مفكرة إسلامية
11-01-08, 01:28 AM
الحمد لله حمدا كثراً طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن بين محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
فبعون الله وتوفيقه، نستأنف الدرس الختامي لهذه الحلقة، وابتداء أعتذر للإخوة المشاهدين في أننا سنضطر في هذا اليوم أن نختصر، وأننا سنؤجل لهم الأسئلة ، لأن موضوع اليوم طويل، ونرجوا أن ننهيه بنهاية هذه الحلقة المباركة، ولذا سأقتصر في توجيه سؤالين للطلبة الحاضرين:
السؤال الأول: القرآن الكريم كلام الله عز وجل ، وهو دستور هذه الأمة ومنهاجها، له منهاج شرعي في تفسيره، وتطبيقه من قِبل المسلمين، ما هو هذا المنهج الشرعي في تفسير القرآن والعمل بمقتضاه؟
السؤال الثاني : فيما يتعلق بالقدر، فالإيمان بالقدر يتضمن مراتب، كم هي؟ وما هي؟
والآن بعون الله وتوفيقه نبدأ الدرس بقراءة القسم الأول من سابعاً وهو الجماعة والإمام.
(سابعاً :
الجمــاعة والإمــامة :
1) الجماعة : في هذا الباب هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، المتمسكون بآثارهم إلى يوم القيامة، وهم الفرقة الناجية .
وكل من التزم بمنهجهم فهو من الجماعة، وإن أخطأ في بعض الجزئيات .
2) لا يجوز التفرق في الدين : ولا الفتنة بين المسلمين، ويجب رد ما اختلف به المسلمون إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح .
3) من خرج عن الجماعة وجب نصحه، ودعوته، ومجادلته بالتي هي أحسن، وإقامة الحجة عليه، فإن تاب وإلا عوقب بما يستحق شرعاً .
4) إنما يجب حمل الناس على الجمل الثابتة بالكتاب والسنة، والإجماع، ولا يجوز امتحان عامة المسلمين بالأمور الدقيقة، والمعاني العميقة .
5) الأصل في جميع المسلمين سلامة القصد والمعتقد، حتى يظهر خلاف ذلك، والأصل حمل كلامهم على المحمل الحسن، ومن ظهر عناده وسوء قصده فلا يجوز تكلف التأويلات له.
6) فرق أهل القبلة الخارجة عن السنة متوعدون بالهلاك والنار، وحكمهم حكم عامة أهل الوعيد، إلا من كان منهم كافراً في الباطن، أو كان خلافه في أصول العقيدة التي أجمع عليها السلف .
والفرق الخارجة عن الإسلام كفار في الجملة، وحكمهم حكم المرتدين.
7) الجمعة والجماعة من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة، والصلاة خلف مستور الحال من المسلمين صحيحة، وتركها بدعوى جهالة حالة بدعة .
8) لا تجوز الصلاة خلف من يظهر البدعة، أو الفجور من المسلمين مع إمكانها خلف غيره، وإن وقعت صحت، ويأثم فاعلها إلا إذا قصد دفع مفسدة أعظم، فإن لم يوجد إلا مثله أو شر منه جازت خلفه، ولا يجوز تركها .
ومن حُكم بكفره فلا تصح الصلاة خلفه .
9) الإمامة الكبرى تثبت بإجماع الأمة، أو ببيعة ذوي الحل والعقد منهم، ومن تغلب حتى اجتمعت عليه الكلمة وجبت طاعته بالمعروف، ومناصحته، وحرم الخروج عليه إلا إذا ظهر منه كفر بواح فيه من الله برهان .)
هذه الأصول، من ضمن منهج السنة والجماعة الذي رسمه الإسلام، من خلال نصوص القرآن، ومن خلال سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، ومن خلال سنة الخلفاء الراشدين، ونهج السلف الصالح.
أعني بذلك أن هذه الأحكام، تعتبر من أصول الدين ومسلماته، وهي مناهج الدين التطبيقية العملية، فيما يتعلق بالأحكام العامة والمصالح العظمى والمصالح الكبرى، ذلك أن أمور العقيدة على نوعين:
- أمور علمية اعتقداية، كأصول الإيمان الستة.
- وأمور عملية، تتعلق بالعبادات والشعائر ، كأركان الإسلام الخمسة، وأمور عملية تتعلق بمناهج الدين وتطبيقاته كما يتعلق بالجماعة وصورها، بالتعامل بين المسلمين، وتعامل المسلمين مع المخالفين منهم، وتعامل المسلمين مع غيرهم من الكفار، فهذا يدخل فيه أمران:
الأمر الأول: الجماعة والإمامة وأحكامها.
الأمر الثاني: فيما يتعلق بخصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم، وهي المحك العملي في تعاملهم مع بعضهم ومع الآخرين.
وقد سمعتم جملة من الأصول المتعلقة بالجماعة والإمامة، إلى الأصل التاسع، ونتناولها بإيجاز لعلنا نختم جميع فقرات الكتاب بإذن الله تعالى.
أولا: الجماعة.
الجماعة إذا ورد ذكرها في الشرع، وفي القرآن والسنة، وإذا ورد ذكرها في منهج السلف، فلها عدة إطلاقات، ويهمنا هنا الإطلاق العام الكبير، الجماعة التي هي من مسلمات الدين ومن ثوابت الدين وأصوله وقواطعه، المقصود بها هي الجماعة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر خصائصها ، وتتميز بسمات رسمها الكتاب والسنة، ونهج السلف الصالح، وسنشير إلى هذه السمات في نهاية الدرس.
إذا المقصود بالجماعة هي جماعة المسلمين المستمسكة بالحق، والمستمسكة بالسنة، وسبق في الدرس الأول ذكر الجماعة بمفهومها الشرعي، وأعيد ذلك بإيجاز.
هو أن الجماعة المقصود بها هنا، جماعة المسلمين التي بقيت على الحق واستمسكت بالسنة، وهي من الناحية التاريخية مرت بصور، الصورة الأولى: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين قبل ظهور الافتراق، كان المسلمون كلهم على الجماعة، وكانت تتوافر فيهم صفات الجماعة المسلمة من جميع الخصائص والسمات وإن وجد عندها بعض الأفراد الشواذ، فإن الشواذ وتصرفات الأفراد أو الفئات القليلة؛ لا تخرق قاعدة أن الجماعة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا على الإسلام والسنة ولم يظهر افتراق.
في أخر عهد الخلفاء الراشدين ظهر الافتراق ثم أيضا في القرن الأول تناما الافتراق حتى آخر القرن الأول فكثرت الفرق وكثر أتباعها، فمن هنا رجع السلف إلى تمييز الجماعة بالوصف الذي وصفها به النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما نظروا إلى ما عليه المسلمون من الفرقة والاختلاف وجدوا أن أهل السنة والجماعة هم الذي بقوا على هذا الاتجاه أو على هذا المنهج، وسموا أهل السنة والجماعة بناء على وصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم كما قلت بالجماعة في نصوص كثيرة، تصل إلى حد التواتر المعنوي، "عليكم بالجماعة"، إياكم والفرقة"، "إن يد الله مع الجماعة"، " إن يد الله على الجماعة" ، نصوص كثيرة توصي بالجماعة وتجعلها هي الموئل للمسلم عندما يكثر الافتراق وتكثر الأهواء.
فإذا المعنية بالجماعة من حيث تطبيقاتها، هم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون لهم بإحسان ، الذين أحسنوا التبعية، أحسنوا الإتباع من غير تقليد، غنما إتباع باهتداء واقتداء كما سيأتي.
وهم المستمسكون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح إلى يوم القيامة، ولذلك سموا بالفرقة الناجية ، وهذه التسمية لم تكن أيضا من صنع الناس، إنما هي مأخوذة من وصف النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في فقرة تالية.
وعلى هذا، فكل من التزم منهج السنة ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين؛ فهو من الجماعة، في العقيدة والمواقف والمصالح العظمى، أعني أن من توافرت فيه صفات نهج السلف الصالح في العقيدة، والمواقف تجاه الأمور كلها، والمصالح العظمى للأمة ، من التزم هذا النهج؛ فهو من الجماعة.
" وإن أخطأ في بعض الجزئيات "
فعلى هذا من وقع منه خطأ من علماء المسلمين أو من عامتهم ، فإن كان الخطأ يتعلق بأمر جزئي اجتهادي، فلا يضره ذلك ولا يخرجه من الجماعة، كذلك إن كان خطأ عن تأول أو عن جهل؛ فإن الإنسان لا يخرج من الجماعة حتى تقام عليه الحجة.
وعلى هذا فإن المسلم، عالما كان أو غير عالم، لا يخرج من مفهوم هذه الجماعة الشرعية إلى قيام الساعة، إذا التزم نهج المسلمين في العقيدة والمواقف والمصالح، ولا يخرج من الجماعة إلا بأحد أمرين أو بالأمرين معا:
الأمر الأول: إذا خالف في أصل من الأصول القطعية، أو ثابت من ثوابت الدين العلمية والعملية، أو أكثر، خرج من الجماعة وإن لم يخرج من الإسلام كما سيأتي أنه لا يجب أن يكون خرج من الملة ، ولكنه خرج من السنة والجماعة.
الأمر الثاني: إذا تكاثرت البدع عند شخص، بمعنى أن تكون هي سمته وهديه، بحيث يكون في شكله الظاهر ومعاملاته وعباداته وشعائره على غير نهج أهل السنة والجماعة ، ليس في أمر أو أمرين أو ثلاثة، لن في سائر سمته، في سائر هديه، على منهج أهل البدع فهو بذلك يخرج من مفهوم الجماعة.
المسالة الثانية، ينبني على هذا أنه ما دام الله عز وجل أمر بالجماعة ، وأوصى بها رسوله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا، وبموجب النصوص أيضا لا يجوز التفرق في الدين، والتفرق في الدين غير الاختلاف في الاجتهاديات، التفرق في الدين هو التنازع الذي نهى الله عنه، قال الله عز وجل ﴿ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ (الأنفال: من الآية46) فالتفرق في الدين هو التنازع الذي يرجع إلى الافتراق في الأصول القطعية والمسلمات والمناهج العامة والمصالح العظمى، فهذا لا يجوز، ولا الفتنة بين المسلمين حتى لو لم يكن عن تفرق ، يعنى إذا الإنسان أصر على رأي من الآراء ، وليكن اجتهادي، لكن أراد أن يفرضه بالقوة أو غلا به إلى حد يخرج به عن الجماعة وعن الإمام والسلطان، فإنه بذلك يكون وقع في الفرقة ، ولو كان سليم العقيدة، وبذلك .... قد يكون بعض الناس من الناحية النظرية معتقده سليم، لكنه يخرج بأمر يقتضي شق عصى الطاعة، وشق الجماعة والخروج عن تبعية العلماء، والخروج عن تبعية أهل الحل والعقد، فمن هنا يكون وقع في الفتنة بين المسلمين التي هي نوع من الفرقة، ومن هنا –هذا وذاك- يجب رده إلى الحق بإقامة الحجة عليه، وما اختلف فيه المسلمون في هذه الأمور سواء من اجتهاديات أو من غير الاجتهاديات، ما اختلفوا فيه يجب رده إلى كتاب الله وإلى سنة رسول صلى الله عليه وسلم من خلال الرجوع إلى العلماء الذين يستنبطون، وإلا فكل سيدعي انه يأخذ من الكتاب والسنة، لكن ضوابط الاجتهاد في الكتاب والسنة ذكرناها فيما قبل، فيرجع في ذلك فيما اختلف فيه المسلمون، إلى الكتاب والسنة من خلال العلماء وما كان عليه السلف الصالح –من المنهج- فهذا هو المحتكم.
ثم من خرج عن جماعة المسلمين المعنية شرعا، باعتقاد أو موقف أو منهج أو خرج في مصلحة عظمى بأن ارتكب مفاسد كبرى، وجب نصحه من ولي الأمر، ونصحه من العلماء ونصحه من عامة المسلمين، كلٌ بما يستطيع، من له ولاية عليه ومن ليس له ولاية، يجب نصحه ودعوته إلى الحق وإلى الجماعة ومجادلته بالتي هي أحسن، وإقامة الحجة عليه، بمعنى : تبين له الحجة ، ويستنفذ معه الواجب شرعا من حيث النصح والحجة فإن تاب ورجع إلى الحق وترك الفرقة والفتنة بين المسلمين ، وإلا عوقب بما يستحق شرعا، وهذا له قواعده المعروفة عند الفقهاء، والعلماء .
رابعا: فيما يتعلق بتوجيه المسلمين، وفي تعليمهم أمور دينهم، سواء في العقيدة أو الأحكام القطعية أو عباداتهم أو غيرها، يجب حمل الناس في ذلك على المحامل العامة ، والجمل الثابتة في الكتاب والسنة يعنى يجب أن لا نمتحن عموم المسلمين في دقائق الأمور، بل حتى بعض العلماء الذين ليس من اختصاصهم بعض المسائل العقدية المتعمقة ؛ يجب أن لا نمتحنهم فيها، ولا نثير فيهم هذه القضايا؛ لأنها تؤدي أحيانا إلى الفرقة وإلى إيقاع في الإثم.
المسلمون عموما بحسب مستوياتهم ، يجب أن نعلمهم مجملات الدين، ثم تفاصيل الدين بحسب حاجتهم في الأحكام أو في العقيدة، وأيضا بحسب قدراتهم، فبعض الناس يستطيع أن يترسخ في العلم؛ فهذا يطالب بها، لكن فيما نطالب به المسلم ، نطالبه بالأركان العامة ، أركان الإسلام أركان الإيمان، فرائض الدين، أصول الأخلاق، أصول التعامل فيما بينه وبين ربه عز وجل، والتعامل فيما بينه وبين من حوله من المسلمين، التعامل فيما بينه وبين الكفار، نعلم المسلم كيف يتعامل بالمنهج الشرعي السليم الذي يقوم على الاعتدال والعدل، لكن لا نمتحن الناس في دقائق الأمور التي لا يدركونها.
فمثلا، ما ينبغي أن نفاجئ المسلم بسؤال عن عالم أخطأ، كأن نقول –مثلا- ما رأيك في فلان الناس؟ أو عن مفكر، كما يحدث في امتحان الناس في بعض المفكرين ، لأن هذا من الفتنة، فأغلب الناس خالي الذهن ، لا يدري كيف يزن الناس، بل لا يكلف شرعا أصلا في أن يتتبع زلات الخلق ثم يعطي كل واحد حكم، هذا ليس من اختصاص عامة المسلمين، ولا من كثير من طلاب العلم.
وكذلك دقائق العقيدة، يعني مثلا مسالة رؤية الله عز وجل، ثبت أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة يوما لقيامة –نسأل الله أن يجعلنا جميعا منهم- هذه مسألة من المسائل التي قد تخفى على كثير من عامة المسلمين، فيجب أن يعلموا لكن لا يمتحنوا بها، لأنه قد تفاجئ بأنه ينكر؛ لأنه ما عرف، فيقع في الكفر بسببك، كذلك سؤال ( أين الله؟ )، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل هذا السؤال، لكن لا يُسأل دائما لكل مسلم غافل، إلا عند موجبه كما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم ، النبي صلى الله عليه وسلم ما سأل مثل هذا السؤال (أين الله؟) إلا أن يُوجب، وسؤال واحد حدث، إذا هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمتحن الناس في مجالسهم وفي المساجد والمشاهد العامة، لم يكن يمتحن الناس كما حدث من بعض المفتونين في بعض الفترات، فهذا فيه فتنة، لأن الناس قد لا يدركون الجواب الصحيح في هذا الأمر حتى يُعَلَموا.
ثم : الأصل في جميع المسلمين أن نحمله على حسن الظن ، نحمله على سلامة المقصد، على سلامة الاعتقاد، فهذه الذي يجب أن نحمل عليه عامة المسلمين، لأن الأصل أنهم على الفطرة، مادام لم يتبين لنا من أحد منهم إصرار على بدعة، أو إصرار على ضلالة، أو ترك فرائض الدين؛ فالأصل فيه السلامة، ولا تفتش عنه بغير موجب، -مثلا- كأن تجالسه، أو تتلقى عنه العلم، أو تريد أن تزوجه، وإلا فلا تفتش بغير موجب، ، الأصل في جميع المسلمين ؛ السلامة والفطرة والمحمل الحسن وحسن الظن، إلا إذا ظهر من أحد منهم، أو فئة، أو الجماعة أو فرقة ؛ خلاف ذلك، فمن هنا تزن الأمور بميزان الشرع بالرجوع إلى أهل الاختصاص أيضا، لأن هذه مزلات، وتوقع في الإثم والغيبة، بل ربما توقع في الحالقة وهي الفرقة في الدين، والكلام في أعراض الخلق.
فالأصل حمل كلام المسلمين وما يصدر عنهم من أفعال على المحمل الحسن، إلا من ظهر منه بدعة وأصر عليها، أو ظهر عناده وسوء قصده، فلا يجوز أن نتكلف له التأويلات، بمعنى أن القاعدة تنعكس فيمن ظهر منه خلاف ما ذكرته، فالأمور بظواهرها.
ثم : المقصود بفرق أهل القبلة جميعا، هم الذين افترقوا عن السنة والجماعة، وليس الذين خرجوا عن الدين، وهذه أيضا من المسائل التي يخلط فيها كثير من الناس، بل وبعض المنتسبين إلى العلم الشرعي وهو أنهم يتوهمون أن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر الافتراق، وأحوال المفترقين وأوصافهم ووعيدهم؛ أنه يعني أنهم خرجوا من الإسلام، لا بالعكس، اتفق السلف على أن المقصود بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الافتراق ووعيد أهل الافتراق وذكر الفرق في الأمة، وأنها ثلاثة وسبعين فرقها كلها هالكة إلا واحدة، وكلها في النار إلا واحدة، إنه لا يقصد بذلك أنهم خارجين من الملة، ولا أنهم أيضا من أهل الخلود في النار، إن هذا من باب الوعيد، كما توعد الله السارق والزاني وآكل الربا بالنار، فكذلك هؤلاء تُوعدوا بالنار من باب الوعيد، ومصيرهم الجنة حتما بموجب قواطع النصوص، إذا فرق أهل القبلة -يعني الذي خرجوا عن السنة- مسلمون، لكنهم وقعوا في البدعة وخالفوا السنة، فهم متوعدون بنصوص الوعيد ، بالهلاك والنار، وحكمهم حكم أهل الوعيد وأهل الكبائر، إلا من كان منهم كافرا في الباطن، وهذا أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلا نتناقش فيه، ولا أحد يستطيع أن يدعي أنه يعرف باطن هذا أو ذاك، فالباطن لا يعلمه إلا الله، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلعه الله على بعض المنافقين، أسر ذلك لئلا يفتن المسلمين، أو يقع المسلمين في فتنة، فيحاولوا الاطلاع على المنافقين، وبقي السر ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم إلا لواحد من الصحابة، وهم منافقون خُلَّص، إذا من كان منهم كافر في الباطن؛ فهذا نستثنيه لكن ل نستطع أن نعينه بعينه.
فبعون الله وتوفيقه، نستأنف الدرس الختامي لهذه الحلقة، وابتداء أعتذر للإخوة المشاهدين في أننا سنضطر في هذا اليوم أن نختصر، وأننا سنؤجل لهم الأسئلة ، لأن موضوع اليوم طويل، ونرجوا أن ننهيه بنهاية هذه الحلقة المباركة، ولذا سأقتصر في توجيه سؤالين للطلبة الحاضرين:
السؤال الأول: القرآن الكريم كلام الله عز وجل ، وهو دستور هذه الأمة ومنهاجها، له منهاج شرعي في تفسيره، وتطبيقه من قِبل المسلمين، ما هو هذا المنهج الشرعي في تفسير القرآن والعمل بمقتضاه؟
السؤال الثاني : فيما يتعلق بالقدر، فالإيمان بالقدر يتضمن مراتب، كم هي؟ وما هي؟
والآن بعون الله وتوفيقه نبدأ الدرس بقراءة القسم الأول من سابعاً وهو الجماعة والإمام.
(سابعاً :
الجمــاعة والإمــامة :
1) الجماعة : في هذا الباب هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، المتمسكون بآثارهم إلى يوم القيامة، وهم الفرقة الناجية .
وكل من التزم بمنهجهم فهو من الجماعة، وإن أخطأ في بعض الجزئيات .
2) لا يجوز التفرق في الدين : ولا الفتنة بين المسلمين، ويجب رد ما اختلف به المسلمون إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح .
3) من خرج عن الجماعة وجب نصحه، ودعوته، ومجادلته بالتي هي أحسن، وإقامة الحجة عليه، فإن تاب وإلا عوقب بما يستحق شرعاً .
4) إنما يجب حمل الناس على الجمل الثابتة بالكتاب والسنة، والإجماع، ولا يجوز امتحان عامة المسلمين بالأمور الدقيقة، والمعاني العميقة .
5) الأصل في جميع المسلمين سلامة القصد والمعتقد، حتى يظهر خلاف ذلك، والأصل حمل كلامهم على المحمل الحسن، ومن ظهر عناده وسوء قصده فلا يجوز تكلف التأويلات له.
6) فرق أهل القبلة الخارجة عن السنة متوعدون بالهلاك والنار، وحكمهم حكم عامة أهل الوعيد، إلا من كان منهم كافراً في الباطن، أو كان خلافه في أصول العقيدة التي أجمع عليها السلف .
والفرق الخارجة عن الإسلام كفار في الجملة، وحكمهم حكم المرتدين.
7) الجمعة والجماعة من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة، والصلاة خلف مستور الحال من المسلمين صحيحة، وتركها بدعوى جهالة حالة بدعة .
8) لا تجوز الصلاة خلف من يظهر البدعة، أو الفجور من المسلمين مع إمكانها خلف غيره، وإن وقعت صحت، ويأثم فاعلها إلا إذا قصد دفع مفسدة أعظم، فإن لم يوجد إلا مثله أو شر منه جازت خلفه، ولا يجوز تركها .
ومن حُكم بكفره فلا تصح الصلاة خلفه .
9) الإمامة الكبرى تثبت بإجماع الأمة، أو ببيعة ذوي الحل والعقد منهم، ومن تغلب حتى اجتمعت عليه الكلمة وجبت طاعته بالمعروف، ومناصحته، وحرم الخروج عليه إلا إذا ظهر منه كفر بواح فيه من الله برهان .)
هذه الأصول، من ضمن منهج السنة والجماعة الذي رسمه الإسلام، من خلال نصوص القرآن، ومن خلال سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، ومن خلال سنة الخلفاء الراشدين، ونهج السلف الصالح.
أعني بذلك أن هذه الأحكام، تعتبر من أصول الدين ومسلماته، وهي مناهج الدين التطبيقية العملية، فيما يتعلق بالأحكام العامة والمصالح العظمى والمصالح الكبرى، ذلك أن أمور العقيدة على نوعين:
- أمور علمية اعتقداية، كأصول الإيمان الستة.
- وأمور عملية، تتعلق بالعبادات والشعائر ، كأركان الإسلام الخمسة، وأمور عملية تتعلق بمناهج الدين وتطبيقاته كما يتعلق بالجماعة وصورها، بالتعامل بين المسلمين، وتعامل المسلمين مع المخالفين منهم، وتعامل المسلمين مع غيرهم من الكفار، فهذا يدخل فيه أمران:
الأمر الأول: الجماعة والإمامة وأحكامها.
الأمر الثاني: فيما يتعلق بخصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم، وهي المحك العملي في تعاملهم مع بعضهم ومع الآخرين.
وقد سمعتم جملة من الأصول المتعلقة بالجماعة والإمامة، إلى الأصل التاسع، ونتناولها بإيجاز لعلنا نختم جميع فقرات الكتاب بإذن الله تعالى.
أولا: الجماعة.
الجماعة إذا ورد ذكرها في الشرع، وفي القرآن والسنة، وإذا ورد ذكرها في منهج السلف، فلها عدة إطلاقات، ويهمنا هنا الإطلاق العام الكبير، الجماعة التي هي من مسلمات الدين ومن ثوابت الدين وأصوله وقواطعه، المقصود بها هي الجماعة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر خصائصها ، وتتميز بسمات رسمها الكتاب والسنة، ونهج السلف الصالح، وسنشير إلى هذه السمات في نهاية الدرس.
إذا المقصود بالجماعة هي جماعة المسلمين المستمسكة بالحق، والمستمسكة بالسنة، وسبق في الدرس الأول ذكر الجماعة بمفهومها الشرعي، وأعيد ذلك بإيجاز.
هو أن الجماعة المقصود بها هنا، جماعة المسلمين التي بقيت على الحق واستمسكت بالسنة، وهي من الناحية التاريخية مرت بصور، الصورة الأولى: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين قبل ظهور الافتراق، كان المسلمون كلهم على الجماعة، وكانت تتوافر فيهم صفات الجماعة المسلمة من جميع الخصائص والسمات وإن وجد عندها بعض الأفراد الشواذ، فإن الشواذ وتصرفات الأفراد أو الفئات القليلة؛ لا تخرق قاعدة أن الجماعة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا على الإسلام والسنة ولم يظهر افتراق.
في أخر عهد الخلفاء الراشدين ظهر الافتراق ثم أيضا في القرن الأول تناما الافتراق حتى آخر القرن الأول فكثرت الفرق وكثر أتباعها، فمن هنا رجع السلف إلى تمييز الجماعة بالوصف الذي وصفها به النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما نظروا إلى ما عليه المسلمون من الفرقة والاختلاف وجدوا أن أهل السنة والجماعة هم الذي بقوا على هذا الاتجاه أو على هذا المنهج، وسموا أهل السنة والجماعة بناء على وصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم كما قلت بالجماعة في نصوص كثيرة، تصل إلى حد التواتر المعنوي، "عليكم بالجماعة"، إياكم والفرقة"، "إن يد الله مع الجماعة"، " إن يد الله على الجماعة" ، نصوص كثيرة توصي بالجماعة وتجعلها هي الموئل للمسلم عندما يكثر الافتراق وتكثر الأهواء.
فإذا المعنية بالجماعة من حيث تطبيقاتها، هم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون لهم بإحسان ، الذين أحسنوا التبعية، أحسنوا الإتباع من غير تقليد، غنما إتباع باهتداء واقتداء كما سيأتي.
وهم المستمسكون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح إلى يوم القيامة، ولذلك سموا بالفرقة الناجية ، وهذه التسمية لم تكن أيضا من صنع الناس، إنما هي مأخوذة من وصف النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في فقرة تالية.
وعلى هذا، فكل من التزم منهج السنة ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين؛ فهو من الجماعة، في العقيدة والمواقف والمصالح العظمى، أعني أن من توافرت فيه صفات نهج السلف الصالح في العقيدة، والمواقف تجاه الأمور كلها، والمصالح العظمى للأمة ، من التزم هذا النهج؛ فهو من الجماعة.
" وإن أخطأ في بعض الجزئيات "
فعلى هذا من وقع منه خطأ من علماء المسلمين أو من عامتهم ، فإن كان الخطأ يتعلق بأمر جزئي اجتهادي، فلا يضره ذلك ولا يخرجه من الجماعة، كذلك إن كان خطأ عن تأول أو عن جهل؛ فإن الإنسان لا يخرج من الجماعة حتى تقام عليه الحجة.
وعلى هذا فإن المسلم، عالما كان أو غير عالم، لا يخرج من مفهوم هذه الجماعة الشرعية إلى قيام الساعة، إذا التزم نهج المسلمين في العقيدة والمواقف والمصالح، ولا يخرج من الجماعة إلا بأحد أمرين أو بالأمرين معا:
الأمر الأول: إذا خالف في أصل من الأصول القطعية، أو ثابت من ثوابت الدين العلمية والعملية، أو أكثر، خرج من الجماعة وإن لم يخرج من الإسلام كما سيأتي أنه لا يجب أن يكون خرج من الملة ، ولكنه خرج من السنة والجماعة.
الأمر الثاني: إذا تكاثرت البدع عند شخص، بمعنى أن تكون هي سمته وهديه، بحيث يكون في شكله الظاهر ومعاملاته وعباداته وشعائره على غير نهج أهل السنة والجماعة ، ليس في أمر أو أمرين أو ثلاثة، لن في سائر سمته، في سائر هديه، على منهج أهل البدع فهو بذلك يخرج من مفهوم الجماعة.
المسالة الثانية، ينبني على هذا أنه ما دام الله عز وجل أمر بالجماعة ، وأوصى بها رسوله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا، وبموجب النصوص أيضا لا يجوز التفرق في الدين، والتفرق في الدين غير الاختلاف في الاجتهاديات، التفرق في الدين هو التنازع الذي نهى الله عنه، قال الله عز وجل ﴿ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ (الأنفال: من الآية46) فالتفرق في الدين هو التنازع الذي يرجع إلى الافتراق في الأصول القطعية والمسلمات والمناهج العامة والمصالح العظمى، فهذا لا يجوز، ولا الفتنة بين المسلمين حتى لو لم يكن عن تفرق ، يعنى إذا الإنسان أصر على رأي من الآراء ، وليكن اجتهادي، لكن أراد أن يفرضه بالقوة أو غلا به إلى حد يخرج به عن الجماعة وعن الإمام والسلطان، فإنه بذلك يكون وقع في الفرقة ، ولو كان سليم العقيدة، وبذلك .... قد يكون بعض الناس من الناحية النظرية معتقده سليم، لكنه يخرج بأمر يقتضي شق عصى الطاعة، وشق الجماعة والخروج عن تبعية العلماء، والخروج عن تبعية أهل الحل والعقد، فمن هنا يكون وقع في الفتنة بين المسلمين التي هي نوع من الفرقة، ومن هنا –هذا وذاك- يجب رده إلى الحق بإقامة الحجة عليه، وما اختلف فيه المسلمون في هذه الأمور سواء من اجتهاديات أو من غير الاجتهاديات، ما اختلفوا فيه يجب رده إلى كتاب الله وإلى سنة رسول صلى الله عليه وسلم من خلال الرجوع إلى العلماء الذين يستنبطون، وإلا فكل سيدعي انه يأخذ من الكتاب والسنة، لكن ضوابط الاجتهاد في الكتاب والسنة ذكرناها فيما قبل، فيرجع في ذلك فيما اختلف فيه المسلمون، إلى الكتاب والسنة من خلال العلماء وما كان عليه السلف الصالح –من المنهج- فهذا هو المحتكم.
ثم من خرج عن جماعة المسلمين المعنية شرعا، باعتقاد أو موقف أو منهج أو خرج في مصلحة عظمى بأن ارتكب مفاسد كبرى، وجب نصحه من ولي الأمر، ونصحه من العلماء ونصحه من عامة المسلمين، كلٌ بما يستطيع، من له ولاية عليه ومن ليس له ولاية، يجب نصحه ودعوته إلى الحق وإلى الجماعة ومجادلته بالتي هي أحسن، وإقامة الحجة عليه، بمعنى : تبين له الحجة ، ويستنفذ معه الواجب شرعا من حيث النصح والحجة فإن تاب ورجع إلى الحق وترك الفرقة والفتنة بين المسلمين ، وإلا عوقب بما يستحق شرعا، وهذا له قواعده المعروفة عند الفقهاء، والعلماء .
رابعا: فيما يتعلق بتوجيه المسلمين، وفي تعليمهم أمور دينهم، سواء في العقيدة أو الأحكام القطعية أو عباداتهم أو غيرها، يجب حمل الناس في ذلك على المحامل العامة ، والجمل الثابتة في الكتاب والسنة يعنى يجب أن لا نمتحن عموم المسلمين في دقائق الأمور، بل حتى بعض العلماء الذين ليس من اختصاصهم بعض المسائل العقدية المتعمقة ؛ يجب أن لا نمتحنهم فيها، ولا نثير فيهم هذه القضايا؛ لأنها تؤدي أحيانا إلى الفرقة وإلى إيقاع في الإثم.
المسلمون عموما بحسب مستوياتهم ، يجب أن نعلمهم مجملات الدين، ثم تفاصيل الدين بحسب حاجتهم في الأحكام أو في العقيدة، وأيضا بحسب قدراتهم، فبعض الناس يستطيع أن يترسخ في العلم؛ فهذا يطالب بها، لكن فيما نطالب به المسلم ، نطالبه بالأركان العامة ، أركان الإسلام أركان الإيمان، فرائض الدين، أصول الأخلاق، أصول التعامل فيما بينه وبين ربه عز وجل، والتعامل فيما بينه وبين من حوله من المسلمين، التعامل فيما بينه وبين الكفار، نعلم المسلم كيف يتعامل بالمنهج الشرعي السليم الذي يقوم على الاعتدال والعدل، لكن لا نمتحن الناس في دقائق الأمور التي لا يدركونها.
فمثلا، ما ينبغي أن نفاجئ المسلم بسؤال عن عالم أخطأ، كأن نقول –مثلا- ما رأيك في فلان الناس؟ أو عن مفكر، كما يحدث في امتحان الناس في بعض المفكرين ، لأن هذا من الفتنة، فأغلب الناس خالي الذهن ، لا يدري كيف يزن الناس، بل لا يكلف شرعا أصلا في أن يتتبع زلات الخلق ثم يعطي كل واحد حكم، هذا ليس من اختصاص عامة المسلمين، ولا من كثير من طلاب العلم.
وكذلك دقائق العقيدة، يعني مثلا مسالة رؤية الله عز وجل، ثبت أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة يوما لقيامة –نسأل الله أن يجعلنا جميعا منهم- هذه مسألة من المسائل التي قد تخفى على كثير من عامة المسلمين، فيجب أن يعلموا لكن لا يمتحنوا بها، لأنه قد تفاجئ بأنه ينكر؛ لأنه ما عرف، فيقع في الكفر بسببك، كذلك سؤال ( أين الله؟ )، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل هذا السؤال، لكن لا يُسأل دائما لكل مسلم غافل، إلا عند موجبه كما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم ، النبي صلى الله عليه وسلم ما سأل مثل هذا السؤال (أين الله؟) إلا أن يُوجب، وسؤال واحد حدث، إذا هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمتحن الناس في مجالسهم وفي المساجد والمشاهد العامة، لم يكن يمتحن الناس كما حدث من بعض المفتونين في بعض الفترات، فهذا فيه فتنة، لأن الناس قد لا يدركون الجواب الصحيح في هذا الأمر حتى يُعَلَموا.
ثم : الأصل في جميع المسلمين أن نحمله على حسن الظن ، نحمله على سلامة المقصد، على سلامة الاعتقاد، فهذه الذي يجب أن نحمل عليه عامة المسلمين، لأن الأصل أنهم على الفطرة، مادام لم يتبين لنا من أحد منهم إصرار على بدعة، أو إصرار على ضلالة، أو ترك فرائض الدين؛ فالأصل فيه السلامة، ولا تفتش عنه بغير موجب، -مثلا- كأن تجالسه، أو تتلقى عنه العلم، أو تريد أن تزوجه، وإلا فلا تفتش بغير موجب، ، الأصل في جميع المسلمين ؛ السلامة والفطرة والمحمل الحسن وحسن الظن، إلا إذا ظهر من أحد منهم، أو فئة، أو الجماعة أو فرقة ؛ خلاف ذلك، فمن هنا تزن الأمور بميزان الشرع بالرجوع إلى أهل الاختصاص أيضا، لأن هذه مزلات، وتوقع في الإثم والغيبة، بل ربما توقع في الحالقة وهي الفرقة في الدين، والكلام في أعراض الخلق.
فالأصل حمل كلام المسلمين وما يصدر عنهم من أفعال على المحمل الحسن، إلا من ظهر منه بدعة وأصر عليها، أو ظهر عناده وسوء قصده، فلا يجوز أن نتكلف له التأويلات، بمعنى أن القاعدة تنعكس فيمن ظهر منه خلاف ما ذكرته، فالأمور بظواهرها.
ثم : المقصود بفرق أهل القبلة جميعا، هم الذين افترقوا عن السنة والجماعة، وليس الذين خرجوا عن الدين، وهذه أيضا من المسائل التي يخلط فيها كثير من الناس، بل وبعض المنتسبين إلى العلم الشرعي وهو أنهم يتوهمون أن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر الافتراق، وأحوال المفترقين وأوصافهم ووعيدهم؛ أنه يعني أنهم خرجوا من الإسلام، لا بالعكس، اتفق السلف على أن المقصود بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الافتراق ووعيد أهل الافتراق وذكر الفرق في الأمة، وأنها ثلاثة وسبعين فرقها كلها هالكة إلا واحدة، وكلها في النار إلا واحدة، إنه لا يقصد بذلك أنهم خارجين من الملة، ولا أنهم أيضا من أهل الخلود في النار، إن هذا من باب الوعيد، كما توعد الله السارق والزاني وآكل الربا بالنار، فكذلك هؤلاء تُوعدوا بالنار من باب الوعيد، ومصيرهم الجنة حتما بموجب قواطع النصوص، إذا فرق أهل القبلة -يعني الذي خرجوا عن السنة- مسلمون، لكنهم وقعوا في البدعة وخالفوا السنة، فهم متوعدون بنصوص الوعيد ، بالهلاك والنار، وحكمهم حكم أهل الوعيد وأهل الكبائر، إلا من كان منهم كافرا في الباطن، وهذا أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلا نتناقش فيه، ولا أحد يستطيع أن يدعي أنه يعرف باطن هذا أو ذاك، فالباطن لا يعلمه إلا الله، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلعه الله على بعض المنافقين، أسر ذلك لئلا يفتن المسلمين، أو يقع المسلمين في فتنة، فيحاولوا الاطلاع على المنافقين، وبقي السر ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم إلا لواحد من الصحابة، وهم منافقون خُلَّص، إذا من كان منهم كافر في الباطن؛ فهذا نستثنيه لكن ل نستطع أن نعينه بعينه.