشرعه وهديه. الدرر:موسوعة الأخلاق. "مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ..... "فاطر:10. ومن العِزَّة ما هو مذموم وهي العزة بالإثم: كاعْتِزَاز الكفَّار بكفرهم، وهو -في الحقيقة- ذُلٌّ، يقول – سبحانه""ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ"ص1: 2. أي : إن في هذا القرآن لذكرا لمن يتذكر ، وعبرة لمن يعتبر . وإنما لم ينتفع به الكافرون ؛ لأنهم فِي عِزَّةٍ :أي : استكبار عنه وحمية ،وَشِقَاقٍ: أي : مخالفة له ومعاندة ومفارقة .تفسير ابن كثير. أو الاعْتِزَاز بالنَّسب على جهة الفَخْر، أو الاعْتِزَاز بالوطن والمال ونحوها، كلُّ هذه مذمومة.الدرر:موسوعة الأخلاق. فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ: أي إن النار مصيره ويكفيه عذابها جزاء له ، وستكون فراشه ومأواه ، وهي بئس المهاد وشره الذي يستقر عليه بسبب غروره وفجوره في جهنم ، والمهاد ما يُمْهد أي يُهَيَّأ لمن ينام ، وإنما سمى جهنَّمَ مهادًا تهكُمًا ، لأن العُصاة يُلْقَون فيها فتصادف جنوبهم وظهورهم .فلا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها. فبِئْسَ للذم، ويقابلها في المدح نِعْمَ. "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ"207. لَمّا وصَفَ – سبحانه وتعالى- في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ حالَ مَن يَبْذُلُ دِينَهُ لِطَلَبِ الدُّنْيا، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ حالَ مَن يَبْذُلُ دُنْياهُ ونَفْسَهُ ومالَهُ لِطَلَبِ الدِّينِ. تفسير الرازي — فخر الدين الرازي .أ. هـ. يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ :أي: يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله- تعالى- وحافظ على فرائضه، وجاهد في سبيله، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة، وكان هو بمنزلة البائع، وكان قبول الله- تعالى- منه ذلك وإثابته عليه في معنى الشراء.الوسيط. هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبًا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للرؤوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك. وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ :الرؤوف من أسماء الله الحسنى.الرأفة: أشدُّ الرحمة. فَمِن رَأْفَتِهِ أنَّهُ جَعَلَ النَّعِيمَ الدّائِمَ جَزاءً عَلى العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِعِ، ومِن رَأْفَتِهِ جَوَّزَ لَهم كَلِمَةَ الكُفْرِ إبْقاءً عَلى النَّفْسِ، ومِن رَأْفَتِهِ أنَّهُ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها ومِن رَأْفَتِهِ ورَحْمَتِهِ أنَّ المُصِرَّ عَلى الكُفْرِ مِائَةَ سَنَةٍ إذا تابَ ولَوْ في لَحْظَةٍ أسْقَطَ كُلَّ ذَلِكَ العِقابِ. وأعْطاهُ الثَّوابَ الدّائِمَ، ومِن رَأْفَتِهِ أنَّ النَّفْسَ لَهُ والمالَ، ثُمَّ إنَّهُ يَشْتَرِي مُلْكَهُ بِمُلْكِهِ فَضْلًا مِنهُ ورَحْمَةً وإحْسانًا. تفسير الرازي — فخر الدين الرازي .ا: هـ. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"208. قال قتادة : قد علم اللهُ أنه سيزل زالون من الناس فتقدم في ذلك وأوعد فيه ليكون له به الحُجَّة عليهم. فبعد أن بيَّن سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته - أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين أن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ، محذِّرًا إيَّاهم مِن طاعة الشَّيطانِ، ومعلِّلًا ذلك بأنَّه عدوٌّ ظاهرٌ لهم؛ فلعداوتِه يُريد أنْ يقودَهم بطاعتِهم له إلى الهلاك.فقال سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ :إشعار بأن الشيطان كثيرًا ما يجر الإنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ :جملة تعليلية، مؤكدة للنهي ومبينة لحكمته. " فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"209. تفريع على النهي، وترهيب من العقاب الذي سيصيب المتبعين للشيطان. فَإِن زَلَلْتُم: أي فإن حدتم عن صراط الله وهو المستقيم، وسرتم في طريق الشيطان ، بعد أن بيّن لكم عداوته، ونهاكم عن اتباع طرقه وخطواته، مِّن بَعْدِ مَاجَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ: البينات جمع بَيِّنَة، وهي الأدلة والمعجزات، وقامت عليكم الحُجج ،ومجيئها: ظهورها.أي: على علم ويقين. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ :أي فاعلموا أن الله عَزِيزٌ لا يقهر ولا يعجزه الانتقام ممن زل يأخذكم أخذ عزيز مقتدر، فهو عزيز لا يغلب على أمره، الحكيم, إذا عصاه العاصي, قهره بقوته, وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته, تعذيب العصاة والجناة. فهو حكيم لا يهمل شأن خلقه، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة. فإن قيل: أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد؟ قلنا: نعم من حيث أتبعه بقوله: حَكِيمٌ :حكيم فيما شرع لكم من دينه، وفطركم عليه، ويثيب المحسن منكم ، وحكيم فيما يفعل بكم من عقوبة على معاصيكم إياه بعد إقامة الحجة عليكم. والآية فيها إثبات اسم العزيز واسم الحكيم لله تعالى. العَزيز : مَأْخُوذٌ من العِزّ، وَهُوَ الشِّدَّة والقَهْر، وسُمِّي بِهِ الملك؛ لِغَلَبَتِه على أهلِ مَمْلَكَتِه "انتهى من "تاج العروس" 15/ 232 . والعزّة التي هي من صفات الله : لها ثلاثة معان: عزة الامتناع. بمعنى الامتناع على من يرومه من أعدائه، فلن يصل إليه كيدهم، ولن يبلغ أحد منهم ضره وأذاه. وعزة القهر والغلبة. وهي من: عز يعُز ، بضم العين في المضارع ، يقال: عزه إذا غلبه .فهو سبحانه القاهر لأعدائه الغالب لهم، ولكنهم لا يقهرونه ولا يغلبونه .وهذا المعنى هو أكثر معاني العزة استعمالا. وعزة القوة. بمعنى القوة والصلابة، من عز يعَز بفتحها، ومنه قولهم: أرض عَزَاز ، للصلبة الشديدة . وكلها لله تعالى على أتم وجه وأكمله. حَكِيمٌ : والحكمة: وضع الأشياء مواضعها ، وتنزيلها منازلها "انتهى . " تفسير السعدي" ص 945. قال الطبري "الحَكِيم الذِي لَا يَدْخُلُ تَدْبِيرَه خَلَلٌ وَلَا زَلَلٌ". |
من آية 210 إلى آية 213. "هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ "210. بعد أن أمر الله المؤمنين بالدخول في السلّم كافة، ونهاهم عن الزلل عن طريقه المستقيم، عقب ذلك بتهديد الذين امتنعوا عن الدخول في الإسلام فقال سبحانه : هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ .....الآية. وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر التاركون الدخول في السلم ،الساعون في الفساد في الأرض, المتبعون لخطوات الشيطان, الذين زلُّوا من بعد ما جاءتهم البينات، النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال ، يوم إتيان الرَّبِّ عزَّ وجلَّ يوم القيامة . وإتيان الله- تعالى- إنما هو بالمعنى اللائق به- سبحانه- مع تنزيهه عن مشابهة الحوادث، وتفويض علم كيفيته إليه- تعالى- هذا اليوم الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع, ما يقلقل قلوب الظالمين, ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين. وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنثر الكواكب, وتكور الشمس والقمر, فإذا جاء الله وكانت السماوات والأرض قد أظلمت، ليس هناك شمس ولا قمر ينير، ولا نجوم تضيء، كلها قد كسفت، وطمست، ولم يبق لها نور، وبقي الناس في ظلمة عظيمة ،. وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق, وينزل الباري تبارك وتعالى" فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ " ليفصل بين عباده بالحق. ، فإذا جاء الله أشرقت الأرض بنور ربها، قال تعالى "وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ"سورة الزمر 70 فتوضع الموازين, وتنشر الدواوين, وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة, ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه. فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ : فالغَمامُ مَعروفٌ في كَلامِ العَرَبِ - وهو السحاب الرقيق الأبيض، وما أظلك من شعاع الشمس وغيره ،سمي بذلك لأنه يغم، أي يستر ، إلَّا أنَّا لا نَدري كيفَ الْغَمَامُ الذي يَأتي اللهُ جَلَّ وعزَّ يَومَ القيامةِ في ظُلَلٍ منه؟ فنَحنُ نُؤمِنُ به، ولا نُكيِّفُ صِفَتَه. وكَذلك سائِرُ صِفاتِ اللهِ جَلَّ وعَزَّ . أي ما ينتظر أولئك الذين أبوا الدخول في الإسلام من بعد ما جاءتهم البينات، إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة في ظلل كائنة من الغمام الكثيف العظيم ليحاسبهم على أعمالهم .والاستفهام للإنكار والتوبيخ. وَالْمَلَائِكَةُ : أي وإتيان الملائكة الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو- سبحانه-، "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا"الفجر: 22. وتنزل ملائكة كل سماء فيقفون صفا صفا... القصد أن الملائكة ـ على كثرتهم وقوتهم ـ ينزلون مذعنين لأمر ربهم لا يتكلم منهم أحد إلا بإذن من الله. اهـ. وَقُضِيَ الْأَمْرُ : أي أتم- سبحانه- أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي، ولم تعد لدى العصاة فرصة للتوبة أو تدارك ما فاتهم.فيقضي الله تعالى بين عباده، ويجازي كل عامل بعمله. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ : فجميع أمور الدنيا والآخرة تؤول إلى الله عزَّ وجلَّ وحده، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.وحينئذ يكونُ الأمرُ قد انتهى. فالجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد قضاء أمره، ونفاذ حكمه، وتمام قدرته. "سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"211. بيَّن- سبحانه- أن كفر الكافرين ليس سببه نقصان الدليل على صحة إيمان المؤمنين،وإنما سببه الجحود والحسد وإيثار الهوى على الهدى، بدليل أن بنى إسرائيل قد آتاهم الله آيات بينات تهدي إلى الإيمان ومع ذلك كفروا بها. استمع إلى القرآن وهو يصور موقفهم بعد تهديده للكافرين في الآية السابقة فيقول: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ. قال الفخر الرازي: اعلم أنه ليس المقصود: سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بتلك الأحوال بإعلام الله- تعالى- إياه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله- تعالى-. أي: سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله- تعالى-، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه. والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم كأنه قيل " سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ" عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد آتيناهم آيات كثيرة بينة ومع ذلك أعرض كثير منهم عنها. أي سل يا محمد يهود المدينة فالمراد بهذا السؤال تقريعهم على جحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا معرفة إجابتهم . " كَمْ آتَيْنَاهُم "أعطينا آباءهم وأسلافهم " مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ " دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام مثل العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها . وقيل: معناها الدلالات التي آتاهم في التوراة والإنجيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . " وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " نِعْمَةَ اللَّهِ: أي: آياتُهُ ودَلائِلُهُ، وهي مِن أجَلِّ أقْسامِ نِعَمِ اللَّهِ؛ لِأنَّها أسْبابُ الهُدى والنَّجاةِ مِنَ الضَّلالَ . ومن يبدل نعمة الله أي يغير آيات الله فإنها سبب الهدى الذي هو أجَلّ النعم، يجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس، أو بالتحريف والتأويل الزائغ. من بعد ما جاءته من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها، وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ولذلك قيل تقديرها فبدلوها ومن يبدل ؛ فإن الله شديد العقاب فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة. ثم ذكر طبيعة الكافرين الجاحدين فقال: "زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ "212. وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت أولئك الأشقياء على البقاء في كفرهم وجحودهم فقال- تعالى" زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا ... الآية. التزيين: جعل الشيء زينا أي، شديد الحسن. فحسنت الحياة الدنيا للكافرين وأشربت محبتها في قلوبهم فتهالكوا عليها، وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار ،وأصبحت أكبر همهم، فهم يؤثرونها على كل شيء، وأعرضوا عن الدين حين ظنوا أن منافعها قد تفوتهم. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا: أي أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الحياة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهدهم في متع الحياة، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضي من حياتهم في غير متعة فهو ضياع منها، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه في دنياهم، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذي هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رد منه- سبحانه- على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين، والذين يرون أنفسهم أنهم في زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين في نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها.والذين اتقوا الله- تعالى- وصانوا أنفسهم عن كل سوء فوق أولئك الكافرين مكانة ومكانا يوم القيامة، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلى النار وبئس القرار. وقيدت الفوقية بيوم القيامة للتنصيص على دوامها، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية، ولإدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم في الدنيا. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ : تذييل قصد به تشريف المؤمنين، وبيان عظم ثوابهم. أي: والله يرزق من يشاء بلا حصر وعد لما يعطيه. فهو- سبحانه- الذي يعطي ويمنع، وليس عطاؤه في الدنيا دليل رضاه عنِ المعطَى فقد يعطي الكافر وهو غير راضٍ عنه، فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر. أما عطاؤه في الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه.فالشأن كل الشأن، والتفضيل الحقيقي, في الدار الباقية, فلهذا قال تعالى"وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "فيكون المتقون في أعلى الدرجات, متمتعين بأنواع النعيم والسرور, والبهجة والحبور. والكفار تحتهم في أسفل الدركات, معذبين بأنواع العذاب والإهانة, والشقاء السرمدي, الذي لا منتهى له، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين, ونعي على الكافرين. "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " 213. قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى في الآية المتقدِّمة أنَّ سببَ إصرارِ هؤلاء الكفَّارِ على كُفرهم هو حبُّ الدُّنيا- بيَّن في هذه الآية أنَّ هذا المعنى غيرُ مختصٍّ بزمنِ نزول الآية، بل كان حاصلًا في الأزمنة المتقادمة؛ لأنَّ النَّاس كانوا أمَّةً واحدةً أي: إنَّ النَّاس كانوا مجتمعين منذ عهدِ آدمَ عليه السَّلام على دِينٍ واحد، هو دينُ الإسلام، وظلُّوا على ذلك مدَّةَ عشرةِ قرونٍ، فاختلَفوا في دِينهم حتى عبَدوا الأصنام، فبعَث الله النَّبيِّين ينهَوْن عن ذلك الكفرِ، مُبشِّرين مَن أطاعهم بالجنَّةِ، ومُنذِرين مَن عصاهم بالنَّارِ، وكان أوَّلهم نوحٌ عليه السَّلام. وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ:أي: إنَّ اللهَ تعالى أنزَل مع النَّبيِّين عليهم السَّلام كُتبًا مِن عنده، مشتملةً على الأخبارِ الصادقة، والأوامرِ العادلة؛ أنزَلها لتفصِلَ بين النَّاس في كلِّ ما اختلَفوا فيه، فيتبيَّن لهم الحقُّ مِن الضَّلال، والصَّواب مِن الخطأ، وتُقامُ بذلك حُجَّةُ اللهِ تعالى على عبادِه.وذكر- سبحانه- الكتاب بصيغة المفرد للإشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت إلا أنها في جوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله، وإذا كان هناك خلاف بينها ففي تفاصيل الأحكام وفروعها لا في جوهرها وأصولها. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ: لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى إنزالَه الكتبَ على النَّبيِّين عليهم السَّلام، وكان هذا يقتضي اتِّفاقَ الَّذين اختلَفوا في دِينهم عليها، أخبَر تعالى أنَّهم خالَفوا مرادَ الله تعالى منها، أي: إنهم اختلَفوا في تلك الكتب المنزلة، وكان ينبغي أنْ يكونوا أَوْلى النَّاسِ بالاجتماع عليها، والتَّحاكُم إليها، وذلك مِن بعدِ ما علِموا بالأدلَّةِ القاطعات، والحُجَج الباهرات: أنَّ ما فيها هو الحقُّ، وإنَّما حمَلهم على ذلك تعدِّي بعضِهم على بعضٍ بالباطل، ووقوع النِّزاعاتِ والخصومات فيما بينهم. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ: أي: فهدى اللهُ الذين آمنوا وصدَّقوا رسلَهُ إلى الحقِّ الذي اختلف فيه أهل الضلالة، وذلك الهدى بفضل توفيقه لهم وتيسيره لأمرهم. وأسند الهداية إليه- سبحانه- لأنه هو خالقها، ولأن قلوب العباد بيديه فهو يقلبها كيف يشاء، وهذا لا ينافي أن للعبد اختيارًا وكسبًا ،فهو إذا سار في طريق الحق رزقه الله النور المشرق الذي يهديه، وإن سار في طريق الضلالة واستحب العمى على الهدى سلب الله عنه توفيقه بسبب إيثاره الضلالة على الهداية. وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ: تذييل قُصِدَ به بيان كمال سلطانِه، وتمام قدرتِهِ.أي: والله وحده هو الهادي من يشاء من عباده إلى طريق الحق الذي لا يضل سالكه، فليس لأحد سلطان بجوار سلطانه، ولو أراد أن يكون الناس جميعًا مهديين لكانوا، ولكن حكمته اقتضت أن يختبرهم ليتميز الخبيث من الطيب، فيجازي كلَّ فريقٍ بما يستحقه. |
من آية 214 إلى آية 218 . "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ "214. هذا خطاب للذين هداهم الله إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الوفاق باتباعهم هدى الكتاب زمن التنزيل، وهم أهل الصدر الأول من المسلمين، وفيه العبرة لمن يأتي بعدهم ويظنون أن في انتسابهم إلى الإسلام الكفاية في دخول الجنة، جهلًا منهم بسنة الله في أهل الهدى منذ أن خلقهم أن يتحملوا الشدائد والإيذاء في طريق الحقّ وهداية الخلق. ولَمَّا: تدل على النفي مع توقع حصول المنفي بها. فقد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون على الشدائد كما ثبتوا، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله من غير أن تفتنوا في سبيل الحق، فتصبروا على ألم الفتنة، وتؤذوا في الله، فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ: الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه، كأخذ المال، والإخراج من الديار، وتهديد الأمن، ومقاومة الدعوة،.وَالضَّرَّاءُ : أي: ما يصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزال: الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه. وَزُلْزِلُوا : بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل, والنفي, وأخذ الأموال فإنَّ مَن مَضى مِن مُؤمِني الأممِ السابقة قد أصابهم الفقرُ وشدَّةُ الحاجة، وأصابتهم الأمراضُ والأوجاعُ، وخُوِّفُوا ورُعِبُوا مِن قِبَل أعدائِهم بأنواع المخاوفِ، فأُصيبوا في أموالهم بالبأساءِ، وفي أبدانهم بالضَّرَّاء، وفي قلوبهم بالخوفِ، حتى وصَلَتْ بهم الحال إلى أنْ يتساءَلَ رسلُ اللهِ ومَن آمَن معهم: متى يأتي نصرُ الله تعالى؟ ليخرُجوا ممَّا هم فيه مِن ضيقٍ وكربٍ وشدَّة. مع يقينهم بنصر الله وتأييده،ولكن لشدة الأمر وضيقه تساءلوا. والمراد بالرسول- كما يقول الآلوسى- الجنس لا واحد بعينه. " شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ:كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ."الراوي : خباب بن الأرت - صحيح البخاري. لَمَّا كان الفرج عند الشدَّة، وكلَّما ضاق الأمر اتَّسع، قال تعالى:أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ :فهكذا كلُّ مَن قام بالحقِّ، فإنَّه يُمتَحن ،فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة, والمشقات راحات, وأعقبه ذلك, الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء. ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين بعد ذلك إلى أن مما يعينهم على دفع الأذى وعلى دحر أعدائهم أن يبذلوا أموالهم في طاعة الله، وأن يعدوا أنفسهم للقتال في سبيله فقال- تعالى-: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" 215. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: أن الآية الأولى فيها دعاء إلى الصبر على الجهاد في سبيل الله، وفي هذه بيان لوجه النفقة في سبيل الله، وكل ذلك دعاء إلى فعل البر. فبعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف، وأن أهل الحق هم الذين يتحملون البأساء والضرّاء في أموالهم وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ناسب أن يذكر هنا ما يُرغب الإنسان في الإنفاق في ذلك السبيل، ومن المعلوم أن بذل المال كبذل النفس، كلاهما من آيات الإيمان، فالسامع لما تقدم تتوجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه. يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ :أي: يسألك أصحابُك يا محمَّد، عمَّا يُنفَق جنسًا ومقدارًا وكيفيَّةً، قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ :فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنَّ ما تنفقونه من الأموال لا يُشترط فيه شيء معيَّن، ولا مقدار محدَّد، بل يشمل أيَّ مال، وسواء كان قليلًا أم كثيرًا،فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ :وأنَّ أولى وأحقَّ مَن تُنفق عليه الأموال هم أقرب النَّاس رحمًا وهم الوالدان، ثم بقيَّة الأقارب، الأقرب فالأقرب، ثم تصرف إلى أشدِّ النَّاس حاجةً من بعدهم، وهم الصِّغار الذين فقدوا آباءهم قبل بلوغهم ولا كاسب لهم، ثم للمساكين الذين لا يجدون ما يكفيهم ويُغنِيهم، وكذا للمسافرِ المجتاز الذي يحتاج نفقةً تُوصِله لموطنِه. وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ:ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف, لشدة الحاجة, عمم تعالى فقال" وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ" من صدقة على هؤلاء وغيرهم, بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات, لأنها تدخل في اسم الخير، "فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" فيجازيكم عليه, ويحفظه لكم, كل على حسب نيته وإخلاصه, وكثرة نفقته وقلتها, وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها ونفعها. " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"216. ربط الآية بما قبلها أن القتال من البأساء التي في قوله "وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُوَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا"البقرة : 214 . هذه الآية، فيها فرض القتال في سبيل الله،بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه، لضعفهم, وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكثر المسلمون, وقووا؛ أمَرَهم اللهُ تعالى بقتال الأعداء من الكفَّار والمشركين، مع أنَّه مكروهٌ لهم ؛ لِمَا فيه من شدَّة ومشقَّة بالغة، ولِمَا يحدُث فيه من التعرُّض للقتل والإصابة بالجراح ووقوع المخاوف. وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌوَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ : أي: إنَّه مع وقوعِ هذه الكراهيةِ في النفوسِ للقتال، إلَّا أنَّ الحقيقة بخلاف ذلك؛ إذ فيه من الخير والمنافع ما هو أكثرُ وأعظمُ ممَّا يقع فيه من أضرار، ومن ذلك ما يَحصُل بسببِه من النَّصرِ على الأعداء، والتمكُّن من البلدان والأموال، وما تقع فيه من الشَّهادة لمن مات منهم محتسبًا، وحصول الحسنات العظيمة لهم، وغير ذلك، فأمَّا ترك القتال الذي هو محبوبٌ للنفوس ففيه من الشرور ما يَزيدُ على مصلحة قعودِهم، ومنها تسلُّط الأعداء، وفوات الأجور العظيمة، وهكذا الأمرُ في جميع أفعال الخير وإنْ كرِهتها النفوس، وأفعال الشرِّ، وإن أحبَّتها النُّفوس. يُخبِرُ سالِمٌ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيدِ اللهِ -وكان كاتِبًا له- أنَّه قَرَأ كِتابًا كَتَبَه عَبدُ اللهِ بنُ أبي أوْفَى رَضيَ اللهُ عنهما إلى عُمَرَ بنِ عُبَيدِ اللهِ الذي كان أميرًا لِلحَربِ على الخَوارِجِ والحَرُوريَّةِ في عَهدِ الخَليفةِ علِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه "كَتَبَ إلَيْهِ عبدُ اللَّهِ بنُ أبِي أوْفَى حِينَ خَرَجَ إلى الحَرُورِيَّةِ، فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، انْتَظَرَ حتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ فَقَالَ: أيُّها النَّاسُ، لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم."الراوي : عبدالله بن أبي أوفى- صحيح البخاري. والحَرُوريَّةُ همْ فِئةٌ مِنَ الخَوارِجِ، وسُمُّوا بالحَرُوريَّةِ؛ نِسبةً إلى حَروراءَ، وهي مَوضِعٌ قَريبٌ مِنَ الكُوفةِ، وهي البَلَدُ الذي اجتَمَعَ الخَوارِجُ فيه أوَّلَ أمْرِهم. لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا:وهذا النَّهيُ لِأنَّ المَرءَ لا يَعلَمُ ما يَنتَهي إليه أمْرُه، ولا كيف يَنجُو منه، ولِأنَّ الناسَ مُختَلِفونَ في الصَّبْرِ على البَلاءِ، ولِأنَّ العافيةَ والسَّلامةَ لا يَعدِلُها شَيءٌ. وأيضًا نَهَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن تَمَنِّي لِقاءِ العَدُوِّ؛ لِمَا فيه مِن صُورةِ الإعجابِ بالنَّفْسِ، والاتِّكالِ عليها، والوُثوقِ بأسبابِ القُوَّةِ، ولِأنَّه يَتضَمَّنُ قِلَّةَ الاهتِمامِ بالعَدُوِّ واحتِقارَه، وهذا يُخالِفُ الاحتياطَ والحَزمَ. " وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ" والعافيةُ مِنَ الألفاظِ العامَّةِ المُتناوِلةِ لِدَفْعِ جَميعِ المَكروهاتِ في البَدَنِ والمالِ والأهلِ والدُّنيا والآخِرةِ، وخُصَّتْ بالدُّعاءِ في هذا المَقامِ؛ لِأنَّ الحَربَ مَجالُ الإصاباتِ والابتِلاءِ، ثمَّ قال لهم"فإذا لَقيتُموهم فاصْبِروا" أي اصبروا على مقاتلتهم ولا تجزعوا ، واستعينوا بالله عز وجل، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا. " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواوَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"الأنفال:45. وأما أحوال الدنيا, فليس الأمر مطردًا, ولكن الغالب على العبد المؤمن, أنه إذا أحب أمرًا من الأمور, فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له, فالأوفق له في ذلك, أن يشكر الله, ويجعل الخير في الواقع, لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه, وأقدر على مصلحة عبده منه, وأعلم بمصلحته منه كما قال تعالى"وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " فعلى المسلم الرضا بأقدار الله, سواء سرته أو ساءته لأن الخير كل الخير ما يقدره الله. ولو لم يقيد الأمر بالقتال, لشمل الأشهر الحرم وغيرها,لذا قيد في الآية التالية. "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"217. بعد أن حرض الله- تعالى- المؤمنين على بذل أموالهم وأنفسهم في سبيله عقب ذلك ببيان حكم القتال في الأشهر الحرم . وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقًا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام. أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد، عن القِتال في شهرٍ حرام، والمراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم جميعها، فأل في الشهر للجنس. وقيل للعهد - والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحِجَّة، ومحرَّم، ورجب- ، وقيل: السؤال وقع من المشركين للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ تعييرًا وتشنيعًا على المؤمنين الذين قتَلوا أحد المشركين في شهرٍ حرام، فأمره الله تعالى أن يُجِيب عن ذلك بأنَّ القتال فيه عظيم؛ لعَظمة تلك الأشهر وحُرمتها. ولكنْ ما يقومون به مِن مَنْع النَّاس من سُلوكِ طريق الحقِّ، أو من الاستمرار عليه لمن آمَن، وكفرهم بالله تعالى، ومنعِهم النَّاس عن الوصول إلى البيت الحرام لحجٍّ أو عمرة، وإخراج أهله المؤمنين منه، وهم عُمَّارُه والأحقُّ به من المشركين- أعظمُ إثمًا وجرمًا عند الله تعالى؛ فكلُّ واحدٍ منها فِتنة، والفِتنة أعظمُ وأشدُّ من القتل الذي وقع من المسلمين في شهرٍ حرام. فالجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين. وتبكيت وتوبيخ إن كان من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيه فيثيروا الشبهات حول الإسلام والمسلمين، فلما أجابهم بأن القتال فيه كبير وأن ما فعلوه من جرائم في حق المسلمين أكبر وأعظم كبتوا وألقموا حجرا. وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا: أي: ولا يزال المشركون يقاتلونكم أيها المؤمنون ويضمرون لكم السوء ويداومون على إيذائكم لكي يرجعوكم عن دين الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وقدروا عليه. والتعبير بقوله " وَلَا يَزَالُونَ" المفيد للدوام والاستمرار للإشعار بأن عداوة المشركين للمسلمين لا تنقطع، وأنهم لن يكفوا عن الإعداد لقتالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فعلى المؤمنين ألا يغفلوا عن الدفاع عن أنفسهم. وقوله: إِنِ اسْتَطاعُوا يدل- كما يقول الزمخشري- على استبعاد استطاعتهم رد المسلمين عن دينهم، وذلك كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبق على. وهو واثق من أنه لن يظفر به. ويشهد لذلك التعبير بإن المفيدة للشك. وفائدة التقييد بالشرط " إِنِ" التنبيه على سخافة عقول المشركين، وكون دوام عداوتهم للمؤمنين لن تؤدي إلى النتيجة التي يتمنونها وهي رد المسلمين عن دينهم، لأن لهذا الدين ربًا يحميه، وأتباعه يفضلون الموت على الرجوع عنه.ثم بيَّنَ- سبحانه- سوء عاقبة من يرتد عن الإسلام فقال: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ:ويرتدد يفتعل من الرد وهو الرجوع عن دينه إلى الكفر. وحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي: بطلت وفسدت وأصله من الحبط، بفتح الباء- وهو أن تأكل الدابة أكلا كثيرا تنتفخ معه بطونها فلا تنتفع بما أكلت ويفسد حالها وربما تموت من ذلك. شبه- سبحانه- حال من يعمل الأعمال الصالحة ثم يفسدها بارتداده فتكون وبالًا عليه، كحال الدابة التي أكلت حتى أصابها الحبط ففسد حالها. والمعنى: ومن يرتدد منكم عن دين الإسلام، فيمت وهو كافر دون أن يعود إلى الإيمان، فأولئك الذين ارتدوا وماتوا على الكفر بطلت جميع أعمالهم الصالحة، وصارت غير نافعة لهم لا في الدنيا بسبب انسلاخهم عن جماعة المسلمين، ولا في الآخرة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر، وأولئك الذين هذا شأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون خلودًا أبديًا كسائر الكفرة، ولا يغني عنهم إيمانُهم السابق على الردة شيئًا. "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"218. وبعد أن بين- سبحانه- عاقبة من يرتد عن دينه أتبع ذلك ببيان عاقبة المؤمنين الصادقين. فأعقَب اللهُ عزَّ وجلَّ الإنذارَ بالبشارة، ونزَّه المؤمنين من احتمال ارتدادِهم؛ فإنَّ المهاجرين لم يرتدَّ منهم أحدٌ .تفسير ابن عاشور. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا : أي إنَّ الذين صدَّقوا وأقرُّوا بالحقِّ منقادينَ إليه،وَالَّذِينَ هَاجَرُوا :والذين انتقَلوا من موضعٍ إلى آخَرَ فرارًا من مخالطة المشركين ومساكنتِهم، وربَّما فارَقوا بذلك عشائرهم وأوطانهم؛ حفاظًا على دِينهم، وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: والذين بذلوا جهدَهم في مقاتلة الأعداء نصرًا لدين الله تعالى، وإعلاءً لكلمته. وجيء بهذه الأوصاف الثلاثة مترتبة على حسب الواقع إذ الإيمان يكون أولًا ثم المهاجرة من أرض الظالمين إذا لم يستطع دفع ظلمهم، ثم الجهاد من أجل إعلاء كلمة الحق.الوسيط. أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : فهؤلاء- ذَوُو الطبقة العالية الرفيعة- لائقون وجديرون حقًّا بأن يطمعوا في نَيل رحمة الله تعالى لهم، وأنْ يُدخِلَهم دار كرامته، وسيَحظَون بما أمَّلوا وطمِعوا فيه؛ ذلك أنَّ الله تعالى غفورٌ رحيم؛ فبمغفرته ستَر ذنوبهم وتجاوز عنها، وأذهب آثارها وعقوباتها في الدنيا والآخرة، وبرحمته وفَّقهم لتلك الأعمال الجليلة، ويمنحهم في الدَّارين الخيراتِ والمراتبَ النَّبيلة. يُنظر:تفسير ابن جرير:3/666-667، تفسير السعدي:ص: 98، تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة:3/62-65. |
من آية 219 إلى آية 220 . "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ "219. وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفي الصدور، ويصلح النفوس.أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد، عن حُكم الخمر- وهي: كلُّ شرابٍ مسكِر يُغطِّي عقل صاحبه- وعن حُكم الْمَيْسِرِ وهوالقِمار. وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام, فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما، فأمر الله تعالى نبيه, أن يبين لهم منافعهما ومضارهما, ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما, وتحتيم تركهما. عن عمرَ بنِ الخطَّابِ أنَّهُ قالَ " اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخَمرِ بيانَ شفاءٍ ، فنزلتِ الَّتي في البقرةِ "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ" الآيةَ، فدُعِيَ عمرُ فقرئت علَيهِ قالَ: اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخمرِ بيانَ شفاءٍ، فنزلتِ الَّتي في النِّساءِ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى" ، فدُعِيَ عمرُ فقُرِئَت علَيهِ، ثمَّ قالَ: اللَّهمَّ بيِّنَ لَنا في الخمرِ بيانَ شفاءٍ، فنزلتِ الَّتي في المائدةِ" إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ" إلى قولِهِ " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" فدُعِيَ عمرُ فقُرِئَت علَيهِ فقالَ: انتَهَينا انتَهَينا "الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم : 3049 - خلاصة حكم المحدث : صحيح. كان عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه يَميلُ إلى أنْ يأتيَ من عِند اللهِ عزَّ وجلَّ ما يُحرِّمُها؛ فنَزلتِ الآيةُ الَّتي في البقرةِ"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا"البقرة: 219، أي: إنَّ الخمرَ فيها أضرارٌ ومنافِعُ، وكانت منافِعُها في التِّجارةِ وأمورِ البيعِ والشِّراءِ، فَلَمْ يكُنْ في تِلك الآيةِ نَهْيٌ عنها، بل إظهارُ ما بها من مَضارَّ؛ ليتفكَّرَ النَّاسُ فيها، فَدُعِيَ عمرُ فقُرِئَتْ عليه، أي: عُرِضَتْ عليه تلك الآيةُ فَلَمْ تَشْفِهِ؛ فقال: اللَّهمَّ بَيِّنْ لنا في الخَمرِ بيانًا شِفاءً، أي: أَنزِلْ ما يَفْصِلُ فيها ويُوضِّح أكثرَ من تلك الآيةِ، "فنزلَتِ الآيةُ التي في النِّساءِ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى"النساء: 43، أي: كان النَّهْيُ في الصَّلاةِ فقط، والنَّهيُ المُتعلِّقُ بها في الصَّلاةِ هو السُّكْرُ لا الشُّرْبُ، "فكان مُنادي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أي: مُؤذِّنُهُ، "إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ يُنادي: ألا لا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرانُ، فَدُعِيَ عمرُ فقُرِئَتْ عليه"، أي: عُرِضَتْ عليه تِلك الآيةُ فَلَمْ تَشفِهِ، "فقال: اللَّهمَّ بَيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شِفاءً"، أي: بَيِّنْ لنا فيها ما هو أَكْثَرُ من ذلك، "فنزلَتْ هذه الآيةُ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" المائدة: 90، 91، أي: يَنهى اللهُ عزَّ وجلَّ صراحةً في تلك الآيةِ عن شُرْبِ الخمرِ، ويأمُر باجتنابِها؛ "فقال عُمَرُ: انتهيْنا"، أي: كانتْ تلك الآيةُ بمَنزلةِ الفَصْلِ الَّذي كان يُريدُهُ عمرُ بنُ الخطَّابِ في الخمرِ. وفي الحديثِ: مَنْقَبَةٌ لِعمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه.الدرر. وَالْمَيْسِرِ : وأمَّا مفسدة القِمار فبإيقاع العداوة والبغضاء، والصَّدِّ عن ذِكر الله وعن الصَّلاة، وهذه مفاسدُ عظيمةٌ لا نسبةَ إلى المنافع المذكورة إليها. وهذه الآية من أدلة القاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، وتساويا ، فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة . وذلك لأن وجود المفسدة يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على تحصيل المنفعة ، لذا قالوا " التخلية قبل التحلية " ، أي إزالة العقبات من طريق جلب المصلحة أو المنفعة . ودفع المفسدة مُقدم على جلب المنفعة لحكمة أخرى حاصلها : أن المفسدة إذا لم تُدفع في أول أمرها ربما تتفاقم وتنتشر وتجر إلى مفاسد أخرى ، وتحُول بين جلب المنافع الدنيوية والأخروية .القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه / ص : 107 / بتصرف . فإذا تساوت المصلحة والمفسدة ، ولم ترجح إحداهما ، فدرءالمفاسدمقدم على جلب المصالح لأن عناية الشارع بترك المنهيات آكد من عنايته بفعل المأمورات . * فعن أبي هريرة ، قال خطب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الناس فقال " ، فإذا أمرتكم بالشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"سنن النسائي تحقيق الشيخ الألباني / 24 -كتاب : مناسك الحج / 1ـ باب : وجوب الحج / حديث رقم : 2619 / ص : 409 / صحيح. فالمأمورات قال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فخذوا به ما استطعتم " ، فعلقها على الاستطاعة ، وذلك باستفراغ الجهد . أما المنهيات فقال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فاجتنبوه " . أي ابتعدوا عن المنهيات تمامًا . منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم . مثال ذلك : يمنع الشخص من الترف في ملكه إذا كان تصرفه يضر بجاره ضررًا فاحشًا ؛ لأن درء المفاسد عن جاره ـ مقدم ـ وأولى من جلب المنافع لنفسه . الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية ... / جمعة صالح محمد / ص : 47 *أنه إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، وكانت المفسدة أعظم من المصلحة ، وجب تقديم دفع المفسدة ، وإن استلزم ذلك تفويت المصلحة ، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، كما سبق توضيحه عاليه . ومن شواهد هذه القاعدة : قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافعُ لِلناسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبرُ من نَّفْعِهِما " .سورة البقرة / آية : 219 . فحرم الله الخمر والميسر ، لأن مفسدتهما أعظم من مصلحتهما . قال الحافظ ابن كثير : " أما إِثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن وتهضيم الطعام ، وإخراج الفضلات ، ولذة الشدة التي فيها ، وكذا بيعها والانتفاع بثمنها ، وما كان يقمِّشة بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا قال تعالى : "وَإِثْمُهُمَا أَكْبرُ من نَّفْعِهِمَا" .القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 339 / بتصرف . *أما إذا دار الفعل بين مصلحة ومفسدة ، وكانت المصلحة أرجح من المفسدة ، حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة . وهذا مُفاد القاعدة التالية: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة ومن دلائل هذه القاعدة : ـ قول الله عز وجل " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" .سورة البقرة / آية : 179 . * قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : " ... فلولا القصاص لفسد العالَم ، وأهلك الناس بعضهم بعضًا استبداءً واتيفاءً ، فكان القصاص دفعًا لمفسدة التَّجَرِّي على الدماء بالجناية أو بالاستيفاء ، وقد قالت العرب في جاهليتها : " القتال أنفع للقتل" ، وبسفك الدماء تُحقن الدماء" . ا . هـ . 2 / 91 . القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 343 . وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسير هذه الآية : " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ" . أي : تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عَرف أنه مقتول إذا قَتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رؤي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر ، الذي يحصل بالقتل ، وهكذا سائر الحدود الشرعية ، فيها من النكاية والانزجار ، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ، ونكَّر سبحانه ـ أي جعلها نكرة ـ " الحياة " لإفادة التعظيم والتكثير . ولما كان هذا الحكم ، لا يعرف حقيقته إلا أهل العقول الكاملة ، والألباب الثقيلة ، خصهم بالخطاب دون غيرهم ، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم ، في تدبر ما في أحكامه ، من الحِكَم ، والمصالح الدالة على كماله ، وكمال حكمته وحمده ، وعدله ورحمته الواسعة ، وأن من كان بهذه المثابة ، فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب ، وناداهم رب الأرباب ، وكفى بذلك فضلًا وشرفًا لقوم يعقلون..ا . هـ . وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ :ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نُهُوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطى الخمر والميسر، سألوا عن وجوه الإنفاق الحلال، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم. قُلِ الْعَفْوَ : وأصل العفو في اللغة الزيادة. يقال : عفا الشيء إذا كثر قال- تعالى" ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا"الأعراف : 95.أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ،زادوا على ما كانوا عليه من العدد. والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه. والمعنى، ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم، وسهل عليكم إخراجه، ولا يشق عليكم بذله.الوسيط. "أعتق رجلٌ من بنى عذرةَ عبدًا له عن دبْرٍ فبلغ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مالٌ غيرُه ؟ قال : لا، فقال رسولُ اللهِ : من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيمُ بنُ عبد اللهِ العدوي بثمانمائةِ درهمٍ، فجاء بها رسولُ اللهِ فدفعها إليه ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول : بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ"الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي - الصفحة أو الرقم : 4666 - خلاصة حكم المحدث : صحيح. عبدًا له عن دبْرٍ :أي: قرَّرَ هذا الرَّجلُ أنَّه بعْدَ أنْ يَموتَ يُصْبِحُ مَملوكُه حُرًّا، ولَمْ يَكُنْ له مالٌ غَيْرُ هذا العَبدِ، وهذا كنايةٌ عن احتياجِه للمالِ، فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يوافِقْه على فِعْلِه ذلك، ثم سأل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه"من يشتريه مني؟" فأراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيْعَه للرَّجلِ؛ لكَونِه فَقيرًا مُحتاجًا للمالِ؛ فبَيْعُه والانتفاعُ بِمالِه أوْلى مِن عِتْقِه، فاشتراهُ نُعيمُ بنُ عبدِ اللهِ بن النحامِ العَدويُّ بثَمانِمِائةِ دِرْهمٍ، فجاء بها لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأعطاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرَّجلِ. ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول : بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ"الدرر. والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ :أي: كما فصَّل الله تعالى هذه الأحكامَ كحُكم الخمر وغيره، وأوضحها غايةَ الإيضاح، فكذلك يُوضِّح الله جلَّ وعلا لنا بمِثل ذلك البيان سائر آياته وأحكامه الشرعيَّة؛ كي نتفكَّر من خلالها فيما شرَعه الله تعالى من أحكام تتعلَّق بشؤون الدارينِ، ولأجْل أن يقودَنا ما جاء فيها من وعدٍ ووعيد وثوابٍ وعقاب، إلى التفكُّر في الدنيا وسرعة انقضائها، وفي إقبال الآخِرة وبقائها، فنزهَد في الأولى، ونُعمِّر الثانية؛ عملًا بطاعة الله تعالى، وتركًا لشهوات يسيرة فانية.الدرر السنية موسوعة التفسير. "فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "220. وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى : لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى السؤالَ عن الخمر والميسر، وكان في تَرْكهما إصلاحُ أحوالهم وأنفسهم، أمَر بالنَّظر في حال اليتامى؛ إصلاحًا لغيرهم ممَّن هو عاجزٌ أن يصلح نفْسَه، فيكون قد جمَعوا بين النَّفع لأنفسهم ولغيرهم. عنِ ابنِ عبَّاسٍ لَمَّا نزَلَتْ هذه الآيةُ"وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"الأنعام: 152، و"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا"النساء: 10، قال: اجتَنَب النَّاسُ مالَ اليتيمِ وطعامَه، فشَقَّ ذلك على المُسلِمينَ، فشكَوْا ذلكَ إلى النَّبيِّ، فأنزَل اللهُ"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ"البقرة: 220، إلى قوله"لَأَعْنَتَكُمْ"البقرة: 220.الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي-الصفحة أو الرقم : 3671 - خلاصة حكم المحدث : حسن. أي: يسألُك المؤمنون يا محمَّد، عمَّا اشتدَّ عليهم فعله مع اليتامى؛ إذ كانوا يعزلون لهم طعامَهم؛ خوفًا من تناوله معهم، فإذا فضَل منه شيءٌ حبسوه لهم حتى يأكلوه أو يتغيَّر، فأخبَر الله تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُجيبهم بأنَّ المقصودَ إنَّما هو إصلاحُ أموال اليتامى، بحفظها، واستثمارها، والاتِّجار فيها لهم، فإنْ لم تأخذوا أجرًا على قيامكم بذلك فذلك خيرٌ لكم وأعظمُ أجرًا، وإن أصبتم من أموالهم شيئًا في مقابل قيامكم بشؤونهم، كأنْ خالطتموهم في طعامٍ أو غيره من الأموال فجائز- على وجهٍ لا يضرُّ باليتامى-؛ لأنَّهم إخوانكم في الدِّين، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ : أي: إنَّ الله تعالى وإنْ أذِن للمؤمنين في مخالطة اليتامى على ما سبق ذِكرُه، إلَّا أنَّه خوَّفهم وحذَّرهم من أن تُسوِّل لهم أنفسُهم شيئًا من الخداع لأكل أموال اليتامى بالباطل، فالمعوَّل في ذلك على النيَّة، فمَن خلط مال اليتيم بماله يريد مصلحته، فالله يعلم نيَّته وسيُثِيبه على ذلك، وإنْ حصَل أنْ دخل عليه شيءٌ من ماله من غير قصْدٍ، ولا طمعٍ، فلا حرج عليه؛ لأنَّ الله تعالى يعلم نيَّته، وأمَّا مَن قصد بتلك المخالطة التوصُّل بها إلى أكلِ ماله خديعةً، فالله عزَّ وجلَّ يعلم نيَّته، وسيعاقبه على ذلك. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: أي: إنَّ هذا الحُكم إنَّما شُرِع رخصةً من الله تعالى وتوسعةً على عباده؛ وإلَّا فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يشُقَّ عليهم بنَهيِهم عن خلط أموالهم بأموال اليتامى؛ وأمْرِهم بتقدير طعامهم تقديرًا دقيقًا، بحيث لا يَزيد عن حاجتهم، ولا ينقص عنها، فيقعوا بذلك في ضيقٍ وحرج؛ ويعاقبهم ربُّهم إنْ تركوا أمره، أو ارتكبوا نهيه؛ ذلك بأنَّ الله تعالى لا يعجزه شيء، وهو قاهرٌ لكلِّ شيء، وَفْق ما تقتضيه حِكمته؛ إذ يضَعُ كلَّ شيءٍ في موضعه اللائق به، فيعاقب مَن يستحقُّ ذلك لعناده، ويشرِّع ما فيه الخير والرحمة لعباده. الدرر السنية موسوعة التفسير. |
الساعة الآن 10:18 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024,Jelsoft Enterprises Ltd.
هذه المنتديات لا تتبع أي جماعة ولا حزب ولا تنظيم ولا جمعية ولا تمثل أحدا
هي لكل مسلم محب لدينه وأمته وهي على مذهب أهل السنة والجماعة ولن نقبل اي موضوع يثير الفتنة أو يخالف الشريعة
وكل رأي فيها يعبر عن وجهة نظر صاحبه فقط دون تحمل إدارة المنتدى أي مسؤلية تجاه مشاركات الأعضاء ،
غير أنَّا نسعى جاهدين إلى تصفية المنشور وجعله منضبطا بميزان الشرع المطهر .