مفكرة إسلامية
11-01-08, 12:44 AM
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ورضي الله عن صحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
بعون الله وتوفيقه نستأنف الدرس كالمعتاد في عرض بعض الأسئلة:
أولا: سنعرض سؤالا واحدا على الإخوة المشاهدين، وتردنا الأجوبة كالمعتاد.
هذا السؤال هو ما الأصل في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما الدليل الذي يحكم هذه القاعدة، أو أورد دليلا يحكم هذه القاعدة من كتاب الله -عز وجل-؟
أما الأسئلة الأخرى فأعرضها على الإخوة الطلاب الحاضرين، وأولها:
ذكرنا في الدرس الماضي في موضوع القدر، وذكرنا مراتب القدر التي لا يتم الإيمان بالقدر على الوجه الذي يرضي الله -عز وجل- إلا بها، كم هذه المراتب، وما هي؟ نعم تفضل.
مراتب القدر أربعة: العلم: أن الله علم الأمور، ثم الكتابة: إن الله كتبها في اللوح المحفوظ
كتب مقادير كل شيء
ثالثا: المشيئة: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، رابعا: الخلق: أن الله خالق كل شيء.
أيضا أورد سؤالا آخر يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، الإيمان باليوم الآخر يشمل أمورا تكون في الدنيا، ما هي؟
تشمل أشراط الساعة مثل: الإيمان بنزول عيسى -عليه السلام- والمسيح الدجال، وأشراط الساعة المذكورة
لماذا ألحقت باليوم الآخر؟
لأنها تتقدم هذه
لأنها مقدمات؛ ولذلك سميت أشراط الساعة، وهي آخر الدنيا.
بسم الله الرحمن الرحيم، يقول ضيفنا الكريم (عاشرا: الإيمان بما صح الدليل عليه من الغيبيات: كالعرش، والكرسي، والجنة، والنار، ونعيم القبر وعذابه، والصراط، والميزان، وغيرها دون تأويل شيء من ذلك)
نعم، هذه قاعدة الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب تدخل فيه أمور الإيمان الأخرى السابقة: الإيمان بالله، وملائكته؛ لأن الملائكة غيب، وكذلك اليوم الآخر، وسائر المغيبات، يعني بمعنى: أن أركان الإيمان الستة تضمنت أصولا عظيمة من أصول الغيب، لكن الإيمان بالغيب لا ينحصر في أركان الإيمان أو بعض أركان الإيمان، بل الغيب يشمل كل ما أخبر الله به، وأخبر به رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه من أمور المغيبة، والأمور المغيبة على نوعين: منها أمور مغيبة تحدث في الدنيا من أمور مستقبلية أو حتى ماضية لكن انقطعت أخبارها عن الخلق، مثل ما جاء في قصص كثير من النبيين على الوجه السليم الصادق، لا على ما وري في التاريخ مما دخله من حكايات وكذب.
إذًا الجانب الأول هو الغيبيات التي غابت عنا في الدنيا من أخبار السالفين، وأيضا من الأخبار المستقبلية، ومنها أشراط الساعة.
النوع الثاني: الغيب الذي هو غائب عن الدنيا، أو لا يتعلق بحياة البشر وهو أيضا على صنفين:
الصنف الأول: ما يتعلق بالغيبيات الكونية الكبرى التي لا علاقة لها مباشرة بحياة الإنسان، مثلما يتعلق بأخبار السماوات، وأخبار والعرش، والكرسي، والأمور التي هي موجودة حاليا في الدنيا، لكنها أيضا فوق مدارك البشر، ولا تتعلق بحياة البشر المباشرة.
النوع الثاني: الغيبيات التي تتعلق باليوم الآخر، وأيضا هذه الأمور كلها تسمى الإيمان بالغيب؛ لأنها غائبة عن المدارك، بل حتى غائبة عن العقول تفصيلا، تفصيلاتها غائبة عن العقول وعن المدارك، كل المدارك: الحواس الخمس، وغير الحواس، لا تدركها حتى الوسائل العلمية الحديثة؛ ولذلك وساستعجل هذه المسألة؛ لأهميتها؛ لذلك ظن بعض الناس أن ما أدركته العلوم والكشوف العلمية الحديثة مما هو غائب عن البشر أنه نوع من الاطلاع على الغيب، وهذا خلاف القاعدة الشرعية، كل ما أدركه البشر، وما سيدركونه في مداركهم العلمية التجربية الحسية أو غير الحسية التي تنبنى على قطعيات، هذه أمور كلها مما لم يكن غيب في علم الله -عز وجل- لكنه غائب عن بعض البشر، لم يكن غائبا عن آخرين، غائب عمن سبقونا اكتشفه المعاصرون، وربما تحدث كشوف أخرى كثيرة جدا لا تخرق الإيمان بالغيب، بل هي نوع مما أطلع الله به عباده، لكن الغيب الخالص لا يمكن الاطلاع عليه؛ ولذلك جاءت هذه القاعدة: أن على المسلم أن يسلم ابتداء بأنه مؤمن ومصدق بكل ما صح به الدليل، والدليل نوعان :
أولا: القرآن، والقرآن كله صحيح.
وثانيا: ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فالذي يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يصح، ومنها ما لا يصح، فما صح بأسانيد صحيحة صار من الدليل الذي يجب الإيمان بمدلوله.
وعلى هذا ما صح به الدليل هو القرآن، وما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بسند صحيح من جميع الغيبيات المذكورة في السابقة واللاحق في الدنيا والآخرة في الأرض وفي ملكوت السماوات، وما أخبر الله به مما فوق ذلك؛ لأن الله -عز وجل- أخبر من الغيبيات ما هو فوق السماوات: كالكرسي، والعرش، وهي مخلوقة؛ ولذلك جاء ضرب المثل بالعرش وهو أعظم المخلوقات التي جاء خبرها عن الله –تعالى- وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو محيط بالمخلوقات وهو عرش الرحمن، والله -عز وجل- أشار إلى العرش إشارات كثيرة: منها ما يتعلق بصفات الله -عز وجل- وهو قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴿5﴾ ﴾[طه: 5]، واستواء الله يليق بجلاله، ينبغي أن لا يفسر بلوازم المحدثات، وأعنى بذلك أن كثيرين خاضوا في مسألة الاستواء بغير علم، واستواء الله على عرشه على ما يليق بجلاله، العرش مخلوق، الله -عز وجل- ليس بحاجة إلى مخلوق؛ فاستواء الله على مايليق بجلاله، العرش -والكرسي دون العرش-، والكرسي أيضا محيط بالسماوات وهذا بالنسبة للغيييات التي هي عوالم من عوالم الكون مخلوقات من مخلوقات الكون موجودة ليست تتعلق بالمستقبليات، هناك نوع آخر من الغيبيات كما أشرت في أول حديثي، وهو الغيبيات المستقبلية ومنها الجنة والنار، والجنة والنار لها حالتان:
الحالة الأولى: وجودهما الآن، فلا شك أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، لكن ليس على الهيئة الكاملة التي يكون عليها يوم القيامة بعد أن ينقسم الناس إلى سعيد إلى الجنة -نسأل الله أن يجعلنا جميعا منهم- وإلى شقي إلى النار، قبل أن ينقسم الخلق فالجنة والنار موجودتان الآن وبعد الآن، وكذلك مما يمثل به على الغيبيات ما يتعلق بالحياة التي بين حياتين حياة الإنسان إذا مات -وتسمى الحياة البرزخية- وقبل أن يبعث، هذه تسمى الحياة البرزخية؛ لأن البرزخ الشيء الذي يكون بين شيئين: كالجسر، فالحياة البرزخية تتمثل بالقبر، والقبر أيضا وردت فيه غيبيات كثيرة، وأحوال عجيبة جدا، ومشاهد مروعة في القبر قبل القيامة، من ذلك نعيم القبر -نسأل الله أن يجعلنا من المنعمين وجميع المستمعين وجميع المسلمين نعيم القبر- فالنعيم هذا له أحوال ورد ذكرهها تفصيلا ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيجب الإيمان بها كما وردت دون عرضها على مقاييس البشر، ولا على مقررات العقول؛ لأن العقول لا تعقل إلا مدركاتها، وأحوال البرزخ خارجة عن مدركات العقول، فنعيم القبر جاءت فيه تفاصيل يجب الإيمان بها، وعذاب القبر نسأل الله العافية كذلك جاءت فيه تفاصيل، وكل ميت لا بد أن يخضع لإحدى هاتين الحالتين، اللهم إلا ما ورد في الشهداء، وهذا فيه خلاف، هل يعني هذا أنهم لا يعيشون حياة البرزخ؛ لأنهم في حوصل طير في الجنة، أو أنهم يعيشون حياة البرزخ، لكن لهم حال أعظم وأسعد من غيرهم، الله أعلم هذا أمر غيبي ما جاء فيه -فيما أعلم- ما يقطع به، إذًا البشر كلهم خاضعون لهذه الاعتبارات وهذه الغيبيات.
ثم بعد ذلك ما بعد القبر وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر، وفصلناه في الدرس الماضي، فلا نطيل فيه، وهو إجمالا البعث النفخة الأولى، والنفخة الثانية: الصعق والبعث والنشور والحساب، و الحساب يتخلله الصحف والميزان، ثم بعد ذلك الصراط والحوض -حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- نسأل الله جميعا أن يجعلنا ممن يردونه، ونحو ذلك هذه أمثلة فقط.
كل ما ورد من غيبيات يجب الإيمان به، ثم مما ينبغي معرفته أن هناك قواعد للإيمان بالغيبيات: القاعدة الأولى: أن نعلم أنها حقائق وليست مجرد أمثلة أو تخييلات أو مجرد تصوير أو تمثيل، بل هي حقائق، وأن هذه الحقائق أيضا غائبة عن المدركات لا يمكن أن تقاس بغيرها من المدركات، ولا يقاس بها غيرها؛ ولذلك الذين استعملوا القياس هلكوا وهم صنف من الخراصين، الذين ذكرهم الله –تعالى- وتوعدهم ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) ﴾[الذاريات:10]، بل القول في الغيبيات بغير ما ثبت به الدليل هو قول على الله بغير علم، والله -عز وجل- نهى عن ذلك وأرشدنا بقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)﴾[الإسراء: 36]، بل أيضا يدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم – لما تجادل بعض الصحابة في بعض الآيات التي تتعلق بالغيب والقدر قال: (أبهذا بعثتم؟ أبهذا أمرتم؟ تضربون آيات الله بعضها ببعض) قال: (فما علمتم منه؛ فاعملوا به، وما لم تعلموا؛ ردوه إلى عالمه، قولوا: الله أعلم) ولذلك ميز الله المؤمنين بالغيب، لماذا تميزوا؟ لأنهم سلموا تسليم المذعن لله، المسلم الموقن، والمصدق بخبر الله، وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- تسليم المبصر، لا تسليم الأعمى؛ لأن الذي يسلم التسليم الأعمى هو الذي يقلد الآخرين من المخلوقين، أما الذي يسلم لله –تعالى- فهذا تسليمه مبصر، هذه البصيرة، لماذا أقول هذا؟ لأن بعض المفتونين، وبعض قليلي الإيمان، أو من عندهم شبهات: يظنون أن التسليم للغيبيات نوع من الحجر على العقل، وأنه نوع من التقليد والتسليم غير الرشيد، وهذا كله وهم، نعم، التسليم للمخلوقين فيما لاطاقة لهم به ولا علم لهم به نوع من التقليد الأعمى المذموم، لكن التسليم لله -عز وجل-، والتسليم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خبره هذا هو الإيمان بالغيب الذي امتدح الله المؤمنين به وميزهم عن غيرهم، المؤمنون بالغيب ميزوا عن غيرهم، ومن أعظم ما ميزوا به الإيمان بالغيب.
ثم بعد ذلك هذه الأمور يجب الإيمان بها دون تأويل ولا تحريف، ما معنى دون تأويل؟ يعني بمعنى لا نبحث لها عن معان تصرفها عن حقائقها، ما دمنا قلنا: أن مقتضى التصديق لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن نعلم أن كلام الله حق، وأن خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- حق، فمعنى ذلك أن هذه الغيبيات هي حق على حقيقتها على حسب علم الله -عز وجل- فيها، كيفياتهما مما لا يعلمها إلا الله فهي حق، إذا كانت حق؛ فإذًا هي لا تقبل التأويل؛ لأن التأويل هو صرف معاني الألفاظ والكلمات من معانيها وحقيقتها المباشرة إلى حقائق أخرى متوهمة أو متصورة أو يلجأ إليها عندما يصطدم الإنسان بحقائق الواقع، بينما أمور الغيب لا تصطدم بأمور الواقع، فلا نحتاج فيها إلى تأويل، إذًا لا تأول يعني لا تصرف معانيها إلى معان مظنونة محتملة كما يعمل أهل التأويل، ونضرب لهذا مثالا: الله -عز وجل- أخبر عن نفسه - سبحانه وتعالى –بأنه على العرش استوى، نحن نؤمن بهذا؛ لأنه حق على ما يليق بجلال الله -عز وجل- ولا نزيد على ما ورد في الشرع، فلا يجوز أن يتوهم شخص: أن الاستواء نظرا؛ لأنه متعلق بالعرش، والعرش مخلوق، إذًا لا بد أن نأوله بأن نقول: إن الاستواء هو الاستيلاء، هو الهيمنة، هو السلطان، نعم، هذه المعاني هي من لوازم الاستواء، فلا شك أن الله -عز وجل- مهيمن، ورب، ومالك - سبحانه وتعالى – لكن أيضا لا بد أن نؤمن أن الاستواء لله –تعالى- على عرشه حقيقة تليق بجلاله وكماله ليست كاستواء المخلوق.
ومن هنا نستبيح ونؤمن بالحق كما ورد، ونخلص من أوزار التأويل التي هي نوع من القول على الله بغير علم، التخرص الذي هو من لوازم التأويل: اللوازم الباطلة.
أيضا أريد أن أنبه لأمر مهم: هو أنه عندما نقول: بأن الغيبيات حق من حقائها لا يعني أنا لا نؤمن بلوازمها، بعض الناس يظن أن السلف، وأهل السنة إذا قالوا بحقائق صفات الله -عز وجل- وأسمائه كما يليق بجلال الله، وحقائق الغيبيات أنهم يجمدون على النص، ولا يؤمنون باللوازم والمعاني التي تدل على سياقات، والتي جاء إثباتها من خلال ورود النص، لا يؤمنون بهذا وذاك، يثبتون حقيقة الغيبيات وما يلزم ذلك من اللوازم الضرورية التي تلزم من الإيمان بهذه الأمور.
الحادي عشر (الإيمان بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – وشفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم يوم القيامة، كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة)
هذا تفصيل بعد الإجمال، الشفاعة من الغيبيات، بعض الناس يظن أن الشفاعة من الحقائق الاجتهادية العلمية القائمة على البحث والنظر، لا، الشفاعة قضية غيبية جاء بها الخبر، ولها شروط جاءت عن الله –تعالى- وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم – والمقصود بالشفاعة: أن أناسا يوم القيامة بوساطة الغير، وهذا الأمر الذي هو الشفاعة مشروط بشروط أهمها: أن يأذن الله –تعالى- للشافع أيا كان حتى نبينا - صلى الله عليه وسلم – وهو أعظم الخلق وأزكاهم وأفضلهم لا يمكن أن يشفع إلا بعد أن يستأذن ربه -عز وجل- ثم يأذن له، وكذلك الباقين، إذًا الشفاعة هي الوساطة التي تكون يوم القيامة لبعض الخلق بشروطها: أول شرط لها: أن يأذن الله -عز وجل-، وثاني شرط: أن يكون المشفوع له ممن تقررت لهم الشفاعة، أي من المسلمين، فلا شفاعة لغير مسلم؛ لأن الله -عز وجل- ذكر عن غير المسلمين ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾[المدثر: 48]، وهذه قاعدة قطعية مجمع عليها قد يرد سورة واحدة جاء بها النص، وليست شفاعة كاملة، إنما شفاعة جزئية، وهي شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – لعمه -وهو مشرك- أن يخفف عنه من عذاب جهنم، نعوذ بالله من جهنم، هذه الشفاعة الوحيدة التي كانت لمشرك، أم البقية فإن الله -عز وجل- شدد بالشفاعة بقاعدة يقينية، إذًا أن يكون المشفوع له ممن يستحقون الشفاعة بألا يكون من المشركين من الكافرين، بأن يكون في أصله مؤمن.
الشفاعة أنواع: أولها: شفاعات النبي - صلى الله عليه وسلم – وتجمع؛ لأن بابها واحد، بعض الناس يظن أنه إذا قلنا الإيمان بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – يعني ذلك أنها واحدة، لا، شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – تدخل فيها صور، أولها شفاعته للخلائق يوم القيامة أن يفصل الله بينهم القضاء، وهذا ورد فيه حديث طويل في الصحيح وعجيب، وهذا الحديث تضمن مشاهد من مشاهد يوم القيامة فعلا توقظ القلوب الحية؛ ولذلك أوصي إخواني جميعا أن يراجعوا مثل هذه الأحاديث التي امتلأت بالعبر والعظات، والتي توقظ القلب وتجعله قريبا من الله -عز وجل- يحبه ويتقيه ويخشاه.
هذه الشفاعة شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – العظمى والكبرى هي أعظم الشفاعات وذلك أن البشر يوم القيامة يحشرون طويلا في يوم عصيب: تدنوا منهم الشمس، ويرون جهنم تزفر أمامهم، ويشاهدون من المشاهد المروعة، لولا أن الله كتب عليهم ألا يموتوا لماتوا، ويكون الحشر طويلا طويلا جدا، ثم بعد ذلك يموج بعضهم في بعض يبحثون عن من يشفع لهم أمام الله -عز وجل-؛ لأن الباري - سبحانه وتعالى – يغضب هذا اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فالبشر أمام الله - سبحانه وتعالى – لما استبانت لهم الحقيقة، ورأو أنهم فرطوا في دنياهم بأعمالهم، لم يكن لهم على الله -عز وجل- وجه بأن يقولوا أو يطلبوا؛ فراحوا يطلبون من أقرب ولاية إلى الله، فظنوا أن آدم ما دام أبو البشر فهو الذي أليق بالشفاعة، فذهبوا إليه، فاعتذر، فذهبوا إلى إبراهيم، فاعتذر، وذهبوا إلى موسى وعيسى ونوح قبل ذلك، ثم عند عيسى -عليه السلام- فقال اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم – فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فوصف النبي - صلى الله عليه وسلم – بالعبودية؛ لنعلم أن العبودية عزة وليست ذلة، لكن عبودية للخلق فعلا إذلال، أما العبودية لله فهي تمام العز؛ ولذلك أعظم مقام شرف الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم – هو عبوديته لله العبودية الكاملة.
النبي - صلى الله عليه وسلم – مما يدل على أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن؛ ما نسي حق ربه -عز وجل- بل استشعر هيبة الله وعظمة الله، فراح يدعو طويلا يستأذن ربه -عز وجل- في أن يأذن له بالشفاعة يسجد تحت العرش، ويدعو طويلا، ويدعو الله بمحامد يلهمه الله إياها، حتى يقول له الله: يامحمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، وهذا هو والله المقام العظيم، والوسيلة التي وعد الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم – وهذا المقام المحمود، مع أنه قد يدخل فيه غيره أيضا، الشاهد أن هذه أعظم شفاعة، أن يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم – للخلائق في أن يفصل الله بينهم القضاء، ثم تتوالى شفاعات للنبي - صلى الله عليه وسلم – شفاعاته لأهل الكبائر، شفاعاته لأهل الجنة أن تعظم درجاتهم فيها، شفاعاته لأناس استوت حسناتهم وسيئاتهم إلى آخره.
النبي - صلى الله عليه وسلم – له شفاعات حسب ما ثبت في النصوص، ثم يشفع النبيون، ثم تشفع الملائكة، ويشفع الصالحون والمؤمنون، وورد لبعض أفراد الناس والأحوال شفاعات: فالقرآن له شفاعة لأصحابه القراءة، والصيام له شفاعة، وكذلك الشهداء إن ثبت النص لهم شفاعة، أطفال المؤمنين لهم شفاعة الذين يموتون هم وأهلهم على الإسلام.
إذًا الشفاعات تكون لمن أذن الله لهم، ولا تكون إلا للمؤمنين الصالحين، كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة؛ ولذلك لا يجب أن ندعي بشفاعة لم يرد بها الشرع لماذا؟ لأن الشفاعة هي إذن من الله -عز وجل- لا يمكن أن نفترضها من أنفسنا، أو أن نقول على الله فيه بغير علم، أو ندعي أن هناك لأحد من الخلق شفاعات لم تثبت، نعم الشفاعات المطلقة ثابتة بمعنى شفاعات النبيين، لكن كيف تكون شفاعات المؤمنين، لكن كيف تكون؟ الله أعلم، شفاعات الصالحين كيف تكون؟ الله أعلم، لا نفترض لها صورا ونحد لها حدودا الآن؛ لأنها غيبية وتحدث يوم القيامة، ثم إن هذه الشفاعات يجب ألا تفتح بابا للجوء إلى المخلوقين في الحياة الدنيا أحياء أو أمواتا؛ لأن الشفاعات إنما تكون يوم القيامة.
(الثاني عشر رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة في الجنة، وفي المحشر حق، ومن أنكرها، أو أولها فهو زائغ ضال، وهي لم تقع لأحد في الدني)
نعم، هذه أيضا من المقامات العظيمة والتي يتطلع لها المؤمن ويتشوق إليها، وهي أيضا من الأمور الغيبية التي يجب أن لا نزيد فيها على ما ورد في الشرع، وهي أعظم النعيم الذي وعد الله به عباده: رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم، كما يليق بجلال الله، ونسأل الله أن يمتعنا جميعا بذلك.
رؤية المؤمنين لربهم أعظم النعيم ما يدانيها شيء؛ لأن الله -عز وجل- وصفها بذلك؛ ولأنها أيضا معلوم أمرها بالضرورة، يعني: لا يعقل أن يتصور إنسان أن هناك أعظم نعيم من التمتع برؤية الله -عز وجل-؛ ولذلك الله -عز وجل- وصفها بمثل هذه الأوصاف، قال - سبحانه وتعالى -: عن المؤمنين الذين يدخلون الجنة ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾[ق: 35]، ما يشاءون فيها هل تحد بحد؟ ما تحد بحد، كل ما يمكن يتمناه المؤمن في الجنة من النعيم يكون ويحدث له؛ لأن الله وعد بذلك، لكن هناك ما هو أعظم ما لا يتطلع إليه قبل أن يعده الله به، وهو ما وعده الله به وهو الرؤية.
ثم بعد ذلك أيضا قال الله -عز وجل- ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾[يونس: 26]، وقال - سبحانه وتعالى – ممتنا على المؤمنين ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) ﴾يعني بهية مستبشرة ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) ﴾ [القيامة: 22:23]، بعد أن نضرت بأعماله الصالحة، ونجت وزكت، متعها الله بالنظر إلى وجهه الكريم، نسأل الله أن يجعلنا ممن يتمتعون بذلك.
فإذًا رؤية المؤمنين لربهم في الجنة من الحقائق التي تواترت بها النصوص، طبعا هي غيبية؛ ولذلك الذين استعملوا عقولهم في الخوض في هذه الأمور وقعوا في هلكة؛ لأنهم قالوا: يعقل، ما يعقل إلى آخره من أمور هم أصلا في عافية منها، وقاسوا رؤية الخالق -عز وجل- على رؤية المخلوقين، قالوا: لا يمكن هذا؛ لأنه يترتب على الرؤية كذا، ويلزم منها كذا، لوازم بعضها حق، ويثبت لله -عز وجل-؛ لأن مما قالوه: قالوا يلزم من إثبات الرؤية إثبات الجهة لله -عز وجل- سبحان الله- ماذا تقصدون بالجهة؟ هذا كلام مجمل، الجهة نحن لا نجعلها وصفا لله، ولا نقول بها حتى نفصل،إن قصدتم بالجهة العلو، نعم، المؤمنون يرون ربهم من فوقهم، كما هو نص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم – فلماذا تنزعجون من الحق؟ ولماذا تقولون: هذا يلزم الجهة؟ العلو كمال، وكل عاقل يدرك بعقله وفطرته وبجميع المقاييس الحس والمشاهدة ومقاييس الفكر والعقل: أن العلو كمال، أليس كذلك؟ إذًا لماذا يتهيبون إثبات العلو لله -عز وجل-؛ ولذلك نفوا الرؤية زعمًا منهم أنها يلزم منها الجهة، وهربوا من إثبات العلو الثابت لله –عز وجل-.
إذًا الرؤية حق، لكن لا نتكلم فيها بأكثر مما ورد به النص، كيف تكون؟ هذه أمور لا يجوز أن نخوض فيها؛ لأنها تطلع إلى الغيب المحجوب الذي لا يعلمه إلا الله -عز وجل- خاصة فيما يتعلق بالله -عز وجل- بذاته وأسمائه وصفاته أفعاله، والرؤية هذه أمور متعلقة بالله يجب على المسلم أن يتهيب ويتورع أن يخوض فيها، أو حتى أن يفتح لنفسه باب الأسئلة والإشكالات، إن جاءته وساوس أو خواطر عارضة سيدفعها الإيمان بإذن الله، وإلا يسأل أهل العلم، لعل الله -عز وجل- أن يفتح عليه جوابا ينقذه من الوساوس، أما أن يبتدأ ابتداء بالتوهمات، فهذا من الخطأ.
قال: وفي المحشر الرؤية نوعان كلها يوم القيامة، الرؤية في الجنة ذكرتها، الرؤية الثانية: رؤية جاءت مجملة لم تفصلها النصوص، وتبقى كذا نؤمن بها إجمالا: وهي أن الناس يرون ربهم في المحشر، وثبت في النصوص كيف؟ -الله أعلم-، ولم يرد من التفصيل بالرؤية في المحشر، كما ورد من التفصيل في الرؤية في الجنة، ولذلك نقف على النصوص؛ لذلك يجب معرفته: أن الرؤية لا تكون إلا يوم القيامة، سواء في المحشر، أو في الجنة، وعلى هذا لا يجوز، ولا يمكن أن يرى ربه بعينه في الدنيا، ولذلك الله -عز وجل- لما قال له موسى يعني: طلب الرؤية، قال الله -عز وجل- لن تراني تأبيد الحياة، ولا يعني التأبيد إلى ما بعد الحياة، تأبيد الحياة الدنيا؛ لأن الله -عز وجل- لا يحكم سننه الكونية -ما بعد الدنيا- لا يحكمها شيء، هذه العبارات تحكم حياة الناس والزمان الذي نعيش فيه إلى قيام الساعة، لن تراني يعني: في الدنيا، وكذلك كل الخلق لا يمكن أن يرى أحد ربه بعيني رأسه، نعم، قد يقال النبي - صلى الله عليه وسلم – لما عرج به هل رأى ربه بعين رأسه؟ إن كان رأى فهذه خصوصية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم – خصه الله -عز وجل- بأمور كثيرة لا تكون لغيره.
لكن الراجح أن نبينا محممد - صلى الله عليه وسلم – لم يرَ ربه بعين رأسه، إنما رآه رؤية قلبية فؤادية الله أعلم بها.
بعون الله وتوفيقه نستأنف الدرس كالمعتاد في عرض بعض الأسئلة:
أولا: سنعرض سؤالا واحدا على الإخوة المشاهدين، وتردنا الأجوبة كالمعتاد.
هذا السؤال هو ما الأصل في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما الدليل الذي يحكم هذه القاعدة، أو أورد دليلا يحكم هذه القاعدة من كتاب الله -عز وجل-؟
أما الأسئلة الأخرى فأعرضها على الإخوة الطلاب الحاضرين، وأولها:
ذكرنا في الدرس الماضي في موضوع القدر، وذكرنا مراتب القدر التي لا يتم الإيمان بالقدر على الوجه الذي يرضي الله -عز وجل- إلا بها، كم هذه المراتب، وما هي؟ نعم تفضل.
مراتب القدر أربعة: العلم: أن الله علم الأمور، ثم الكتابة: إن الله كتبها في اللوح المحفوظ
كتب مقادير كل شيء
ثالثا: المشيئة: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، رابعا: الخلق: أن الله خالق كل شيء.
أيضا أورد سؤالا آخر يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، الإيمان باليوم الآخر يشمل أمورا تكون في الدنيا، ما هي؟
تشمل أشراط الساعة مثل: الإيمان بنزول عيسى -عليه السلام- والمسيح الدجال، وأشراط الساعة المذكورة
لماذا ألحقت باليوم الآخر؟
لأنها تتقدم هذه
لأنها مقدمات؛ ولذلك سميت أشراط الساعة، وهي آخر الدنيا.
بسم الله الرحمن الرحيم، يقول ضيفنا الكريم (عاشرا: الإيمان بما صح الدليل عليه من الغيبيات: كالعرش، والكرسي، والجنة، والنار، ونعيم القبر وعذابه، والصراط، والميزان، وغيرها دون تأويل شيء من ذلك)
نعم، هذه قاعدة الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب تدخل فيه أمور الإيمان الأخرى السابقة: الإيمان بالله، وملائكته؛ لأن الملائكة غيب، وكذلك اليوم الآخر، وسائر المغيبات، يعني بمعنى: أن أركان الإيمان الستة تضمنت أصولا عظيمة من أصول الغيب، لكن الإيمان بالغيب لا ينحصر في أركان الإيمان أو بعض أركان الإيمان، بل الغيب يشمل كل ما أخبر الله به، وأخبر به رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه من أمور المغيبة، والأمور المغيبة على نوعين: منها أمور مغيبة تحدث في الدنيا من أمور مستقبلية أو حتى ماضية لكن انقطعت أخبارها عن الخلق، مثل ما جاء في قصص كثير من النبيين على الوجه السليم الصادق، لا على ما وري في التاريخ مما دخله من حكايات وكذب.
إذًا الجانب الأول هو الغيبيات التي غابت عنا في الدنيا من أخبار السالفين، وأيضا من الأخبار المستقبلية، ومنها أشراط الساعة.
النوع الثاني: الغيب الذي هو غائب عن الدنيا، أو لا يتعلق بحياة البشر وهو أيضا على صنفين:
الصنف الأول: ما يتعلق بالغيبيات الكونية الكبرى التي لا علاقة لها مباشرة بحياة الإنسان، مثلما يتعلق بأخبار السماوات، وأخبار والعرش، والكرسي، والأمور التي هي موجودة حاليا في الدنيا، لكنها أيضا فوق مدارك البشر، ولا تتعلق بحياة البشر المباشرة.
النوع الثاني: الغيبيات التي تتعلق باليوم الآخر، وأيضا هذه الأمور كلها تسمى الإيمان بالغيب؛ لأنها غائبة عن المدارك، بل حتى غائبة عن العقول تفصيلا، تفصيلاتها غائبة عن العقول وعن المدارك، كل المدارك: الحواس الخمس، وغير الحواس، لا تدركها حتى الوسائل العلمية الحديثة؛ ولذلك وساستعجل هذه المسألة؛ لأهميتها؛ لذلك ظن بعض الناس أن ما أدركته العلوم والكشوف العلمية الحديثة مما هو غائب عن البشر أنه نوع من الاطلاع على الغيب، وهذا خلاف القاعدة الشرعية، كل ما أدركه البشر، وما سيدركونه في مداركهم العلمية التجربية الحسية أو غير الحسية التي تنبنى على قطعيات، هذه أمور كلها مما لم يكن غيب في علم الله -عز وجل- لكنه غائب عن بعض البشر، لم يكن غائبا عن آخرين، غائب عمن سبقونا اكتشفه المعاصرون، وربما تحدث كشوف أخرى كثيرة جدا لا تخرق الإيمان بالغيب، بل هي نوع مما أطلع الله به عباده، لكن الغيب الخالص لا يمكن الاطلاع عليه؛ ولذلك جاءت هذه القاعدة: أن على المسلم أن يسلم ابتداء بأنه مؤمن ومصدق بكل ما صح به الدليل، والدليل نوعان :
أولا: القرآن، والقرآن كله صحيح.
وثانيا: ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فالذي يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يصح، ومنها ما لا يصح، فما صح بأسانيد صحيحة صار من الدليل الذي يجب الإيمان بمدلوله.
وعلى هذا ما صح به الدليل هو القرآن، وما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بسند صحيح من جميع الغيبيات المذكورة في السابقة واللاحق في الدنيا والآخرة في الأرض وفي ملكوت السماوات، وما أخبر الله به مما فوق ذلك؛ لأن الله -عز وجل- أخبر من الغيبيات ما هو فوق السماوات: كالكرسي، والعرش، وهي مخلوقة؛ ولذلك جاء ضرب المثل بالعرش وهو أعظم المخلوقات التي جاء خبرها عن الله –تعالى- وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو محيط بالمخلوقات وهو عرش الرحمن، والله -عز وجل- أشار إلى العرش إشارات كثيرة: منها ما يتعلق بصفات الله -عز وجل- وهو قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴿5﴾ ﴾[طه: 5]، واستواء الله يليق بجلاله، ينبغي أن لا يفسر بلوازم المحدثات، وأعنى بذلك أن كثيرين خاضوا في مسألة الاستواء بغير علم، واستواء الله على عرشه على ما يليق بجلاله، العرش مخلوق، الله -عز وجل- ليس بحاجة إلى مخلوق؛ فاستواء الله على مايليق بجلاله، العرش -والكرسي دون العرش-، والكرسي أيضا محيط بالسماوات وهذا بالنسبة للغيييات التي هي عوالم من عوالم الكون مخلوقات من مخلوقات الكون موجودة ليست تتعلق بالمستقبليات، هناك نوع آخر من الغيبيات كما أشرت في أول حديثي، وهو الغيبيات المستقبلية ومنها الجنة والنار، والجنة والنار لها حالتان:
الحالة الأولى: وجودهما الآن، فلا شك أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، لكن ليس على الهيئة الكاملة التي يكون عليها يوم القيامة بعد أن ينقسم الناس إلى سعيد إلى الجنة -نسأل الله أن يجعلنا جميعا منهم- وإلى شقي إلى النار، قبل أن ينقسم الخلق فالجنة والنار موجودتان الآن وبعد الآن، وكذلك مما يمثل به على الغيبيات ما يتعلق بالحياة التي بين حياتين حياة الإنسان إذا مات -وتسمى الحياة البرزخية- وقبل أن يبعث، هذه تسمى الحياة البرزخية؛ لأن البرزخ الشيء الذي يكون بين شيئين: كالجسر، فالحياة البرزخية تتمثل بالقبر، والقبر أيضا وردت فيه غيبيات كثيرة، وأحوال عجيبة جدا، ومشاهد مروعة في القبر قبل القيامة، من ذلك نعيم القبر -نسأل الله أن يجعلنا من المنعمين وجميع المستمعين وجميع المسلمين نعيم القبر- فالنعيم هذا له أحوال ورد ذكرهها تفصيلا ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيجب الإيمان بها كما وردت دون عرضها على مقاييس البشر، ولا على مقررات العقول؛ لأن العقول لا تعقل إلا مدركاتها، وأحوال البرزخ خارجة عن مدركات العقول، فنعيم القبر جاءت فيه تفاصيل يجب الإيمان بها، وعذاب القبر نسأل الله العافية كذلك جاءت فيه تفاصيل، وكل ميت لا بد أن يخضع لإحدى هاتين الحالتين، اللهم إلا ما ورد في الشهداء، وهذا فيه خلاف، هل يعني هذا أنهم لا يعيشون حياة البرزخ؛ لأنهم في حوصل طير في الجنة، أو أنهم يعيشون حياة البرزخ، لكن لهم حال أعظم وأسعد من غيرهم، الله أعلم هذا أمر غيبي ما جاء فيه -فيما أعلم- ما يقطع به، إذًا البشر كلهم خاضعون لهذه الاعتبارات وهذه الغيبيات.
ثم بعد ذلك ما بعد القبر وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر، وفصلناه في الدرس الماضي، فلا نطيل فيه، وهو إجمالا البعث النفخة الأولى، والنفخة الثانية: الصعق والبعث والنشور والحساب، و الحساب يتخلله الصحف والميزان، ثم بعد ذلك الصراط والحوض -حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- نسأل الله جميعا أن يجعلنا ممن يردونه، ونحو ذلك هذه أمثلة فقط.
كل ما ورد من غيبيات يجب الإيمان به، ثم مما ينبغي معرفته أن هناك قواعد للإيمان بالغيبيات: القاعدة الأولى: أن نعلم أنها حقائق وليست مجرد أمثلة أو تخييلات أو مجرد تصوير أو تمثيل، بل هي حقائق، وأن هذه الحقائق أيضا غائبة عن المدركات لا يمكن أن تقاس بغيرها من المدركات، ولا يقاس بها غيرها؛ ولذلك الذين استعملوا القياس هلكوا وهم صنف من الخراصين، الذين ذكرهم الله –تعالى- وتوعدهم ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) ﴾[الذاريات:10]، بل القول في الغيبيات بغير ما ثبت به الدليل هو قول على الله بغير علم، والله -عز وجل- نهى عن ذلك وأرشدنا بقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)﴾[الإسراء: 36]، بل أيضا يدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم – لما تجادل بعض الصحابة في بعض الآيات التي تتعلق بالغيب والقدر قال: (أبهذا بعثتم؟ أبهذا أمرتم؟ تضربون آيات الله بعضها ببعض) قال: (فما علمتم منه؛ فاعملوا به، وما لم تعلموا؛ ردوه إلى عالمه، قولوا: الله أعلم) ولذلك ميز الله المؤمنين بالغيب، لماذا تميزوا؟ لأنهم سلموا تسليم المذعن لله، المسلم الموقن، والمصدق بخبر الله، وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- تسليم المبصر، لا تسليم الأعمى؛ لأن الذي يسلم التسليم الأعمى هو الذي يقلد الآخرين من المخلوقين، أما الذي يسلم لله –تعالى- فهذا تسليمه مبصر، هذه البصيرة، لماذا أقول هذا؟ لأن بعض المفتونين، وبعض قليلي الإيمان، أو من عندهم شبهات: يظنون أن التسليم للغيبيات نوع من الحجر على العقل، وأنه نوع من التقليد والتسليم غير الرشيد، وهذا كله وهم، نعم، التسليم للمخلوقين فيما لاطاقة لهم به ولا علم لهم به نوع من التقليد الأعمى المذموم، لكن التسليم لله -عز وجل-، والتسليم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خبره هذا هو الإيمان بالغيب الذي امتدح الله المؤمنين به وميزهم عن غيرهم، المؤمنون بالغيب ميزوا عن غيرهم، ومن أعظم ما ميزوا به الإيمان بالغيب.
ثم بعد ذلك هذه الأمور يجب الإيمان بها دون تأويل ولا تحريف، ما معنى دون تأويل؟ يعني بمعنى لا نبحث لها عن معان تصرفها عن حقائقها، ما دمنا قلنا: أن مقتضى التصديق لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن نعلم أن كلام الله حق، وأن خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- حق، فمعنى ذلك أن هذه الغيبيات هي حق على حقيقتها على حسب علم الله -عز وجل- فيها، كيفياتهما مما لا يعلمها إلا الله فهي حق، إذا كانت حق؛ فإذًا هي لا تقبل التأويل؛ لأن التأويل هو صرف معاني الألفاظ والكلمات من معانيها وحقيقتها المباشرة إلى حقائق أخرى متوهمة أو متصورة أو يلجأ إليها عندما يصطدم الإنسان بحقائق الواقع، بينما أمور الغيب لا تصطدم بأمور الواقع، فلا نحتاج فيها إلى تأويل، إذًا لا تأول يعني لا تصرف معانيها إلى معان مظنونة محتملة كما يعمل أهل التأويل، ونضرب لهذا مثالا: الله -عز وجل- أخبر عن نفسه - سبحانه وتعالى –بأنه على العرش استوى، نحن نؤمن بهذا؛ لأنه حق على ما يليق بجلال الله -عز وجل- ولا نزيد على ما ورد في الشرع، فلا يجوز أن يتوهم شخص: أن الاستواء نظرا؛ لأنه متعلق بالعرش، والعرش مخلوق، إذًا لا بد أن نأوله بأن نقول: إن الاستواء هو الاستيلاء، هو الهيمنة، هو السلطان، نعم، هذه المعاني هي من لوازم الاستواء، فلا شك أن الله -عز وجل- مهيمن، ورب، ومالك - سبحانه وتعالى – لكن أيضا لا بد أن نؤمن أن الاستواء لله –تعالى- على عرشه حقيقة تليق بجلاله وكماله ليست كاستواء المخلوق.
ومن هنا نستبيح ونؤمن بالحق كما ورد، ونخلص من أوزار التأويل التي هي نوع من القول على الله بغير علم، التخرص الذي هو من لوازم التأويل: اللوازم الباطلة.
أيضا أريد أن أنبه لأمر مهم: هو أنه عندما نقول: بأن الغيبيات حق من حقائها لا يعني أنا لا نؤمن بلوازمها، بعض الناس يظن أن السلف، وأهل السنة إذا قالوا بحقائق صفات الله -عز وجل- وأسمائه كما يليق بجلال الله، وحقائق الغيبيات أنهم يجمدون على النص، ولا يؤمنون باللوازم والمعاني التي تدل على سياقات، والتي جاء إثباتها من خلال ورود النص، لا يؤمنون بهذا وذاك، يثبتون حقيقة الغيبيات وما يلزم ذلك من اللوازم الضرورية التي تلزم من الإيمان بهذه الأمور.
الحادي عشر (الإيمان بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – وشفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم يوم القيامة، كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة)
هذا تفصيل بعد الإجمال، الشفاعة من الغيبيات، بعض الناس يظن أن الشفاعة من الحقائق الاجتهادية العلمية القائمة على البحث والنظر، لا، الشفاعة قضية غيبية جاء بها الخبر، ولها شروط جاءت عن الله –تعالى- وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم – والمقصود بالشفاعة: أن أناسا يوم القيامة بوساطة الغير، وهذا الأمر الذي هو الشفاعة مشروط بشروط أهمها: أن يأذن الله –تعالى- للشافع أيا كان حتى نبينا - صلى الله عليه وسلم – وهو أعظم الخلق وأزكاهم وأفضلهم لا يمكن أن يشفع إلا بعد أن يستأذن ربه -عز وجل- ثم يأذن له، وكذلك الباقين، إذًا الشفاعة هي الوساطة التي تكون يوم القيامة لبعض الخلق بشروطها: أول شرط لها: أن يأذن الله -عز وجل-، وثاني شرط: أن يكون المشفوع له ممن تقررت لهم الشفاعة، أي من المسلمين، فلا شفاعة لغير مسلم؛ لأن الله -عز وجل- ذكر عن غير المسلمين ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾[المدثر: 48]، وهذه قاعدة قطعية مجمع عليها قد يرد سورة واحدة جاء بها النص، وليست شفاعة كاملة، إنما شفاعة جزئية، وهي شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – لعمه -وهو مشرك- أن يخفف عنه من عذاب جهنم، نعوذ بالله من جهنم، هذه الشفاعة الوحيدة التي كانت لمشرك، أم البقية فإن الله -عز وجل- شدد بالشفاعة بقاعدة يقينية، إذًا أن يكون المشفوع له ممن يستحقون الشفاعة بألا يكون من المشركين من الكافرين، بأن يكون في أصله مؤمن.
الشفاعة أنواع: أولها: شفاعات النبي - صلى الله عليه وسلم – وتجمع؛ لأن بابها واحد، بعض الناس يظن أنه إذا قلنا الإيمان بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – يعني ذلك أنها واحدة، لا، شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – تدخل فيها صور، أولها شفاعته للخلائق يوم القيامة أن يفصل الله بينهم القضاء، وهذا ورد فيه حديث طويل في الصحيح وعجيب، وهذا الحديث تضمن مشاهد من مشاهد يوم القيامة فعلا توقظ القلوب الحية؛ ولذلك أوصي إخواني جميعا أن يراجعوا مثل هذه الأحاديث التي امتلأت بالعبر والعظات، والتي توقظ القلب وتجعله قريبا من الله -عز وجل- يحبه ويتقيه ويخشاه.
هذه الشفاعة شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم – العظمى والكبرى هي أعظم الشفاعات وذلك أن البشر يوم القيامة يحشرون طويلا في يوم عصيب: تدنوا منهم الشمس، ويرون جهنم تزفر أمامهم، ويشاهدون من المشاهد المروعة، لولا أن الله كتب عليهم ألا يموتوا لماتوا، ويكون الحشر طويلا طويلا جدا، ثم بعد ذلك يموج بعضهم في بعض يبحثون عن من يشفع لهم أمام الله -عز وجل-؛ لأن الباري - سبحانه وتعالى – يغضب هذا اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فالبشر أمام الله - سبحانه وتعالى – لما استبانت لهم الحقيقة، ورأو أنهم فرطوا في دنياهم بأعمالهم، لم يكن لهم على الله -عز وجل- وجه بأن يقولوا أو يطلبوا؛ فراحوا يطلبون من أقرب ولاية إلى الله، فظنوا أن آدم ما دام أبو البشر فهو الذي أليق بالشفاعة، فذهبوا إليه، فاعتذر، فذهبوا إلى إبراهيم، فاعتذر، وذهبوا إلى موسى وعيسى ونوح قبل ذلك، ثم عند عيسى -عليه السلام- فقال اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم – فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فوصف النبي - صلى الله عليه وسلم – بالعبودية؛ لنعلم أن العبودية عزة وليست ذلة، لكن عبودية للخلق فعلا إذلال، أما العبودية لله فهي تمام العز؛ ولذلك أعظم مقام شرف الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم – هو عبوديته لله العبودية الكاملة.
النبي - صلى الله عليه وسلم – مما يدل على أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن؛ ما نسي حق ربه -عز وجل- بل استشعر هيبة الله وعظمة الله، فراح يدعو طويلا يستأذن ربه -عز وجل- في أن يأذن له بالشفاعة يسجد تحت العرش، ويدعو طويلا، ويدعو الله بمحامد يلهمه الله إياها، حتى يقول له الله: يامحمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، وهذا هو والله المقام العظيم، والوسيلة التي وعد الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم – وهذا المقام المحمود، مع أنه قد يدخل فيه غيره أيضا، الشاهد أن هذه أعظم شفاعة، أن يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم – للخلائق في أن يفصل الله بينهم القضاء، ثم تتوالى شفاعات للنبي - صلى الله عليه وسلم – شفاعاته لأهل الكبائر، شفاعاته لأهل الجنة أن تعظم درجاتهم فيها، شفاعاته لأناس استوت حسناتهم وسيئاتهم إلى آخره.
النبي - صلى الله عليه وسلم – له شفاعات حسب ما ثبت في النصوص، ثم يشفع النبيون، ثم تشفع الملائكة، ويشفع الصالحون والمؤمنون، وورد لبعض أفراد الناس والأحوال شفاعات: فالقرآن له شفاعة لأصحابه القراءة، والصيام له شفاعة، وكذلك الشهداء إن ثبت النص لهم شفاعة، أطفال المؤمنين لهم شفاعة الذين يموتون هم وأهلهم على الإسلام.
إذًا الشفاعات تكون لمن أذن الله لهم، ولا تكون إلا للمؤمنين الصالحين، كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة؛ ولذلك لا يجب أن ندعي بشفاعة لم يرد بها الشرع لماذا؟ لأن الشفاعة هي إذن من الله -عز وجل- لا يمكن أن نفترضها من أنفسنا، أو أن نقول على الله فيه بغير علم، أو ندعي أن هناك لأحد من الخلق شفاعات لم تثبت، نعم الشفاعات المطلقة ثابتة بمعنى شفاعات النبيين، لكن كيف تكون شفاعات المؤمنين، لكن كيف تكون؟ الله أعلم، شفاعات الصالحين كيف تكون؟ الله أعلم، لا نفترض لها صورا ونحد لها حدودا الآن؛ لأنها غيبية وتحدث يوم القيامة، ثم إن هذه الشفاعات يجب ألا تفتح بابا للجوء إلى المخلوقين في الحياة الدنيا أحياء أو أمواتا؛ لأن الشفاعات إنما تكون يوم القيامة.
(الثاني عشر رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة في الجنة، وفي المحشر حق، ومن أنكرها، أو أولها فهو زائغ ضال، وهي لم تقع لأحد في الدني)
نعم، هذه أيضا من المقامات العظيمة والتي يتطلع لها المؤمن ويتشوق إليها، وهي أيضا من الأمور الغيبية التي يجب أن لا نزيد فيها على ما ورد في الشرع، وهي أعظم النعيم الذي وعد الله به عباده: رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم، كما يليق بجلال الله، ونسأل الله أن يمتعنا جميعا بذلك.
رؤية المؤمنين لربهم أعظم النعيم ما يدانيها شيء؛ لأن الله -عز وجل- وصفها بذلك؛ ولأنها أيضا معلوم أمرها بالضرورة، يعني: لا يعقل أن يتصور إنسان أن هناك أعظم نعيم من التمتع برؤية الله -عز وجل-؛ ولذلك الله -عز وجل- وصفها بمثل هذه الأوصاف، قال - سبحانه وتعالى -: عن المؤمنين الذين يدخلون الجنة ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾[ق: 35]، ما يشاءون فيها هل تحد بحد؟ ما تحد بحد، كل ما يمكن يتمناه المؤمن في الجنة من النعيم يكون ويحدث له؛ لأن الله وعد بذلك، لكن هناك ما هو أعظم ما لا يتطلع إليه قبل أن يعده الله به، وهو ما وعده الله به وهو الرؤية.
ثم بعد ذلك أيضا قال الله -عز وجل- ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾[يونس: 26]، وقال - سبحانه وتعالى – ممتنا على المؤمنين ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) ﴾يعني بهية مستبشرة ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) ﴾ [القيامة: 22:23]، بعد أن نضرت بأعماله الصالحة، ونجت وزكت، متعها الله بالنظر إلى وجهه الكريم، نسأل الله أن يجعلنا ممن يتمتعون بذلك.
فإذًا رؤية المؤمنين لربهم في الجنة من الحقائق التي تواترت بها النصوص، طبعا هي غيبية؛ ولذلك الذين استعملوا عقولهم في الخوض في هذه الأمور وقعوا في هلكة؛ لأنهم قالوا: يعقل، ما يعقل إلى آخره من أمور هم أصلا في عافية منها، وقاسوا رؤية الخالق -عز وجل- على رؤية المخلوقين، قالوا: لا يمكن هذا؛ لأنه يترتب على الرؤية كذا، ويلزم منها كذا، لوازم بعضها حق، ويثبت لله -عز وجل-؛ لأن مما قالوه: قالوا يلزم من إثبات الرؤية إثبات الجهة لله -عز وجل- سبحان الله- ماذا تقصدون بالجهة؟ هذا كلام مجمل، الجهة نحن لا نجعلها وصفا لله، ولا نقول بها حتى نفصل،إن قصدتم بالجهة العلو، نعم، المؤمنون يرون ربهم من فوقهم، كما هو نص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم – فلماذا تنزعجون من الحق؟ ولماذا تقولون: هذا يلزم الجهة؟ العلو كمال، وكل عاقل يدرك بعقله وفطرته وبجميع المقاييس الحس والمشاهدة ومقاييس الفكر والعقل: أن العلو كمال، أليس كذلك؟ إذًا لماذا يتهيبون إثبات العلو لله -عز وجل-؛ ولذلك نفوا الرؤية زعمًا منهم أنها يلزم منها الجهة، وهربوا من إثبات العلو الثابت لله –عز وجل-.
إذًا الرؤية حق، لكن لا نتكلم فيها بأكثر مما ورد به النص، كيف تكون؟ هذه أمور لا يجوز أن نخوض فيها؛ لأنها تطلع إلى الغيب المحجوب الذي لا يعلمه إلا الله -عز وجل- خاصة فيما يتعلق بالله -عز وجل- بذاته وأسمائه وصفاته أفعاله، والرؤية هذه أمور متعلقة بالله يجب على المسلم أن يتهيب ويتورع أن يخوض فيها، أو حتى أن يفتح لنفسه باب الأسئلة والإشكالات، إن جاءته وساوس أو خواطر عارضة سيدفعها الإيمان بإذن الله، وإلا يسأل أهل العلم، لعل الله -عز وجل- أن يفتح عليه جوابا ينقذه من الوساوس، أما أن يبتدأ ابتداء بالتوهمات، فهذا من الخطأ.
قال: وفي المحشر الرؤية نوعان كلها يوم القيامة، الرؤية في الجنة ذكرتها، الرؤية الثانية: رؤية جاءت مجملة لم تفصلها النصوص، وتبقى كذا نؤمن بها إجمالا: وهي أن الناس يرون ربهم في المحشر، وثبت في النصوص كيف؟ -الله أعلم-، ولم يرد من التفصيل بالرؤية في المحشر، كما ورد من التفصيل في الرؤية في الجنة، ولذلك نقف على النصوص؛ لذلك يجب معرفته: أن الرؤية لا تكون إلا يوم القيامة، سواء في المحشر، أو في الجنة، وعلى هذا لا يجوز، ولا يمكن أن يرى ربه بعينه في الدنيا، ولذلك الله -عز وجل- لما قال له موسى يعني: طلب الرؤية، قال الله -عز وجل- لن تراني تأبيد الحياة، ولا يعني التأبيد إلى ما بعد الحياة، تأبيد الحياة الدنيا؛ لأن الله -عز وجل- لا يحكم سننه الكونية -ما بعد الدنيا- لا يحكمها شيء، هذه العبارات تحكم حياة الناس والزمان الذي نعيش فيه إلى قيام الساعة، لن تراني يعني: في الدنيا، وكذلك كل الخلق لا يمكن أن يرى أحد ربه بعيني رأسه، نعم، قد يقال النبي - صلى الله عليه وسلم – لما عرج به هل رأى ربه بعين رأسه؟ إن كان رأى فهذه خصوصية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم – خصه الله -عز وجل- بأمور كثيرة لا تكون لغيره.
لكن الراجح أن نبينا محممد - صلى الله عليه وسلم – لم يرَ ربه بعين رأسه، إنما رآه رؤية قلبية فؤادية الله أعلم بها.